عرض مشاركة واحدة
  #21  
قديم 07-10-2010, 12:56 AM
 
الفصل الخامس عشر
الربيع يزداد قرب الحبيب ربيعاً..والليل الساكن الجميل يزداد روعة وسحراً، والنسيم العليل المفعم بأريج الياسمين يتسلل إلى النفس فينعشها ويزيدها بهجة وسعادة، والسماء الصافية البديعة ترمق العاشقين بعيون تتلألأ بالنور، والهلال الفضي يتألق في القبة الزرقاء كثغر ضاحك يشع بابتسامة السماء، وكأنها تشارك الأحبة فرحة القرب وأنس اللقاء ...
وضاقت الشرفة بعصام فلم تعد تسعه من فرط السعادة وفيض الحبور ، فالقلب اليوم هانئ مسرور، والنفس مترعة بأعذب الأحاسيس وأحلاها، والروح ترفرف حول الحبيب في فرح .. تناجي روحه اللطيف، وتبثه لوا عج الشوق والهيام، والعين ترنو إليه في حنان، فيبهرها هذا الجمال الباسم الماثل أمامها، فترسل نظراتها الوالهة المتولعة، لتتأمل القسمات الوسيمة، وتجوب الملامح الحسناء، وتسافر عبر القد الأهيف الممشوق، ثم تعود بعد طول تجوال لترتاح في عينيه الذابلتين، فيأسرها اللحظ الوداع في حياء، وتتيه في بحر من البراءة والصفاء...
وتتأجج مشاعر عصام وتتوهج أحاسيسه وتتألق عواطفه فيسطع ألقها من نظراته الأسيرة، وينطلق بها لسانه فيهمس في وجد وهيام:
- سامية ..على عتبة قربك الحبيب أخلع كل همومي وأحزاني ليسربلني حبك الكبير، وفي واحة حنانك الوارف يحيط قلبي المكدود رحاله، فينفض عنه أتراحه وأشجانه ويروي أشواقه ولهفاته، فتخضوضرُ فيها الآمال، وتزهر الأماني، وتبسم الأحلام، ويحل في أعماقي المقفرة ربيع ساحر عامر بالأفراح.
همست سامية في دلال:
- عصام...
تابع عصام في توسل :
- دعيني أتكلم ..دعيني أبوح بكل ما في صدري ..لقد آن للعواطف الحبيسة أن تنبثق، وآن للقلوب الظامئة أن ترتوي، وآن للحب الصامت العفيف أن يصدح ويشدوا.. .. إنك الآن زوجتي وشريكة عمري ..أنت الإنسانة التي خلقت لي وخلقت لها.. أنت النصف الأخر الأجمل والأحلى من نفسي والذي يمدني دوماً بالآمال والثقة والتفاؤل، فدعي الأرواح في أفراحها سعيدة بهذا اللقاء بعد أن أضناها الشوق وأوجعها الحنين.
هيجت كلمات عصام مشاعر سامية، وألهبت عواطفها، عصام.. قد لا أتقن مثلك حلو الكلام، لكني أبادلك كل المشاعر والأحاسيس التي تحملها نحوي، ولو أصغيت إلى حديث نفسي لسمعتها تتحدث بلسانك وتحس بعواطفك، وكأن خواطرها رجع الصدى لما يأتلق في نفسك من خواطر..
وصمتت للحظة، ريثما استوعبت أمواج الانفعال التي فاضت بها نفسها، ثم تنهدت وهمست بنبرات مرتعشة ندتها دمعتان تألقتا في صفاء عينيها الفاتنتين :
- عصام.. أنا أحبك يا عصام.. أحبك كما لم تحب فتاة من قبل ..أني أحسّ نحوك بميل جارف عميق.. ميل عارم عجيب.. ميل أكبر من ميل فتاة لشاب.. لكأن روحينا كانتا على موعد قد ضرب منذ الأزل...
نفذت كلمات سامية إلى أعماق عصام بكل صدقها وحرارتها فطرب لسماعها، وخفق قلبه وهو يستقبل ذلك البريق العجيب الذي سطع من عينيها الساجيتين، وقال وهو يرنو إليها في حبّ ووله :
- لو تعلمين كم أنا سعيد بك اليوم .. أنت ملاك طاهر حطّ في دربي فآنس وحشته وبدد غربته.. أنت الماء الروحي لعطشى.. أنت البلسم الشافي لكل جروحي وأدوائي.. أنت الأمل الذي يشحذ همتي ويلهم خطواتي .
