عرض مشاركة واحدة
  #23  
قديم 07-10-2010, 07:03 PM
 
الفصل السادس عشر

اليوم.. تثمر سنوات الدراسة والسهر والتعب والكفاح، ويحين موعد الحصاد الكبير، وترسو سفينة الأماني على شاطئ جديد وهي تمضي في رحلتها الطويلة إلى جزر الآمال الخضراء...
واستيقظ طلبة الصف السادس من كلية الطب مبكرين على طرقات الشوق والترقب، وبدؤوا يستعدون لهذه المناسبة الفاصلة في خفة ومرح ونشاط، باليوم.. يتحول الحلم إلى حقيقة،وتدب الحياة في أمل كبير من الآمال العظيمة التي طالما داعبت خيالهم الشاب، ويرتقون درجة في سلم النجاح، ويقطعون خطوة جديدة إلى قمة المجد الذي يتطلعون إليه.
ووقفت سامية أمام المرآة تتأمل حجابها الأنيق، وتحكم ترتيبه وهندامه، بانتظار قدوم عصام الذي سيصحبها إلى الكلية لمعرفة نتائج التخرج، وقد أرسلت ابتسامة عريضة شفّت عن بهجتها وسعادتها العميقة، فهي تقف الآن مع حبيبها على بوابة الأفراح، فاليوم التخرج وغداً الزفاف وبعده السفر والاختصاص ثم تمضي قافلة العمر الجميل من فوز إلى فوز ومن نجاح إلى نجاح على حداء الحب الخالص العميق ويزدهر المستقبل ثرياً بالمنجزات.
وشعرت سامية بعقارب الانتظار وهي تلسعها، فلماذا تأخر عصام؟، لم تعد تطيق بعده عنها..لقد أمسى روحها وقلبها وحياتها فمتى تسكن الروح إلى الروح؟ ومتى ينصهر القلب في القلب وتبعث الحياة في عش الزوجية الدافئ السعيد فيرتاحا من أنين البعد وأوجاع الحنين وتنهدات الحرمان، وراحت ترقب الساعة في ضيق وملل...لقد أخبرها أنه سيمر لاصطحابها في الثامنة وها هو عقرب الساعة يتخطى الثامنة في رتابة مزعجة لم ترحم آلام الشوق والانتظار التي تمس أعصابها المرهفة. وهرعت إلى الباب تسترق السمع لوقع أقدامه على درجات السلم، وما هي إلا هنيهة حتى ملأ الهدوء والسلام أغوارها، وفاضت من نظراتها وملامحها، وتحفزت للقائه،وما إن قرع الجرس حتى فتحت الباب في لهفة، فأطل منه فتاها بسمته الهادئ، وابتسامته الوداعة العذبة، فخفق قلبها لمرآه، وشعرت بنظراته التي تلمع بالحب والإٍعجاب وهي تحاصرها، فلم تصمد لذالك البريق الساطع الذي أخترق قلبها وعطر دماءها بمعانيه الرائعة اللذيذة، فخفضت طرفها في حياء وقالت بصوت هامس رقيق:
- تفضل...
همس وهو ثابت مبهور:
- لكم تبدين اليوم رائعة جميلة!...
- هل ستبقى واقفاً هكذا على الباب؟
- دعيني أتملى هذه اللوحة الفاتنة الماثلة أمامي!
وشدته من يده في دعابة، فقال في مرح وهو يتقدم إلى الداخل خطوات:
- أين حماتي؟..
- إنها في المطبخ تستعد لمناسبة تخرجنا بصناعة الحلوى والمأكولات اللذيذة؟..
وعمي؟..هل خرج؟..
- منذ الصباح الباكر.
- الحجاب يزيدك بهاءً وجمالاً.. لكأنكِ فيه ملاك تحفّه هالة من النور!
- أنت تبالغ...
- أبداً هذه صورتك في أعماقي.
- لعل هالة النور قد سطعت من أعماقك تلك، فتوهمتها حولي!..
همس في أذنها قائلاً:
- بتُّ الآن متلهفاً أكثر للزفاف.
ابتسمت وقالت في دلال :
- إنْ هما إلا أسبوعان...
- سيمران عليّ كسنة.
- فليمرا كسنة.. ستنقضي بسرعة كما انقضت سنوات الكلية الست.
