عرض مشاركة واحدة
  #18  
قديم 12-17-2009, 11:48 AM
 
الفصل التاسع عشر
الهوامش المالية

فيما اعتدت على الآمال لدي بدأت أشعر بتأثيرها النفسي على نفسي وعلى الذين من حولي , فعشت في حال من القلق المستمر حيال تصرفي مع جو , ولم يكن ضميري مرتاحاً تجاه بيدي . وحين كنت أستيقظ في الليل , كنت أفكر بنفس كئيبة بأنني ربما كنت أكثر سعادة لو أنني لم أتعرف إلى وجه الآنسة هافيشام , وبلغت الرجولة قانعاً بكوني شريك جو ف دكانه القديم المتواضع .
لم يكن مركزي الجديد بذي فائدة لهربرت . فقد دفعه تبذيري لمصاريف فاقت قدرته , وأفسد البساطة في حياته , وأصاب طمأنينته بالقلق والندم .
وبدأت أغرق بالدين , وسرعان ما لحق بي هربرت . كان بودي أن أتحمل مصاريف هربرت , لكن هربرت كان معتداً بنفسه , فلم أستطع التقدم إليه بمثل هذا الإقتراح . وهكذا غرق بالمصاعب من كل حدب وصوب , وبقي ينتبه لنفسه .
كان في كل صباح يذهب إلى الوسط التجاري , وغالباً ما كنت أزوره في مكتبه لكنني لا أذكر أني رأيته مرة يفعل شيئاً سوى النظر حوله . فكنت أقول له أحياناً : " يا عزيزي هربرت , إن وضعنا سيء . "
" يا عزيزي هاندل , لئن صدقتني , فقد كنت على وشك النطق بهذه الكلمات . "
وكنت أقول : " إذن لنمعن النظر في أمورنا . "
كنا نشعر دائماً بمتعة بالغة عن تحديد موعد لهذا الغرض . فنطلب وجبة خاصة على الغداء مع زجاجة نبيذ غالية لشحذ الفكر لتلك المناسبة . وبعد الغداء , نأتي بالأقلام والورق . فأتناول ورقة وأكتب في أعلاها : " مذكرة بديون بيب . " كذلك كان هربرت يتناول ورقة ويكتب عليها : " مذكرة بديون هبرت . " ثم يرجع كل منا إلى كومة أوراق بجانبه , سبق أن ألقيت في الأدراج , أو استحالت نتفاً في الجيوب , أو أصابها بعض الإحتراق من الشموع , أو ألصقت إلى المرآة طوال الأسبوع , أو لعلها أتلفت بشكل أو بآخر . فكان صرير الأقلام يبعث فينا أثناء الكتابة كثيراً من الانتعاش حتى أنه كان يصعب أحياناً التفريق بين القيام بهذا العمل وتسديد المال بالفعل .
وبعد أن نكتب لبعض الوقت , كنت أسأل هربرت كيف تسير معه الأمور , فيقول : " إنها تتصاعد يا هاندل , لعمري إنها تتصاعد . "
فأجيب : " كن حازماً يا هربرت , واجه الأمر ودقق في شؤونك . "
وتكون لأسلوبي الجازم نتائجه , فينكب هربرت على العمل من جديد , ثم يستسلم بعد فترة , مبرراً بأن بعض الفواتير قد فقدت .
" إذن قدرها يا هربرت , قدرها بأرقام مدورة وسجلها . "
فيجيب صديقي بأعجاب : " يا لك من إنسان بارع , فلديك في مجال الأعمال قدرات رائعة حقاً ! "
اعتقدت ذلك أيضاً , واعتبرت نفسي في تلك المناسبات رجل أعمال من الدرجة الأولى : حازم , حاسم , واضح وهادئ المزاج .
ومن إحدى عوائدي في العمل ما كنت أدعوه " تخصيص هامش " . فلو افترضنا مثلاً أن ديون هربرت هي مائة وأربعة وستون جنيهاً .