ثم تناول يدها بين راحتيه وطبع قبلة طويلة سرت حرارتها في دماء سامية، فأطرقت في حياء وقد تضرجت وجنتاها وسكنت مقلتاها واسترخت الأهداب الطويلة المنسابة كالأشعة حول منبع النور، فنامت فوق العينين الوادعتين في حنان ولاح وجهها المورد الفاتن من تحت غرتها المتدلية الشقراء كمملكة من الجمال الباهر تلوح من خلال أفق حالم يتوهج بالإشراق، وهمست وهي تسحب يدها في رفق :
- عصام ... قد يدخل أحدهم في أي لحظة !...
قال عصام وهو يرمي بنظراته الحالمة إلى نجمة بعيدة:
- عمّا قريب سيكون لنا عش دافئ جميل ..تتفجر فيه ينابيع السعادة والهناء ، وتجري خلاله أنهار النعيم، وفي فردوسنا الصغير سيخرج إلى النور وليدنا المنشود الذي سيضفي عليه حياة رائعة جميلة، تبعثها الطفولة الوادعة البريئة.
هتفت سامية في لهفة وفرح :
- أريد طفلاً.. طفلاً جميلاً تلوح في وجهه ملامحك الوسيمة وتنطق نظراته بذكائك المتقد وكلما ارتقى في سلم الزمان درجة، ظهرت في سلوكه طباع أبيه وأخلاقه، سأسميه عصام ((عصام الصغير)) فاسم ((عصام)) من أحب الأسماء إلى قلبي وأحلاها.
- هتف عصام وهو يرنو إليها بنظرة ودودة حالمة:
- بل أريدها طفلة.. طفلة وديعة جميلة.. طفلة هادئة رزينة، فيها من روحك اللطيفة قبس يشرق به شكلها وطبعها وسلوكها، فألمحك من خلالها في طفولتك وصباك وأراك في نضحك وشبابك، وسوف أستمد اسمها من صفاتك العظيمة.. سأسميها ((صفاء)).. بل ((براءة)).. فأنت البراءة مجسدة في فتاة.
- حسناً.. سأنجب لك طفلاً وطفلة...
- بل أطفال.. سنربيهم أحسن تربية، ونعدّهم أروع إعداد، وسوف تنمو براعمنا الجميلة وتتفتح، فتزداد حياتنا نضارة وسعادة، ويزداد حبنا توطداً وثباتاً، وتتألق في أعماقنا أزهار المحبة والوئام..
- تبدو مغرماً جداً بالأطفال!..
- في أعماقي أبوة جائعة عطشى تهفو للري والإشباع.
- ترى أيهما أقوى؟.. عاطفة الأبوة أم عاطفة الأمومة؟
- اسألي نفسك؟
- يتملكني شعور طاغ بأنه لا يوجد في الكون كله فتاة تحب الأطفال مثلي.
- لعلنا جميعاً يراودنا نفس الشعور.
ثم قالت سامية وهي تسرح بخيالها في وجدانها الخصيب:
- عندما أرى طفلاً يبتسم أرى الوجود من حولي باسماً سعيداً وأحس به مفعما بالبهجة والفرح وتلح عليّ رغبة جارفة لأن أضم ذلك الطفل إلى صدري، وأودعه في قلبي إلى الأبد..
قال عصام وهو يشملها بنظراته المتولعة:
- عندما أنظر إلى وجهك الجميل أراه بريئاً صافياً، وعندما تتحدثين أجد الداخل أصفى وأحلى.. إن نفسي الآن تنعم بالسعادة والارتياح، فبالأمس اطمأنت بمبادئ الإسلام الأصيلة الصافية واليوم تسكن إلى الإنسانة الحبيبة التي شُغفت بها.. ما أجمل الدين والدنيا إذا اجتمعا!..
قالت سامية في حماس:
- نسيت أن أخبرك.. لقد بدأت أصلي.
- هذا خبر رائع.. كنت على يقين من أن إيمانك الكبير ومعدنك الطيب سيقودك إلى الصلاة.