- حقاً لقد مرت كالحلم.. من يصدق؟.. بالأمس دخلناها واليوم نتخرج منها..ما أعجب عجلة الزمان!، إنِّها تمضي بسرعة هائلة، فتطوي بدورانها الأيام والشهور والسنين، فيتلاشى الزمان،ويمحى ويتحول مهما طال إلى مجرد ذكرى، قلما تنجو من قبضة النسيان!!....
- هي الحياة هكذا.. افتح عيناً وأغمض الأخرى، ترَ نفسك عجوزاً هرماً يتربع فوق التسعين.
تساءل عصام مازحاً:
- وأنت؟ هل تظنين بأنك ستبقين صبية؟
- أنا؟.. وما أدراك؟.. لعلي أكون يومها في عداد الراحلين!.
هتف كالملدوغ:
- سامية.. ما هذا الكلام؟.. بالله لا تعيدي هذا على مسامعي
- لكن الموت حق ..أنت تردد هذا كثيراً!!.
- صحيح، ولكن... بالله عليك لا تذكري هذه السيرة الآن.
ثم أردف في وله دامع:
- لا أجرؤ أن أتخيَّل فراقنا على أية صورة!.. إني لأتمنّى أن نحيا معاً ونموت معاً حتى لا يلدغنا الفراق المرّ ويكوينا.
نظرت إليه في حب ووجد، وقالت وهي تمسح دموعه بأناملها الحانية الجميلة:
- كلما تخيَّلت مقدار حبك وإخلاصك فاجأتني بالمزيد..لكأنَّ نفسك الكبيرة بحر ممتد من الحنان بلا نهاية، وأنا تائهة في خضم أمواجه، عاجزة عن بلوغ آفاقه الرحيبة.
- ولن تبلغيها، ذلك أن هذا البحر الذي تتيهين فيه إنما ينبع من قلبك العامر الفياض الذي يرفده دائماً بالمزيد، وسيَّتسع البحر ويَّتسع حتى يغمرنا كله بالسعادة والتفاهم والوئام.
و رانت لحضات صامتة جميلة قد أفعمت بالانفعالات الصادقة اللذيذة، لكنها سرعان ما تلاشت على أعتاب الفرحة الوشيكة، وقال عصام في مرح:
- لقد اقترب موعد النتائج، فهل أنت مستعدة
- سيكون زوجي الأول...
- وما أدراكِ أن تكون زوجتي هي الأولى؟
- أنا؟.. أنا أتفوق عليك يا عصام؟..
- ولماذا لا؟.. تعالي بنا الآن نودّعَ أمك قبل أن نمضي..
* * *
- ترى.. من سيكون الأول على الكلية هذا اليوم؟
أجاب سعد
- وهل هذا يحتاج إلى سؤال.. إنه عصام ولا أحد غيره.
قال عرفان وقد دبت فيه روح الدعابة:
- بل الأصح أن تقول عصام وقرينته.
أثارت كلمات عرفان عاصفة من الضحك استرعت انتباه الطلبة الذين تحلقوا في مجموعات ينتظرون إعلان النتائج المرتقبة في لهفة وشوق، وقال مجدي:
- سمعت أن زفافهما قد أصبح وشيكاً.
أجاب سعد:
- هذا صحيح، لكني لا أعرف موعده بالضبط.
تدخل عرفان قائلاً:
- اسألني أنا، فأنا يا صديقي مغرم بالأخبار السعيدة.. زفاف صاحبنا قد تقرَّر في الأول من الشهر القادم، أي بعد أسبوعين من الآن تقريباً.. ((عقبال عندي)).
علق بهاء من بين الضحكات/
- لقد سبقك عصام يا عرفان.
فأجابه قائلا:
- تصور يا بهاء.. لقد خطب وكتب كتابه وسيتزوج في أقل من ثلاثة أشهر.
حدجه سعد بنظرة متسائلة، وقال يداعبه:
- أتحسده على ما أنعم الله عليه؟
أجاب عرفان:
- بل أغبطه يا سعد.. أغبطه على هذا العم الواقعي المتساهل.
قال له عثمان:
- يبدو أنك وعمك على غير اتفاق.
