عيون العرب - ملتقى العالم العربي

عيون العرب - ملتقى العالم العربي (https://www.3rbseyes.com/)
-   روايات كاملة / روايات مكتملة مميزة (https://www.3rbseyes.com/forum171/)
-   -   منقولة ~ عندما تنحني الجبال ~ (https://www.3rbseyes.com/t526206.html)

نسمات عطر 01-22-2017 10:08 PM

منقولة ~ عندما تنحني الجبال ~
 



قرأت هذه الرواية في منتدى غرام وأعجبتني



فأحببتُ أن تشاركوني فيها





الفصل الأول



جنازة

رفعت نانسي رأسها من فوق ركبتيها .. وتأملت بعينين خاليتين
من التعبير قطرات المطر الخفيفة التي أخذت تهطل برفق بينما هي جالسة على الدرج الخلفي للمنزل الكبير الذي ولدت فيه وعاشت ما يقرب العشرين عاما .. في حين كان الصوت العذب للشيخ المنبعث من داخل المنزل وهو يتلو آيات قرآنية يتردد عبر المكبرات الصوتية .. ترى .. هل السماء تبكي عوضا عنها ؟ .. فقد جفت مآقيها وانعدمت قدرتها على البكاء .. واحتارت في أمرها .. هل تعتبر هذا قوة منها وصلابة في وضعها الصعب ؟ .. أم تلوم نفسها وتعتبرها خيانة لذكرى أبيها الذي مات منذ يومين بأزمة قلبية مفاجئة ؟
( نانسي )
لم تمنح حنان التي تعمل لدى العائلة منذ سنوات أي جواب .. إلا أن الأخيرة كانت تدرك تماما بأن مخدومتها تستمع إليها جيدا .. تمتمت :- المقرئ يتساءل إن كان بإمكانه الانصراف .. فهو يتلو القرآن منذ ساعات وصالة الاستقبال فارغة
كبتت نانسي وخزة الألم في صدرها .. توفي والدها .. ولم يحضر أي إنسان إلى جنازته .. أي من أصدقاءه أو شركاءه ..أو من الأشخاص الذين أمضو حياتهم يتزلفون إليه طلبا لرضاه .. أي من موظفيه أو جيرانه .. لقد اكتشفوا جميعا بعد وفاته أنهم قد نسوا كل ما قدمه لهم في حياته من تضحيات وعطايا .. هو الآن مجرم في نظر الجميع لا يستحق حتى مجرد قراءة الفاتحة على قبره .. نهضت قائلة بحزم :- فليستمر في القراءة حتى أطلب منه أنا التوقف
دخلت إلى البيت بخطوات حازمة .. لقد بكت كثيرا منذ سقط والدها ميتا .. بكت حتى لم يعد لديها ما يكفي من الطاقة لمزيد من البكاء .. وبعدها أدركت بأن البكاء لن ينفعها .. ولن ينفع الشخصين الآخرين اللذين بقيا تحت عهدتها .. صعدت بخطوات رشيقة إلى الطابق العلوي .. لتصادف إحدى الخادمات جالسة في الزاوية تبكي بمرارة
فصرخت فيها بعنف :- لا أريد بكاءا في هذا البيت .. هل تسمعين ؟
استدارت لتجد عددا من الخدم ينظرون إليها فصاحت :- إن رأيت أحدا منكم يبكي فسأطرده من هذا البيت في الحال
لم تحتمل نظرات الشفقة التي ارتسمت في أعينهم .. مما دفعها لأن تدخل إلى غرفتها وتصفق الباب خلفها بعنف وتتساءل .. ترى هل يعلمون ؟
هل يعلمون بأنهم سيغادرون هذا المنزل قريبا في جميع الأحوال ؟ بل أنها هي وعائلتها سيغادرون بلا رجعة ؟
سيغادرون البيت الذي عاشوا فيه لسنوات مستمتعين برفاهيته .. البيت الذي بناه والدها لأجل أمها عندما تزوجها منذ واحد وعشرين سنة ..
بدون وعي منها التقطت إحدى زجاجات العطر الثمينة المرصوفة على منضدة الزينة .. وألقتها على الجدار بكل ما تملك من قوة غير مبالية بتحطمها .. وبالشظايا الصغيرة التي تناثرت في جميع انحاء الغرفة .. نظرت إلى نفسها في المرأة لاهثة .. وذهلت امام الفتاة التي وجدت نفسها تنظر إلى صورتها .. بشرتها التي كانت دائما ذهبية متوردة .. كانت شاحبة وصفراء .. وعيناها بلونهما الحشيشي الأخضر .. والتان كانتا دائما مشرقتين ومليئتين بالحياة .. كانتا ذابلتين وقد احاطت بهما الهالات السوداء .. أغمضت عينيها بقوة .. لن ينفعها الحزن الآن .. ولن يساعدها الألم على متابعة حياتها .. لقد تعلمت الآن بأن الصديق الحقيقي هو من يبقى وقت الأزمات .. وقد اكتشفت الآن بأنها لم تمتلك يوما أصدقاء .. الكل كان يتزلف إليها ويتقرب منها ومن عائلتها طمعا في مصالح مادية أو اجتماعية .. أدركت الآن بأنها لا يمكن أن تثق بأحد ... لأنه لا وجود للقلب الصادق الوفي .. عليها ان تعتمد على نفسها فقط .
خرجت من غرفتها .. ودخلت إلى الغرفة المجاورة .. وما إن وقعت عيناها على المشهد الماثل أمامها حتى اختفت صلابتها .. وظهر التأثر في عينيها
كانت أمها .. المرأة الحسناء التي بالكاد تجاوزت الأربعين بقليل .. تجلس على سريرها الكبير .. بينما دفنت فتاة في الخامسة عشرة رأسها بين أحضانها .. تبكي بمرارة
رفعت أمها عينيها إليها .. فلاحظت نانسي ذبول وجهها الجميل .. والخصلات البيضاء التي تخللت شعرها الفاتح اللون والتي لم تكن موجودة سابقا .. مدت يدها إليها فاندفعت نانسي تعانق أمها بدورها بقوة .. أمضت ثواني وهي تستمد الحنان من صدرها الدافئ .. قبل أن تعتدل قائلة :- اطمئني يا أماه .. سيكون ككل شيء على ما يرام
لقد كان أمها صغيرة جدا عندما وقعت في حب سلمان راشد .. الشاب الطموح الوسيم صاحب الطموح الكبير.. والذي نجح خلال فترة قصيرة بأن يحقق ثروة طائلة .. وأن يمنح حبيبته الحسناء سلسلة العائلة العريقة .. الحياة المرفهة التي تستحقها .. وأن يمنح طفلتيه كل ما لم يستطع الحصول عليه في طفولته .. لقد كان أبا مثاليا .. وزوجا مثاليا .. كان يقول لنانسي باستمرار أن كل هذه الأموال لا تساوي شيئا إذا لم يتمتع الإنسان بالكرامة والكبرياء .. وأنها مهما حدث يجب ألا تفرط بكبريائها .. وكان أن اتهم سلمان راشد منذ أسابيع بتورطه بأعمال غير قانونية .. وبأن أمواله كلها كانت نتيجة مشاريع ممنوعة .. ففضل أن يلقى حتفه بأزمة قلبية على حياة المذلة والسجن
نظرت إلى وجه أمها الحزين .. كانت تبدو أكبر من عمرها بسبب الحزن والمرض الذي لم يتركها منذ اكتشفت حقيقة زوجها الحبيب ..وقعت عينا نانسي على صورة صغيرة لأبيها إلى جانب السرير .. كان وسيما وبشوشا .. لم تكن الابتسامة تغادر وجهه .. تذكرت ملامحه عندما اقتحمت الشرطة المنزل .. و واجهه الضابط بالتهم الموجهة إليه .. شحب وجهه .. واختفت ابتسامته .. وأثناء التحقيق .. قضى نحبه في السجن قبل حتى يحدد موعد المحاكمة
تمتمت الأم :- توقفي عن البكاء يا لينا .. علينا أن نتحدث
رفعت لينا وجهها الصغير المغطى بالدموع.. وقد تهدل شعرها الفضي حول وجهها .. فكرت نانسي بأنها صغيرة جدا على هذا العذاب .. هتفت الأم :- أنتما ناضجتان الآن وليس من حقي أن أخفي عنكما أي شيء .. لقد كان والدكما رجلا رائعا ...أبا صالحا .. وقد أحببناه بقوة وأحبنا بجنون .. وبذل كل جهده لإسعادنا .. ولكن لا وجود للإنسان المثالي والكامل .. لقد ارتكب سلمان العديد من الأخطاء في حياته .. وقبل وفاته صارحني بأن كل الاتهامات التي وجهت ضده كانت صحيحة
أغمضت نانسي عينيها بقوة بينما سدت لينا أذنيها بكفيها وهي تصيح :- توقفي يا أمي .. أرجوك
ولكنها لم تتوقف بل اكملت بقوة :- من حقكما أن تعلما هذا .. وأن تعرفا بأن والدكما قد سلك طريقا خاطئا ليمنحنا حياة مرفهة .. ولكن الحقيقة هي أنني كنت أتمنى لو أننا عشنا في غرفة حقيرة .. ولقينا من الفقر ويلاته على أن يحدث ما حدث .. أريدكما أن تفهما هذا وألا تنسياه على الإطلاق .. إن لقمة بالحلال هي أفضل من كل أموال الدنيا بالحرام
عادت لينا تبكي مجددا .. فأخذت الأم نفسا عميقا وهي تقول :- بالرغم من كل ما فعله .. أريد منكما أن تستمرا في حبه .. وفي تذكر أنه كان أروع أب في الكون .. وأنه ما كان أبدا ليسبب لكما الأذى .. لقد فعل ما فعله ظنا منه بأنه يوفر لكما السعادة .. ولكنني متأكدة بأنه لو عرف بما سيحصل للعن نفسه ألف مرة قبل أن يقوم به
صمتت لثواني قبل أن تقول :- كما تعلمان .. جميع ممتلكات والدكما قد صودرت .. حتى هذا البيت لم يعد لنا .. وعلينا ان نغادره خلال فترة محددة .. لذا .. أريد أن يكون لديكما فكرة عما ينتظرنا في المرحلة القادمة .. وهي لن تكون سهلة على الإطلاق .. سنضطر خلالها للتخلي عن كل ما اعتدنا عليه من رفاهية .. علينا ان نتوقع الأسوأ
تمتمت نانسي :- لا تقلقي يا اماه .. لن نخذلك
ارتفعت طرقات مهذبة على الباب .. وصوت حنان يقول :- آنسة نانسي .. السيد ماهر في الأسفل يطلب مقابلتك
اعتدلت نانسي قائلة :- استأذنك يا امي .. سأقابل ماهر
تمتمت أمها :- بلغيه تحياتي .. وشكري على زيارته
ألقت نانسي نظرة عابرة على نفسها في المرآة .. ومررت أصابعها بسرعة بين خصلات شعرها الذهبي الناعم .. ثم مطت شفتيها بضيق .. لكم تبدو بائسة
بينما هي تنزل الدرج .. تمكنت من رؤية ماهر .. صديقها وزميل دراستها يقف في الصالة .. يتأمل اللوحة الجدارية الكبيرة التي دفع والدها مبلغا كبيرا للحصول عليها
ماهر هو الصديق الحقيقي الذي بقي لها .. والذي لم يتركها منذ علم بقصة والدها .. منذ عرفته أول مرة في سنتها الجامعية الاولى .. أدركت معدنه الثمين وصدقه ونبل أخلاقه .. عندما رآها تنزل .. استدار إليها وتناول كفها الرقيقة وشد عليها برفق قائلا :- كيف حالك يا نانسي ؟
تمتمت :- بخير .. شكرا لك
دعته للدخول إلى إحدى القاعات الخالية .. فلاحظت محاولاته الجاهدة لتحاشي التقاء عينيهما خشية أن ترى الإشفاق في عينيه .. إن كان هناك من يفهمها حقا فهو ماهر
سألها :- كيف حال السيدة مريم ؟
:- أمي بخير .. ما زالت تحت تأثير الصدمة .. ولكنها بخير .. وتشكرك على لطفك
ساد صمت طويل بينهما دون ان يجد أحدهما ما يقال .. نظر ماهر حوله متأملا الصالة الفاخرة الأثاث .. ومعالم الثراء الموزعة في جميع زواياها .. لابد أنه هو الآخر يعرف .. فالبلد كله يعرف بأن أملاك سلمان راشد اللص الكبير قد صودرت جميعها .. تمتمت فجأة :- سأعود للمواظبة على الدوام في الكلية
اتسعت عيناه بدون تصديق .. لقد امتنعت عن الذهاب إلى الجامعة منذ ألقي القبض على والدها .. وتمزيق الصحف لسيرته شر تمزيق .. قال بقلق :- هل أنت متأكدة ؟
قالت بجفاف :- ما من داعي لبقائي في البيت .. هل تنتظر مني أن أعتزل الناس إلى الأبد ؟ لقد حان الوقت لأن أتابع حياتي .
بدا التفكير العميق في عينيه البنيتين قبل أن يقول :- أنصحك بأن تعيدي النظر في قرارك هذا يا نانسي
عقدت حاجبيها :- ماذا تعني ؟
قال بهدوء :- أرى أنه من الأفضل أن تنتظري لبعض الوقت قبل العودة إلى الجامعة .. حتى ينسى الناس قصة والدك على الأقل
شعرت بغصة ألم تخنقها .. لطالما كان ماهر صريحا .. صريحا بشكل مؤلم أحيانا .. ولكن ربما هذا ما يدفعها للثقة به .. إنه لا يعرف الزيف أو الكذب .. يقول فورا ما يفكر به دون اهتمام لآراء الآخرين
أوضح كلامه قائلا :- يجب أن تعرفي حقيقة الوضع الآن في الكلية يا نانسي .. لا سيرة للطلاب أو الأساتذة إلا قصة والدك .. إن موجة من الجنون تجتاحهم .. لا تنسي بأن أعداءك كثر في الكلية
نعم .. هي تعرف هذا جيدا .. لطالما كانت نانسي سلمان راشد الاسم الأكثر شهرة في الكلية .. لقد كانت الطالبة الأكثر شعبية بشخصيتها القوية وغرورها الذي يميزها .. لطالما كانت علاقتها بزملائها علاقة تفوق واستعلاء .. لم لا ؟ .. لقد كانت دائما الأفضل .. الأجمل .. الأكثر أناقة ..الأكثر تفوقا في الدراسة .. كما كانت علاقتها بالأساتذة وثيقة بسبب علمهم بأهمية والدها .. الكل كان حريصا على رضاها .. طبعا .. ليس كلهم
تمتمت بحنق :- هل تعني بأنني يجب أن أهرب وأختبئ عن الناس كالفأر الجبان ؟ أقسم على أن هذا ما يرغبون جميعا بحصوله .. ولكن لا .. لست أنا من تهرب من واقعها .. سأعود إلى الكلية كما كنت وأفضل .. لأثبت للجميع بأنني مهما حدث فسأظل نانسي راشد .. ولن أسمح لأي منهم بأن يتجرأ علي بكلمة
تنهد ماهر وهو يقول :- أعرف بأنني لن أستطيع تغيير رأيك يا نانسي .. ولكن تأكدي بأنني سأقف دائما إلى جانبك
تمتمت :- أعرف هذا يا ماهر .. وأشكرك على اهتمامك بي
صافحته بقوة عندما نهض ليغادر .. التقت عيناهما وهو يقول :- هل أراك في الغد إذن ؟
ابتسمت قائلة :- في مكاننا المعتاد
منحها ابتسامة تقدير لشجاعتها قبل أن يغادر المنزل .. بينما ألقت هي نفسها على المقعد وهي تزفر بقوة
هي تعلم جيدا بأن ما ينتظرها في الغد ليس سهلا .. ليس سهلا بالمرة
ولكنها لن تكون نانسي راشد لو لم تثبت للجميع بأنها ليست بحاجة لدعم والدها كي تنتصب شامخة في وجه الصعاب....