- عندما أديت صلاة الصبح اليوم، انتابني شعور عذب مريح، وشعرت بنفسي وقد اطمأنت وسمت. وألقي في روعي أني إنسانة جديدة، قد طهرتها الصلاة من كل أدران الدنيا وهمومها ومشاكلها.
صمت عصام ملياً ثم سألها ( بعد تفكر) وهو يرمقها بإعجاب:
- لو كان بحوزتك جوهرة نادرة.. جوهرة ثمينة عزيزة على نفسك، فماذا تفعلين بها؟
- أحفظها وأصونها من العيون والأيدي وأتعهدها بالحماية والرعاية والحرص والاهتمام.
- وأنت يا سامية جوهرتي الغالية، ودرتي النفيسة التي أحبها وأغار عليها.. لكم أتمنى أن أصونك في قلبي فأحميك من كل عين جائعة وكل نظرة مريضة.. عندما كنت ألمح شاباً في الجامعة أو في الشارع ينظر إليك أو يتأملك، كان يغلي في صدري مرجل من الغيظ، وتنطلق في دمائي أمواج عاتية من الغضب، وتلهب أعصابي شحنات ثائرة مجنونة.. إني أخاف عليك من النسمة إذا هبت، فكيف أصبر على عين جائعة تلتهمك بنظراتها الخائنة الخبيثة.
هزت مشاعر الغيرة التي أبداها عصام نفس سامية، فطربت لها، وشعرت بحرارة الحب الذي يكنه نحوها وهي تمس قلبها وتسري في دمها، فسألته تستزيد من عواطفه الثرة الغنية:
- هل أفهم أن الحب عندك يعني التملك؟
ابتسم عصام وأجاب:
- الميل المتبادل إلى التملك بين الزوجين من مقتضيات الحب الصادق العميق.. ينبغي أن يشعر كل منا بأنه ملك للآخر، بل جزء من الآخر.. إنَّه نتيجة منطقية لاتصال المشاعر ووحدتها وانصهارها في شعور واحد، فكما أغار عليك وأحب أن تكوني لي وحدي، أنت أيضا تغارين علي وتحبين أن أكون لك وحدك، أم أنك لا تغارين علي؟...
ضحكت وتساءلت في عتاب:
- أنا؟.. إنِّي لأتمنى لو أكبلك بقيود من حديد، فلا تخرج من مملكتي إلى الأبد.
حبك الطاهر الذي يكبلني أقوى من كل قيود الدنيا وأغلالها.
- يقولونا بأن التملك في الحب أنانية!.
- هذا إذا كان التملك شيئا مفروضاً من طرف واحد.. إنه منتهى الأنانية، فترين الرجل مثلاً يغار على زوجته أشد الغيرة، ويحاصرها بأوامره ونواهيه، ويفرض عليها قيوداً مبالغاً فيها في اللباس والحركة، ويعتقل البسمة إذا رفًّت على شفتيها، ثم يبيح لنفسه كل ما يحرمه عليها، وينجرف وراء شهواته وملذاته وغرائزه دون احترام لمشاعر زوجته المسكينة وحقها في أن يكون لها وحدها. هذا النوع من الرجال ينظر إلى المرأة على أنها مجرد متاع شخصي دون اعتبار لشخصيتها وحقوقها وعواطفها وفي هذا احتقار لها وإيذاء.
سألت سامية في حيرة:
- وكيف لي أن أملك نظرات العابثين والفضوليين، لقد اعتدت هذا الإزعاج المتكرر كل يوم.
- لا تقولي اعتدت.. أرجوك.
- لا أقصد بالاعتياد أني مرتاحة لهذا، فالفتاة التي يسرها أن تلتهمها العيون الجائعة الخبيثة فتاة في سلوكها مرض.. ما أقصده هو أني لا أملك حيال نظرات هؤلاء شيئاً.
- بل تملكين.
- كيف ؟
- بأن تغلقي نوافذ الفتنة والإغراء.
- لعلك تقصد...
- الحجاب.. هذا ما أردته فعلاً.. حجاب الرأس والجسد فلا يبدو منك إلا الوجه والكفّان.
قالت وهي تتفكر:
- فكرت بارتدائه كثيراً، لكن التردد كان يوهن عزمي، ويثنيني.
