عرض مشاركة واحدة
  #25  
قديم 07-10-2010, 07:10 PM
 
الفصل الثامن عشر

انفض جمع الأصدقاء في ساعة متأخرة من الليل، بعد سهرة جميلة قضوها في ضيافة سعد الذي دعاهم إلى حفلْ عشاء وسمر بمناسبة تخرجه. ولم يبقَ منهم سوى عرفان وعصام الذي كان منهمكاً مع سعد في الحديث عن المستقبل والطموحات الكثيرة التي اتفقا على إنجازها معاَ، واستبدَّ النعاس بعرفان فتثاءب قائلاً:
- أم ينتهٍ حديثكما؟.. لقد مللت أحاديثكم التي لا تنتهي عن السرطان والجمعية الوطنية لمكافحة السرطان والصندوق الوطني لمكافحة السرطان و.. لا أدري ما الذي يجبركم على حمل هموم المجتمع ومشاكله كلها.. هناك وزارة الصحة يا سادة.. هناك عقول كبيرة تخطط لتنمية المجتمع وتطويره، فأريحوا أنفسكم من هذا العناء.
ضحك عصام وقال:
- لك أن تقول بأنك قد نعست وتريد أن تذهب لتنام، لكن لا يحق لك أن تكبت أفكارنا وطموحاتنا في تطوير مؤسسات مكافحة السرطان بحجة أنها ليست من اختصاصنا.. ليس من الضروري أن ننفذ كل ما نفكر فيه بأنفسنا.. قد ننفذه نحن وقد ينفذه غيرنا.. المهم أن نفكر ونحاول...
قال سعد يخاطب عصاماً:
- لا تلق بالاً لكلامه يا عصام، فهو يملك نفس حماسنا، لكن الإسراف في الطعام قد أصابه باسترخاء أورثه النعاس والكسل.
قال عرفان وهو ينهض في تثاقل:
- ارحموني أرجوكم.. أريد أن أنام.. إذا كنت لا تنوي ان تمضي يا عصام فاتركني أذهب لوحدي.
هتف عصام وهو يهم بالنهوض:
- بل سنذهب معاً يا عزيزي، فقد تأخرنا.
ثم وهو يتوجه بالحديث إلى سعد:
- حسناً يا سعد.. سنكمل حديثنا غداً – إن شاء الله – المهم الآن أن نبدأ بتأسيس الصندوق الذي اتفقنا عليه لنستطيع مع الزمن توفير الدعم المادي لجمعية مكافحة السرطان.. سنتحدث غداً في التفاصيل...
قال سعد:
- سأزورك غداً في عيادة الدكتور إياد بعد أن تكون قد استشرته في أفكارنا التي تحدثنا عنها.. ستأتي معي يا عرفان، أليس كذلك؟
- إذا استيقظت باكراً..
قال عصام وهو يدعو عرفان للمسير بإشارة من يده :
- والآن هيا بنا يا عرفان.. عفواً.. بل يا دكتور عرفان.. ضحك الثلاثة في ود وافترقوا على أمل اللقاء...
* * *
وقف عصام وعرفان على الرصيف بانتظار سيارة أجرة تقلهما إلى بيتهما، حيث يقع منزل عرفان في الطريق إلى منزل عصام، وقال عرفان وقد عاوده نشاطه:
- يا لروعة هذا المساء.. ما أجمل السهرة في حديقة سعد.. لقد تمنيت لو امتدت بنا الجلسة حتى الفجر، لكن النعاس الذي دهمني أفسد متعتي.
سأله عصام مداعباً:
- أهي الحديقة التي أغرتك بالسهرة، أم الطعام الشهي الذي تناولته؟
أجاب عرفان وهو يتحسس بطنه:
- هل تريد الصدق؟.. لقد كان طعاماً شهياً لم أذق مثله.. و ((الكاتو)).. يا عيني على ((الكاتو)).. لقد أكلت منه حتى مللت...