تتبع في أقرب وقت ان شاء الله









نسمات عطر 01-22-2017 10:25 PM

منقولة من منتدى غرام~ عندما تنحني الجبال~
 

الفصل الثاني


المنبوذة



أخذت نانسي نفسا عميقا قبل ان تغادر سيارة الاجرة .. تقف أمام بوابة الحرم الجامعي الكبير .. كانت متوترة للغاية ..إلا انها لملمت شتات نفسها .. وتأكدت من أناقة تنورتها وقميصها الأسودين .. لن يحدث شيء.. لن يحدث شيء .. بقيت تردد هذه العبارة بينما هي تعبر الطريق متجهة نحو مبنى الكلية .. لقد تمسكت بقوتها منذ بدأت مصيبة العائلة ولن تضعف الآن
سارت بخطوات حازمة بين الطلاب الذين امتلأت بهم الساحة .. وهي تكرر داخلها .. لن يحدث شيء
سرعان ما بدأت الانظار تتجه نحوها .. أخذ الجميع يبتعدون عن طريقها .. بدأت الهمهمات والضحكات الساخرة الخافتة .. أمسكت اعصابها وهي تضم قبضتيها بقوة .. تمكنت من سماع اسمها يتردد .. بل واسم والدها أيضا .. ثم شعرت بأحدهم يبصق على الأرض ما إن مرت إلى جواره .. تمكنت بصعوبة من الاحتفاظ بهدوء ملامحها .. رأت مجموعة من زميلاتها يقفن في الزاوية .. فاتجهت نحوهن وعلى شفتيها شبح ابتسامة :- صباح الخير
كان الرد الذي تلقته نظرات استنكار .. ثم ابتعادهن عنها دون أن يخاطبنها بكلمة .. شعرت وكأنها قد صفعت على وجهها .. هؤلاء الفتيات كن يركضن حولها كالذباب فيما مضى .. كل منهن كانت تسعى خلف رضاها .. كانت مثلهن الأعلى .. ووسيلتهن للوصول إلى دعم الأساتذة .. وعميد الكلية الذي كان يوليها اهتماما خاصا بسبب علاقته بوالدها
توجهت فورا إلى كافيتريا الكلية .. حيث وجدت ماهر ينتظرها على إحدى الموائد في الزاوية إلى جوار النافذة .. حيث اعتاد انتظارها باستمرار .. ما إن جلست إلى جواره حتى نهض أحد الشبان من مقعده قائلا بعنف :- أليس هناك من يتولى تنظيف المكان من القذارة ؟
ثم اندفع خارجا من المكان .. نظر ماهر بقلق إلى نانسي .. وإلى وجهها المحتقن وقال :- هل أنت بخير ؟ هل تفضلين أن نغادر المكان؟
قالت باقتضاب :- كلا .. فليغادر من لا يعجبه وجودي .. أنا لا أهتم
أمسك بيدها قائلا :- نانسي .. فلتعودي إلى البيت .. ولتنتظري حتى تهدأ النفوس .. أنت لا تعرفين ما المشكلة
أعطاها جريدة الصباح .. ولكنها لم تأخذها .. بل اكتفت بالنظر إلى الصفحة الاولى حيث كانت صورة والدها تتصدرها .. قالت بهدوء :- لن أهرب يا ماهر .. هذا أمر علي مواجهته
نظرت إلى ساعتها ثم نهضت قائلة :- ستبدأ محاضرتي بعد قليل
قال :- لا محاضرات لدي .. سأنتظرك هنا .. وإن شئت أرافقك
ابتسمت له رافضة .. ثم تركته متجهة إلى المدرج حيث سيلقى المحاضرة أكثر أساتذة الكلية كرها لها .. إن لم يكن الوحيد .. دخلت إلى القاعة حيث كان الطلاب يثرثرون في انتظار الأستاذ .. إلا أن صمتا رهيبا أطبق على المكان عندما دخلت .. الكل كان يحدق بها .. بين غاضب ومتهم ..ومستنكر .. استجمعت شجاعتها وسارت نحو الصف الأيمن من المقاعد وجلست على المقعد الأخير .. وجلست .. وخلال ثوان كان جميع الطلاب قد انفضوا من حولها تاركين الصف الذي تجلس فيه خاليا.. بينما تجمعوا كلهم في الصفوف الباقية .. ضمت يديها إلى بعضهما .. وحدقت بهما بإصرار .. لن أبكي .. ولن أخرج من القاعة .. كانت تحتاج إلى كل شجاعتها كي لا تهرب تاركة المكان
صباح الخير
دوى صوت الدكتور الحازم والقوي وهو يدخل المدرج .. رفعت عينيها بضيق .. ليتها هربت قبل أن يراها الدكتور محمود فاضل بهذا الوضع .. كان الدكتور محمود أصغر دكتور في الكلية وقد تمكن بجهده وذكاءه من الحصول على درجة الدكتوراه قبل أن يتجاوز الثلاثين .. كانت له شعبية كبيرة بالرغم من ندرة تواجده في الكلية .. إذ أنه موجود فقط لإلقاء محاضراته .. ثم يختفي بعدها بلا أثر .. المعلومات المتداولة عنه بين الطلاب لم تكن كثيرة .. فغير كونه رجل ذكي ذو شخصية قوية وطاغية .. كانوا يرددون شائعات عن إدارته لأعمال عائلته الناجحة .. والتي تفسر أناقة ملبسه وكبرياءه الظاهرين .. نظرت إليه فالتقت عيناها بعينيه العسليتين الشبيهتين بعيني الصقر .. حاولت جهدها أن تتظاهر بالقوة والكبرياء .. وألا تمنحه فرصة السخرية والشماتة من وضعها .. إلا أنه قال بصوت صارم :- ما الذي يحدث في هذه القاعة ؟ لماذا يتجمع الطلاب في مكان واحد ؟ فليتوزع الجميع على كل المقاعد حالا
تبادل الطلاب النظرات بتوتر .. قبل أن يضرب سطح المكتب بقبضة يده صائحا :- حالا وبدون نقاش
بدأ الطلاب يتزحزحون من أماكنهم على مضض .. بينما شعرت نانسي بأظافرها تكاد تدمي راحتيها .. رافضة رفع رأسها .. نانسي تعرف بالضبط ما وراء موقف أستاذها الإيجابي .. لقد كان يهدف إلى إذلالها وإشعارها بأنها تدين له بعد الشجار العنيف الذي دار بينهما قبل أشهر قليلة .. والذي كان سببه هو عدم خضوع هذا الأستاذ لسلطتها .. ورفضه لمنحها أي امتياز عن غيرها من الطلاب .. بل كان يتعمد أحيانا جلدها بكلماته السليطة أمام الجميع بقصد إحراجها والتقليل من شأنها .. وعندما فعلت كما تفعل عادة مع كل أستاذ عنيد .. وعرضت عليه المال والمركز .. كان رده عنيفا .. سيلا من الاتهامات والإهانات القاسية .. تذكر بأنه قال لها ببرود :- أنت طفلة مدللة وفاسدة يا آنسة نانسي .. ولدت وفي فمك ملعقة نم الذهب .. واعتدت على خضوع الجميع لنزواتك .. ولكن هذا لن يستمر .. سيأتي يوم لن تجدي فيه يدا تمتد لك .. بل ستجدين من سيصفعك بقوة ويعيد تربيتك من جديد
كان هذا كثير بالنسبة إلى نانسي .. فانفجرت به تتوعده بأنه لن يبقى أستاذا في هذه الكلية .. بل هو لن يجد مكانا يأويه لأنها ستظل خلفه حتى ترميه في الشارع .. انتهى الشجار بأن طلب هو من أحد الموظفين إخراجها من مكتبه .. ومنذ ذلك الحين .. لم يتبادلا كلمة واحدة .. ولكنها ظلت تحضر محاضراته بتحدي لتثبت له بأن كلماته لم تؤثر بها أبدا .. والآن .. دافع عنها أمام جميع الطلاب وكأنه يقول لها صراحة بأنها لم تعد تساوي شيئا .. وأن كل ما تستحقه الآن هو شفقته
حاولت طوال المحاضرة ألا تنظر إليه كيلا تلتقي نظراتهما .. ولكنها رغما عنها كانت تسترق النظر إليه .. كان يلقي محاضرته بأسلوبه الأنيق والذكي والشيق .. وقد احتلت الفتيات جميع المقاعد الأمامية طمعا في لفت انتباهه .. لم لا ؟ .. لقد كان الدكتور محمود يمتلك كل مواصفات فارس أحلام أي فتاة .. قامة طويلة .. كتفين عريضتين لجسد قوي متناسق ..تكسوه دائما حلة أنيقة داكنة لتمنحه صورة الأستاذ القدير ..
شعر داكن كثيف .. وملامح وسيمة قوية .. وعينين بلون الجوز قادرتين على خلب لب أي طالبة .. حتى هي .. لم تكن تنكر الجاذبية التي يتمتع بها .. رغم اختلافها عن الأخريات .. فنانسي راشد لا يمكن أن تخضع لجاذبية رجل .. فهي تعرف مسبقا بأنها لن تجد أبدا رجلا كفئا بما يكفي ليستحقها ..
انتهت المحاضرة .. وخرج الدكتور دون أن يلقي عليها أي نظرة .. بقيت مكانها تنتظر الجميع حتى خرجوا .. ثم لملمت شتات كبريائها وخرجت لتلاقي ماهر في الكافيتريا ..
منذ تعارفهما الأول في السنة الأولى .. ربط الجميع اسمها باسم ماهر .. وسرت حولهما الكثير من الأقاويل بسبب تلازمهما المستمر طوال السنوات الماضية .. كان ماهر وسيما .. يتمتع بقدر وافر من الجاذبية .. بشعره العسلي الأجعد وعينيه البنيتين الدافئتين .. كان هناك خشونة في بعض ملامحه ولكن بدون شذوذ .. مما منحه مظهرا رجوليا جذابا .. ومع هذا .. ما كانت نانسي تكن له إلا مودة الأخوة والصداقة .. ورفضت اتهامات وتلميحات الكثير من زميلاتها عن مشاعره الخفية نحوها .. ماهر كان دائما الأخ الذي لم تحظى به
كان هناك الكثير من الشبان الذين حاولوا كسب رضاها ونيل إعجابها ..وقد ارتمى الكثير من زملائها أمامها مصرحين بإعجابهم بها .. ولكنها كانت دائما تصدهم بسخرية قاسية .. مع الوقت .. وعندما أدرك الجميع بأن غرورها وكبريائها سيصدان أي شاب يقترب .. كانوا يكتفون بمراقبتها من بعيد بأعين الإعجاب والرغبة أحيانا وهي تخطو بقامتها النحيلة والرشيقة عبر ممرات الكلية .. بجمالها الغريب ذي الجاذبية الخطرة .. المتمثل ببشرة ذهبية تناقضت بشدة مع لون عينيها الصارخ الخضرة .. وملامحها الناعمة المتناسقة ..وشفتيها الممتلئتين .. وشعر ذهبي ناعم يتراقص دائما حول كتفيها بإشراق وحيوية
رفع ماهر عينيه نحوها ونهض مستقبلا إياها قائلا بقلق :- كيف كانت المحاضرة ؟
تمتمت وهي تلقي بنفسها على نقعدها :- سيئة للغاية .. كيف يمكن ألا تكون كذلك مع محمود فاضل ؟
قال مترددا :- ولكنني سمعت بأنه كان إيجابيا معك
عبست قائلة :- هذا رائع .. هل وصلت الأخبار إليك بهذه السرعة .؟ ذلك المغرور .. الحشرة المتسلقة اجتماعيا .. لقد هدف إلى إذلالي وإهانتي بتصرفه
قال ماهر :- الدكتور محمود ليس سيئا إلى هذا الحد يا نانسي
قالت بغيظ :- أعرف تماما بأن علاقة وثيقة تربطكما .. ولكن لا تتوقع مني أن أشكره .. أنا وحدي من يعرف الهدف الرئيسي من تصرفه الظاهر النبالة .. الرجل يكرهني .. وقصده كان كسب نقطة ضدي
غمغم :- لم يبدو عليه أنه يكرهك كما تظنين يا نانسي .. أعتقد بأنه ناضج كفاية حتى ينسى شجاركما
حدقت به للحظات قبل أن تقول :- هل تحدثت معه عني ؟
قال بضيق :- ليس بالفعل .. كل ما في الأمر أنني قابلته صباحا في مكتبه .. وخلال حديثنا سألني عنك بشكل عابر .. إن كنت بخير في الظروف ا لحالية
سألته متجهمة :- وكيف أجبته ؟
:- بأنك كنت دائما قوية وقادرة على الوقوف في وجه الصعاب .. هل ظننت بأنني سأتكلم عن ظروفك حقا من وراء ظهرك ؟
هكذا إذن .. لقد كان قلقا .. يرغب بسماع أخبار عن يأسها وتعاستها .. قالت بجفاف :- لا .. أعرف بأنك لن تفعلها
نهضت قائلة :- سأعود إلى البيت .. إن بقيت في هذا المكان أكثر سأقتل أحدا
ثم أردفت ساخرة :- ألن تجن المدينة من الفرح إن فعلت ؟ فضيحتان خلال فترة قصيرة .. سيجد الناس الكثير ليثرثروا حوله
نهض بدوره وهو يقول بانزعاج :- هذا نوع سخيف من المزاح يا نانسي .. سأوصلك بسيارتي
:- لا تتعب نفسك
بعد تخليها القسري عن سيارتها وسائقها الخاص المكلف دائما بأخذها أينما شاءت .. لم يكن من السهل على نانسي السماح لأحد بإيصالها .. حتى ماهر .. أكملت قائلة :- سأسير إلى البيت .. أشعر برغبة في المشي
:- سأسير معك قليلا ثم أودعك
ظلا صامتين حتى خرجا من مبنى الكلية .. متجاهلين النظرات التي لاحقتهما خلال سيرهما .. وعندما استدارت لتودعه .. لاحظت شابا يقترب منهما .. يحيط به اثنين من رفاقه وفتاة رقيعة تتأبط ذراعه .. إنها تعرف هذا الشاب .. بل يعرفه جميع طلاب الكلية .. بسمعته السيئة .. وسيرته الممتلئة بالمشاكل الأخلاقية .. نفشت نفسها بكبرياء وقد أدركت بأنه يستهدفها .. وقبل أن تكمل تساؤلها عما يريده منها كان قد وصل إليها .. استدار ماهر نحوه متحفزا :- ما الذي تريده يا جابر ؟
لوى جابر فمه ساخرا وهو يقول :- لا تتوتر يا زميلي العزيز .. إنما أردت إلقاء التحية على ابنة الحسب والنسب
امتعض ماهر من مناداته له بالزميل :- ارحل من هنا وإلا ندمت
نظر جابر إلى نانسي التي كانت ترمقه بازدراء وقال متهكما :- الرحيل هو ما كان ينتظره الجميع من ابنة القصور المحترمة .. أن تختفي عن وجه الأرض بمجرد أن يوجه نحوها أحدنا كلاما .. ألا تجد الجرأة على رفع رأسها في وجه أي كان .. ولكنها أتت إلى هنا بكل صفاقة .. دون خجل مما فعله والدها .. أليست هي ابنة ذلك اللص الذي مات كالجرذ الحقير في السجن ؟
انتفض جسد نانسي بعنف عندما ذكر عبارته .. وغلى الدم في عروقها .. أمسك ماهر يدها بقوة محاولا تهدئتها .. بينما أكمل جابر :- ما الذي جئت تفعلينه هنا ؟ هه .. هل جئت تستجدين الأخرين طلبا للمال ؟ كي تأكلي .. أم لتحافظي على مظهرك الأرستقراطي ؟
ضيق عينيه .. واقترب منها وهو يرمقها بنظراته الصفيقة من راسها حتى أخمص قدميها وهو يقول بوقاحة :- أعرف طريقة سهلة وممتعة للغاية لكسب المال يا حلوتي .. حيث أن ...
وقبل أن يتم عبارته .. سقطت كفها على وجهه بصفعة عنيفة جعلته ينتفض بقوة .. ويرفع يده تلقائيا إلى وجهه الذي ارتسمت أصابع نانسي عليه .. وخلال لحظات احتقن وجهه وهجم محاولا الوصول إليها لولا أن اعترضه ماهر بجسده .. بينما كانت نانسي تقول بصرامة :- أنت هو الشخص الذي يحتاج إلى المال يا جابر ..اسمك جابر صحيح ؟.. جابر ونيس .. ومن لا يعرف الطالب الذي كاد يكمل عشر سنوات في الكلية دون أن يتخرج ؟ .. ولم يفعل إن كان يكسب رزقه من الإتجار بالممنوعات .. والنصب على الطلاب السذج .. أو التحرش بالفتيات .. أخبرني يا جابر .. أصحيح ما سمعته بأن والدك قد طردك من المنزل ؟ لأنه قد أبى أن يعترف بك ابنا حتى لا تجلب له العار ؟
أبعد جابر ماهر عنه .. وأصلح ثيابه وهو ينظر إليها بطريقة أخافتها حقا .. قال ضاغطا على حروف كلماته :- ستندمين كثيرا يا عزيزتي .. ستدفعين ثمن هذه الصفعة غاليا .. وأؤكد لك بأنني سأستمتع كثيرا وأنا أقبضه منك
مسح جسدها مجددا بنظراته القذرة .. قبل أن يرحل مع رفاقه .. وقفت نانسي للحظات تحاول طرد ذلك الشعور الذي جعل جسدها يقشعر .. هتف بها ماهر بقلق :- نانسي .. هل أنت بخير ؟
تمتمت :- أنا بخير .. أراك غدا يا ماهر
استدارت مبتعدة قبل أن يرى دموعها .. أو يراها أحد الجماهير التي اجتمعت لتشاهد الموقف .. فلم تر الشخص الذي وقف في طريقها .. والذي اصطدمت به بعنف سقطت على إثره كتبها على الأرض ..
انحنت تجمعها وهي تهتف بصوت مرتجف :- عفوا
وعندما اعتدلت .. رفعت عينيها لتر آخر شخص تمنت أن تراه في لحظة كهذه .. لقد كان محمود فاضل .. والأسوأ .. أن نظرته الحادة استقرت على الدمعة الوحيدة التي فرت رغما عنها من عينها
بدون أي كلمة إضافية .. انسحبت نانسي مسرعة .. قبل أن تتعرض لمزيد من الإهانات في هذا اليوم الصعب


نسمات عطر 01-22-2017 10:29 PM

منقولة من منتدى غرام~ عندما تنحني الجبال~
 


الفصل الثالث




الضحية



سارت نانسي لاول مرة على قدميها نحو منزلها .. لحسن حظها ان الطريق لم يكن طويلا .. ولكن لدهشتها .. فالطريق الذي تسير فيه للمرة الاولى خلب لبها بجماله وهدوئه .. إذ انها وما إن ابتعدت عن الطرقات الرئيسية .. دخلت في الشوارع الجانبية التي اصطفت على جانبيها المنازل الأنيقة والفخمة .. المحاطة بالحدائق الغناء .. أذهلها هدوء المكان الشديد .. إذ بدا وكأن لا أثر للحياة فيه .. فكرت للحظة بأن انفجار قنبلة وسط هذه المنازل لن يهز شعرة من سكانها .. خاصة لو كانوا على شاكلتها .. فهي ما اهتمت يوما بما يحدث حولها .. وبما يدور خارج منزلها الكبير .. منزلها الذي لن يعود كذلك قريبا
عندما وصلت أخيرا .. كانت متعبة للغاية .. وقد لاحظت عليها حنان هذا وهي تقول :- هل أسخن لك الغداء ؟
تمتمت نانسي بإرهاق :- لا يا حنان .. كل ما أريده هو أن أنام
كانت معتادة على مناداة حنان لها باسمها .. فحنان لم تكن أبدا مجرد خادمة عادية .. لقد ترعرعت في هذا المنزل إلى جانب نانسي عندما كانت والدتها تعمل فيه قبل وفاتها .. غادرت حنان عندما تزوجت لعامين .. ثم عادت بعد طلاقها لتعمل من جديد في المكان الذي لم تعرف غيره منزلا .. عندما دخلت نانسي إلى غرفتها .. وجدت لينا تجلس على حافة سريرها ممسكة بصورة والدهما .. كان وجهها البريء شاحبا .. وقد اختفى اللون الوردي الذي قلما فارق وجنتيها في الماضي .. وعيناها الزرقاوان كانتا حزينتين للغاية .. سألتها بهدوء :- كيف كان يومك في الجامعة ؟
كذبت نانسي قائلة :- لقد كان جيدا للغاية
جلست إلى جانبها وتناولت منها الصورة .. وأخذت تتأملها بدورها صامتة حتى سألتها لينا :- نانسي ... أمازلت تحبينه ؟
سألتها نانسي بحذر :- أتعنين أبي ؟
قرأت الإجابة في عينيها فقالت بهدوء :- طبعا ما زلت أحبه .. فهو بالرغم من جميع أخطاءه كان أبا رائعا ومثاليا .. ولم يقصر بحقنا قط
كتمت داخلها صوت هتف بحدة :- ألم يخطئ بحقكما عندما حطم حياتكما بما فعله ؟
رسمت ابتسامة على شفتيها وهي تقول :- هل تذكرين المرات التي كان يجلسك فيها على ركبتيه ويهزك كالطفلة قائلا بأنه لن يسمح لك أبدا بأن تكبري ؟ .. لقد كنت ابنته المدللة
تمتمت لينا قائلة :- لماذا أجد نفسي غير قادرة على مسامحته ؟
أحاطتها نانسي بذراعها بحنان وهي تقول :- ستسامحينه يا نانسي .. أنت تحتاجين فقط لبعض الوقت
صمتت لينا للحظات قبل أن تقول :- لا أستطيع العودة إلى المدرسة
وقبل أن تقول نانسي أي شيء انفجرت لينا قائلة بعنف :- لا أستطيع ان أواجه الناس أو زميلاتي في المدرسة .. أو معلماتي اللاتي كن يميزنني عن غيري بسبب أبي .. أنا لست بقوتك وشجاعتك يا نانسي .. أريد أن أبقى في البيت حتى ينسى الناس من هو سلمان راشد
أخذت تبكي بحرقة .. فما كان من نانسي إلا أن تمتمت :- ليس عليك أن تعودي إلى المدرسة حتى تشعري بأنك مستعدة لهذا
ثم نهضت قائلة :- أين أمي ؟
:- إنها في غرفتها .. تعاني من الصداع كالعادة .. وتنتظرك حتى تتحدث إليك
عندما دخلت نانسي إلى غرفة أمها .. وجدتها تعيد سماعة الهاتف إلى مكانها وعلى وجهها خيبة أمل كبيرة .. سألتها :- ألم تعثري على خالي بعد ؟
هزت رأسها نافية :- لا .. أنه لا يرد على هاتفه المحمول .. أو على هاتف منزله في مارسيليا
جلست نانسي إلى جوارها على الأريكة التي توسطت الغرفة .. خالها فوزي هو القريب الوحيد الذي بقي لهم .. فوالدها يتيم بلا أخوة .. وجداها لوالدتها متوفيان منذ سنوات .. سألتها نانسي بقلق :- كيف تشعرين اليوم ؟
ابتسمت أمها بشحوب وهي تقول :- أفضل بكثير
ولكن نانسي كانت تعرف بأن أمها تكذب .. فمنذ وفاة والدها ووالدتها تذبل كما لو أنها لم تعد تجد سببا لتعيش لأجله
تمتمت :- أخبرتني لينا بأنك أردت رؤيتي
اعتدلت أمها وهي تقول بجدية :- هذا صحيح .. يجب أن نتحدث عن تركنا لهذا البيت يا نانسي .. يجب أن نجد مكانا آخر يأوينا في أقرب وقت
سألتها نانسي بحذر :- وهل لديك أي اقتراحات ؟
:- أنت تذكرين منزل الشاطئ الذي يمتلكه خالك .. لقد ذهبنا إليه عدة مرات برفقته .. أظن من الأفضل أن ننتقل إلى هناك لفترة من الزمن .. حتى ينسى الناس قصة والدك على الأقل .. قبل أن نعود من جديد ونختلط بالمجتمع كغيرنا من الناس
اتسعت عينا نانسي وهي تقول :- هل تريدين منا أن نهرب يا أمي ؟
بدا الألم على وجه أمها وهي تقول :- نعم يا نانسي .. نحن غير قادرين على مواجهة غضب الناس ونبذهم لنا .. فكري بلينا .. إنها صغيرة جدا على أن تساء معاملتها بسبب ما فعله والدها
نهضت نانسي وهي تقول بحزم :- لا .. أنا أرفض أن أهرب بهذه الطريقة .. على الناس أن يتقبلونا كما نحن .. بل وأن يحترمونا أيضا
أمسكت بيد أمها وهي تقول برجاء :- أرجوك يا أمي .. لا أريد أن نبدأ حياتنا الجديدة بالهرب كالجبناء .. امنحيني فرصة واحدة فقط .. سنبحث عن شقة صغيرة في أي حي بسيط .. وسأجد وظيفة ما .. لا بد أن يكون هناك من هو بحاجة إلى توظيف طالبة اقتصاد في السنة الثالثة
بدا الاعتراض على وجه امها ولكنها منعتها وهي تسرع في القول :- لا تعترضي يا أمي .. أعدك بأن الأمور ستتحسن
قالت الأم :- أنا من عليه البحث عن وظيفة .. يجب ألا تهملي دروسك قبل أن ...
قاطعتها نانسي بحزم :- لن تتعارض الوظيفة مع الدراسة .. أعرف الكثير ممن يعملون ويدرسون في الوقت نفسه .. وأنت غير قادرة على التفكير بالعمل حتى تتحسن صحتك
ترقرقت الدموع في عيني أمها الجميلتين .. وعرفت نانسي بانها تتذكر زوجها الراحل .. وتلومه على كل ما يحصل وإن أبت أن تظهر مشاعرها لبناتها ..
عندما خرجت من الغرفة .. وجدت نانسي حنان في انتظارها تقف في الممر .. فاقتربت تسألها :- هل من خطب يا حنان؟
قالت حنان :- نانسي .. أنا أعرف كل شيء عن ظروفكم الحالية .. وأعرف بانكن مضطرات لترك هذا البيت في وقت قريب
أحست نانسي بطعنة ألم لسماع الحقيقة .. ولكنها أخفت مشاعرها منتظرة ما ستقوله حنان التي أكملت :- أريد البقاء معكن ..أن أرحل معكن إلى أي مكان تقصدونه
استوعبت نانسي بسرعة ما تقوله حنان .. ثم أسرعت تقول :- كنت اتمنى هذا يا حنان .. أنت تعرفين بأنك فرد من العائلة .. ولكننا لن نعود بقادرين على دفع راتبك كالسابق
قالت حنان بهدوء :- أنت تعرفين جيدا يا نانسي بان راتبي لم يكن يوما سبب بقائي هنا .. فأنا لم أعرف غير هذا المكان منزلا .. وغيركم عائلة بعد وفاة أمي .. وبعد طلاقي .. أصبحتم فعلا آخر من تبقى لي .. لا مكان آخر أقصده إن رحلت من هنا .. كما انني لا أريد راتبا .. أريد الإقامة معكن .. والمساهمة في تحمل مسؤولياتكن الجديدة .. سأستمر في العمل .. في الطهي والتنظيف .. وإن اضطررت فسأعمل كي أساهم في مصاريف البيت
منعت نانسي نفسها من البكاء تأثرا بصعوبة وهي تقول بخفوت :- لست مضطرة لتقديم التضحيات للبقاء معنا يا حنان .. يكفي انك الانسان الوحيد الذي احبنا بصدق واعتبرنا عائلته
أشرقت عينا حنان وهي تقول :- هل هذا يعني أنني أستطيع الرحيل معكن ؟
أومأت نانسي برأسها .. فما كان من حنان إلا أن عانقتها بقوة .. مسحت نانسي دمعتها الفارة .. على الأقل .. هناك شخص على وجه الارض تستطيع الثقة به