- ولماذا التردد؟.. إنه أمر من الله يجب تنفيذه، والله يا عزيزتي هو الأعلم بتركيبنا الجسدي والفكري والنفسي وهو الخبير بطبائعنا وغرائزنا وميولنا، لذا فإن منهجه هو الأولى بالإتباع.
- إني أدرك هذا، لكني - في الحقيقة – لم أتعود عليه، ثم إن زميلاتي سوف يحرجنني بكلماتهن اللاذعة، ويحاصرنني بسخرياتهن السخيفة، ويكبلنني بنظراتهن المتطفلة.
- قال عصام معترضاً:
- لست أنت بالتي تقول هذا!.. يجب أن تكون شخصيتك أقوى من ذلك.. ينبغي أن نتحرر من ضغط المجتمع الفاسد.. أن نتصرف بوحي من مبادئنا وقناعاتنا.. أن نكون فاعلين في المجتمع لا منفعلين به.
- كلامك حق، لكن ما يزيدني تردداً وجود بعض الفتيات اللواتي يسئن للحجاب.. يرتدين الحجاب ويسلكن سلوكاً شنيعاً لا ينسجم مع ما يرمز إليه هذا اللباس من طهر وتعفف!
- لا أنكر وجود هؤلاء، لكن هذا ليس مبرراً لأن ننفر من الحجاب ونتخلى عنه، أليس هناك أطباء يحملون الطب دون أن يتقنوه؟
- بلى..
- لكن ذلك لم يدفع أحداً لأن يتخلَّى عن دراسة الطب وممارسته، واستطاع الأطباء الناجحون أن يحطموا بإخلاصهم وإتقانهم ومهاراتهم أولئك الذين ليس لهم من الطب إلا اللقب الأجوف.
- هذا صحيح.
- إذن لماذا لا تكون الفتيات اللواتي ينسجم حجابهن مع سلوكهن هن الأوضح والأبرز في المجتمع، حتى يسطّرن بأخلاقهن الرائدة ومعاملتهن النظيفة الناصعة مثلاً رائعاً للفتاة المسلمة الأصيلة.
قالت سامية وهي مشدودة إلى الحوار:
- لماذا أمرنا الله بالحجاب؟.. ما الحكمة من تشريعه؟
- لأنه يريد أن يحاصر عوامل الفتنة في المجتمعات، فالنظرة المقصودة للمرأة، ورؤية مواطن الفتنة والإغراء فيها، والاختلاط الفوضوي بها يثير غرائز الرجال، ويفقدهم على أعصابهم، ويدفعهم للتهافت على اللذات والرغبات، فتطغى مشاعر الجنس عندهم على آلاف المشاعر المهمة للحياة، مما يدفعهم لتجاوز حدود الأخلاق والآداب، فينحدر المجتمع نحو الفساد، وتصاب الأمة بالضعف والانهيار.
- وهذا ما يعاني منه مجتمعنا فعلاً.
- لقد رفض الإسلام أن ينظر الرجل إلى المرأة كجسد فحسب، لأن في ذلك غضاّ من مكانتها الرفيعة السامية وإهانة لكرامتها الإنسانية، فالمرأة نصف المجتمع، وشقه المكمل للرجل، وبها تناط مهمات إنسانية نبيلة يعجز الرجل عن أدائها، ولا تقوم الحياة بدونها.. لقد أراد الإسلام أن يثير منظر المرأة أثناء حركتها في المجتمع المشاعر الطاهرة
النظيفة المفعمة بالاحترام والتقدير.. المشاعر النبيلة التي تليق بمكانتها العظيمة في الحياة، أمّا المشاعر الجنسية والجسدية فقد دعا الإسلام إلى إطلاقها ضمن إطار الحياة الزوجية حيث يتحول التبرج والإغراء إلى واجب مقدس تبذله المرأة لزوجها ويتحول الإرضاء الجنسي إلى واجب مقدس يبذله الرجل لزوجته، وعندما يقوم الزوجان بواجبهما في حبّ واحترام وإيثار يتحقق لهما السكن النفسي والاستقرار الروحي، وتمضي سفينة الأسرة في أمان دون أن تعصف بها رياح الرغبة أو الخلاف..
قالت سامية وهي تتفكر:
- كلامك هذا يذكرني بـ ((منى))..
- منى؟.. ما شأنها؟..