أقول : " أُترك هامشاً وسجلها مئتين . " . أو لنفترض أن ديوني هي أربعة أضعاف ذلك, فإنني أترك هامشاً وأسجلها سبعمئة . كنت شديد الإيمان بالحكمة من هذا الهامش , لكن لابد لي من الاتعراف من أنها طريقة مكلفة . إذ سرعان ما نعرف بديون جديدة تغطي الهامش بأكمله وتتجاوز حدودها لتدخل في حيز هامش آخر .
إنما كان يسودنا شعور بالسكينة والإرتياح نتيجة التدقيق بأحوالنا , وهو ما عززني آنذاك بموقف من الإعجاب بالنفس . ذات مساء كنت في حالة السكينة هذه حين وصلتني رسالة من بيدي تعلمني فيها عن وفاة شقيقتي وتطلب إلي حضور الدفن نهار الاثنين التالي .
يندر أن أتذكر شقيقتي بحنان كثير , لكن حسبي أن هناك صدمة من الندم , بغياب مشاعر الحنان . وبتأثير ذلك , امتلكني غيظ شديد من المهاجم الذي عانت الكثير بسببه , وشعرت بأنه لو كان لدي الدليل الكافي , لكنت طاردت أورليك , أو أي إنساناً آخر , إلى آخر الدنيا انتقاماً .
كتبت إلى جو معزياً , وحين حل النهار استقليت عربة إلى قريتي وسرت باتجاه دكان الحدادة .
بعد انتهاء مراسم الدفن , تناولت غداء بارداً مع جو وبيدي . وقد سُر جو كثيراً حين سألت إن كان بوسعي أن أنام في غرفتي الصغيرة . وفيما بدأت تقترب بداية الظلمة , اغتنمت فرصة للخروج إلى الحديقة مع بيدي في نزهة قصيرة . قلت لها : " أظن أن من الصعب عليك البقاء هنا يا عزيزتي بيدي . "
فقالت بلهجة أسف :" أوه , لا يمكنني ذلك يا سيد بيب . لقد كنت أتحدث إلى السيدة هابل, وسأذهب إليها في الغد . آمل أن تستطيع الاهتمام بالسيد غارجري , سوياً إلى أن يستقر . "
" وكيف ستعيشين يا بيدي ؟ إن كنت بحاجة إلى المال ــ "
" كيف سأعيش ؟ سأخبرك يا سيد بيب . سأحاول الحصول على وظيفة معلمة في المدرسة الجديدة المنجزة تقريباً هنا , لقد تعلمت منك الكثير يا سيد بيب ؛ وكان لدي الوقت للتقدم منذ ذلك الحين . "
" أعتقد أنك ستتحسنين دائماً يا بيدي , وفي كافة الظروف . "
ثم أخبرتني بتفاصيل وفاة شقيقتي . إذ ظلت في إحدى حالاتها السيئة أربعة أيام , وحين خرجت منها في المساء , قالت (( جو )) بوضوح . فاستدعي جو من الدكان وأشارت إليه بأنها تريد أن يجلس بالقرب منها , ثم ألقت برأسها على كتفه بارتياح ورضى . وقالت (( جو )) ثانية و (( سامح )) , ومرة (( بيب )) . ولم ترفع رأسها بعد ذلك , وبعد ساعة كانت قد فارقت الحياة .
" ألم يُكتشف شيء يا بيدي ؟ "
" لا شيء . "
" هل تعلمين ماذا حل بأورليك ؟ "
" أعتقد من لون ملابسه أنه يعمل في مقالع الحجارة . "
ثم أخبرتني أنه ما زال يحاول إيقاعها في حبه , الأمر الذي أثار غضبي الشديد , كان علي الذهاب في الصباح الباكر . وفي الصباح الباكر , كنت في الخارج أنظر خلسة من إحدى نوافذ دكان الحدادة . وقفت هناك بضع دقائق , أتطلع إلى جو وقد باشر عمله , فيما وهج الصحة والقوة بادٍ على محياه .
" وداعاً يا عزيزي جو ! كلا , لا تمسحها ـ بالله عليك , أعطني يدك المسودة ! سأعود ثانية ومرات عديدة . "
فقال جو : " ليس عاجلاً يا سيدي , وليس دائماً يا بيب . "
يتبع ...


رد مع اقتباس