أجاب عرفان في غيظ:
- إنه يكبلني بشروطه الكثيرة، ولكل شرط عنده فلسفة يستوحيها من تجاربه الخاصة، وكلما طالبته بالتعجيل بالزفاف شمخ بأنفه وقال بلهجة واعظة تثيرني:
(( لماذا الاستعجال يا بني؟ في التأني السلامة.. انتظر حتى تتخرج وتؤمن مستقبلك وتهيئ الضروف المناسبة التي توفر لك عيشة هانئة ولائقة.. لا داعي للاستعجال يا بني، فهذه زوجتك بانتظارك، فأرِنا همتك يا دكتور)).
ثم تابع عرفان وهو محتد حانق:
- تصوروا يا جماعة.. كأني تزوجتها لأخزنها في بيته.
ابتسم الأصدقاء مشفقين بينما قال سعد:
- لا عليك يا عريس، إنه يشجعك ويشد من عزيمتك وما إن يرى نتائج تخرجك حتى يسهل لك كل الأمور.
هتف عرفان وهو يرفع يديه إلى السماء في ضراعة:
- الله يسمع منك يا ((أبو السعود))..
وران على الأصدقاء صمت قصير ما لبث أن قطعه مجدي:
- لقد تأخرت النتائج!
- يقولون بعد دقائق..
- تباً لها من دقائق ثقيلة!
ومضت برهة من الزمن ما لبثت القلوب بعدها أن خفقت، وأطل الترقب من العيون وهي ترى الدكتور ماهر رئيس اللجنة الامتحانية يخرج من غرفته وفي يده رزمة من الأوراق، فهرع إليه الطلبة في لهفة وحماس، وتجمهروا حوله يسألون:
- طمئنونا يا دكتور؟...
- دكتور لم نعد نطيق الانتظار!
- ما هي نسبة النجاح لهذا العام؟...
كان الدكتور ((ماهر)) يشق طريقه بين جموع الطلبة الصاخبة بصعوبة بالغة، وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة مشفقة، ولم يصمد للأسئلة الملحة التي انهالت عليه، فأجاب ليطمئن القلوب المضطربة التي قلقل كيانها الانتظار:
- سنوزع النتائج بعد قليل.. لم يبقَ سوى توقيع العميد.. كلكم ناجحون – إن شاء الله – فلا داعي للقلق والاستعجال.. انتظرتم هذا اليوم كل هذه السنين، أفلا تصبرون دقائق؟!
ولم يكد ينتهِ من كلامه حتى عادت الحناجر تضح بالأسئلة والاستفسارات، فما كان منه إلاّ أن حثّ الخطا حتى وصل إلى غرفة العميد، فدخلها بسرعة وغلق الباب وراءه، فخمدت الأسئلة وهدأت الضجة وعاد الطلبة إلى انتظارهم المحفوف بالملل والترقُّب، والتأم شمل الأصدقاء من جديد في حلقة واحدة، وقال سعد:
- سمعت أن نسبة الرسوب لهذا العام لا تتجاوز الثلاثة بالمائة.
علَّق بهاء:
- يبدو أن دفعتنا من الدفعات الممتازة التي تخرجت من الكلية.
قال عرفان وهو يشير إلى نفسه في فخر:
- طبعاً ... لأنها تحوي كوكبة من العباقرة الأفذاذ.
قال له مجدي مداعبا:
- لا تستعجل يا عزيزي.. (( في الامتحان يكرم المرء أو يهان)).. بعد قليل سوف نعرف النتائج ونتبين موقعك من هذه الكوكبة المزعومة..
قال عرفان في استسلام:
- أريد النجاح فحسب، ولا يهمني بعده كنت الأول أو الأخير.. المهم عندي أن أتخرج وأستقر حتى أثبت لعمي المتسلّط القاسي أني جدير بحمل المسؤولية.
ضحك الجميع في مرح وسرور بينما قال عثمان وهو يرمي بنظراته إلى مداخل الكلية:
- ها هو عصام.. إنه قادم بصحبة سامية..
همس عرفان:
- انظروا إليه كيف يتقدّم بثقة وهدوء، وكأن النتيجة في جيبه!
قال بهاء ونظراته تنطق بالرضى والاستحسان:
- لكم أنا معجب بخطوة سامية الجريئة.. إن حجابها الذي ترتديه يخلع عليها هيبة ووقاراً يجبرك على احترامها.