- لقد عادت تتقرب مني من جديد، وقد لمَّحت لي أمس بأني كنت على حقّ حينما حذرتها من صفوان، وعندما حاولت أن أعرف منها سبب هذه الصحوة المتأخرة دمعت عيناها وقالت لي بأنه سيأتي يوم تحدثني فيه بكل ما حدث.
قال عصام في شرود:
- يبدو أنَّ أحداثاً خطيرة قد وقعت!! أخشى أن...
ودخلت أم عصام الشرفة لتقدم الفواكه لابنها وخطيبته، وما إن رأتهما حتى خفق قلبها لهذا المنظر الرائع، والتمعت الفرحة في عينيها.. فها هو ابنها الغالي يسكن إلى زوجته الجميلة الفاتنة، وها هو الأمل الرائع العذب يتحقق، وشعرت بالسعادة العارمة تكتسح أغوارها وتطهرها من كل رواسب الماضي وذكرياته الأليمة، وأحست بسحب الحزن القاتمة السوداء وهي تنقشع رويداً...رويداً من نفسها الملبدة بالكآبة لتسطع من خلالها شمس التفاؤل والسرور فتذيب فتذيب بأشعهتا الدافئة صقيع الأيام الباردة التي شغلت سنوات شبابها المهدور، وتفجرت في أعماقها ينابيع الأحلام السعيدة،فرات نفسها في لوحة الخيال جدّة طيبة يحف بها أحفادها الأحبة الذين يملؤون لها حياتها بهجة وأنساً ومتعة،فذاك يشدّها من يدها لتقوده الى مكان الحلوى،وتلك تهرع إليها فتعطيها المشط لتسرح لها شعرها الأشقر الطويل، وذلك يدس يده في جيبها باحثاً عن القروش، وهذه تبكي في دلال وترمقها في توسل فتدعوها بنظراتها البريئة وأنينها المفتعل لأن تحملها وتعطيها حظها من الرعاية والعطف والاهتمام أسوة بأخوتها، وقد أوهمها تفكيرها الطفولي الغض بأن أخوتها الكبار قد استولوا على جدتها الحبيبة، واستحوذوا عليها، وهي المدللة الأثيرة لديها، فنشبت الغيرة في قلبها الصغير. وغلبتها ابتسامة فرحة مشرقة أضاءت ملامحها، فتهللت بالبشر وفاضت بالحبور وقالت وهي تبش في وجه كنتها العزيزة
- الله يكتب لكما السعادة العمر كله.. تفضلي يا ابنتي..
- لقد أتعبت نفسك يا أمّاه.. كان ينبغي أن أقوم بهذا بنفسي.
- ((تعبك راحة يا حبيبتي)).. تفضلي.. لقد انتخبت لك هذه الفواكه بنفسي فلا تتركي منها شيئاً.
- سلمت يداك.. ستكون ألذ فواكه آكلها لأنها من اختيارك أنت..
هتف عصام في دعابة:
- ((يا عيني)).. أراكما قد نسيتماني.. لقد بدأت أغار. ضحكت الأم وكنتها، بينما قال عصام في توسل :
- اجلسي معنا يا أماه.
قالت وهي ترميه بنظرة ذات معنى:
- ((اعذروني يا ابني، لا يصح أن أترك حماتك وحدها)). ثم مضت ونفسها مترعة بالمشاعر اللذيذة، وقالت سامية:
- لكم أنا محظوظة، زوج حبيب وحماة رؤوم.
قال يمازحها:
- هذا كلام تقولينه الآن، فقط.
- الآن وغداً، وسوف ترى..
- لا تقنعيني يا عزيزتي.. لن تنقضي الأيام الأولى للزواج حتى تنضمي إلى حلبة الصراع الأبدي بين الكنة والحماة!.
- ومن قال لك أنه صراع أبدي معلوماتك خاطئة يا أستاذ.
- ((دكتور)). إذا سمحتِ ...
- الخلافات بين الكنة والحماة يا ((دكتور)).. لا تحدث إلا بين النفوس الأنانية المتسرعة الضيقة المهيأة للخلاف والشجار والخصام، أما حماتي فهي شيء آخر!.
- أريد أن أعرف سر هذه المحبة التي بينكما.
- الحب شعور روحي طليق لا يخضع لتفسيرات العقل وقوانينه.
- لعلك تحبينها من أجلي!.