:- وظيفة ؟؟؟؟
نطق ماهر بالكلمة باستنكار وهو ينظر إلى نانسي التي ردت بضيق :- نعم .. وظيفة .. أين الغريب في هذا ؟
قال ماهر صريحا كعادته :- في الواقع لم أتخيلك يوما كفتاة عاملة .. بل ..
لم يستطع إكمال عبارته .. ففعلت هي بلهجة حادة :- طفلة مدللة تحصل على كل ما ترغب دون جهد
هز كتفيه قائلا :- لم أقصد الإهانة .. بل قصدت بأن هذا ما تستحقينه .. على كل حال.. أنا لا أعرف حقا أين يمكن أن أبحث لك عن وظيفة مناسبة لك
قالت باهتمام :- ماذا عن شركة الاتصالات التي تعمل أنت فيها ؟ أما من مكان شاغر ؟
قال مفكرا :- لا أعرف .. سأستفسر عن هذا .. وإن شئت سأسـأل بعض معارفي عن أي وظيفة متاحة
قالت بامتنان :- سأكون شاكرة لك لمساعدتك لي
سألها باهتمام:- هل وجدت سكنا مناسبا ؟
هزت رأسها نافية :- أنا أبحث منذ أسبوعين دون جدوى .. لا أجد مكانا مناسبا لذوق أمي
لم تستطع إخباره بأن المشكلة تكمن في الإيجارات المرتفعة والتي لا تناسب وضعهم الجديد
قال بجدية :- هل تريدين أي مساعدة ؟
أسرعت تقول :- لا .. أنا أتدبر الأمر جيدا
لم تكن تريده أن يعرف التفاصيل الدقيقة لظروفهم الصعبة .. نهضت قائلة :- علي العودة إلى البيت قبل حلول الظلام
نهض بدوره قائلا :- وأنا لدي موعد بعد نصف ساعة
قالت مداعبة :- أهو موعد غرامي ؟
منحها ابتسامة باهتة وهو يقول :- لم أسقط إلى ذلك الدرك بعد
غادرا مبنى الكلية .. ثم انفصلا عند بوابة الجامعة كالعادة .. كانت نانسي تواظب على الدوام منذ 3 أسابيع .. دون أن تلاحظ أي تغيير في ردة فعل الطلاب .. ما زالت الأنظار تتجه إليها أينما سارت .. وما زالت التعليقات تلاحقها باستمرار .. والكل يتحاشاها ويرفض الاحتكاك بها .. لقد نسوا تلك الأيام التي كانوا يسعون فيها راكضين خلف رضاها
سارت كالعادة مشيا إلى البيت .. فقد أدركت بأنها يحب أت تنسى رفاهية التنقل بسيارات الاجرة اقتصادا في المصروف
كان الظلام قد بدأ يهبط عندما شعرت بأن هناك من يمشي قريبا منها .. وسرعان ما أدركت بأنه كان يتبعها .. أسرعت في المشي وقد انتابها إحساس كبير بالخوف والتوتر عندما سمعت صوت الخطوات يتسارع هو الآخر .. فكرت بعصبية .. إنها تتوهم .. لا أحد يطاردها .. مجرد شخص يسير إلى جوارها وسيتجاوزها حالا.. هي ليست خائفة .. إن تجرأ احد ما على مهاجمتها فستغرز أظافرها في عينيه .. شهقت عندما ظهر شبح ما امامها من أحد الشوارع الجانبية .. واعترض طريقها متعمدا .. توقفت مرغمة .. فتوقفت الخطوات التي كانت تلاحقها بدورها .. قالت بتوتر :- من أنت ؟ وماذا تريد ؟
سمعت ضحكة شريرة أثارت الرجفة في جسدها .. ثم صوت مألوف يقول :- إن الإجابة على سؤال ماذا أريد يا فتاتي .. يطول شرحه
تراجعت خطوة إلى الوراء وهي تهتف بتوتر :- من انت ؟
تمكنت من خلال ضوء النهار الذي بدأ يتلاشى من تبين ملامحه عندما اقترب .. لقد كان جابر
استدارت لتجد الشاب الثاني الذي كان معه ذلك النهار الذي صفعته فيه على مرأى من جميع الطلاب .. أدركت من البريق في عينيهما بانهما ينويان بها شرا .. تراجعت بعيدا عنهما وهي تقول :- ما الذي تريدانه مني ؟
قال جابر وهو يقترب منها :- دين قديم لي عليك يا عزيزتي .. أود استرداده الآن
كانت خائفة .. حقا خائفة .. حاولت إخفاء خوفها بالتظاهر بالشجاعة وهي تقول :- لا ديون لك علي يا جابر .. لقد أخطأت بحقي فرددتها لك .. نحن متساويان
قال بغضب :- لا يا ابنة القصور المدللة .. لسنا متساويان
استدارت محاولة أن تركض بعيدا .. إلا انه لحق بها .. أمسك بخصرها بقوة بين ذراعيه فصرخت بذعر .. ولكنه قال شامتا :- لن يسمعك أحد .. انا أراقبك منذ أيام .. و يا لحظي السعيد ..إن الطريق الذي تسلكينه عادة يكاد يكون مهجورا .. وحتى إن لم يكن فسكانه من الأثرياء أمثالك الذين لا يهتمون إن حدثت كارثة إلى جوار منازلهم الفخمة
قاومته بشراسة وهي تقول :- إياك أن تتجرأ على لمسي أيها القذر الوسخ .. إني أحذرك من مغبة ما تفعله
ضحك عاليا وهو يقول ساخرا :- من سيحاسبني يا أميرتي .. لقد انهارت مملكتك ولن تجدي من يسمع شكواك .. بل ستجدين الكل يشكرني على تلقين صاحبة السمو درسا في التواضع .. أعيدي علي ما قلته .. أنا أخطأت بحقك فرددتها لي .. وكيف فعلت هذا بالضبط ؟
لم تفكر قبل أن تصرخ به كالمجنونة :- صفعتك على وجهك .. وقد كان هذه أكثر بكثير مما تستحق إذ لوثت يدي بملمس وجهك العفن
اشعلت كلماتها غضبه الوحشي وهو يقول بحقد :- تعنين هكذا
هوى بيده على وجهها بصفعة قوية دفعتها لتسقط على الأرض بعنف وقد سالت الدماء من شفتيها .. رفعت عينيها إليه وقد اعترتها رجفة خوف حقيقية عندما أطل عليها قائلا :- هناك أمران لطالما رغبت بفعلهما طوال السنوات الثلاث الماضية
صرخت بألم عندما شعرت بقدمه تغوص بمعدتها .. فتلوت حول نفسها محاولة درأ نفسها من ضرباته .. ولكنه لم يسمح لها بالابتعاد .. جذبها من شعرها وصفعها مجددا بكل ما يحمله نحوها من حقد .. دارت الدنيا حولها وتشوشت رؤيتها .. فكرت وهي تذرف دموع الذل والألم بانه ليس الوحيد الذي يكن لها كل هذه الكراهية .. ربما جميع من تعرف .. لم يتوقف جابر لحظة واحدة عن إفراغ غضبه في جسدها الضعيف الذي فقد كل قدرته على المقاومة .. أخذ يصرخ بها دون أن يتوقف عن ضربها :- منذ ثلاث سنوات .. دخلت إلى الكلية .. ونظرت إلى الجميع وكأنهم حشرات .. ليس لهم الحق في استنشاق نفس الهواء الذي تستنشقينه .. الكل كان يعرف من أنت وابنة من .. أحدهم لم يجرؤ يوما على مواجهة غرورك وبطشك .. كل من يقف في طريقك تكون نهايته إما الطرد من الجامعة .. أو النبذ من جميع الطلاب .. الكل كلن يسعى خلف رضاك .. خلف ابتسامة منك .. والآن .. أنت لا شيء على الإطلاق ..والدك الذي كنت تحتمين وراءه مات حقيرا في سجن قذر .. نعم .. لقد كان لصا وضيعا كسب ثروته من أموال الناس .. أما آن الوقت لتعرفي قيمتك الحقيقية ؟ .. إنه لشرف عظيم أن أقوم أنا بهذه المهمة .. أن أجعلك تدركين أي حثالة أصبحت
سالت دموعها بغزارة .. لم تتخيل يوما أنها ستتعرض لهذا النوع من الذل والإهانة .. ما آلمها أكثر هو أن كل ما كان يقوله كان صحيحا .. ألهذا استحقت حقد زملاءها جميعا ؟ .. أ لأنها كانت دائما تعاملهم وكأنهم خلقوا أقل مرتبة منها ؟ ..
ولكنها لم تقصد هذا .. لقد عاشت دائما بهذه الطريقة دون أن يوجه لها أحدهم انتقادا .. إنها لا تستحق كل هذه المذلة ..
انكمشت وهي تهمس :- لم أقصد هذا .. أقسم بأنني لم أقصد هذا
لم يسمعها جابر .. فقد خاطبه زميله متوترا :- أسرع يا جابر .. ماذا إن رآنا أحد ؟
قال بخشونة :- لم يبدأ الجزء الممتع بعد يا جميل
اقترب منها مجددا وهو يسحبها إليه ويقول :- أما الشيء الثاني الذي لطالما رغبت بفعله .. هو هذا
مزق قميصها بحركة حادة .. إلا أنها لم تستطع أن تقم بأي حركة مقاومة .. فقد أصيب جسدها بما يشبه الشلل .. وبدأ وعيها يتسرب منها ببطء دون أن تتوقف دموعها للحظة وهي تشعر بأنفاسه الكريهة تلفح وجهها وهو يقول :- لو تعلمين ما الذي كان رؤيتك تفعله بي وأنت تسيرين بهذا الجسد الجميل بين أروقة الكلية .. لقد رغبت بك منذ رأيتك أول مرة .. ووعدت نفسي بأنك ستكونين لي ..ههه .. هل تعلمين بما كان الطلاب يلقبونك ؟.. بالفتاة المحرمة .. كان هذا اللقب ما يزيد رغبتي بك .. ويسعدني أن أنتزعه منك ما أن ....
لم تكن تعي ما يقوله .. كانت تسمع صوته بعيدا وهي تعجز حتى عن رؤيته من خلال عينيها اللتين أغشتهما الدموع .. ولكنها سمعت صديقه يصرخ بشيء ما .. ثم توالت الأصوات المختلفة .. ضجيج وصراخ .. لم تع إلا بأن الهدوء قد عم المكان فجأة .. وساد الصمت من حولها
كان الجو باردا للغاية .. فأخذت ترتعش بضعف وخوف .. وعندما أحست بيدين تمسكان بها .. شهقت بذعر ووجدت القوة لتصرخ :- اتركني .. لا تلمسني
سمعت صوتا غريبا يقول لها بدفء :- اهدئي .. ستكونين بخير
النبرة المهدئة في صوته فعلت فعلها .. إلا أنها همست بصوت مرتعش :- لا تؤذني .. أرجوك لا تؤذني
ضمتها ذراعان إلى صدر قوي جعل الدفء يسري في أوصالها المتجمدة .. سمعت الصوت يقول من جديد :- لا تخافي .. لن أسمح لأحد بأن يؤذيك بعد الآن .. أعدك بأنك ستكونين بأمان
كان آخر ما تذكرته قبل أن تغيب تماما عن الوعي .. هو أنها حقا أحست بالأمان

نسمات عطر 01-22-2017 10:32 PM

منقولة من منتدى غرام~ عندما تنحني الجبال~
 


الفصل الرابع




الهروب




فتحت نانسي عينيها وهي تشهق بعنف.. أسرعت امها إليها وهي تصيح بلهفة :- كيف تشعرين الىن يا حبيبتي ؟
خاطبت لينا :- اذهبي وأحضري الطبيب
للحظات .. وقبل ان تستوعب ما حولها .. تمنت لو أنها قد استيقظت لتوها من كابوس مريع .. إلا أ، الألم الشديد الذي شعرت به في كل جزء من جسدها جعلها تدرك بأن ما حدث لم يكن حلما .. لقد كان واقعا .. واقعا مرا ...دخل طبيب شاب ذو بسرة سمراء وعوينات دقيقة .. ابتسم وهو يخاطبها قائلا :- كيف حال مريضتنا الحسناء ؟
نظرت حولها إلى الغرفة البيضاء التي تشغلها .. وعرفت بأنها ترقد في أحد المستشفيات الباهظة التكاليف من رفاهية الغرفة الواسعة .. حاولت أن تنهض .. إلا أن ألما شديدا منعها .. قام الطبيب بفحصها وهو يقول :- ما من داع للقلق .. سينتهي الألم مع مرور الوقت .. والرضوض ستختفي دون أن تترك أثرا
رضوض ؟؟ تحسست وجهها بقلق بينما سألته والدتها :- متى تستطيع ابنتي مغادرة المستشفى ؟
:- من الأفضل أن تبقى تحت الملاحظة هذه الليلة .. لن تخسرن أي شيء وقد دفعت تكاليف إقامتها في الغرفة مسبقا
قالت الأم :- هل أستطيع البقاء معها الليلة ؟
صاحت نانسي بتوتر :- من الذي دفع التكاليف ؟
كانت تعرف مسبقا بأن أمها لا تمتلك ما يكفي من السيولة لتغطية تكاليف مكان باهظ كهذا .. تنحنح الطبيب قائلا :- سأعود بعد فترة لأطمئن عليك يا آنسة
غادر الغرفة فرفعت نانسي يدها بصعوبة لتمسك بيد أمها وهي تسألها بإصرار:- من أين لك بالمال يا أمي ؟ هل بعت شيئا من مجوهراتك مجددا ؟
ردت أمها بحيرة :- لا يا نانسي .. لقد اتصلوا بي يخبرونني بوجودك هنا .. فهرعت أنا ولينا إلى المستشفى كالمجانين .. لم أفكر بالتكاليف حتى نقلوك إلى غرفة خاصة فأخبروني بأنها قد دفعت من قبل شخص غريب لم يترك اسما
اقتربت منها أمها وربتت على شعرها بحنان وهي تقول :- لقد كدت أموت عندما رأيتك ممددة على السرير .. شاحبة للغاية والكدمات تغطيك .. انتابني إحساس بأنني كدت أفقدك لولا أن لطف الله وبعث من ينقذك .. ما الذي حدث يا نانسي ؟ أخبريني
نظرت نانسي إلى لينا التي كانت تقف جانبا وهي تكبت دموعها ومشاعرها .. فسالت دموعها وهي تتذكر المذلة التي شعرت بها أثناء تعرضها لاعتداء جابر الوحشي عليها .. سألت بخفوت :- من الذي أحضرني إلى هنا ؟ هل قابلته ؟
:- لا .. لقد أخبرني الممرضة بأن رجلا أحضرك إلى هنا وشرح بأن اثنين قد هاجماك .. وأصر على أن يراك الطبيب ثم غادر دون أن يذكر اسمه
ثم سألتها بقلق :- أيمكن أن يكون أحد الشابين الذين هاجماك ؟
هزت نانسي رأسها قائلة :- لا .. لقد كانا اثنين من الحاقدين .. هاجماني عارفين من أكون
سالت دموعها وهي تقول :- لقد أرادا إذلالي بأبشع طريقة يا أمي .. لولا وصول الرجل الذي أنقذني .. لا أعرف ما كلن ليحصل
أخذت تبكي بحرقة لم تعرفها إلا يوم وفاة والدها .. مما دفع لينا للبكاء بدورها وهي تضمها .. أما أمها فقد مسحت دموعها وهي تقول :- لقد سألنا الطبيب إن كنا نرغب في إبلاغ السلطات بالحادث .. وتقديم أي شكوى .. ما رأيك يا نانسي؟
تمتمت نانسي :- لا يا أمي .. لا نريد المزيد من الفضائح .. على كل حال أنا لم أعرف أي من الشابين
كذبت على أمها حتى تنهي قلقها وتفكيرها بالأمر .. تمتمت أمها بألم :- آه لو تعرف يا سلمان ما يحدث لبناتك بسببك
همست نانسي :- أمي .. أما زلت تودين الانتقال إلى منزل الشاطئ ؟؟؟
عندها .. سالت دموع أمها بغزارة .. إذ أدركت بأن ابنتها القوية قد اقتنعت أخيرا بضرورة الهرب
الهرب بعيدا