ضحك عصام وقال متوعداً:
- إياك أن تسرف في حفلة زفافي كما أسرفت الليلة، فالمدعوون كثير، وزادنا على قدنا... عليك أن تقرأ كل ما درسناه عن أخطار السمنة قبل أن تأتي.. مفهوم؟
هتف عرفان محتجا:
- حرام عليك.. (قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق).. أبعد أن دمجت حفلة التخرج مع حفلة الزفاف، تريد مني أن أقتصد في الطعام.. هذا ظلم يا دكتور.. ظلم سوف أقاومه بكل ما أوتيت من طاقة على الأكل والطعام، فخذ احتياطك منذ الآن...
ومرت سيارة مسرعة فاستوقفها عصام بإشارة من يده، لكنها كانت مليئة فلم تحفل بإشارته.
- لقد تأخرنا فعلاً!.
سأله عرفان وهو يحل ربطة عنقه قليلاً:
- أزمعت السفر للاختصاص إذن...
- أنا وسامية – إن شاء الله - .
- هل جاءك رد من أمريكا؟
- ليس بعد.. يتوقع الدكتور إياد أن يتأخر الرد قليلاً، لكنه يؤكد لي بأن القبول مضمون، لأن رئيس الجمعية الأمريكية للسرطان صديق حميم له من أيام دراسته في أمريكا وهو يضع كل ثقله في الموضوع، ولا تنسَ أن الدكتور إياد ((زميل)) في الجمعية الأمريكية للسرطان ولرأيه وزن هناك وقد أرسل صوراً مترجمة ومصدقة عن أوراقي وأوراق سامية، سبقها تمهيد طويل حول هذا الأمر، وأنا متفائل جداً بالقبول.
- يحق لك أن تتفاءل.. الجميع يفكرون بالاختصاص ويسعون إليه إلا أنا!.
- ولِـمَ؟
- لأسباب كثيرة.. أهمها تكاليف الاختصاص الناهضة..
- العائق المالي قائم أمام الجميع لكن أغلبهم قد استطاع التغلب عليه، أنا مثلاً سأبيع قطعة أرض نملكها في الريف لنسدد منها تكاليف السنة الأولى، وبعدها سيبدأ عملنا في المستشفى هناك فيدر علينا راتبا جيداً...
- كنت أتمنى أن يتوفر لدي ما يساعدني على البداية، لكن والدي كما تعلم لا يملك إلا محل الحلويات المتواضع الذي يصرف علينا منه، وأنا لا أريد أن أرهقه بالمزيد من المصاريف.
صمت عصام متفكراً ثم قال في حماس:
- لا عليك.. سنتعاون معا على تكاليف المرحلة الأولى من الاختصاص، إلى أن تتقاضي راتبك في المستشفى الذي ستمارس اختصاصك فيه.. حرام أن تئد طموحك من أجل عقبة مالية يمكننا إزالتها.
- لا أريد أن أكون عالة على أحد.
قال عصام معاتباً بحده:
- سامحك الله يا عرفان.. من قال بأنك ستكون عالة؟.. تعاوننا وتكافلنا واجب لا فضل لأحدنا فيه أو منَّة، فالمسلمون كالجسد الواحد، وفي سبيل الأهداف الكبيرة تتلاشى هذه الاعتبارات التافهة الصغيرة.
همس عرفان وقد تأثر بكلام عصام أيما تأثر:
- اعذرني يا أخي، فالمشاكل والهموم ترهق الأعصاب وتضغط على المشاعر فتصبح مرهفة أكثر مما ينبغي.. أعدك بأني سأدرس عرضك هذا شاكراً ممتناً.
- لست ممتناً لأحد.. أن نطور بلادنا وننهض بها واجب مقدس لا منَّة لأحد فيه، واختصاصك العلمي خطوة في هذا الاتجاه.. حسناً سأريحك من هذا الشعور.. اعتبر مساعدتنا لك ديناً تسدده للصندوق الوطني لمكافحة السرطان الذي أزمعنا على إقامته، أو تسدده لأي مشروع خيري آخر، متى شئت.
وصمت عرفان يفكر في عرض عصام وهو متأثر بكلماته الصادقة التي تقطر أخوة ونبلاً، بينما قال عصام بعد شرود ليس بالقصير:
- أتعلم بماذا أفكر؟..
ضحك عرفان وقال:
- من أين لي أن أعرف، فبالك مسرح لمشاغل العالم ومشاكله!
- يؤرقني ما حدث لمنى...