- قد أجاملها من أجلك، أما المحبة فهي شيء صادق يولد في الأعماق، إما أن يكون أو لا يكون وأنا أحبها يا عصام لأني أحبها.. أمك امرأة عظيمة حقاً.. لقد بدأت أدرك مصدر شمائلك الرفيعة.
ابتسم وقال بنبرات حالمة رقيقة:
- المرأة كائن عظيم ينطوي على أسرار روحية عجيبة..كائن لطيف يملك كنوزاً من الحب والرحمة والحنان يفتقر إليها تلك المحاولات المستمرة لإثبات أنًّ المرأة تستطيع أن تكون مهندسة أو عاملة أو محامية أو.. من قال أنها لا تستطيع؟... إن المرأة لديها القدرة والاستطاعة لأن تحل مكان الرجل في الكثير من أعماله، بل وأن تتفوق عليه فيها، لكن جوهر القضية ليس هنا.. الأسرة الناجحة السعيدة يا عزيزتي تقوم على التخصص وتقاسم الأعباء.. ثمة حقيقة أخرى.. إن المراة تستطيع أن تحل مكان الرجل من المستحيل أن يحل مكان المرأة..
قالت سامية في دعابة:
- أنت تعترف إذن بتفوق الجنس اللطيف على الجنس الخشن!.
ابتسم عصام وقال:
- القضية ليست تنافساً وصراعاً.. إن العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة تكامل .. فما ينقص الرجل تكمله المرأة وما ينقص المرأة يكمله الرجل وباجتماعهما تتشكل الوحدة الإنسانية المستقرة الفاعلة في الحياة.. المرأة والرجل في الإسلام متساويان من حيث الإنسانية متكاملان من حيث الخصائص والوظائف.. من الإجحاف والغباء أن نضع المرأة مكان الرجل والرجل مكان المرأة.
- ما خصائص المرأة برأيك؟...
- المرأة روح شفاف رقيق مزودة بجهاز عاطفي فريد، هيأه الله ليقوم بأخطر مهمة في الوجود.
- تريد التربية طبعاً.
- أجل.. فتربية الطفل وإعداده لرحلة الحياة من أهم وأخطر المهمات التي تواجه الإنسان على هذه الأرض.. لأنها عملية إنضاج لأجيال، يتم بواسطتها غرس الصفات النفسية الفكرية والروحية التي تبلور شخصية الفرد وتؤهله ليحتل موقعه الفاعل في المجتمع والأم هي القادرة على القيام بهذه المهمة بما أوتيت من عطف وحنان وصبر على مشاكل الطفل وتفهم لها، مما يجعل الطفل أكثر تقبلاً واستجابة لعملية التربية.. طبعاً أنا لا ألغي دور الأب في التربية، لكن الدور الحاسم يبقى للأم بلا جدال.
وافقته سامية بإيماءة وقالت وهي تقدم له قطعة من تفاحتها:
- إنني أعزو الكثير من أمراضنا ومشاكلنا الاجتماعية لفشل التربية في البيت.. هذه ملاحظة واضحة جداً في حياتنا..
- فعلاً قد يخطئ الرجل فلا يتعدى خطؤه إتلاف آلة أو خسارة صفقة، أما إذا أخلت المرأة بوظيفتها فإنها بذالك تحطم جيلاً وتدمر أمة. أن أكبر مأساة تعيشها البشرية اليوم هي غياب المرأة عن مسرح التربية، وتخليها عن وضيفتها الحساسة للخادمة أو دور الحضانة ووسائل الإعلام، مما أدى إلى فساد الأجيال الجديدة واضطراب شخصيتها، لأنها لم تتلق القدر الكافي من العطف والرعاية والاهتمام، ولم تتناول الجرعات الكافية من الحنان الذي لا بد منه لكل شخصية سوية، وقد بدأ المصلحون والمفكرون في الشرق والغرب يدركون خطورة هذه الظاهرة الاجتماعية المدمرة وأخذوا يهيبون بالمرأة أن تعود إلى عشّها لتمارس وظيفتها الإنسانية الطبيعية.
- ليت المرأة في مجتمعنا تدرك هذا..
- إن المرأة في مجتمعنا ما زالت مبهورة بتجربة المرأة الغربية وعليها أن تتحرر من البريق الخادع قبل أن نجني الحصاد المرّ الذي جنته حضارة الغرب...