نسمات عطر 02-01-2017 05:38 PM

منقولة من منتدى غرام~ عندما تنحني الجبال~ الفصل الخامس
 

الفصل الخامس






حياة جديدة




انتهت نانسي من توضيب ملابسها داخل الدولاب الخشبي القديم واستدارت نحو لينا التي جلست على سريرها تحاول توضيب أغراضها هي الأخرى دون نجاح فابتسمت قائلة :- دعيني أساعدك يا لينا
قالت لينا وهي تحاول طوي أحد قمصانها وهي التي لم تضطر يوما للقيام بأي عمل منزلي :- لا .. أستطيع القيام بهذا وحدي
نظرت إليها نانسي بحنان وهي تنهض .. إلا أنها سرعان ما تأوهت عندما عاد الألم في بعض عضلات جسدها والذي لم يختفي بعد رغم مرور أسبوع على الحادث
تأملت الغرفة الصغيرة التي تضمها هي وأختها .. كانت متواضعة للغاية .. مكونة من سريرين صغيرين .. منضدة زينة صغيرة .. ودولاب خشبي .. لقد انتقلت مع عائلتها إلى هنا منذ يومين فقط ..إلى منزل الشاطئ الخاص بخالها .. والواقع في منطقة امتلأت بالمنازل المتشابهة المرصوفة على الشاطئ الرملي .. والتي تقع على بعد كيلو مترين من مدينة ساحلية صغيرة تعتبر أحد معالم السياحة في فصل الصيف ..
أما في هذا الوقت من السنة .. حيث انتصف فصل الشتاء وانخفضت درجة الحرارة عن الحد المحتمل بكثير .. فقد كانت المنطقة خالية تماما .. المنازل المجاورة كانت مهجورة وكأن الأشباح قد احتلتها .. اعتماد العائلة في التدفئة كان معتمدا على المدفأة الكهربائية التي بالكاد كان تبث شيئا من الدفء حولها رغم صغر مساحة المكان
الشقة كانت مكونة من غرفتي نوم احتلت الأم الرئيسية منهما .. وغرفة جلوس بسيطة مكونة من أريكتين قديمتين ومنضدة صغيرة للطعام .. حنان كانت تحتل هذه الغرفة أثناء الليل رغم إصرار السيدة مريم على أن تشاركها غرفتها المكونة هي الأخرى من سريرين ..
دخلت نانسي إلى المطبخ المتواضع حيث وجدت حنان تقوم بعملية تنظيف دقيقة.. ضحكت قائلة :- على مهلك يا حنان .. ستتعبين نفسك بهذا الشكل
مسحت حنان العرق عن جبينها .. ثم تابعت التنظيف قائلة :- لم يستعمل أحد هذا المكان منذ فترة طويلة .. أقل ما يمكننا فعله هو تنظيف المطبخ جيدا كي نتمكن من الطبخ فيه
هزت نانسي كتفيها يائسة من إقناع حنان بالتروي .. فهي تعرف هوسها الشبه مرضي بالنظافة .. خرجت من المطبخ إلى غرفة الجلوس حيث اقتربت من النافذة .. وتاملت المشهد الساحر للبحر الهائج الأمواج .. ومن بعيد كانت الجبال مكسوة تماما بالثلوج .. تساءلت إن كانت ستبقى هنا حتى حلول الصيف .. وإن كانت سترى هذا المشهد مكسوا بالخضرة
استدارت بحدة عندما سمعت صوت تأوه أمها .. التي كانت تقف عند باب غرفتها ممسكة برأسها :-أمي .. هل انت بخير ؟
ردت عليها أمها وهي تبتسم بشحوب :- أنا بخير .. إنه ذلك الصداع مجددا .. ربما بسبب تغير المكان ... سأدخل لأنام قليلا عله يهدأ قليلا
لم يبد على نانسي الاقتناع بتظاهر امها بالعافية وهي ترى شحوب وجهها .. سألتها أمها قبل أن تدخل إلى غرفتها :- متى ستذهبين إلى المدينة ؟
:- صباح الغد .. سأشترى ما ينقصنا من مستلزمات البيت .. ثم أبدأ بالبحث عن وظيفة
قالت أمها بقلق :- لن تجدي وظيفة لائقة في مكان كهذا .. نحن لسنا في حاجة إلى عملك الآن يا نانسي
قالت نانسي بعناد :- سنحتاج إليه عاجلا ام آجلا .. ومن الأفضل لي أن أعتاد على العمل
وبالفعل .. مع بزوغ شمس الصباح التالي .. قطعت نانسي المسافة التي تفصلها عن المدينة سيرا على الأقدام .. كان الطريق طويلا للغاية .. مما جعلها تصاب بالإرهاق الشديد .. وبالعرق يتسرب منها رغم درجة الحرارة المنخفضة .. كانت قد ارتدت ملابس أنيقة إنما دافئة كي تعطي انطباعا جيدا لدى الناس .. وعندما وصلت .. كانت على وشك الإغماء من فرط التعب ..
المدينة كانت في أوج نشاطها رغم الوقت المبكر .. فالمتاجر الصغيرة كانت قد فتحت أبوابها وكانها كانت تعمل طوال الليل ... ولكن نانسي كانت تعرف بان السكان هنا يتركون اعمالهم ويعودون إلى بيوتهم فور غياب الشمس .. ثم ينهضون عند الفجر لمزاولة اعمالهم من جديد
كانت المدينة جميلة ببيوتها الصغيرة ذات السقوف المصنوعة من القرميد الاحمر .. والحدائق التي تعرت أشجارها .. وخلت تماما من العشاق الذين اعتادوا ارتيادها .. كان هناك الكثير من المطاعم والمنتزهات التي تمتلئ بالسياح صيفا .. انتشرت متاجر بسيطة للثياب والادوات المنزلية .. والتحف والهدايا .. كان اول انطباع لديها هو انها احبت المكان .. وتمنت لو لم يكن منزل الشاطئ بعيدا إلى هذا الحد .. لاستمتعت امها كثيرا في قضاء الوقت بين جوانب هذه المدينة المرحبة
في نهاية اليوم .. عادت نانسي إلى البيت قبل حلول الظلام دون ان تحصل على مرادها .. وكذلك في الأيام الثلاثة التي تبعتها .. كانت تشتكي من الامر لوالدتها بينما هم يتناولون طعام العشاء في إحدى الامسيات .. هتفت :- ما إن أدخل إلى أي مكان طالبة وظيفة حتى ينظر الجميع إلي وكأنني أحمل مرضا معديا
قال امها بحيرة :- أيكون السبب هو انك لم تحصلي على شهادتك الجامعية بعد أم افتقارك إلى الخبرة ؟
دخلت حنان وهي تضع إبريق الشاي على المائدة قائلة :- المياه تتسرب من أسفل مغسلة المطبخ .. هناك مشكلة ولكنني لا أستطيع معالجتها فلا خبرة لي بالسباكة
جلست معهن حيث اعتادت على مشاركتهن الطعام كفرد من العائلة منذ انتقالهن .. ردت نانسي على سؤال امها :- كيف يكون السبب عدم حصولي على الشهادة إن كانت الوظائف التي وجدتها أساسا لا تحتاج إلى شهادة جامعية ؟
سألتها امها بحذر :- ما هي الوظائف التي وجدتها بالضبط ؟
هتفت نانسي وهي تعد على أصابعها :- بائعة في متجر للملابس .. عاملة في مشغل للخياطة .. موظفة في مكتب عقاري ..
ساد صمت طويل في الغرفة .. فقد كان الكل يفكر بصعوبة تخيل نانسي تقوم بأحد هذه الأعمال .. قالت أمها بصوت مبحوح :- ربما لا تمتلكين الخبرة اللازمة لوظائف كهذه .. فأنت لم تعملي يوما
قالت نانسي بإصرار :- أسنطيع ان أتعلم .. عدم خبرتي لن يكون عائقا
تمتمت حنان بخفوت وكأنها تكلم نفسها :- بالتأكيد ليست هذه هي أسباب رفضهم لتوظيفك
التفتت نانسي إليها بحدة وهي تقول :- ماذا تعنين ؟
قالت حنان وهي تهز كتفيها :- طبعا لن يقبل أي كان توظيف شابة تبدو وكأنها قد خرجت من إحدى مجلات الأزياء
عبست نانسي محاولة استيعاب كلمات حنان التي أوضحت :- عندما تذهبين إلى القرية بأناقتك المعهودة .. فإن أي شخص يستطيع بمجرد النظر إليك حتى من بعيد .. أن يدرك بأنك ابنة نعمة .. فتاة ثرية كان أكثر ما فعلته في حياتها صعوبة هو تقطيع شريحة اللحم بالشوكة والسكين
ابتلعت نانسي الإهانة .. وفكرت قائلة :- كيف لم أفكر بهذا من قبل ؟
صباح اليوم التالي شهد تغييرا جذريا في مظهر نانسي .. فقد تخلت عن ملابسها الأنيقة الباهظة الثمن .. وعن تسريحة شعرها التي تجعلها تبدو وكأنها خارجة من عند المزين .. وارتدت سروالا ضيقا من الجينز الباهت اللون .. وكنكزة بيضاء برقبة عالية .. ارتدت فوقها معطفا عاديا أخضر اللون .. ورفعت شعرها على شكل ذيل حصان .. وتخلت عن زينة وجهها تماما .. ابتسمت حنان وهي تخرج برفقتها قائلة :- هكذا أفضل .. لقد بذلت كل جهدك .. إلا أنك لن تستطيعي أبدا أن تمحي الرقي من ملامحك .. أو نظرة الكبرياء عن عينيك
قالت نانسي بخشونة :- هذا كل ما لدي
هذا الصباح رافقتها حنان كي تحضر أغراضا للبيت .. وفي الطريق قالت نانسي :- حنان .. أطلب منك الاهتمام بوالدتي .. فهي لا تبدو لي بخير
وافقتها حنان قائلة :- دائما متعبة وتعاني من الصداع .. لا تقلقي يا نانسي .. تعلمين بأنني سأهتم بها كما لو كانت أمي
ذلك المساء .. عادت نانسي إلى البيت مسرورة .. دخلت وهي تصيح :- فليسجل التاريخ أن نانسي راشد قد حصلت على أول وظائفها
صاحت لينا بلهفة :- حقا .. وماهي ؟
تنحنحت وهي تنظر إلى الوجوه المترقبة قائلة بحرج :- هل تعدن بألا تضحكن ؟
ثم قالت :- عاملة في مخبز للحلوى
انفجرت لينا وحنان ضاحكتين بينما اشتعلت هي غضبا قائلة :- لقد وعدتن بألا تضحكن .. بما أنني تعبت كثيرا في البحث عن وظيفة .. فقد قبلت بأول عمل أتيح لي
قالت أمها بضيق :- لقد سبق وـخبرتك يا نانسي .. لسنا بحاجة إلى عملك في الوقت الحالي .. لست مضطرة لشغل أعمال كهذه
عادت نانسي تقول بعناد :- لقد سبق وأخبرتك يا أمي بأن هذه اللحظة ستأتي عاجلا أم آجلا .. ولتكن آجلا كي أعتاد على مشقة العمل
تنهدت أمها قائلة باستسلام :- احكي لنا عن عملك الجديد إذن
جلست إلى جوار أمها وهي تقول :- إنه مخبز صغير تديره امرأة مسنة .. تقوم بصنع الخبز والكعك والفطائر وبعض أصناف الحلوى .. وتحتاج إلى فتيات شابات للعمل لديها
سألتها أمها بحدة :- أنت لا تعرفين شيئا عن الخبز .. ما الذي ستفعلينه هناك ؟
قالت نانسي بعناد :- سأتعلم
في تلك الليلة .. عندما خلد الجميع إلى النوم .. تسللت حنان إلى غرفة نانسي بينما كانت على وشك الاستغراق في النوم .. سألتها بقلق :- ما الأمر يا حنان ؟
اقتربت حنان قائلة :- نانسي .. أرغب بمرافقتك صباح الغد إلى القرية للبحث عن عمل أنا الأخرى .. أنا فرد من العائلة الآن .. ولا يمكن أن أبقى مكتوفة اليدين وأنا أراك تركضين بحثا عن عمل
قالت نانسي بهدوء :- أشكرك على نبل أخلاقك يا حنان .. ولكنني أحتاج إليك هنا .. فأمي متعبة .. ولينا صغيرة .. وانا لا أثق إلا بك في العناية بهما في غيابي
كان كلامها مقنعا .. فلم تستطع حنان الاعتراض ..
في صباح اليوم التالي بدأت نانسي عملها في المخبز .. لم يكن بالعمل السهل .. ولكنه كان ممتعا أن تتعرف إلى نوع جديد من الحياة .. صاحبة العمل كانت امرأة في الخمسينات .. ممتلئة الجسم وعصبية المزاج .. كانت تقضي الوقت في الصراخ على الفتيات كي يقمن بعمل متقن .. أما الفتيات فقد كن 3 غير نانسي .. قرويات متفاوتات في العمر .. وكان من الواضح أن صاحبة العمل .. كانت تفضل تشغيل الصغيرات في السن ليسهل عليها التحكم فيهن .. في ذلك الصباح .. كانت الحصة الأكبر من الصراخ والتوبيخ من نصيب نانسي .. التي لم تكن تعرف أي شيء عن العمل .. ولكن سرعان ما بدأت تتعلم .. وقد كساها الطحين من رأسها حتى أخمص قدميها
في نهاية اليوم .. خرجت منهكة ومصدومة من الفرق الشديد في درجة الحرارة بين داخل المخبز وخارجه ... لفت عنقها بالشال السميك .. وغطت رأسها بالقلنسوة الصوفية الحمراء .. وضمت معطفها إليها .. واستقلت الحافلة التي تتوقف في طريقها عند المنعطف المؤدي إلى منزل الشاطئ ..حيث أكملت طريقها سيرا على الأقدام
عندما دخلت إلى البيت كانت مرهقة تماما .. إلا أن الحماس أنساها التعب .. وأخذت تحكي لأمها أحداث يومها الأول في العمل محاولة إقناعها بحسن اختيارها للوظيفة .. ثم قامت تحضر العشاء مع حنان حيث أحضرت معها بعض الخبز الطازج من المخبز
وما أن أنهت عشاءها حتى جرت قدميها جرا نحو السرير .. وغابت في نوم عميق
هكذا كان حالها طوال الأيام الأولى .. بدأت تحب عملها .. وتستمتع بالتحول الغريب لمكونات بسيطة إلى مخبوزات شهية الطعم والرائحة .. بل أنها أخذت تجرب صنع بعض أنواع الفطائر في البيت تحت عيني حنان المذهولتين .. كان الوقت الذي تقضيه مع عائلتها ينقص باستمرار .. حتى أنها في كثير من الأحيان كانت تذهب إلى فراشها مباشرة دون انتظار للعشاء
ذات مساء لاحظت بينما هي تسير نحو البيت سيارة فضية حديثة الطراز متوقفة أمام أحد المنازل المجاورة .. أثار الأمر فضولها لعدم إمكانية وجود مجنون آخر يفكر بالإقامة في مكان كهذا في الشتاء .. وعندما دخلت إلى البيت كانت حنان تعد العشاء .. والدتها كانت تطرز قطعة من القماش بينما جلست لينا على الأرض إلى جوار المدفأة تمارس هوايتها في الرسم
ألقت التحية ثم اتجهت نحو المطبخ .. كانت حنان تقطع الخضار عندما رفعت رأسها قائلة ببشاشة :- مساء الخير يا نانسي .. هل أحضرت معك الخبز ؟
قالت نانسي :- بالطبع .. أخبريني يا نانسي .. هل هناك ساكن جديد في المنطقة ؟.. لقد رأيت سيارة فضية تقف قريبا من هنا
أشرق وجه حنان وهي تقول :- آه .. ألم تعرفي بعد ؟ السيارة ...
لم تكمل عبارتها عندما سمعتا صوت لينا تناديهما .. ركضتا بسرعة لتجدا الألم ممسكة برأسها بألم شديد وتغمض عينيها بقوة .. أسرعت نانسي تصيح بذعر :- أمي .. ما الذي حدث ؟
تمتمت أمها بصعوبة قائلة :- لا تهتمي .. ليس بالأمر المهم
صاحت نانسي بحدة :- كيف تقولين هذا ؟ أنت تتألمين كثيرا ويجب أن يراك الطبيب
هتفت أمها بإعياء :- لقد خف الألم قليلا .. سآخذ دواءا للصداع وأخلد إلى النوم باكرا .. وفي الصباح سأكون بخير
ساعدتها حنان على دخول غرفتها .. بينما كان القلق يعصف بنانسي .. وعندما لاحظت الخوف الظاهر على لينا قالت تطمئنها :- لا تخافي يا لينا .. أمنا ستكون بخير
سألتها لينا باضطراب :- لماذا لا نأخذها إلى الطبيب ؟
:- إن لم تتحسن .. سنأخذها إلى الطبيب
خرجت حنان وهي تقول :- لقد نامت
جلست نانسي على الأريكة قائلة بقلق :- إن وضعها يقلقني .. كيف سأذهب إلى العمل وأتركها بهذه الحالة .. ماذا إن حدث لها شيء في غيابي ؟
قالت حنان بشقة :- لا تقلقي يا نانسي .. إنشاء الله لن يصيبها مكروه .. سأتصل بهاتفك المحمول عند حدوث أي طارئ وإن اضطررت .. فبإمكان جارنا أن يساعدنا
نظرت إليها نانسي قائلة بحذر :- جارنا ؟
:- إنه صاحب السيارة الفضية التي سألتني عنها .. وهو يقيم على بعد منزلين منذ أيام
صاحت نانسي وقد فارت الدماء في عروقها :- لماذا لن يخبرني أحدكم بأن هناك من سكن إلى جوارنا ؟ هل أنا آخر من يعلم أي شيء في هذا المكان ؟
قالت حنان :- نحن لا نراك يا نانسي .. فأنت تعودين كل مساء مرهقة تماما .. فتنامين فورا
نهضت نانسي وأخذت تجول في الغرفة وهي تقول بعصبية :- ماذا إن كان هذا الجار سيئا ؟
أسرعت لينا تقول :- إنه شخص لطيف يا نانسي .. يلقي التحية علينا كل صباح ويسألنا غن احتجنا أي شيء
أكملت حنان :- لقد أصلح مغسلة المطبخ .. وأوقف تسرب المياه .. إنه شخص طيب ويمكن الاعتماد عليه
كان الارهاق قد أخذ نانسي بقوة إذ بدأت بدورها تحس بالصداع .. تمتمت :- سنتحدث في هذا الشأن فيما بعد .. أنا بحاجة إلى نوم عميق
سألتها حنان بقلق :- ألن تشاركينا العشاء ؟
هزت رأسها قائلة :- لست جائعة .. تأكدي فقط بأن لينا قد أكلت جيدا .. تصبحون على خير
وما أن وضعت رأسها فوق وسادتها .. حتى تلاشت مخاوفها .. وغابت في نوم عميق



نسمات عطر 02-01-2017 05:44 PM


الفصل السادس





جاري الغامض





بالكاد كانت نانسي قادرة على الوقوف أثناء عجنها العجين .. بينما كانت صاحبة المخبز تصرخ بها بين الحين كلما ضبطتها مغمضة لعينيها وكأنها تسترق لحظات من الراحة خلال نهار العمل المتعب .. رفعت ذراعها لتمسح العرق الغزير عن جبينها بكم قميصها .. ثم عادت تكمل عملها .. غادرت في نهاية النهار متشوقة للعودة إلى البيت والتمدد في فراشها الدافئ .. داخل الباص .. استسلمت لإرهاقها الشديد .. وأغمضت عينيها في غفوة قصيرة .. انتهت عندما نبهها السائق إلى وصولها إلى وجهتها اليومية
ترجلت من الباص .. وسارت نحو البيت وهي تشعر وكأنها تسبح شبه واعية .. شعرت بأن الطريق يزداد طولا وأنها لن تصل أبدا إلى البيت .. وعندما وصلت أخيرا .. ترنحت وهي تتشبث ببوابة المنزل .. وخلال لحظات كانت قد تهاوت على الأرض فاقدة للوعي .. وللإحساس بما حولها تماما