وأردف سعد:
- إنا سامية فتاة ممتازة، تملك شخصية قوية وعقلاً راجحاً سرعان ما استجاب لنداء الله، فالتزمت بمنهجه.
قال مجدي:
- لا تنس يا صاحبي تأثير عصام.. لقد لعب دوراً كبيرا في إقناعها.
قاطعه بهاء قائلاً:
- لقد انضمت سامية إلى صديقاتها، وها هو عصام يبحث عنا...
هتف عرفان ينادي عصاماً وهو يشرئب بعنقه بين جمهور الطلبة.
- نحن هنا يا عصام.. هلمَّ إلينا..
والتفت الأنظار في فضول ترقب الفتى الذي شغل كلية الطب بأخبار تفوقه ونبوغه، وسرت الهمهمات الخافتة تتحدث عنه وتروي أخباره، أما عصام، فقد تقدم من ثلة الأصدقاء في هدوء وقال وهو يأخذ مكانه في الحلقة التي انفرجت قليلا لتضمه:
- السلام عليكم.. ما هي الأخبار؟...
تلقفته كلمات الترحيب النابضة بالحب والتقدير، واستلمه عرفان مداعباً:
- مبروك سلفا يا دكتور...
- ولماذا سلفاً؟
- لأن النتيجة معروفة، فالمقدمات السليمة تعطي نتائج سليمة.. إني أراهن على أنك الأول..
- أخشى أن تخسر الرهان.
- تدخل سعد إلى جانب عرفان قائلاً:
- بل أراهن أنه سيربح، وسأدفع الرهان سلفاً.. أنتم جميعا مدعوون عندي مساء الخميس القادم على حفلة عشاء جميلة، سوف أقيمها لكم في الحديقة.. في أحضان الطبيعة الخلاّبة.
هتف عرفان في مرح وحماس:
- يا لك من شاب طيب يا سعد.. مواقفك النبيلة تعجبني.
ضحك الأصدقاء لدعابة عرفان، ثم انخرطوا من جديد في دوامة الترقب والانتظار...
* * *
في هذا العالم نفوس مكلومة، لا تستطيع أعظم الأفراح وأسعدها أن تلأم جراحاتها أو تسكن آلامها، بل على العكس من ذلك، فإن مناسبات البهجة والفرح في الملح الذي يلهب جراحها ويوقظ آلامها فتزداد إحساساً بالتعاسة والشقاء، وهكذا كانت ((منى))...
لقد تطورت علاقتها مع صفوان من سيء إلى أسوأ، بعد أن شعرت بالخديعة الماكرة التي حبكها لها، وأيقنت أنها ما كانت إلاّ دمية.. دمية ساذجة جميلة، استمتع بها ثم رماها، وها هو يستبدلها بدمية جديدة اسمها ((رشا)).
وتنظر ((منى)) إلى ((رشا)) نظرة امتزجت فيها الغيرة بالرثاء، فهي ترثي لها لأنها شريكة مأساتها التي ستنتهي حتماُ إلى نهايتها الأسيفة، لكنها في الوقت نفسه تغار منها وتحقد عليها.. ليس لأنها احتلت مكانها في قلب ((صفوان))، ((فصفوان)) في نظرها إنسان بلا قلب أو عاطفة أو إحساس ، ولن يعرف الحب إلى قلبه سبيلاً، بل لأن رشا هي الأداة التي يستخدمها صفوان لإغاضتها وتحطيمها وإهانتها انتقاما منها، لأنها تمرَّدت على سيطرته وأنانيته ورغباته، وانتقدت مسلكه الشائن الوضيع.
أما صفوان، فقد أوحت له ثعابين الحقد والغرور التي تعربد في دمه أن يلقِّن ((منى)) درساُ قاسياً لا تنساه جزاء تمردها عليه، وتحديها السافر له الذي وشت به كل تصرفاته
ا
الأخيرة نحوه، مما جعله أضحوكة بين أفراد الشلة الفاسدة التي جمعها حوله، وصرف عليها بسخاء، ليرضي بها أنانيته وغروره وحبه للظهور. ولم يجد صفوان وسيلة للانتقام أنجح من تجاهلها وإغاضتها بتقرُّبه المقصود من رشا. واليوم، هو آخر يوم لهم في الكلية، وقد قرر أن يفسد على منى فرحة التخرج؟.. وأن يحول هذه المناسبة إلى حفلة وداع منكرة تتذكرها أبد الدهر، وتتذكر معها من هو ((صفوان الناعم)) الذي تجرأت فتحدته برفضها الاستمرار في تحقيق مطالبه السافلة، وطموحها لأن تكون له زوجة لا عشيقة.