- ما الذي ذكرك بها الآن؟!.
- فكرت فيما رواه ((مجدي)) الليلة عن مأساتها مع صفوان فخطر ذكرها ببالي.. كلما تذكرت وجهها الباكي الحزين المهموم يوم التخرج يا عرفان شعرت نحوها بالإشفاق رغم كل ما بدر منها.. لكم يؤلمني منظر المقهور.. لشدّ ما تعذبني دموع المظلوم أيّاً كان...
- هي التي ظلمت نفسها، فانطلقت وراء رغباتها وسلمت نفسها للشيطان.
- إني أدرك هذا، لكني أعتبرها بالرغم من هذا ضحية.. ضحية للفقر الذي لسعها بسياط الحرمان.. ضحية للفساد الذي يسيطر على حياتنا.. ضحية للأفكار الغريبة التي لوثت العقول والضمائر.
- لم يبق طالب في الكليلة إلا وعلم من صفوان وشلته بسرّ علاقتها معه.. لقد فضحها على الملأ!
هتف عصام في حنق:
- هذا الذي اسمه صفوان.. ألا يرعوي؟!.. يا له من متبجح وقح!!!
- لكم يحيرني سعد عندما يدعو له بالهداية.. إنه يقول لك بأن الإنسان مهما طغى وتجبر فإنه ينطوي على بذرة خير مهيأة للإنبات.. شاب مثل صفوان لا يمكن أن يحمل في قلبه ذرة خير واحدة!
- سعد على حق يا عرفان، لكن الخطأ والانحراف يبقى مداناً محتقراً يدعو للثورة والاشمئزاز.. هذه سيارة تتجه نحونا، فلنستوقفها..
أشار عصام للسيارة فتوقفت أمامه، فتقدم منها:
- إلى حي الفردوس لو سمحت؟
- تفضلا..
ودعا عصام عرفان للجلوس في المقعد الأمامي لكنه أبى وقال وهو يدلف إلى المقعد الخلفي:
- لا والله ... الأول على الكلية في الأمام.. تحتل المقدمة في الجامعة وترضيني بالمقدمة في السيارة، هذا شئ لن يكون...
رضخ عصام لرغبته وهو يرمقه في عتاب باسم، ثم جلس إلى جوار السائق الذي انطلق بسيارته في هدوء أوحى لهما بقيادة متأنية أمينة.
* * *
كان السائق رجلاً كهلاً قد اشتعل رأسه شيباً فأضفى على ملامحه وقاراً مريحاً يجذب إليه من يراه، وبعد أن مضت بهم السيارة تطوي المسافات سأل ونظراته ثابتة إلى الأمام ترقب الطريق في حذر تحسباً لكل طارئ:
- الشباب طلبة.. أليس كذلك؟
أجابه عصام بعد أن تبادل نظرة مع عرفان:
- منذ أيام فقط كنا طلبة..
- تخرجتم من الجامعة إذن.
- صدقت..
- مبروك، ومن أي فرع؟
- من كلية الطب.
- ما شاء الله.. أنتما إذاً طبيبان.. تشرفت بمعرفتكما.
- زادك الله شرفاً.
وأردف عرفان:
- وهذا الدكتور الذي يجلس بجانبك هو الأول على كلية الطب.
قال السائق يخاطب عصاماً:
- وفقك الله يا بني.. لم نتعرف على الإسم الكريم؟
- ((عصام السعيد)).
- تشرفنا.
هتف عرفان وهو يلوح بيده متصنعا الاحتجاج:
- ما شاء الله ((الدنيا دائماً مع الواقف)).. الناس لا يهتمون إلا بالأوائل والعظماء. أما المغمورون.. أما المساكين، فلا يسأل عنهم أحد.
ثم وهو يميل إلى الأمام مخاطباً السائق:
- وأنا يا عمّ؟.. أنا؟.. ألا تريد معرفة إسمي الكريم؟!
هتف السائق معتذراً:
- طبعاً، طبعاً.. يسرني أن أتعرف بالاسم الكريم...
قال عرفان وهو يزهو في دعابة ومزاح:
- الدكتور عرفان.. ((عرفان النابلسي)).. كان والد جدي من نابلس، وعندما هاجر منها حمله معه صناعة ((الكنافة النابلسية)) فورثناها كابرا عن كابر، لكني تنكرت لهذا التراث وتخرجت طبيباً، وقد أعود إليه إذا ما أصيب سوق الطب بالركود.