عندما فتحت نانسي عينيها أحست بالبرد الشديد .. وبجسدها يرتعش بقوة رغم البطانيات التي غطتها من عنقها حتى أخمص قدميها .. الألم كان شديدا في حلقها حتى كانت تجد صعوبة في بلع ريقها .. سمعت صوت أمها تقول :- افتحي فمك يا عزيزتي
رفعتها ذراع دافئة كي تتمكن من فتح فمها وتلقي الدواء المر .. ثم همست بضعف :- ما الذي حدث ؟
قالت أمها بحنان :- لقد أصبت بالأنفلونزا يا حبيبتي .. وسرعان ما ستشفين .. لقد وصف لك الطبيب بعض الأدوية ونصح ببقائك في الفراش دافئة حتى تتحسني
تمتمت :- وماذا عن العمل ؟
صاحت أمها بغضب :- ألا تفكرين إلا بالعمل ؟ فكري بنفسك .. لقد قال الطبيب بأن سبب مرضك هو إرهاقك لنفسك وانتقالك المتكرر من جو شديد الحرارة إلى آخر شديد البرودة دون أن تدفئي نفسك جيدا .. أنت حتى لا تأكلين كما يجب من فرط الإرهاق
كانت هذه هي المرة الأولى التي ترى فيها أمها في هذه الحالة من الغضب .. بعد دقائق أحضرت حنان لها شرابا دافئا وساعدتها على احتسائه وهي تقول فور مغادرة أمها :- الحمد لله أن جارنا كان موجودا
تمتمت نانسي :- جارنا ؟
:- جارنا الجديد .. لقد أخبرتك عنه من قبل .. لقد وجدك فاقدة الوعي في الخارج فأدخلك وأحضر لك الطبيب ثم ذهب لإحضار الأدوية بنفسه .. إنه شاب ممتاز للغاية
شعرت نانسي بالغيظ للطريقة المحرجة التي قابلها فيها الجار الجديد لأول مرة .. سألتها :- ما الذي يفعله هذا الجار في مكان نائي كهذه ؟.. هل هو من سكان المدينة ؟
:- لا .. لقد جاء في إجازة .. وسيبقى لأسابيع قادمة .. وقد استأجر أحد البيوت المجاورة لقضاء وقت هادئ ومنعزل عن الناس .. إنه شاب وسيم للغاية وأعزب
غمزت بعينها لنانسي التي قالت ساخرة :- أي أنه سيشكل زوجا جيدا لك بعد السنوات التي قضيتها مع نبيل
عبست حنان قائلة :- لا يمكنك أبدا مقارنته بنبيل .. كما أنه لن ينظر إلي أنا على الإطلاق .. بل إلى فتاة توازيه رقة ورقيا .. مثلك أنت ..
لهجتها جعلت نانسي تقول بإعياء :- توقفي عن مدحه أمامي .. عندما أفكر بالزواج أو الإيقاع برجل ما .. سأطلب منك النصيحة .. أما الآن .. فكل ما أريده هو أن أنام
استغرق شفاء نانسي بضعة أيام .. وكان اول ما فعلته فور شفائها هو أن ذهبت إلى المدينة لتتابع عملها رغم اعتراض والدتها .. وهناك .. كانت المفاجأة في انتظارها عندما وجدت فتاة اخرى تعمل مكانها .. صرحت صاحبة العمل بأنها لن تنتظرها حتى تتكرم وتعاود العمل عندما يطيب لها ذلك .. دفعت لها ما يحق لها من المال وأدارت لها ظهرها .. وعندما أرادت الخروج لحقت بها إحدى الفتيات قائلة :- لم ترغب السيدة بطردك .. إلا أن رجلا جاء ومنحها مبلغا كبيرا من المال مقابل أن توظف غيرك
عقدت نانسي حاجبيها قائلة :- من يكون هذا الرجل ؟
:- لا أعرفه .. قد يكون من طرف الفتاة الأخرى
عادت نانسي إلى البيت غاضبة .. ألقت المال على المائدة وهي تصيح :- أي فوضى هذه ؟ ما ان أغيب عن العمل لأيام بسبب المرض حتى يوظفون غيري
قالت أمها بهدوء :- في جميع الأحوال .. لم تكن هذه الوظيفة مناسبة لك
صاحت نانسي قائلة بغضب :- وماهي الوظيفة المناسبة في مدينة صغيرة كهذه ؟ هل عرضت علي وظيفة رئيس مجلس إدارة إحدى الشركات ورفضت ؟
قالت أمها بعناد :- لا بد أن تجدي وظيفة أفضل
جلست نانسي وهي تلتقط أنفاسها محاولة استعادة هدوئها فأكملت أمها :- على الأقل وظيفة أقل إرهاقا .. هذه المرة فقدت وعيك أمام البيت .. ماذا لو كنت قد سقطت في مكان بعيد دون أن يشعر بك أحد ؟.. لو لم يفكر جارنا بالمرور بنا مساءا للاطمئنان علينا حيث وجدك على الأرض لبقيت مكانك حتى يكتشفك أحد .. يجب أن تذهبي إليه وتشكريه فقد تعب كثيرا بسببك
شعرت نانسي بالضيق لفكرة أنها تدين لأحد بشيء ما .. تمتمت :- سأذهب لأشكره ما إن أتأكد من وجوده
أسرعت لينا تقول وهي تطل برأسها من النافذة :- سيارته موجودة
كتمت نانسي غيظها وهي تخرج للقاء الجار الغامض الذي أنقذ حياتها كما تحب أمها أن تقول .. سارت الأمتار الفاصلة بين بيتهم وبيته ..ومرت إلى جانب السيارة الفارهة والجديدة ..ثم قرعت جرس الباب عدة مرات دون أن تتلقى أي رد..
لم تعد فورا إلى البيت .. بل سارت عبر طريق جانبي نحو الشاطئ .. حيث اعتادت أن تهرب إليه كلما أحست بالانزعاج .. وقفت فوق الرمال الرطبة تنظر إلى البحر الهائج بسبب الهواء العاصف .. وضمت معطها إليها لتقي نفسها من برودة الجو وهي تفكر بما عليها فعله صباح الغد من بحث عن عمل جديد .. كانت الشمس قد أتمت الرابعة مساءا .. والشمس كانت تسير نحو مخدعها ببطء .. أجفلت عندما سمعت صوتا رجوليا يقول بهدوء :- الجو بارد للغاية هنا
استدارت بسرعة .. فاتسعت عيناها بشدة وهي تنظر إلى محدثها الذي أكمل :- وقد يؤذيك هذا نسبة إلى شفائك القريب من مرضك
عقد لسانها .. ولم تعرف ما تقول .. وبصعوبة خرج اسمه من بين شفتيها بصوت مختنق :- دكتور محمود
كان الدكتور محمود فاضل يقف أمامها كما عرفته دائما .. بثقة وكبرياء وحزم .. إلا أنه لم يكن يرتدي بذلته الثمينة الداكنة هذه المرة .. بل سروالا أسود وقميصا رماديا أسفل كنزة داكنة صوفية .. ثم معطف أسود طويل من الصوف الثقيل الغالي الثمن .. وقد أحاط عنقه بوشاح صوفي رمادي اللون .. حتى الآن .. لم يتخلى عن هيبته التي لطالما تمتع بها بالرغم من كونه أصغر أستاذ في الكلية
كانت تطل من عينيه نظرة متفحصة .. شملت كل جزء من ملامحها المصدومة ..وجسدها الذي أخذ يرتعش تحت المعطف السميك الذي ترتديه .. قال بهدوء :- كيف تشعرين الآن ؟
لم تستطع التفكير بسؤاله .. إذ سألته مذهولة :- أنت هو الجار الجديد
رد عليها دون أن يبتسم :- تبدين كمن تلقى لتوه خبر احتضاره .. أتزعجك رؤيتي إلى هذا الحد ؟
هزت كتفيها متظاهرة باللا مبالاة وهي تقول :- لماذا قد تزعجني رؤيتك ؟ المشاكل التي كانت بيننا لم تعد
مهمة بعد تركي للجامعة .. وأنت فعليا لم تعد أستاذي
عقد حاجبيه بشدة وهو يكرر :- تركت الجامعة .. أي قول سخيف هذا ؟.. ما هو تبريرك لقرارك الطفولي هذا ؟
قالت بغيظ :- لست مضطرة لتقديم أي تبريرات لك .. أو لأي شخص آخر
لم يرد عليها .. بل ضيق عينيه وهو ينظر إليها بإمعان وكأنه يحاول قراءة أفكارها .. بينما كان الغضب والانفعال يملآن نفسها بسبب معاملته لها وكأنها ماتزال طالبة لديه .. تساءلت عن سبب وجوده هنا .. من بين جميع الناس .. يتواجد هو هنا في هذا المكان .. دون غيره من الأماكن .. ترجمت أفكارها على شكل سؤال :- لم ينتهي الفصل الدراسي بعد يا دكتور محمود .. فما الذي تفعله هنا في هذا المكان بالذات
لوى فمه وهو يقول ساخرا :- من المؤكد بأنني لم آت إلى هنا لاحقا بك
تورد وجهها وقد أدركت بأنه قد قرأ أفكارها .. ولماذا قد يلحق بها شخص يكرهها كما تكرهه ؟ .. كما أن اكتشافه لمكان وجودها من المستحيلات إذ لا أحد على الإطلاق يعرف بهذا المكان .. حتى ماهر .. بل هي لم تتحدث إلى ماهر إطلاقا بعد حادث الاعتداء الذي تعرضت له بل سافرت على الفور حتى تنسى كل ما يذكرها بما حدث
قال بهدوء :- أنا في إجازة .. فالأساتذة بشر أيضا كما تعلمين .. ويحتاجون إلى فترة يبتعدون فيها عن أجواء العمل .. وعندما جئت إلى هذا المكان الذي سمعت بهدوئه وخلوته في هذا الوقت من السنة .. لم أتوقع أن أصادفك هنا .. هاربة من أعين الناس حتى قابلت والدتك .. وعرفت منها من تكون
صاحت بحدة :- أنا لست هاربة
قال بقسوة :- لماذا تختبئين هنا كالفئران بعيدا عن الناس إذن .. بل بعيدا عن أقرب أصدقائك
صاحت بعنف :- لا أصدقاء لدي .. ليس هناك من يستحق بقائي لأجله
:- وماذا عن ماهر ؟ على ما أظن تركت قلبه محطما ورحلت دون أن تخبريه حتى بمكان وجودك
حاولت السيطرة على انفعالاتها وهي تقول :- ماهر سيقدر بأنني فعلت هذا مكرهة
قال ببرود :- فعلته مكرهة ؟ .. أم اكتشفت بأنه ليس من النوع المفضل لديك .. وأنك ربما ستحتاجين إلى رجل أكثر ثراءا ليلملم نفسك المكسورة وكرامتك المبعثرة ؟
قالت بغضب :- ماهر مجرد صديق .. لطالما كان صديقا وفيا فحسب لا أكثر
قال ساخرا :- لا أعتقد بأنك كنت بالنسبة إليه مجرد صديقة .. الكل يعرف منذ البداية بأن ماهر مغرم بك حتى أذنيه .. وأنك تتلاعبين به لاستخدامه لأغراضك الخاصة
أحست بالغضب يكاد يعميها .. ولكنها تماسكت قائلة ببرود :- ليس من حقك أن تناقش حياتي الخاصة .. سواء كان ما تقوله صحيحا أم لا فهو ليس من شأنك .. وأنا لست مضطرة لقضاء مزيد من الوقت معك .. فلدي الكثير لأقوم به
تمتم بهدوء :- كالبحث عن عمل جديد مثلا
كانت تهم بالرحيل إلا أنها توقفت فجأة وهي تنظر إليه بريبة .. كيف عرف بتركها لعملها .. فهي لم تخبر أمها إلا منذ دقائق .. اتسعت عيناها وهي تقول :- أنت هو الرجل الذي تسبب بطردي
لم يظهر أي تعبير على وجهه الجامد .. وكأنه يعترف بفعلته .. لم تستطع كبت غضبها وهي تصيح :- بأي حق تفعل هذا ؟..كيف تجرؤ على التدخل في حياتي وتسيير أموري ضد رغبتي ؟
قال بصرامة :- بحق امك التي توسلت إلي بان أفعل ..أمك الإنسانة الرقيقة التي لن تحتمل ان تتعرضي لأي نكسة جديدة امامها .. لم تكوني واعية عندما أخذت تبكي محطمة وهي تراك على فراش المرض .. أم أن أمك لا تمثل لا أي قيمة هي الأخرى ؟..
قالت بغضب وقد برقت عيناها بشدة :- إياك ان تتجرأ وتتحدث عن علاقتي بأمي بهذه الطريقة مجددا .. وإلا فأنا أقسم على أنك ستندم
قال متهكما :- ما الذي ستفعلينه ؟ سترمينني في الشارع .. أم تسلطي المجتمع ضدي ؟
ابتلعت سخريته عندما ذكرها بتهديدها القديم والسخيف له .. سارت محاولة تجاوزه لتعود إلى بيتها .. إلا أنه أمسك ذراعها بحركة حادة جعلتها تشهق مجفلة .. رأته يعقد حاجبيه وهو ينظر إلى آثار كدمة أسفل خدها .. تمتم بقلق :- هذه الكدمة ....
لم يكمل .. بل مد أصابعه يتحسس مكانها فوق بشرتها الناعمة التي ارتعشت تحت ملمس انامله الرقيق .. صدمها الاهتمام الكبير الذي أطل من عينيه .. وصدمها هذا الاحساس الذي انتابها وجعل صوتها يرتعش وهي تقول كاذبة :- لقد اصطدمت بالباب
وقبل أن تتلقى أي تعليق .. كانت قد انسحبت هاربة ..
هاربة من ذكرى هذه الكدمة التي أصابتها تلك الليلة المشؤومة .. ومن نظرة عينيه التي تثير داخلها مزيجا غريبا من الغضب والحيرة .. والاضطراب والخوف



نسمات عطر 02-01-2017 05:51 PM

منقولة من منتدى غرام~ عندما تنحني الجبال~
 
الفصل السابع



ابتعد!!




عمل نانسي الجديد كان أقرب إلى مزاجها .. فقد وجدت وظيفة كبائعة في متجر للثياب .. كان متجرا بسيطا متخصصا في بيع الملابس الشبابية البسيطة .. والرخيصة الثمن .. والمختلفة تماما عن النوع الذي اعتادت نانسي شراءه .. ولكنها لم تعد قادرة على شراء ما تحبه الآن ..
تعمل نانسي في المتجر منذ 3 أيام .. وأدركت منذ اللحظة الأولى بأن صاحب المتجر من النوع السيء الخلق .. فهو عصبي المزاج .. دائم الصراخ .. ولا يتردد في إطلاق الشتائم عند الحاجة .. أجبرت نانسي نفسها على الصبر .. وتجاهلت تذمره من عجزها عن إقناع الزبائن القلائل بالشراء .. ورددت لنفسها بأن هذا هو العالم الحقيقي .. كما تستطيع أي موظفة أخرى احتمال رئيسها السمج .. ستفعل هي
عادت في نهاية اليوم وهي تشعر باكتئاب كبير .. ربما لأن عملها الجديد يذكرها بوضعها القديم .. كلما دخلت زبونة متعالية .. وعاملتها بازدراء .. لقد كانت ذات يوم من ذلك النوع الذي يهوى التصرف وكأن العالم ملك لها .. لكم تحتقر نفسها الآن عندما تدرك أي إنسانة سطحية ومتعالية كانت .. هل كان عليها تلقي الصدمة تلو الأخرى حتى تعرف ماهي الحياة الحقيقية
عندما دخلت إلى البيت سمعت فورا صدى ضحكات أمها ولينا .. فأدركت بأن الدكتور محمود موجود هنا .. لقد أصبح ضيفا دائما في بيتهم المتواضع .. وقد تمكن من كسب ثقة وإعجاب أمها وأختها على الفور
كان هذا يشعرها بالغضب والحنق .. الدكتور محمود هو آخر إنسان أرادت أن يتقرب إلى عائلتها ويعرف دقائق ظروف حياتها .. لقد سبق وهددته على الملأ .. وهاهي تعيش حياة حقيرة .. ويا للذل .. إنه جارها الذي يعرف كل ما حاولت إخفاءه عن جميع الناس.. يعرف حقيقة صعوبة حياتها الحالية ..
هي متأكدة بأن تقربه المستمر من عائلتها ما هو إلا محاولة منه لإذلالها .. وكأنه يقول لها بأنها الآن بالنسبة إليه مجرد فتاة مسكينة جار عليها الزمان ..وقسى عليها القدر .. تمنت لو تستطيع الدخول إلى غرفتها دون أن يراها .. ولكنها مضطرة لمواجهته كما في كل مساء يزور فيه بيتهم الجديد المتواضع
أخذت نفسا عميقا .. ودخلت وهي تقول بهدوء :- مساء الخير
استدار الجميع نحوها .. شعرت بأن ضحكته قد اختفت وهو ينظر إليها متفحصا .. أستاذها القدير البارد الأعصاب دائما .. كان يرتدي سروالا من الجينز وكنزة زرقاء داكنة .. بدا أصغر سنا بملابسه البسيطة .. دون أن يفقد ذرة من هيبته . تساءلت عما يمكن أن يهز رباطة جأش أستاذها القدير البارد الأعصاب دائما ..قالت أمها ببشاشة :- تعالي وألقي التحية على الدكتور محمود يا نانسي .. لماذا لم تخبرينا بأنه أستاذك في الجامعة ؟
قالت بهدوء وهي تجلس في أبعد مكان عنه في الغرفة :- لم أجد ضرورة لهذا بما أنني تركت الجامعة .. وهو لم يعد أستاذي بعد الآن
اختفت ابتسامة أمها كما في كل مرة تأتي فيها نانسي على ذكر تركها للجامعة .. سألها الدكتور محمود بهدوء :- كيف هو عملك الجديد ؟
قالت ببرود :- جيد جدا .. لست مضطرا لدفع المال مجددا كي تتسبب بطردي منه
صاحت أمها بغضب :- نانسي .. اعتذري للسيد محمود .. إن ما فعله كان بطلب مني .. وليس من تلقاء نفسه
قال بهدوء مبطن بالسخرية :- اتركيها يا سيدتي .. يسعدني أن أجد بأنها ما زالت تمتلك روحا قتالية بعد كل ما تعرضت له
هي وحدها التي فهمت المغزى الخفي لكلامه .. إذ كان يقصد بأنها ما زالت تمتلك الجرأة على رفع صوتها في وجهه أو وجه أي كان بعد الخزي الذي تعرضت له .. ألن تكون شماتته بها كبيرة في حال عرف باعتداء جابر عليها بالضرب ؟ ..
هتفت لينا بسرور :- نانسي .. الدكتور محمود يظن بأن مستقبلا باهرا ينتظرني في الرسم
تمتمت بجفاف :- بالتأكيد يا عزيزتي .. بالإذن
انسحبت إلى غرفتها وقد منعت نفسها بصعوبة من صفق الباب ورائها بقوة .. تدرك نانسي تماما ما يفعله ذلك الرجل .. إنه يصبح جزءا من عائلتها شيئا فشيئا
أصبح لا يمر يوم دون أن يقضي جزء منه برفقة لينا أو أمها .. أمها تجد فيه الابن الذي لم تنجبه مع أن فارق السن بينهما بالكاد تجاوز العشر سنوات
ولينا تجد فيه الأخ الأكبر .. أو البديل عن والد تركها مبكرا في وقت تحتاج فيه بشدة إلى الإحساس بحماية رجل
إنه يسحب البساط من تحت قدميها تدريجيا .. ويحل محلها بين عائلتها بينما تتلاشى أهميتها مع وجوده
سمعت طرقات على الباب .. ففتحته لتجد حنان تقول ببشاشة :- هل أحضر لك بعض الحلوى ؟؟ لقد أحضر الدكتور محمود معه حلوى شهية جدا بالجبن
:- لا شكرا
هذه المرة .. صفقت نانسي الباب بكل قوتها .. لقد طفح الكيل
\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\ \\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\ \\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\\