قالت سامية:
- لكن الرجل في مجتمعنا ينظر إلى المرأة على أنها مخلوق قاصر أقل منه قيمة وشأناً. مما يضطرها لإثبات شخصيتها وكفاءتها من خلال منافسته والقيام بأعماله ووجباته!...
أجابها عصام:
- أنا لا أنكر أن الرجل يرتكب الكثير من الممارسات الخاطئة بحق المرأة، لكنّ ذلك لا يبرِّر لها أن تعالج الخطأ بالخطأ، فتدفعها رد الفعل على تصرفات الرجل لأن تتخلى عن وظيفتها وتخرج إلى الشارع والمعمل لتثبت له أنها قادرة على احتلال موقعه بجدارة.. على المرأة أن تكون أكثر ثقة بنفسها وأشدّ اعتزازاً بدورها في الوجود، فإذا كان الرجل يوفر متطلبات الأسرة ويحمي كيانها ويرسم لها مسيرتها، فأن المرأة تحمي روح الأسرة وجوهرها وتهندس عناصرها الإنسانية الصالحة المهيأة لحمل رسالة الحياة كما تنبغي الحياة.
- على هذا فعمل المرأة خارج البيت مرفوض؟
- الإسلام لم يرفض عمل المرأة يا عزيزتي، لكنه رفض أن تمارس المرأة أي نشاط مهني أو اجتماعي أو علمي أو ثقافي إذا كان سيتم على حساب تربية أبنائها التربية السليمة الكافية، فإذا ما قامت بواجبها نحو أطفالها كاملاً واطمأنت على سلامة أوضاعهم واستقرارها فلها أن تقوم بأي نشاط تهواه ما دام نشاط مفيداً بانياً شريفاً يراعي القيم الصحيحة ويحترمها.
سألته في شرود:
- هل هناك زيّ محدد يجب على الفتاة أن تتقيد به في حجابها
- الحجاب ليس زيّاً من الأزياء أو نمط من أنماط اللباس، بل هو مبدأ وقناعة. اختاري في لباسك اللون الذي تريدينه أو الزيّ الذي ترتاحين إليه على أن يكون منافياً للحشمة أو مظهراًً للفتنة.. الحجاب الأكمل والأفضل هو الذي يجمع بين الحشمة والأناقة والجمال.
- وهل تتوقع أن أبدو في حجابي أجمل من الآن؟
- ستكونين أجمل بلا شك ، لأن جمال جوهرك سيسطع ويتألق من خلال سلوكك الجديد. بيد أني أريدك أن تتحجبي لله وحده، لا من أجل الجمال...
سامحك الله، إنما أمزح.. إني مقتنعة بكل ما قلت، وقد فكرت فيه كثيراً قبل الآن، لكني لم أجد من يشجعني على ذلك.
صمت عصام ملياً ثم قال وهو يمسك بيدها في ود:
- سامية أنا لن أكرهك على شيء... أريدك أن تتخذي قراراتك بنفسك عن رضا وقناعة، لكن مالا أرضاه لزوجتي وحبيبتي هو أن تضطر لمخالفة قناعتها ومبادئها من أجل الناس فالحق أحق أن يتبع.
قالت وهي تشد على يده في حنان:
- عصام ...كلماتك دائماً تملؤني ثقة وارتياحاً، وقد اتخذت قراري منذ الآن ولن أتراجع عنه مهما كان تقبل المجتمع له، ولن يريحني أن أرضي الناس وأغضب الله، ولن أسمح لنفسي أن أتركك تتلوى تحت سياط الغيرة ولهيبها. إذا لم أرع مشاعرك وأحاسيسك فلن أكون جديرة بحبك.. إني أعاهدك أن ألتزم بالحجاب، وستكون أول من يراه..
أثلج قرار سامية صدر عصام فرنا إليها في حب وإكبار وهو غارق في طمأنينة غامرة وأحس بروحة تحلق فرحة سعيدة في سماء من الود والتفاهم والانسجام، وبدت له سامية فيها ملاك طاهر جميل يحمله على أجنحة الأمل إلى دنيا الأحلام.
__________________
اذا كان لابد لك ان تموت ارجوك ان تسأل اذا كان بالامكان ان تأخذ معك صديق