- ((زوجة؟!!..)).
لا يستطيع صفوان أن يتصور نفسه زوجاً لمنى!.. كيف يتزوج من فتاة لا يصل دخل أبيها إلى دخل خادمة من خادمات أسرته الثرية؟!..
- (( لقد شمخت بأنفها عالياُ جدا وغلي أن أمرغها لها في التراب...))
وبدأ صفوان يتسقط كلماتها وتصرفاتها باحثا عن هفوة أو كلمة يتخذها مبرراً لإهانتها أمام من استخفت به بينهم، ثم أخذ يستفز مشاعرها فأمعن في تدليل رشا ومغازلتها، وتجاهل منى بشكل جارح، فكلما تكلَّم وجَّه كلامه للآخرين، وخصَّ به رشا، فإذا تكلمت منى أشاح بوجهه عنها أو رماها بنظرة هازئة تفيض بالاحتقار.
وعندما قدمت سامية برفقة عصام رمقتها ((منى)) باحترام وهي تشعر بالحسرة والندم لأنها لم تصغي فيما مضى لنصائحها الأمينة المخلصة، أما صفوان، فقد هتف عندما رآها ساخراً مستهزئاَ:
- انظروا لهذا الشبح القادم.. لقد استطاع عصام أن يلوث أفكار سامية، وأن يفرض عليها عقليته المتزمتة..
أردف أحد أفراد الشلة قائلا:
- هذه أفكار سعد.. سعد هو المسؤول عن هذا الوباء.
قالت رشا:
- كلهم متعصبون.. لقد سمعت سامية تدافع عن الحجاب بحماس منقطع النظير.
علق صفوان على كلمات رشا قائلا:
- يا للسخرية.. أمريكا وصلت إلى القمر، ونحن ما زلنا نتخلَّف إلى عصر الحريم، ترى؟.. كيف يهضم هؤلاء المتزمتين هذه التصرفات؟.. أنا لا أفهمهم!!
قالت له منى وقد نفذ صبرها على هذا التجاهل المقصود الذي يبديه نحوها:
- تحتاج إلى الكثير لتفهمهم.
سألها في شك:
- ماذا تعنين؟!
- أنت تدرك ما أعني!
ضايقت كلمات منى صفوان، لكنه تظاهر بالهدوء، ورفع كتفيه مظهرا عدم الاكتراث، وقال يستفزها وهو يرمق سامية بنظرة خبيثة:
- لكنها جميلة.. جميلة جداً.. لكم تبدو في حجابها هذا فاتنة مثيرة!
لكزته رشا في كتفه متظاهرة بالغيرة، بينما قالت له منى في نبرات هازئة تنطق بالتحدي:
- أرى أن عدوى ((الرجعية)) والجمود قد انتقلت إليك، أتعجبك فتاة متزمتة قادمة من العصور الوسطى!!
علق أحدهم وهو ممن يحب الاصطياد في الماء العكر:
- هذه ليست ((رجعية)) يا ((منى)).. إن صفوان من أتباع المدرسة الكلاسيكية.. إنه مغرم (( بالأنتيكا))..
أطلق أفراد الشلة ضحكات مجلجلة مدوية وشت بالشماتة والسخرية بينما أردف آخر:
- والعطر الذي يستعمله ألا يوحي لك ((بالتقدمية)).. إنه يستحضره خصيصاً من ((باريس)).
تعالت الضحكات من جديد طافحة بالشماتة والتشفي، فشعر صفوان بكبريائه الفارغة تهان وأحسَّ بأنه أصبح مثار سخرية من الجميع، وثار غروره المتحفز دائما للظهور، فخاطب ((منى)) قائلا في لهجة غاضبة وقحة:
- إذا كانت سامية قادمة من العصور الوسطى، فأنت قادمة من عصور ما قبل التاريخ، حيث كانت المرأة مشاعا لكل رجل...