يا آنسة .. لقد وصلنا إلى وجهتك .. ألن تنزلي
صحت نانسي من شرودها على صوت سائق الحافلة .. وتنبهت بأنها قد وصلت فعلا إلى وجهتها .. ترجلت من الحافلة وسارت بخطوات بطيئة عبر الطريق المؤدي إلى منزل الشاطئ .. دخلت لتجد المكان هادئا مما أصابها بالقلق .. أين الجميع ؟ .. دخلت إلى المطبخ لتجد حنان منهمكة في الطبخ فسألتها :- أين أمي ولينا ؟
:- خرجتا تتمشيان قليلا
التفتت إليها حنان قائلة بحيرة :- ما الذي عاد بك باكرا هذا النهار
ردت نانسي باقتضاب :- لقد تركت العمل
:- ماذا ؟ ولكن لماذا ؟ ظننت بأنه قد أعجبك
ردت نانسي بجفاف :- لقد كنت مخطئة
لم تستطع إخبار حنان بأنها قد تركت العمل بعد أن طفح بها الكيل وفقدت قدرتها على احتمال غطرسة صاحب المتجر بذيء اللسان .. وأنها أمطرته في النهاية بسيل من الإهانات المتتالية التي تركته ذاهلا وكأنه لم يعتد أن تصرخ به امرأة .. ثم أهرقت إبريق الماء الذي يعلو مكتبه دائما فوق رأسه .. ثم رحلت بلا أي كلمة حتى عن مستحقاتها
لم يكن هناك شك في أن العمل مع رجل من ذلك النوع كان مزعجا للغاية .. ولكنها في الحقيقة خيبت أمل نفسها عندما فقدت أعصابها وتقمصت مجددا تلك الروح القديمة النارية ..
أي فتاة أخرى كانت تحملت في سبيل لقمة عيشها وصبرت على اضطهاد الرجل العجوز العنيد
كانت نانسي تعرف بأن الأعمال التي تقوم فيها في هذه القرية الصغيرة لا قيمة لها .. فهم ينفقون الآن من الأموال المتبقية لدى والدتها من بيع بعض مجوهراتها القديمة الموروثة عن عائلتها .. ولكنها لا تستطيع البقاء بدون عمل .. فعاجلا أم آجلا .. تلك النقود ستنتهي .. وسيحتاجون إلى مصدر جديد للدخل .. وكي تجده يجب أن تكتسب شيئا من التواضع وإلا فإنها أبدا لن تصمد في أي وظيفة
تنهدت وهي تسأل حنان محاولة نسيان الواقع :- ما هو عشاءنا هذا المساء؟
:- طعامك المفضل
شمرت نانسي عن ساعديها وأخذت تحاول مساعدة حنان في تقطيع الخضار أمام ضحكاتها :- لا بأي بك .. أنت تتقدمين
مسحت نانسي دموعها وهي تتابع تقطيع البصل قائلة :- متى تسنى لك النزول إلى القرية وإحضار كل هذه الأغراض ؟
:- لقد أحضر السيد محمود كل هذه الأغراض صباح اليوم .. وقد ..
لم تكمل كلامها عندما فوجئت بنانسي تلقي السكين من يدها وقد جرحت إصبعها وسال الدم ليلطخ أرض المطبخ .. استدارت نانسي وهي تقول بغضب :- ولماذا يحضر هو الأغراض ؟ لماذا لم يتصل بي أحد ويخبرني باحتياجات البيت لأحضرها معي ؟
قالت حنان بتوتر :- لقد أحضرها من تلقاء نفسه .. لم يطلب منه ..
بترت عبارتها مجددا عندما نزعت نانسي رداء المطبخ .. واندفعت كالعاصفة خارجة من البيت .. وسرعان ما كانت أمام باب بيته فقرعت الجرس بحدة تكاد لا تطيق صبرا للانفجار بغيظها في وجهه
عندما فتح الباب .. تلاشت كل عزيمتها عندما رأته واقفا بهيئته الصارخة الجاذبية .. كان يرتدي سروالا أسود وقميصا أبيض أظهر اكتمال بنيته العضلية .. ظهرت الدهشة في عينيه البندقيتين وهويقول :- أي مفاجأة هذه ؟ الآنسة نانسي شخصيا تشرفني بزيارة .. تفضلي بالدخول
تراجعت إلى الخلف برفض صامت للدخول .. قطعا هي لن تدخل منزل رجل غريب .. قالت بعصبية:- لم آت لأدخل .. بل لأقول بضع كلمات وأذهب
عقد حاجبيه متأملا حالتها العصبية .. ثم قال بهدوء :- هل أنت خائفة مني ؟
نعم .. هي خائفة منه .. ولم تعرف سببا لخوفها هذا .. أهو تأثير ذلك الحاذث عليها ؟ أم أن الشجار القديم الذي حصل بينهما هو ما يمنعها من الثقة به ؟ أم أنها تخشى أن تكتسحها سلطته وقوته فيخضعها كما أخضع والدتها وأختها ؟
قالت بحدة :- أنا لست خائفة منك
قال :- ستدخلين إذن وتخبرينني بمقصدك لأن الجو بارد وأنا أكاد أتجمد بردا
احمر وجهها عندما لاحظت بشرته الظاهرة من خلف أزرار قميصه المفتوحة .. وصدقت بأنه لا يرتدي ما يقيه البرد الشديد .. حتى هي لم كانت ترتعش بردا وقد نسيت معطفها في غمرة انفعالها وغضبها
أفسح لها الطريق فدخلت بتوتر .. نظرت حولها إلى المكان المشابه لتصميم بيت خالها .. إلا أنه كان أكثر ترتيبا وقد بدت الصيانة المستمرة واضحة في طلاء الجدران الجديد .. والأثاث الحديث .. والجو الدافئ الصادر عن مدفئة حديثة الطراز جعلتها تشفق على الآلة المسكينة التي أكل عليها الدهر وشرب والتي يعتمدون عليها هم في التدفئة
في صدر غرفة الجلوس كان هناك مكتب صغير تكومت عليه الكتب والأوراق فخمنت بأنها قد قاطعت عملا له .. قالت بتوتر :- آسفة لمقاطعتك عن عملك
قال من ورائها :- هيا نانسي .. لا تتظاهري بالتهذيب .. أنت تتحرقين شوقا لقول ما لديك والرحيل
استدارت إليه لتراه يغلق باب البيت ويلتفت نحوها بابتسامة تسلية .. شعرت بالغيظ لاستمتاعه بارتباكها .. فقالت مرة واحدة :- أريدك أن تبتعد عن عائلتي
لم يعلق .. ولكن ملامحه جمدت وهو ينتظر منها توضيحا .. فقالت بحدة :- لا أريدك أن تتقرب من أمي وأختي .. فهما ليستا بحاجة إليك
قال بهدوء وهو يبتعد عن الباب :- هلا أوضحت لي سبب رفضك لتقربي إليهما
تراجعت وهي تقول بتوتر :- إنهما تتعلقان بك أكثر وأكثر وتعتمدان عليك .. دون أن تدركا بأن سبب اهتمامك هو الشفقة .. لا أنا ولا عائلتي بحاجة إلى شفقتك
قال ببرود :- وعلى أي أساس افترضت بأنني أشعر بالشفقة عليهما ؟
صاحت ملوحة بيديها :- تتقرب إليهما .. وتشعرهما بأنك جزء من العائلة .. تشتري لهن أشياءا .. ليس هناك ما يدفعك للقيام بكل هذا إلا الشفقة .. نحن لا نحتاج إلى أي شيء منك يا دكتور محمود .. ربما من الأفضل أن تعود من حيث أتيت لأن وجودك غير مرغوب به بالمرة
قالت كلماتها العنيفة .. ثم أمسكت خصرها بكلتي يديها في انتظار رده .. اقترب منها قائلا بصرامة :- أنت مخطئة يا نانسي .. فأنا عندما أغادر هذا المكان فإنني سأغادره بملء إرادتي .. وليس لأن مدللة مثلك ترفض التأقلم مع حياتها الجديدة ترفض وجودي ... أما بالنسبة لوالدتك ولينا .. فما أشعر به اتجاههما هو كل المودة ولا يهمني إن لم تصدقي هذا .. أمك إنسانة رقيقة وطيبة .. وليس من الغريب أن تكسب احترامي.. ولينا طفلة مثيرة للاهتمام وذكية .. أشعر بأنها كأختي بالضبط .. وإن كنت قد قدمت بعض الخدمات لهما فهذا بدافع إحساسي بأنني أحد أفراد العائلة .. أما عن الشفقة .. فأؤكد لك بأنني أشعر بها اتجاه شخص واحد فقط .. وهو أنت
انتفضت نانسي عندما ازداد اقترابه وهو يقول بحدة :- أشعر بالشفقة عليك لأنك ترفضين الحياة في أرض الواقع .. ما زلت تشعرين بأنك ابنة القصور المدللة التي تأمر وتطاع .. تريدين أن تمارسي سلطتك على عائلتك بعد أن رفض الناس من حولك الاستمرار في تمثيل دور العبيد لك
صاحت بعنف :- أنا لا أفعل هذا
قال بقسوة :- بل تفعلين .. وعندما شعرت بأن هناك من دخل حياتهما .. وأن علاقتهما بالعالم الخارجي لم تعد مقتصرة عليك .. جئت تدعين سوء نيتي وتحاولين إبعادي عنهما
صاحت بغضب يائس :- أنا أحميهما فحسب
قال :- مم تحمينهما بالضبط ؟ أنت بعدم ثقتك بالناس تخشين على عائلتك بأن تتعرض للخيانة وسوء المعاملة من الآخرين كما حصل معك أنت بالضبط .. ولكنك تنسين أو تتجاهلين حقيقة أنهما مختلفان عنك .. وأنهما تمتلكان ما يكفي من الرقة والانسانية لتكسبا ثقة الناس وصداقتهم .. بعكسك أنت التي كنت تعاملين الناس من حولهم وكأنهم قد خلقو لخدمتك .. فكان أن ثاروا عليك ورفضوك بعد سقوط الدرع الذي كان يحميك
منعت بصعوبة دموع الإهانة من تجاوز عينيها وهي تقول محاولة إخفاء ألمها :- أنا لا أنكر بأنني كنا كذلك .. ولكنني لم أقصد أن أسبب الألم لغيري
قال ساخرا :- بالتأكيد لم تقصدي هذا لأنك لم تفكري يوما إلا بنفسك .. حتى الآن وأنت تنتقلين من عمل وضيع إلى آخر تدعين بأنك تفعلين هذا لمساعدة عائلتك .. بينما الحقيقة هي أنك تفعلينه لأجل نفسك .. لتثبتي بأنك قادرة على تحمل المسؤولية .. وعلى الحياة كباقي البسر بدون ملعقة من الذهب في فمك
ما الذي دفعها لمواجهته .. لقد كانت تعرف مسبقا بأنها لن تقدر على هزيمته.. وأن لقائها به سينتهي بكارثة .. إنه الشخص الوحيد الذي لم تستطع يوما السيطرة عليه .. دائما كانت له شخصيته القوية وكبرياءه وكرهه لها ..
قال فجأة :- أهذه دماء ؟
نظرت إلى يدها وقد نسيت الجرح الذي تعرضت له أثناء تقطيع البصل .. لم تستطع قول كلمة خشية أن يظهر صوتها مشاعر الألم التي تكاد تخنقها .. اقترب ليمسك بيدها .. وينظر إلى الجرح الغائر قائلا بغضب :- أيتها الحمقاء .. كيف تتركين جرحا كهذا بدون عناية ؟
سحبها برفق وأجلسها على الأريكة قائلا :- انتظري هنا
دخل إلى المطبخ بينما تساءلت هي عما يبقيها هنا .. وكأن إهاناته لها قد جمدت عقلها كما جسدها .. عاد حاملا قطعة قماش نظيفة وزجاجة مطهر .. وجلس إلى جانبها وأخذ ينسح الدماء التي لطخت يدها بلطف .. أجفلت عندما أثارت لمسته ألما بسيطا فقال بصوت دافئ :- اهدئي .. يجب أن يتم تنظيف الجرح كي لا يتلوث
أربكها هذا التناقض في معاملته لها .. فتارة يهاجمها ويسترسل في إهانتها .. وتارة يعاملها برقة وحنان لم تصادف مثلهما من قبل .. كان قريبا منها للغاية مما أتاح لها فرصة تأمله جيدا دون أن يشعر إذ انهمك في لف يدها باللاصق الطبي .. كانت تقاطيع وجهه متناسقة ووسيمة .. عيناه الداكنتان كانتا واسعتان برموش سوداء كثيفة .. تطل منهما نظرة عميقة وغامضة تصعب إدراك الشخص الحقيقي خلفهما
فمه الحازم عادة أثناء إلقاءه للمحاضرات كان يبدو الأن أكثر جملا وقد انفرجت شفتاه الممتلئتان عن شبه ابتسامة وهو يحاول إلهائها عن الألم بكلمات لطيفة
ما الذي حدث لها ؟.. فكرت مذعورة بانها لم تنظر يوما إلى أب رجل بهذه الطريقة .. بالتأكيد الدكتور محمود كان شديد الوسامة .. وأي امرأة تقترب منه بهذا الشكل لابد أن تفقد صوابها بسبب الجاذبية الخطرة التي ينطق بها جسده القوي ..
تركزت عيناها على عنقه الذي كشفت عنه فتحة قميصه .. شعرت برغبة غريبة بأن تلمس تفاحة آدم التي توسطتها ..
هذه الرغبة المفاجئة جعلت وجهها يحمر .. فسحبت يدها من بين يديه وهي تقول بصوت أجش :- هذا يكفي
نظر إليها بدهشة وهي تنهض مبتعدة وتقول بعصبية :- أشكرك على اهتمامك .. وهو لن يمنعني من أن أؤكد لك بأنني ما زلت رافضة لتواجدك قريبا من عائلتي ..مهما كان تفسيرك لأسبابي
نهض بدوره قائلا بسخرية :- يؤسفني أن أقول بأنني لن أمتثل لأوامرك يا آنسة نانسي ... وأنني سأنتهز كل فرصة تقربني من عائلتك مهما كان كرهك لهذا شديدا
التقت عيناهما طويلا قبل أن تنسحب غاضبة .. كالعادة عندما يتواجدان معا تذوب شخصيتها تماما ما إن يتكلم .. صممت بغضب على ألا تسمح لهذا بأن يتكرر .. لن تسمح له بالسيطرة عليها .. عادت إلى البيت لتجد أمها في انتظارها .. ما إن رأتها حتى قالت بتوتر :- أين كنت ؟.. أصحيح أنك ذهبت لتتشاجري مع الدكتور محمود ؟
قالت نانسي وهي تنظر إلى حنان بغضب :- نعم
هزت أمها رأسها بيأس وهي تقول :- ولكن لماذا يا نانسي ؟ ..إنه لم يسئ إلينا لتهاجميه بهذه الطريقة .. لم تكوني يوما قليلة التهذيب في معاملة أي أحد .. فما المشكلة مع الدكتور محمود ؟
صاحت نانسي بحدة :- إنه لا يعجبني إطلاقا .. أكره تواجده الدائم في هذا البيت ومنحه كل هذه الثقة بدون حذر .. أنا أعرفه من قبل وأكثر من يستطيع الحكم عليه
ردت أمها :- هل السبب هو شجاركما في الكلية ؟ لقد أخبرني به الدكتور محمود .. وعرفت بأنك أنت من أخطأ بحقه .. وأنت من عليه التنازل لإصلاح ما أفسدته ..
كيف ستقنع أمها بأن الأمر يتجاوز شجارها الساذج معه ؟ قالت بحرارة :- إنه زير نساء معروف .. الكل في الكلية يتحدث عن علاقاته المتعددة .. وعدم أهليته للثقة
قالت أمها بريبة :- هل أنت واثقة مما تقولين ؟
لم تكن نانسي واثقة حقا مما تقول .. فهي لم تره من قبل برفقة أي امرأة .. كما لم يقترن اسمه يوما بأي اسم في الكلية .. الشائعات كانت تطول حياته خارج الجامعة .. حيث لا يعرف أحدهم الكثير عن حياته الخاصة .. ولكن من البديهي أن يكون لرجل بجاذبيته ووسامته ومكانته الاجتماعية جيشا من النساء يلاحقه أينما ذهب
قالت بثقة :- بالتأكيد
إلا أن أمها قالت بحدة :- هذا لا يشفع لك تصرفك المعيب معه .. فهو لم يكن إلا طيبا معنا
:- ولكن يا أمي ...
أطلقت أمها آهة وهي تمسك بعنقها .. وتمسدها محاولة تخفيف الألم الشديد .. مما جعل نانسي ترتعش قلقا وتنسى ما كانت تود قوله
أسرعت تسند أمها وتساعدها على الجلوس .. بينما فتحت تلك عينيها وهي تقول :- عديني بأنك ستحسنين التصرف معه
أطبقت نانسي شفتيها بقوة وقد عاد إليها عنادها القديم .. ثم قالت :- لا أعدك إلا بأنني سأحاول
ثم اندفعت إلى غرفتها .. وأقفلت الباب ورائها بإحكام




نسمات عطر 02-01-2017 05:57 PM

منقولة من منتدى غرام~ عندما تنحني الجبال~
 

الفصل الثامن





بين الحياة والموت




فكرت نانسي بأنها لن تعود صباح الغد إلى وظيفتها الجديدة التي استلمتها اليوم كموظفة استقبال في عيادة طبيب أسنان
..
العيادة كانت صغيرة و عفنة الرائحة .. وغير مناسبة إطلاقا كعيادة طبيب .. أما الطبيب نفسه فقد كان رجلا سمينا أصلع الرأس صاحب نظرات وقحة كادت تقتلها غيظا
خرج آخر مريض في تمام الساعة السابعة .. فاستعدت للمغادرة عندما خرج الطبيب من الغرفة الداخلية ورآها ترتدي معطفها .. فقال لها :- أتذهبين بهذه السرعة ؟
قالت باقتضاب :- يجب أن أعود إلى البيت قبل أن يتأخر الوقت أكثر
منحها ابتسامة صفراء وهو يقول :- أرجو أن يكون عملك هنا قد راقك
كان بإمكانها الخروج بصمت دون اخباره بعدم عودتها ثانية .. ولكنها لم تستطع مقاومة إغراء رؤية ابتسامته السمجة تختفي .. قالت بهدوء :- للأسف .. اكتشفت بأنني لا أحبذ التأخر كثيرا في المساء .. أنا متأكدة بأنك ستجد موظفة أكثر ملاءمة للعمل هنا
كما توقعت .. اختفت ابتسامته وهو يقول بحدة :- ما الذي يعنيه هذا ؟ هل كنت تتسلين إذن بقضاء يومك هنا
:- أنا لم أتسلى .. لقد بذلت جهدي في القيام بكل ماهو مترتب علي .. ولم يناسبني العمل بكل بساطة
:- حسنا .. لم تقومي بكل شيء تماما
وقف أمامها مانعا إياها من الوصول إلى الباب وقد علت عينيه الخبيثتين نظرة أثارت الخوف في نفسها .. ولكنها لم تظهر خوفها وهي تقول من بين أسنانها :- ابتعد عن طريقي وإلا صرخت وجمعت كل سكان المنطقة
أمسكها فجأة وجذبها إليه وهو يقول :- لم لا تحاولين ؟
قبل أن تطلق نانسي صرختها تركها فجأة واندفع جسده بعيدا حتى اصطدم بالجدار .. رمشت بعينيها عدة مرات غير مصدقة لوجود محمود الذي أمسك بتلابيب ثياب الرجل .. ولكمه بعنف حتى أدمى فمه وأنفه
استدار نحوها وقد ظهر الشر في عينيه الغاضبتين .. وأمسك يذارعها قائلا بغضب :- تحركي أمامي
لم تقاومه عندما دفعها إلى خارج المكان .. ثم أدخلها إلى سيارته بينما هي ذاهلة تماما مما حدث .. وفور أن تحركت السيارة صرخ بها :- أيتها الحمقاء المجنونة .. لم لا تتوقفين عن زج نفسك في المشاكل ؟
قالت متوترة :- لم أجد وظيفة أخرى .. كما أنني لم أعرف أي رجل خسيس هو الطبيب
:- طبعا لأنك لم تتعبي نفسك بالسؤال عنه قبل تورطك في العمل لديه .. لكنت عرفت بسهولة أي سمعة وسخة لهذا الرجل في المنطقة
قالت باضطراب :- هل .. هل تعرفه ؟
ضرب المقود بقبضته بقوة وهو يقول :- طبعا لا أعرفه .. ولكنني سألت عنه فور أن أخبرتني والدتك عنه .. لقد قدرت وحدي بأنك لن تتحلي بالذكاء الكافي لتفعلي هذا بنفسك
تمتمت :- أهذا ما جاء بك إلى العيادة ؟
كاد يفقد أعصابه وهو يقول :- ما الذي تتوقعينه ؟. أنا أتصل بهاتفك المحمول منذ ساعات دون فائدة فجئت بنفسي.. ما الذي كان ليحصل لو أنني تأخرت قليلا
قالت بعصبية :- كنت تمكنت من الدفاع عن نفسي بدون مساعدتك
كانت ممتنة حقا لوصوله المفاجئ .. فهي لم تعرف من قبل هذا الإحساس بالحماية من قبل رجل منذ وفاة والدها .. ولكنها أبت أن تسمح له بالتعالي عليها أكثر
أوقف السيارة إلى جانب الطريق .. والتفت نحوها قائلا من بين أسنانه :- لا تختبري صبري يا نانسي .. قد تمتلكين لسانا لاذعا وطويلا .. ونظرة قادرة على تجميد بركان .. ولكنك لا تمتلكين القوة على رد هجوم رجل مصمم
أخفضت عينيها رافضة تلقي نظراته القاسية .. انه محق .. أليس كذلك ؟ لم تستطع سابقا رد هجوم جابر.. وما كانت لتتمكن من صد الطبيب المقرف .. تمتمت مرغمة :- أنا آسفة
زفر بقوة محاولا استعادة هدوءه ثم قال :- لماذا تصرين على القيام بهذه الأعمال القذرة يا نانسي ؟ أنت تعرفين بأنها لا تقدم ولا تؤخر .. ما الذي تحاولين إثباته ؟
قالت بعناد :- لا يحق لك سؤالي وكأنك ولي أمري .. أنا مسؤولة عن تصرفاتي ولن آخذ إذنك حتى أمتهن أي مهنة
قال بصرامة :- بل يحق لي بعد أن أنقذتك من موقف تحسدين عليه .. ما الذي تأملينه من استمرارك في التنقل من عمل إلى آخر ؟..
لم تمنحه جوابا .. فأصر قائلا :- انظري إلي يا نانسي وأخبريني .. من تحاولين معاقبته بأفعالك هذه
قالت فجأة بانفعال :- أنا لا أعاقب أحدا .. أنا أعاقب نفسي فحسب
عقد حاجبيه وانتظر توضيحها وقد ظهر عليه التوتر .. فأكملت :- لطالما كنت أنا الفتاة الثرية المدللة كما تقول .. لقد تصرفت بشكل سيء طوال حياتي وأخطأت في حق الكثير من الناس .. وأنا أشعر بأن أقل ما علي فعله هو أن أكافح وأعيش حياتي مثلهم لأكفر عن أخطائي
ساد صمت طويل قبل أن يقول بهدوء :- أنت لا تستحقين حتى أن تعيشي مثلهم ما دمت تعتقدين بأن هذا عقاب
نظر غليها مكملا :- إن أردت التكفير عن أخطاءك .. فذلك لن يكون بتحميل نفسك فوق طاقتها
أمسك يدها مما جعلها تنتقض مجفلة .. قال :- هاتان اليدان غير قادرتين على القيام بعمل خشن .. انظري إليهما .. إنهما ناعمتان .. وطريتان .. اعتادتا على العزف على البيانو .. ارتداء الخواتم الثمينة .. من الظلم ان ترهقيهما بأعمال لم تخلق لهما
أفلت يدها قائلا :- ما عليك فعله هو الإحساس مثل باقي الناس .. لأنك لن تستفيدي شيئا إن عشت حياتهم واحتفظت بروحك القديمة .. روح الفتاة الثرية والمتكبرة والتي لا تهتم إلا بنفسها
قطع كلامه عندما ارتفع رنين هاتفه المحمول .. فرد عليه وأخذ يتحدث بجدية إلى الطرف الآخر .. كانت هي تفكر بكلامه .. إنه محق .. أليس كذلك ؟ ولكنه مخطئ في ظنه بأنها لا تهتم لأحد .. بل هي تهتم بأمها .. ولينا .. وحنان التي ترعرعت معها .. لن تسمح لكلامه المدمر أن يذيب كبريائها
كانت تستمع إليه وهو يتحدث عبر الهاتف ويعطي بعض التعليمات بصوت حازم وقوي ذكرها بصوته في المحاضرات التي كانت تحضرها له .. تساءلت وهي تشعر برنين السلطة في صوته عما يفعله خارج أسوار الجامعة .. أنهى مكالمته .. وبدون أي كلمة .. أكمل طريقه موصلا إياها .. عندما وصلا .. ترجل معها من السيارة فقالت له بخفوت :- شكرا لك لأنك ساعدتني في العيادة .. وعلى توصيلك لي
قال بهدوء :- إن كان هذا الشكر الغير متوقع محاولة منك لصرفي فهي لن تنجح .. وعدت والدتك بالمرور والاطمئنان عليها .
أطبقت فمها الرقيق بغضب وهي تتجه نحو الباب .. وقبل أن تلمس الجرس .. سمعت صرخة أمها .. تلتها صرخة لينا المذعورة .. انتفضت نانسي وهي تحاول إدخال المفتاح في القفل بيد مرتعشة ..حتى تناوله منها الدكتور محمود وفتح الباب بيد ثابتة .. اندفعت إلى الداخل لتجد والدتها مكومة على الأرض فاقدة الوعي .. ولينا وحنان تجثوان حولها بجزع .. أسرع محمود يحملها ويمددها على الأريكة .. بينما أوضحت حنان ما حصل باضطراب :- لقد أصابتها نوبة صداع قوية للغاية .. ثم سقطت مغشيا عليها
أخذت نانسي تربت على وجنة امها وهي تخاطبها بصوت مرتعش :- أمي .. ردي علي أرجوك
شعرت بيد محمود تمسك كتفها بقوة وهو يقول :- نانسي .. خذي مفتاح السيارة واسبقينا إلى هناك .. حنان .. أحضري بطانية لنبقي السيدة دافئة
أخذت نانسي المفاتيح .. أسرعت تمتثل لأوامره دون نقاش .. فقد أدركت بأن محمود هو الشخص الوحيد الذي يمكنهن الاعتماد عليه في ظرف كهذا وقد أصبن جميعا بالذهول والذعر ..
في المستوصف الصغير للمدينة .. كان رأي الطبيب هو نقل السيدة فورا إلى أقرب محافظة رئيسية حيث المستشفيات أكثر استعدادا لمثل حالتها .. القلق على وجهه وهو يفحص والدتها جعل نانسي تكاد تجن من الخوف على والدتها .. التي كانت خلال ساعات ترقد داخل أحد أهم المستشفيات في البلاد وقد تم نقلها بواسطة سيارة إسعاف رافقتها نانسي أثناء الرحلة .. بينما لحق بها محمود بسيارته .. آمرا حنان بالبقاء مع لينا وتوضيب أغراضهن استعدادا للحاق بهم فور وصول من يأخذهم
أخذت نانسي تسير في غرفة الانتظار دون توقف .. بينما يقف محمود مستندا إلى الجدار وقد عقد ساعديه أمام صدره دون أن يتفوه بحرف واحد
خرج إليهما الطبيب فأسرعت إليه نانسي تسأله بقلق :- ما الأمر يا دكتور ؟
كان عابس الوجه مما جعل قلبها يخفق بعنف قلقا .. :- نتيجة الصور واضحة .. السيدة مصابة بنزيف حاد ومفاجئ في المخ
كادت تفقد الوعي لو لم يمسك بها محمود بشدة ويخاطب الطبيب :- هل أنت متأكد يا دكتور ؟
:- للأسف .. لو أن الأمر قد استدرك باكرا لكان من الممكن تداركه .. وعلاج المشكلة قبل أن ينفجر الشريان ويتم النزيف. وتدخل في الغيبوبة .. لقد أخبرتني بأن والدتك كانت تعاني من الصداع .. أليس كذلك ؟
أجاب محمود عنها فقد كانت ذاهلة تماما:- هذا صحيح ..
:- كان يجب أن تلجأ فورا إلى الطبيب و....
بالكاد تمكنت نانسي من فهم كلمات الطبيب .. هل هو خطأها .. هل كان عليها أن تصر على أمها في زيارة الطبيب منذ أول نوبة صداع ؟ .. قالت بصوت خافت :- هل ستموت ؟
ارتبك الطبيب وقال :- حالتها متقدمة للغاية .. أي تدخل جراحي لن يكون مضمون النتائج
قال محمود بحزم :- أي شيء أفضل بكثير من مشاهدتها تعاني دون أي تدخل .. متى يمكن إجراء العملية ؟
:- فور وصول جراح الأعصاب ..
أجلسها محمود على أحد المقاعد .. وتابع حديثه مع الطبيب في الوقت الذي سالت فيه دموعها غزيرة .. عاد محمود يجلس إلى جوارها قائلا :- سوف تبقى أمك هنا في المستشفى تحت إشراف الأطباء .. الطبيب سيصل غادا وستتم العملية في الصباح الذي يليه .. في هذه الأثناء .. لقد استأجرت لكن شقة صغيرة في حي قريب من المستشفى ..ستمكثن فيها خلال الفترة القادمة
تمتمت بين دموعها :- ما كان عليك إزعاج نفسك .. نستطيع تدبر أمرنا
قال بهدوء :- لست في حالة تؤهلك لتحمل المسؤولية كاملة يا نانسي .. اسمحي لي بالوقوف إلى جانبك هذه المرة مهما كان الأمر كريها بالنسبة إليك
راقبته ينهض مبتعدا ليجيب عن إحدى مكالماته الهاتفية .. كيف تمكن من إيجاد شقة لهن بهذه السرعة ؟ .. قدرت بأنه يمتلك الكثير من النفوذ والسلطة ليحصل على ما يريد في وقت قصير ..
كانت تعلم بأنه هو من تكفل بمصاريف المستشفى .. أثار هذا حفيظتها .. ولكنها لا تملك إلا أن تقبل عطائه في وقت لن يحتمل منها أي تكبر أو كبرياء .. فحياة أمها على المحك
أمها الحبيبة الرقيقة .. التي لم تذنب في حياتها إلا في حب رجل لا يستحقها .. رجل مات تاركا إياها لتلملم بقايا عاره .. وكان الحمل ثقيلا على كيانها الضعيف .. حتى فتك بها ..
وصلت حنان مع لينا .. ولم تتساءل نانسي عن طريقة وصولهما .. فقط عانقت أختها الصغرى التي عرفت من النظر إلى وجه نانسي مدى صعوبة الوضع .. فأجهشت بالبكاء حتى قبل أن تعرف التفاصيل .. وعندما رأت محمود .. أسرعت إليه ترمي نفسها في صدره وتبكي هاتفة :- دكتور محمود .. هل ستكون أمي بخير ؟ .. هل ستموت ؟
ربت على شعرها الأشقر بحنان قائلا :- أمك ستكون بخير يا لينا
رفع رأسه إلى نانسي الشاحبة الوجه وقال :- نانسي .. سآخذكن لترتحن قليلا في الشقة
ردت نانسي :- لن أتحرك من هنا
أسرعت حنان تقول :- اذهبي يا نانسي .. أنا سأبقى برفقة السيدة مريم .. وإن طرأ أي جديد سأتصل بك على الفور
استسلمت في النهاية لتعب أعصابها و جسدها .. واستجابت لإلحاحهما .. وجدت نفسها بعد فترة تدخل إلى شقة صغيرة برفقة لينا ومحمود .. لينا كانت تبكي بحرارة .. فجلس محمود إلى جانبها فوق الأريكة محاولا تهدئتها .. بينما دخلت نانسي إلى غرفة النوم المحتوية على سريرين صغيرين .. وأغلقت الباب ورائها .. نظرت إلى نفسها في المرآة .. إلى وجهها الشاحب .. وتساءلت :- ما الذي علي فعله ؟ .. كيف سأتدبر تكاليف العملية وأنا لا أملك قرشا
الحقائب المحشوة بأغراضها كانت على الأرض إلى جوار السرير .. لم تتساءل عن كيفية وصولها .. انحنت لتخرج من إحداها صورة والدها .. ونظرت إليها طويلا .. سالت دموعها بغزارة .. ما كانت لتحقد عليه لو اقتصرت نتائج أفعاله على تشردهم واحتقار الناس لهم .. ولكن أن تمتد إلى صحة والدتها .. لماذا هي بالذات ؟ لماذا ؟
قذفت الصورة بكل قوتها على المرآة الكبيرة فكسرتها .. فتح محمود الباب ليجدها تلقي بالأشياء من حولها في كل مكان وكأنها تفرغ غضبها الكامن داخلها
أمسك بها من الخلف فقاومته بشراسة .. ولكنه ضمها إلى صدره بقوة وقد كبل حركتها بذراعيه وهو يقول :- إهدئي يا نانسي .. غضبك هذا لن ينفع أحدا
انهارت مقاومتها وهي تبكي بمرارة قائلة :- لماذا هي ؟ إنها لا تستحق أن تموت
أدارها إليه وهو يقول بحزم :- أمك لن تموت يا نانسي ..
أخذت تبكي على صدره فقادها برفق إلى السرير قائلا :- تمددي وخذي قسطا من الراحة .. وغدا سوف نتكلم في الموضوع
عجبت من نفسها كيف أطاعته وتمددت .. وتركته يغطيها بإحكام .. أطفأ النور وغادر الغرفة .. فلم يطل بها الوقت حتى استسلمت لإرهاقها وغابت في نوم عميق