ضحك الجميع في مرح ثم ما لبث السائق أن قال وهو يرسل تنهيدة عميقة بعثتها ذكريات الماضي:
- إيه.. ما أعجب الأيام.. لقد كان حلم والدي رحمه الله أن أصبح طبيباً، لكن المنية سرعان ما خطفته منا وأنا في السابعة عشر من عمري، ولم يكن لأسرتنا من يعيلها فتركت المدرسة ورحت أعمل، لأصرف على أخوتي وأمي وجدتي.. إيه... الحمدلله... تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، لكن ربك لا ينسى أحداً، لقد أنعم علينا وفضل...
مست كلمات السائق الوتر الحزين في قلب عصام فاهتز ليبعث في نفسه الشجن، وطافت بخياله ذكرى أبيه الراحل فشعر بوخزها الأليم وراح يناجيه في صمت وشرود:
- ((إيه.. أين أنت يا والدي لترى ابنك الآن، وقد صار طبيباً كما كنت تحلم وتتمنى.. لكم يحزنني أن أحرم من ابتسامة الفرح والفخر والاعتزاز وهي تشرق من وجهك الطيب فتملأني ثقة وعزيمة وتمدني بأروع الزاد وأثراه في رحلة الحياة، لكني أعدك يا أبت أن أرقى في سلم المجد بهمة وإصرار.. سوف أطير إلى قمته السامقة البعيدة لأحط عليها كنسر عنيد... يرفعني إليها جناحان حانيان.. أمي العظيمة وزوجتي الحبيبة.. آه.. لو أنك رأيتها يا أبت لتمنيت أن تضعها في قلبك، لكن.. أين أنت؟.. غيابك الأبدي يؤلمني ويشوه أفراحي ويوشح خطواتي بالحزن والأسى.. لقد حققت حتى الآن الكثير، والدروب أمامي ممهدة لتحقيق المزيد، لكن ذلك كله لم يمسح من نفسي كآبتها المزمنة، لكأن الحزن فيها قد استوطن وأبى الرحيل..)).
قال السائق وقد أحب أن يصل ما انقطع من الحديث:
- الأطباء في مجتمعنا طبقة مرموقة اجتماعياً ومادياً.. تفرض احترامها أينما ذهبت وتلعب بالمال...
قال عرفان:
- هذا الكلام كان على أيامكم يا عم، أما اليوم، فيا حسرتي علينا... أخشى أن نتحول من طبقة مرموقة إلى طبقة مسحوقة!.
قال السائق وهو ينعطف إلى اليمين:
- لا تتشاءم يا بني، لقد أنعم الله عليك بمهنة عظيمة، سوف تسعدك وتسعد الناس الذين سيشفيهم الله على يديك.
قال عصام وقد خرج من شروده الحزين لينخرط في الحديث:
- حقاً إن السعادة التي يجدها الطبيب وهو ينقذ الناس من براثن المرض والألم لا تقاس بمال الدنيا.
قال السائق بنبرات تفيض بالاحترام :
- ما شاء الله.. ما أحلى أن يكون أطباؤنا جميعاً بهذا الشعور، لكن بعضهم يتحول بكل أسف إلى تجار.. يتاجرون بأمراض الناس وآلامهم!. لكم يسرني أن أتعرف بكما..
قال عصام وهو يتناول من جيبه بطاقة أنيقة تحمل اسمه وعنوانه:
- بارك الله فيك يا عم.. هذا عنواني، فاحتفظ به، فإن احتجت لأي خدمة فأنا..
ولم يكد يكمل حتى صرخ عرفان هاتفاً في ذعر شديد:
- انتبه.. إلى اليمين.. هناك سيارة.. آه........
كان القدر أسرع من الكلمات، وفي لحظات قليلة وقعت الكارثة، وأريقت الدماء البريئة لتسطر مأساة جديدة من مآسي الطيش المجنون.
* * *

__________________
اذا كان لابد لك ان تموت ارجوك ان تسأل اذا كان بالامكان ان تأخذ معك صديق