صفعت كلمات صفوان البذيئة الفاضحة منى وصدمتها، وشعرت بالنظرات الخبيثة تحاصرها وتعريها، وأحست بالضحكات الماجنة الخليعة تمزق كرامتها وتهين كبرياءها، وزادت من غضبها تلك الابتسامة الهازئة الحاقدة الشامتة التي ارتسمت على شفتيه، فحملقت في وجهه ثائرة مجنونة.. أرادت أن ترد عليه، لكن لسانها خانها، فطفرت دموع القهر من عينيها وانفلتت هاربة لا تلوي على شئ، لكأن هذه المناسبة الكبيرة لا تعنيها... لكأنها لم تدرس الطب.. لكأنها لم تقضي في هذه الكلية ست سنوات من الدأب والتعب، فقد عصفت الفضيحة بكل آمالها وأحلامها وأحالت حياتها إلى جحيم لا يطاق ومضت في ذهول يشيعها صفوان بنظرة متشفية تشي بالانتصار.
* * *
قال سعد وقد رأى منى مندفعة بين جموع الطلبة والدموع الغزيرة تبلل وجهها:
- انظروا إلى هذه.. ما دهاها؟... أتبكي في مثل هذا اليوم؟!
أجابه بهاء:
- لعلها علمت بنتيجتها فعلمت أنها راسبة!.
قال عصام وهو ينظر إليها في دهشة:
- لا أعتقد هذا.. من أين لها أن تعرف؟!.
أجابه عرفان في سخرية ذات معنى:
مثل هذه الفتاة تملك الكثير من النفوذ، لا بد أنها توصلت إلى النتيجة من أحد معارفها في الديوان.
هتف سعد في إنكار غاضب:
- عرفان.. لا تطلق لخيالك العنان.. لسمعة الناس حرمة لا يجوز انتهاكها.. تبين الأمر ثم أطلق الأحكام.
قال عرفان معتذراً:
- أستغفر الله، لقد سبقني لساني!.
قال مجدي وهو يرقب عقارب ساعته في ضجر:
- اتركونا من سيرتها الآن.. دعونا في الأهم.. لقد تأخرت النتائج كثيرا.
وأردف عثمان:
- لقد سئمت الانتظار...
قال سعد:
- يبدو أن أعصابنا قد تعبت فعلاً.. سأحضر بعض المرطبات...
وما كاد سعد أن يمضي حتى اخترق فضاء الكلية صوت المذيع وهو يدعو طلاب الصف السادس عبر مكبر الصوت إلى الاجتماع في مدرج ((ابن سينا)) حيث سيتم إعلان النتائج، فانطلقوا إليه كالنسيم، وانهمروا عليه كالمطر وراحوا يتدافعون على أبوابه، ويتسابقون إلى مقاعده، وسادت المدرج جلبة وضوضاء، وأفقدت اللحضات الفاصلة الطلبة هدوءهم واتزانهم، وانبعثت في أعماقهم طفولتهم القديمة، فراحوا يهتفون ويصفقون ويصفرون، وما إن دخل العميد بصحبة اللجنة الامتحانية حتى ضج المدرج بعاصفة من التصفيق الحار، وانبرت مجموعة من الطلاب الذين عرفوا بالشغب تردد بإيقاع طفولي مألوف ((صباح الخير يا أستاذ)) فابتسم العميد لهذه الهفوة المغفورة ابتسامته الرزينة المألوفة، بينما تقدم الدكتور ماهر رئيس اللجة الامتحانية من المنصة وهو يضحك وتناول ((المايكرفون)) وقال وهو يدنيه من فمه:
- أعزائي الطلبة.. بل زملائي الأطباء – كما يتوجب علينا أن نناديكم منذ الآن - ، إننا نعذركم على تصرفاتكم هذه، لأنكم الآن على عتبة منعطف جديد في حياتكم، فاليوم تطوون مرحلة الدراسة الجامعية الأولى لتنالوا أولى الشهادات العلمية العليا ألا وهي شهادة ((البكالوريوس)) في الطب والجراحة التي ستؤهلكم لممارسة مهنتكم الإنسانية المقدسة لخدمة الإنسان وحمايته من الأمراض والآلام...