نسمات عطر 02-01-2017 06:02 PM

الفصل التاسع



حصار


خرجت نانسي من غرفة أمها غير قادرة على التقاط أنفاسها .. لا تستطيع تأمل وجهها الشاحب والنائم بسلام أكثر وهي تتساءل إن كانت ستصحو يوما أم لا
سمعت صوت محمود يقول بهدوء :- صباح الخير
استدارت إليه وهي ترد باضطراب :- صباح النور
لم تستطع النظر في عينيه مباشرة .. فما حدث بالأمس جعلها اليوم في قمة الحرج .. ما الذي أصابها كي تتصرف أمامه بذلك الشكل المجنون ؟
سألها :- أين لينا ؟
:- أرسلتها إلى الشقة مع حنان .. لقد كانت مرهقة ولم تتوقف لحظة عن البكاء
أومأ برأسه وهو يقول :- أيمكن أن نتحدث في الخارج لبضع دقائق .؟
ألقت نظرة على باب الغرفة حيث ترقد أمها .. ثم سارت معه .. وجدته يقودها إلى خارج المشفى .. إلى الحديقة الغناء المحيطة بها .. شعرت بالبرد الشديد فندمت لعدم إحضارها لمعطفها .. نظرت إليه قائلة :- ما الذي رغبت بمحادثتي به ؟
:-
عن والدتك بالطبع .. وعن العملية التي ستقوم بها صباح الغد .. يجب أن تعرفي بأنني سأتكفل بجميع المصاريف حتى خروج أمك من المستشفى معافاة
احمر وجهها حرجا وهي تقول :- لست مضطرا لهذا .. كنت لأستطيع تدبر أمري وحدي
عقد ساعديه أمام صدره قائلا :- حقا يا نانسي ؟ وكيف كنت لتفعلي هذا ؟ لقد سبق وأوضحت لي والدتك حالتكم الصعبة .. وأنت لا تملكين ما يكفي لتكاليف ليلة في هذا المكان .. فكيف بعملية باهظة كالتي تحتاج إليها أمك ؟
برقت عيناها الخضراوان بغضب وهي تقول من بين أسنانها :- تبدو مستمتعا للغاية بسرد الوقائع علي .. هل يمنحك التسلط على الآخرين والسيطرة على حياتهم متعة مرضية ؟
اقترب منها .. ونظر إلى عينيها قائلا بهدوء :- لو كنت مكانك يا نانسي لتأدبت وأنا أخاطب الرجل الذي يمسك بمصير والدتك بيده .. كما أنني لا أنتظر إذنك .. فأنا لن أقف مكتوف اليدين وأنا أرى والدتك تموت فقط بسبب كبريائك السخيفة
قالت بحدة :- ما الذي أردت قوله لي إذن مادام رأيي لا يمثل أي قيمة لك ؟
:- يجب أن نتحدث بوضعك أنت وعائلتك بعد خروج والدتك من المستشفى .. ستكون بحاجة إلى عناية خاصة .. كما أن لينا لا يمكن أن تحتمل الحياة القاسية التي كنتن تعشنها في ذلك المكان القذر البارد على الشاطئ ..
هزت رأسها قائلة بتوتر :- ما الذي تقترحه إذن ؟
قال بهدوء :- ستنتقلون للعيش في منزلي .. ستجد أمك العناية اللازمة .. ولينا ستحظى بالحماية ..
قالت بعنف : هذا لن يحدث أبدا .. سبق وأخبرتك بأننا لا نحتاج إلى إحسانك .. يكفيني ما سأدين لك بسبب مصاريف العملية .. وأنا أؤكد بأنني سأرد لك كل قرش ستدفعه .. ولكنني أرفض بأن أكون مدينة لك بالمزيد
:- المرأة لا تكون مدينة لزوجها عندما ينفق عليها ويراعي عائلتها
ساد الصمت طويلا .. لم يتخلله سوى صدى صيحات طفل ضاحك قادم من بعيد.. وهدير الحمامات الشاهدة على الموقف من فوق الأشجار العارية .. نانسي كانت تحدق به جامدة .. وكأنها تعجز عن فهم ما يقوله .. ولكنها قالت في النهاية بصوت أجش :- أنا لن أتزوج بك
قال بهدوء كمن يخاطب طفلا صغيرا .:-. ستفعلين يا نانسي .. أنت لا تملكين خيارا آخر .. وبسبب معرفتي برجاحة عقلك ..فأنت ستدركين وحدك مدى الفائدة التي ستعود عليك من هذا الزواج
حاولت إخفاء ذهولها من طلبه العجيب .. وتمالكت أعصابها أمام لهجته الواثقة المستفزة .. تمتمت :- أنا لا أصدق بأنك حقا تطلب الزواج مني ؟
قال ببرود :- أنا لا أطلب يا نانسي .. أنا أعرض عليك حلا لمشكلتك .. حلا مناسبا يرضي جميع الأطراف
قالت محاولة التظاهر بالهدوء :- لقد عرفت أنا مكسبي من زواج مماثل .. أنت ستدفع نفقات علاج والدتي .. وترعى شؤوننا بعد ذلك كأي رب أسرة صالح .. ولكن لماذا قد ترغب أنت بالزواج من فتاة تكرهها ؟
قال بهدوء :- أكره غرورك .. وأحتقر طباعك .. ولكنني قطعا لا أكرهك .. سأتزوجك لأجل الأسباب المعتادة التي تدفع أي رجل للزواج .. تكوين أسرة .. وإنجاب أطفال .. أنا لم أعد شابا في مقتبل العمر .. وقد حان الوقت لأفكر بهذه الأمور
هزت رأسها غير قادرة على التفكير .. الزواج من الدكتور محمود كان آخر ما فكرت يوما بالقيام به .. سألته بارتباك :- ولكن لماذا أنا بالذات ؟ تستطيع الزواج بأي فتاة تناسبك أكثر .. لا تكون مكبلة بعائلة ومذللة بعار والد ميت
قال بصرامة :- أقدر لك لو توقفت عن الحديث عن نفسك بهذه الطريقة .. اختياري قد وقع عليك لأسباب كثيرة فكرت بها جيدا في الآونة الأخيرة .. فأنت جميلة .. أنيقة .. تجيدين التصرف بشكل جيد أمام الناس مما يناسب مكانتي الاجتماعية ..كما أنك فتاة قوية ومكافحة .. وهذه المواصفات هي ما أحب أن يمتلكها أبنائي مستقبلا
شعرت بالحنق لطريقة كلامه وكأنه يشتري فرس استيلاد مناسبة .. ولكنها شهقت فجأة عندما اقترب منها ونظر إليها بطرقة جعلت جسدها ينتفض ذعرا وهو يقول بصوت عميق :- لقد اخترتك يا نانسي لأنني أريدك بالتأكيد .. يعجبني غلافك الخارجي الجميل .. ومن الطبيعي أن أرغب بك .. وليس من وسيلة لحصولي عليك إلا الزواج .. إلا إن كان لديك اقتراح آخر
تراجعت وهي ترتعش وقد أخافتها كلماته ونظراته الغير مألوفة .. عرفت يقينا بأن هذا هو السبب الرئيسي الذي يدفع الدكتور محمود للزواج منها .. فالفتيات الجميلات الأنيقات المناسبات للإنجاب موجودات بكثرة
كانت هذه المرة الأولى التي تلمح فيها الرغبة الخالصة في نظراته .. عادة كان ينظر إليها بصرامته المعهودة وازدراءه كلما أحب أن يشعرها يصغرها وتفاهتها .. لم تعرف لماذا أخافتها معرفتها بمشاعره .. فهذه لم تكن المرة الأولى التي تلتهمها فيها نظرات رجل ..
اما هذه المرة .. فقد تغلغلت نظراته التي شملت جسدها الضئيل المغطى بالملابس الدافئة إلى أعماقها .. وجعلتها ترتعش رفضا ونفورا .. تمتمت بصعوبة :- لماذا تظن بأنني قد أرغب في الزواج منك .. أنت تعرف تماما بأنك لا تعجبني حتى
قال ساخرا :- لا تقولي لي بأنك كنت تنتظرين زواج حب لأنني لن أصدقك .. فتاة مثلك لن تتزوج إلا برجل يناسب مستواها الاجتماعي – السابق طبعا – رجل ثري يستطيع أن يعيد إليك مجدك الذي ضاع .. فأنا متأكد تماما بأنك ما كنت يوما لتتزوجي بماهر
قالت بتوتر :- طبعا لن أتزوج ماهر .. فهو ..
أرادت أن تقول بأنه مجرد صديق إلا أن محمود قاطعها قائلا :- طبعا لأنه لن يستطيع منحك الحياة المرفهة التي تنشدينها .. كما أنك فعلا لست مخيرة الآن .. فبرقبتك عائلة في انتظار عنايتك بها .. أم أنك ستضحين بصحة والدتك .. ومستقبل لينا فقط لأنني لا أروق لك
احمر وجهها بغضب وقد حاصرها بالواقع المر وقالت :- لا أصدق بأنك تستعمل عائلتي للضغط علي
قال ببرود :- أنا لا أضغط عليك يا نانسي .. لديك ساعات قليلة للتفكير في الموضوع .. وأنا أنتظر ردك هذا المساء
استدار مبتعدا تاركا إياها وحدها .. ترتعش من البرودة الشديدة التي أحست بها فجأة .. جلست على المقعد الخشبي القريب .. وحاولت التفكير بالحديث الذي دار بينهما قبل لحظات .. لا تستطيع فعلا أن تصدق بأن الدكتور محمود قد عرض عليها الزواج به لتتخلص من مشاكلها .. أيظنها مادية إلى هذا الحد ؟
إنه يعرف بأنها لا تملك خيارا آخر .. خاصة وأنه سيتكفل بمصاريف العلاج مهما كان ردها .. هي حقا لا تعرف شخصا آخر ليساعدها في حل مشاكلها .. حتى ماهر أعز أصدقائها لن يتمكن من مد يد المساعدة لها .. فوالده توفي منذ سنوات .. وهو المسؤول عن أمه وأختيه .. ومصدر دخلهم الذي تركه والده بالكاد يغطي احتياجاتهم .. حتى أن ماهر يعمل بدوام جزئي كي يغطي مصاريفه الشخصية .. ماذا عليها أن تفعل إذن .. هل ترفض عرض محمود وتشاهد أمها ولينا تعانيان مجددا من الحياة البائسة .. هل تحرمهما من الفرصة الأخيرة لحياة كريمة في ظل حماية رجل كمحمود
هو يخيفها نعم .. ولكنه كان دائما شخصا جديرا بالثقة مع والدتها ولينا .. وبغض النظر عما يثيره بها من شعرور بعدم الارتياح ..بالخوف من نظراته وطريقة كلامه معها .. من الرعشة التي تصيبها كلما لمسها .. فعرضه مغري للغاية
أخفت وجهها بين يديها المرتعشتين .. ثم نهضت عائدة إلى المستشفى .. يجب أن تتخذ قرارها بأسرع وقت ممكن .. فليس لديها الوقت لتضيعه كباقي الفتيات .. فهي لم تكن يوما مثل أي فتاة

بعد ساعات قالت مخاطبة حنان .. هل أنت متأكدة من الرقم ؟
ردت عليها حنان :- بالطبع .. لقد أعطاني رقم الهاتف هذا كي أتصل به في حال حدث أي طارئ
حسمت نانسي أمرها وطلبت الرقم بأصابع مرتعشة .. رفعت هاتفها إلى أذنها وانتظرت للحظات حتى أتاها صوته الحازم :- نانسي
لم تستغرب معرفته لها .. فهو يحتفظ برقم هاتفها وكأنه كان في انتظار اتصالها .. أخذت نفسا عميقا وهي تقول :- لقد اتخذت قراري يا دكتور محمود .. وأظننا بحاجة للتحدث في التفاصيل
ساد الصمت للحظات قبل أن يقول :- سأصل إلى المستشفى خلال دقائق
أنهى المكالمة فزفرت نانسي بقوة .. والتفتت نحو حنان قائلة :- لا أدري إن كان قراري صحيحا أم خاطئا يا حنان .. أخشى أن أكون قد ارتكبت خطأ كبيرا
أسرعت حنان تقول بحماس :- الدكتور محمود رجل رائع .. إنه وسيم ومثقف ومهذب .. أي فتاة تتمنى الزواج به .. أنا متأكدة بأنه سيحميك ويهتم بك جيدا
تمتمت نانسي متوترة ك- ولكنني خائفة يا حنان .. هناك شيء في الدكتور محمود يخيفني .. إنه إحساس غريب بأنه يخفي شيئا .. أنا فعليا لا أعرف أي شيء عنه
لم تكن حنان تمتلك ردا على مخاوف نانسي فالتزمت بالصمت
بعد نصف ساعة .. خرجت من الزيارة القصيرة التي سمح بها الطبيب لغرفة أمها وهي تشعر بالاختناق .. ألقت نفسها على أول مقعد تراه غير قادرة على محاربة الأفكار السوداوية التي لا تنفك تهاجمها .. رأت محمود يجلس برفقة لينا في الواوية يتحدث غليها برفق وهو يعرض عليها كتاب ما ... بينما ظهرت البهجة على لينا .. لانت ملامح نانسي .. على الأقل استطاع الترويح عن لينا قليلا .. شعر بوجودها فرفع إليها عينيه ملقيا عليها نظرة طويلة لم تفهمها .. اعتذر من لينا واقترب منها قائلا :- كيف هي والدتك ؟
قالت متوترة :- على حالها كما تعلم
نظرت إلى لينا قائلة :- تبدو لينا سعيدة
ابتسم قائلا :- أحضرت لها كتابا عن أشهر رسامي عصر النهضة
غمغمت :- أشكرك لأنك لطيف معها
نظر حوله قبل أن يقول بنفاذ صبر :- أين ترغبين بأن نتحدث ؟
أدهشها توتره .. فقالت :- سأدعوك إلى فنجان قهوة في الكافيتيريا
هز رأسه موافقا .. وسار معها إلى الكافيتريا الواقعة في الطابق الأول من المشفى .. جلست أمامه تنتظر أن تجد كلمة تبدأ فيها الحديث .. كانت دون وعي منها تفرك يديها فوق الطاولة الصغيرة مفصحة عن توترها .. غير شاعرة بنظراته تلاحقها وتلاحظ أدق تفاصيل اضطرابها .. أجفلت عندما أمسك بيدها قائلا بهدوء :- ما من داعي لكل هذا التوتر يا نانسي.. الأمر أسهل مما تتخيلين
سحبت يدها بسرعة قائلة :- أشك بهذا
قال بهدوء :- لم أتوقع أن أحصل على ردك سريعا بهذا الشكل
قالت بجفاف :- لقد كنت مقنعا للغاية .. فلم تأجيل المحتوم
هز رأسه موافقا قبل أن يقول :- حسنا .. ما الذي أردت الاستفسار عنه
قالت بحزم :- أريد أن أعرف ما ينتظر عائلتي بالضبط
قال بجدية :- ما إن تتماثل أمك للشفاء حتى تنتقل هي ولينا للعيش في منزلي .. وحنان أيضا ستجد هناك عملا بأجر محترم .. أمك ستكون بمثابة والدة لي .. وسيدة للبيت إن شاءت .. لينا سوف يتوفر لها الأمان اللازم وسوف تعود لمتابعة الدراسة في اي مكان تطلبه .. وستكون أختا صغرى لي ولن ينقصها أو ينقص أي أحد من عائلتك شيئا ماديا أو معنويا
عجزت عن التعليق أمام سخاءه .. فتمتمت :- أريد أن أعرف المزيد عنك .. فأنا أجهل عنك الكثير
قال بهدوء :- تعرفين اسمي كاملا وعملي في الكلية يا نانسي .. غير هذا فقد ورثت أعمالا مختلفة عن والدي الذي توفي مع والدتي في حادث قبل سنوات طويلة .. تولى عمي العناية بي بعدها رغم بلوغي الثامنة عشرة .. فقد ساعدني على اكمال دراستي في حين استلم هو جميع مصالح أبي حتى أصبحت قادرا على تحمل مسؤوليتها بنفسي .. هل تريدين معرفة المزيد ؟
قالت بجفاف :- أريد أن أعرف إلى متى سيستمر زواجنا
برقت عيناه بغضب .. مال رأسه نحوها وهو يقول ببرود :- عندما أتزوج .. فأنا أتوقع أن يدوم هذا الزواج .. أنا لا أتسلى يا نانسي
احمر وجهها بحرج وهي تنظر بعيدا عنه .. إلا أنه مد يده عبر الطاولة وأمسك بذقنها ليجبرها على النظر إليه قائلا :- انظري إلي جيدا يا نانسي عندما أكلمك .. فأنا أيضا لدي شروط عليك معرفتها .. بعد زواجنا ستعودين فورا لمتابعة دراستك من حيث توقفت
حاولت أن تتحداه بنظرتها العنيدة .. ولكن القوة في عينيه اكتسحتها وتركتها عاجزة عن قول أي شيء عندما قال بقسوة :- كما أنني أتوقع منك تلبية كل رغباتي يا نانسي ..أتفهمين ؟
تركزت نظراته على شفتيها مما جعلها ترتعش وتبتعد عن أصابعه القاسية .. اعتدل في جلسته قائلا بجفاف :-
سآخذ أوراقك الشخصية كي يتم الزواج في بداية الأسبوع القادم .. غدا صباحا سوف تجرى العملية للسيدة مريم .. وأريد أن تختفي جميع مخاوفها فور صحوتها من التخدير ومعرفتها بزواجنا
استأذن منها وغادر بعد أن ألقى ثمن القهوة على الطاولة أمامها .. شعرت بالغضب الشديد من غطرسته وتعاليه عليها .. ثم أكدت لنفسها بأن محمود فاضل لا يهمها .. ما يهمها هو شفاء والدتها .. وتوفير الأمان للينا
وهي مستعدة لدفع أي ثمن لتحقيق هذا .. إلا أنها لم تستطع منع رجفة الخوف التي اجتاحتها وهي تتخيل الثمن الذي ستضطر لدفعه