زملائي وأخوتي وأخواتي.. بعد ست سنوات من الدراسة والتعب والعمل المضني الدؤوب: قضيناها معا كأسرة واحدة يطيب لي – بصفتي رئيسا للجنة الامتحانية لهذا العام – أن أعلن لكم نتائج الدورة الثالثة والأربعين لكلية الطب مرتبة حسب تسلسل الدرجات ابتداء من صاحب الترتيب الأول مع تمنياتي لكم جميعا بالنجاح والتوفيق.
وران على المدرج صمت عميق وخفقت القلوب حتى كادت أن تبلغ الحناجر، وتوترت الأعصاب من رهبة الانتظار، وسطع الترقب من العيون التي تعلقت نظراتها المتلهفة بشفتي الدكتور ((ماهر)) تستحثه بالكلام، فسرعان ما بدأ مستجيبا لنداءها المتوسل الصامت:
- المتخرج الأول : الدكتور (( عصام السعيد )) ، وقد حقق معدلا فريدا قدره (( خمس وتسعون درجة وسبعة أعشار بالمائة )) وهو أعلى معدل تم تسجيله في تاريخ الكلية حتى الآن، ويسر عمادة الكلية أن تمنحه ((درجة الشرف)) على هذا التفوق الكبير.
وضج المدير بالتصفيق الحار، واتجهت نظرات التقدير والإعجاب ترمق أبرز المتخرجين وأول المتفوقين وهو يمضي إلى المنصة لاستلام نتيجته بخطوات واثقة هادئة وقد انتشرت في أغواره السعيدة فرحة عظيمة لم يتسع لها صدره، فتكاثفت وتكاثفت حتى قطرت من عينيه دموع صامتة معبرة اهتز لها الجميع، وتأثروا بها، ووقف له العميد في إكبار واحترام، وقال له وهو يصافحه في ود وحرارة:
- مبروك يا بني.. إنه لمما يشرفني أن تكون أحد طلابي وأن تصبح أحد زملائي، ومما يزيدني شرفا أن أقدم لك كل دعم ممكن لتتابع مسيرة نجاحك ونبوغك حتى تحقق كل ما تصبو إليه من آمال.
وأراد عصام أن يشكر العميد لكن الموقف المؤثر أثقل لسانه فغرقت كلماته في خضم الانفعال، فشكره بإيماءة صامتة وعاد إلى مكانه في هدوء وتواضع، ووقع عيناه على سامية وقد ارتوت ملامحها الفخورة بدموع الفرح فحيته بابتسامة ودودة وادعة سرت معانيها إلى أعماق قلبه، فطرت لها وانتشى، وتلقفه عرفان، وكان يجلس على مقعد جانبي من المدرج فطبع على جبينه قبلة خاطفة، وعانقه في حب وحرارة غير عابئ بوجود العميد والأساتذة فضج المدرج بعاصفة مدوية من الضحك شملت العميد نفسه إذ صرحت ملامحه الجادة الوقورة ضحكة شديدة اهتز لها جسده، مما شجع الطلبة على التمادي في ضحكاتهم فانقلب المدرج إلى مهرجان صاخب أدخل السرور والمتعة إلى النفوس القلقة وخفف من اضطرابها، أما سعد فقد رنا إلى صديقه العظيم بنظرة باسمة معبرة أغنته عن أبلغ ما يمكن أن يقال في هذه المناسبة الكبيرة.
وتتالت الأسماء...
كان سعد هو الثاني على الكلية، وكانت سامية السابعة، وتبوأ بقية الأصدقاء أمكنتهم بين العشرين الأوائل وعندما علي اسم صفوان في ذيل القائمة المتخرجين أيقن الجميع أنه لم يكن ليتخرج لولا أنه اتبع كل وسائل الغش والخداع في الامتحان حتى انتزع هذا النجاح الذي لا يستحقه أما عندما تلي اسم منى فقد فوجئ الجميع بعدم وجودها في المدرج وهي التي كانت منذ قليل تنتظر معهم إعلان النتائج!!.
وتبادل الأصدقاء نظرة متسائلة مستفسرة.. فمنى لم ترسب كما توقع أحدهم، فما هو سر بكائها الغامض وغيابها المفاجئ الغريب؟!!...
* * *
__________________
اذا كان لابد لك ان تموت ارجوك ان تسأل اذا كان بالامكان ان تأخذ معك صديق