نسمات عطر 02-01-2017 06:03 PM

الفصل العاشر


لن تملكني


صباح اليوم التالي ادخلت السيدة مريم إلى غرفة العمليات .. لم تتوقف نانسي عن السير في الخارج ذهابا وإيابا بقلق وتوتر .. بينما كان وجه لينا شاحبا وهي تطلق نشيجا بين لحظة وأخرى .. حتى فقدت نانسي اعصابها قاستدارت نحوها وهي تصيح بانفعال :- توقفي عن البكاء يا لينا
إلا ان قولها هذا جعل لينا تزداد بكاءا .. فابتعدت نانسي محاولة ألا تتصرف بتهور ..
وقفت بعيدا تحاول استجماع قوتها الضائعة .. وتركت دموعها تسيل في غياب الشهود .. شعرت بحاجة كبيرة لوجود محمود .. فقد اعتادت على ان يكون هو الجدار الذي يستندون إليه في هذه المحنة .. يا إلهي .. هاهي تبدأ بالتفكير كالخطيبة المشتاقة لوجود خطيبها
سمعت صوتا مألوفا يصيح بدهشة :- نانسي !!
استدارت نحو ماهر الذي قطع المسافات إليها فمسحت دموعها وهي تقول بارتياح لرؤيته :- ماهر .. ما الذي تفعله هنا ؟
:- أجرت خالتي عملية مرارة منذ يومين .. وقد قدمت لزيارتها ..
نظر إليها بعتاب قائلا :- لقد اختفيت فجأة يا نانسي دون أن تتركي أثرا .. لقد قلقت عليك حتى كدت أفقد عقلي
تمتمت :- أنا آسفة يا ماهر .. كنت مضطرة للرحيل فجأة
قال بقلق :- لا بأس .. أنا متأكد بأنك امتلكت الأسباب الكافية للرحيل .. ولكن .. ماالذي تفعلينه هنا ؟ هل أنت بخير ؟
قالت بشحوب :- إنها أمي يا ماهر .. تجري عملية خطرة في هذه اللحظة قد لا تنجو منها
ذعر وهو يمسك يدها بقوة :- يا إلهي .. لماذا لم تخبريني بهذا كي أقف إلى جانبك في محنتك ؟
أتاهما صوت صارم يقول :- صباح الخير
استدارت نانسي لتجد محمود وقد كسا وجهه الوجوم وهو يحدق بأيديهما المتشابكة .. فأفلتت يدها بسرعة بينما قال ماهر :- صباح الخير يا دكتور محمود .. إنها صدفة جميلة أن نلتقي
رد محمود بجفاف :- بالفعل
ثم نظر إلى نانسي قائلا :- كيف هي أمك الآن يا نانسي ؟ هل من أخبار ؟
قالت متوترة :- لا أخبار حتى الآن
قال :- لم أستطع الحضور قبل الآن .. لقد شغلني طارئ ما
عقد ماهر حاجبيه وهو يراقب ما يحدث .. ثم قال بحذر :- أرى أن الدكتور محمود على علم بكل شيء .. لم أعلم بأنكما تتقابلان
قال محمود بهدوء :- من الواضح بأنك لم تخبري ماهر بعد بزواجنا القريب يا نانسي
بدت الصدمة على ماهر وكأنه قد تلقى لتوه صفعة قاسية .. بينما أغمضت نانسي عينيها بقوة .. لم ترد إخباره بهذه الطريقة
قال محمود :- سأذهب لأطمئن على لينا .. بالإذن
ابتعد تاركا إياهما كل منهما يحدق في الآخر .. لاحظت نانسي ذلك التعبير الذاهل والمستنكر في عيني ماهر البنيتين .. قال بعدم تصديق :- لا أصدق حقا بأنك ستتزوجين به
قالت بعصبية :- ولم لا تصدق يا ماهر .. هل في الزواج ما يعيب .. أم أن اعتراضك يشمل الدكتور محمود نفسه ؟ .. ألم يكن يوما صديقك ؟
قال بحدة :- لقد كنت تكرهينه يا نانسي .. بل ما كنت تطيقين سماع اسمه .. هل تدعين بأن مشاعرك قد تغيرت فجأة وأنك قد وقعت في حبه رأسا على عقب
قالت بتوتر :- بالطبع لا .. إنه فقط .
..قاطعها وكأنه لم يسمع ما تقول :- أم أنك بعت نفسك له في مقابل أن يعيد إليك مجدك القديم ؟
صاحت بغضب :- ماهر
إلا أنه تابع بلهجته القاسية .. وصراحته المعهودة :- أليست هذه هي الحقيقة ؟ لم أفكر أبدا كم كان الدكتور محمود محقا عندما صارحته بقلقي نحو غيابك المفاجئ .. لقد قال حرفيا بأنك آخر فتاة تستوجب القلق عليها .. وأنك كالقطة عندما تقعين .. فإنك تقعين على قوائمك دون أذى .. وأنك على الأرجح تبحثين عن زوج ثري يغرقك بأمواله وينتشلك من وضعك الحرج .. لا أصدق بأنني قد دافعت عنك ذلك اليوم واثقا بأنك من الكبرياء بحيث ترفضين بيع نفسك لرجل .. ولكنني كنت مخطئا .. فها قد فعلتها وبعت نفسك ولمن .. للدكتور محمود .. لا أظن بأنني قد عرفتك يوما يا نانسي .. الصديقة التي احترمتها كثيرا لم تكن بهذه السطحية والمادية .. لم تكن تقبل بأن ترخص نفسها بهذا الشكل حتى لو ماتت جوعا
صرخت بألم :- اخرس .. لا أريد أن أسمع شيئا
سدت أذنيها بقوة وأشاحت بوجهها بعيدا عنه .. وعندما عادت تنظر إليه كان قد اختفى .. عادت إلى حيث وقف محمود يحيط بلينا بين ذراعيه .. ويتركها تبكي على صدره .. رفع عينيه إلى نانسي دون أن يقول حرفا .. ولكن الوميض القاسي في عينيه جعلها تستشيط غضبا ..
شعرت فجأة بالحقد الشديد اتجاهه لأنه تسبب بفقدانها أعز أصدقائها .. هي الآن حقا لا تملك معينا سواه .. لقد حاصرها تماما هذه المرة .. كما أنها كرهته بشدة لاعتقاده بأنه قد اشتراها .. ماهر لا يكذب أبدا .. وما قاله يجب أن يكون قد حدث فعلا .. اتخذت قرارا حاسما داخلها .. ستتزوج الدكتور محمود .. ولكنها أبدا لن تكون إحدى مقتنياته


نسمات عطر 02-01-2017 06:07 PM

الفصل الحادي عشر



عرين الأسد




توفيت السيدة مريم بعد مرور ساعات على بدء العملية .. أخذت نانسي تتذكر ما حدث بينما هي تقف أمام نافذة الشقة التي استأجرها لهن محمود .. والتي تقيم فيها مؤقتا برفقة لينا وحنان منذ 4 أسابيع
لقد كانت صدمتها عنيفة عندما أعلن الطبيب النبأ بأسف .. أمسكها محمود بقوة كي لا يختل توازنها وقد شحب وجهه .. ثم شدها إليه هي ولينا لتبكيا على صدره
تنهدت وهي تتأمل المدينة من النافذة .. محمود كان يتصل بها كل يوم ليسأل عنها وعن لينا . ويزورهن باستمرار .. ولم يفتح موضوع الزواج إلا الأسبوع الماضي .. لقد كان حازما وهو يتحدث عن أن الوقت قد حان لتركهن هذه الشقة وانتقالهن إلى منزله في العاصمة .. وأنهما يجب أن يعقدا قرانهما على الفور كي يتم تنفيذ مخططه .. ذلك اليوم حرضها وازع شيطاني على أن تأخذ شقيقتها وتختفي عن الأنظار هربا من قبضته و زواجها المرتقب منه .. ولكن الجزء العقلاني منها حدثها عن سهولة إيجاده لها ..وسألها بصراحة عما ستفعله وحدها في هذا العالم الواسع مع مراهقة صغيرة بحاجة إلى الاهتمام والحماية .. أما عن الجزء المتكبر والفخور فيها .. فقد ذكرها بأنها تدين للدكتور محمود بالكثير .. وأنها لن لن تهرب أبدا من وعد قطعته .. أو دين ترتب عليها ..
وهكذا .. مر عليها صباح اليوم التالي .. وأخذها إلى المحكمة لعقد قرانهما برفقة شاهدين من معارفه .. خمنت بأنهما يعملان لديه من لهجة الاحترام الطاغية على حديثهما معه
أعادها إلى الشقة دون أن يخاطبها بكلمة ... بل هو لم ينظر إليها حتى ترجلت من السيارة فقال لها قبل أن تخرج :- سأعود إلى العاصمة هذا المساء.. وسأعود لأخذكن قريبا إلى بيتكن الجديد
أومأت نانسي برأسها .. وراقبته وهو يبتعد ببساطة وكأنه لم يودع عروسه لتوه بعد نصف ساعة من زواجهما
لقد أصبحت زوجة محمود فاضل .. فركت نانسي ذراعيها وهي تفكر متوترة بأنه بالكاد كلمها خلال الأيام الماضية .. لم تختلف طريقة كلامه معها على الإطلاق بعد زواجهما .. ولكن ما الذي كانت تنتظره ؟
هذا الزواج المشؤوم ليس إلا صفقة بشعة ضمنت فيها الحصول على الأمان لأختها .. كما ضمن هو زوجة يرغبها
لن تنتظر منه عرضا للمشاعر لأن الدكتور محمود ليس من النوع المنافق .. لن يظهر لها مشاعر لا يحس بها مما يريحها .. فهو لن ينتظر منها في المقابل أن تتظاهر بحبه أو بالإعجاب به
طرقت لينا الباب وهي تقول :- نانسي .. لقد اتصل محمود منذ لحظات .. وقد طلب مني إخبارك بأنه علينا توضيب أغراضنا لأننا سنترك هذه الشقة صباح الغد
التفتت نانسي غليها بحدة قائلة :- إلى أين ؟
هزت لينا كتفيها قائلة :- لم يخبرني .. وأنا لم أجد داع لسؤاله .. فأنا أثق به كثيرا
لم يكن هذا حال نانسي التي اتجهت فورا نحو هاتفها .. وحاولت الاتصال بهاتفه دون فائدة .. وكأنه كان متوقعا لمحاولتها التحدث معه والجدال حول كل شيء فأقفل هاتفه تماما
شعرت بالغضب لمعاملته لها وكأنها بدون إرادة أو حقوق .. إن ظن بأن حياتهما معا ستسير على هذا الشكل فهو مخطئ تماما .. سألتها حنان بقلق :- هل أبدأ بحزم الأمتعة ؟
صاحت بحنق :- بالتأكيد .. وهل نجرؤ على مخالفة الأوامر
أخفت حنان ابتسامتها بصعوبة وهي تبدأ عملها .. صباح اليوم التالي .. وفي تمام الساعة التاسعة صباحا .. فتحت حنان الباب على إثر قرع الجرس لتجد شابا نحيلا يرتدي زيا رسميا .. قالت بحدة :- نعم .. هل من خدمة ؟
تنحنح قائلا :- أنا مأمون .. أعمل لدى السيد محمود وقد أرسلني إلى هنا لاصطحابكن إلى العاصمة ..
بدا الشك على وجه حنان وهي ترمقه بنظراتها الفاحصة .. بينما قالت نانسي بتوتر وقد أصبحت خلفها :- ماذا تعني بأنه قد أرسلك ؟ ألن يأتي بنفسه ؟
قال بحرج :- أعتقد بأنك هي السيدة نانسي .. احترامي لك سيدتي .. الدكتور محمود لم يستطع الحضور بنفسه بسبب انشغاله بأمور طارئة .. وقد أمرني بأن أوصلكن إلى منزله في العاصمة .. وسيقابلكن هناك
اقتربت منه وقد أعماها الغيظ عن التفكير :- هل تعلم بأن رئيسك لا يطاق ؟
ابتسم مسرورا وهو يقول :- بل أنا أظنه لطيفا يا سيدتي .. اعذريني للسؤال .. ولكن إن كان حقا لا يطاق فما الذي دفعك للزواج منه ؟
تجهمت وهي تنظر إلى وجهه الباسم ببرود .. قبل أن تقول بجفاف :- أخبرني يا مأمون .. هل تعمل حقا لدى الدكتور محمود ؟
قال بحيرة :- نعم .. أنا سائق لديه منذ سنتين
:- وتعرف بأنني زوجته الآن .. أي أنني من الآن فصاعدا سأكون ربة عملك
:- نعم
صاحت به عندها بحدة :- فلتفكر بكلامك إذن قبل أن تنطق به
استدارت إلى حنان قائلة :- أرشديه إلى الحقائب كي يحملها
ابتعدت أمام نظرات مأمون المذهولة .. بينما قالت حنان لجذل :- ها هي نانسي القديمة تعود من جديد .. اطمئن .. هي ليست بهذا السوء .. إنها حادة الطباع فحسب
طال الطريق لساعات قليلة قبل أن يصلا إلى العاصمة .. لاحظت نانسي التي جلست في المقعد الخلفي إلى جوار لينا .. بينما جلست حنان إلى جوار السائق .. بأن الأخير لم يدخل إلى قلب المدينة .. بل سار في منطقة الضواحي الريفية التي انتشرت فيها المنازل الضخمة .. التي تناثرت متباعدة على أرضها الخضراء .. سألت بتوتر :- إلى أين نحن ذاهبون ؟
قال بهدوء :- لا تقلقي يا سيدتي .. كدنا نصل
توقفت السيارة أخيرا أمام بوابة كبيرة توسطت سورا ضخما يحيط بمساحة كبيرة .. أعطى إشارة إلى الحارس الذي أسرع يفتح البوابة وهو يلقي التحية بحرارة .. مع نظرات فضولية تركزت نحو النافذة الخلفية .. دخل مأمون بالسيارة إلى طريق مرصوف بالأحجار .. وقد ارتصت على جانبيه شجيرات صغيرة مقلمة بعناية .. ذهلت نانسي وهي تتأمل المساحات الواسعة المحيطة بالسيارة .. كان المكان أشبه بالجنة وقد تزاحمت فيها الأشجار التي تعرت أغصانها من الأوراق.. توقفت السيارة أخيرا أمام المنزل الضخم المكون من 3 أدوار .. لا .. لم يكن منزلا .. بل قصرا منيفا .. من الواضح أن صاحبه قد أنفق عليه ببذخ كبير إذ كان الترف ينطق من كل زاوية فيه .. من كل قطعة حجر ثمينة بنيت بها .. ترجلت نانسي من السيارة دون أن تفيق من ذهولها .. لم تدرك أبدا بأن محمود بهذا الثراء .. لقد كان الطلاب يتناقلون الشائعات عنه منذ سنوات .. كانوا يختلقون القصص والحكايا حول ثرائه الكبير .. أو فقره المدقع .. وقد ذكر لها ماهر شيئا عن ثراءه في المستشفى .. ولكنها قطعا لم تتوقعه بهذا الثراء
وهي التي كانت تعامله في الكلية بازدراء ... بل وتغريه بالمال كي يمنحها دعمه .. بينما لا يحتاج هو حتى إلى عمله في الجامعة .. بل ربما يعتبره هواية كحب لينا للرسم مثلا
وجدت عند الباب الرئيسي الكبير سيدة حسناء في أواسط الأربعينات .. كانت تقف في استقبالها أعلى الدرجات القليلة التي فصلت نانسي عن الباب
كانت أنيقة جدا حيث ارتدت طقما أزرقا لائم قوامها المتناسق المناسب لعمرها .. ورفعت شعرها الأشقر المصبوغ فوق رأسها بوقار .. وإلى جوارها برزت فتاة شابة تكبر نانسي بسنوات قليلة .. كانت تملك سحرا خاصا بشعرها الأسود الناعم الطويل .. وبشرتها الوردية المتألقة .. وعينيها العسليتين وملامحها الناعمة .. كانت ترتدي فستانا ورديا جميلا .. وتضع قرطين ماسيين خطف بريقهما الأنظار
رغم جمالها الشديد .. فقد أطلت من عينيها نظرة باردة وهي تنظر إلى نانسي مما أثار داخلها رجفة خوف كبيرة .. هذه الفتاة التي تقابلها للمرة الأولى .. تكرهها
قدمت المرأة الأكبر سنا نفسها بهدوء قائلة :- أهلا وسهلا بك في منزلك الجديد يا نانسي .. أنا هي زوجة عم محمود .. وهو يناديني بالعمة منار .. يمكنك مناداتي بذلك أنت أيضا .. آسفة لأن محمود ليس موجودا لاستقبالك بنفسه .. ولكنه سيعود في وقت قريب
صافحتها نانسي بحذر .. زوجة عمه .. وما الذي تفعله زوجة عم محمود هنا ؟..
أشارت المرأة نحو الفتاة الشابة قائلة :- هذه ابنتي ريم .. أرجو أن تتفقا خلال فترة تواجدك هنا
نانسي كانت على وعي بكل ما يحدث حولها .. بدءا من تلميح السيدة منار بأن وجودها هنا لن يدوم طويلا .. وانتهاءا بعدم مصافحة ريم لها .. أو نطقها بأي كلمة ترحيب .. كان هذا كافيا لتدرك بأن هاتين المرأتين تصنفان ضمن أعدائها
قالت العمة :- تفضلي يا عزيزتي .. هذه الشابة الجميلة هي شقيقتك الصغرى على ما أعتقد .
. دخلت نانسي ورائها بتردد شاعرة بأنها تقتحم عرينا للأسود .. وأن أحدها سينقض عليها بين لحظة وأخرى
قادتهما إلى غرفة كبيرة ذات أثاث أنيق ومريح .. بينما اختفت حنان عن أنظارهما .. شعرت نانسي بالقلق وكأنها مقبلة على معركة .. ولكنها لن تسمح لهاتين المرأتين بأن تضعفا عزيمتها .. جلست على الأريكة الوثيرة واضعة إحدى ساقيها فوق الأخرى بأناقة وهي تسوي ثوبها الأسود البسيط .. تمنت لو ارتدت شيئا أكثر أناقة حتى تزيد ثقتها بنفسها .. قالت العمة وهي تجلس قريبا منها بهدوء :- اعذرينا يا عزيزتي لأننا لم نقم بالاستعدادات اللازمة لاستقبالك .. فقد فاجأنا محمود مساء الأمس بخبر زواجه من نانسي سلمان راشد
كبتت نانسي رجفة غضب عندما فهمت تعمد المرأة لذكر اسمها كاملا لتخبرها بأنها تعرف من تكون .. وابنة من هي .. أكملت السيدة منار قائلة :- في الواقع .. لقد تفاجأنا جميعا بزواج محمود .. إذ لم يتخيل أحد بأنه بعد عزوبيته الطويلة سيتزوج بهذه الطريقة .. بدون احتفال أو فرح .. حتى أنه لم يخبر عمه الذي يعتبره كوالد له .. ولكن ذوقه رفيع ولا ألومه على عجلته .. فأنت جميلة جدا
تكلمت ريم أخيرا ببرود :- لطالما كان لمحمود ذوقا رفيعا فيما يتعلق بالنساء .. بالتأكيد عندما يقرر الزواج أخيرا .. فهو لن يتزوج بامرأة قبيحة
إن كانت الأم حريصة على ألا تخطئ بكلمة .. فمن الواضح بأن ابنتها لم تكن كذلك .. استقبلت نانسي نظرات ا لازدراء المطلة من عينيها بهدوء وقالت مخاطبة السيدة منار :- أشكرك على الإطراء .. ولكن سبب زواجنا بهذه الطريقة هو وفاة والدتي الذي لم يمض عليه أكثر من شهر
قالت العمة بهدوء ك- وبالتأكيد بسبب وفاة أبيك أيضا .. لا أعتقد بأنه قد مر وقت طويل على وفاته ... أليس كذلك يا ريم ؟
قالت ريم ببرودها الذي لم يفارقها :- منذ 3 أشهر تقريبا .. هذا ما ذكرته الصحف
نهضت نانسي قبل أن تنهال على الفتاة المتعجرفة بالضرب وقالت :- إذا أذنتما لي فأنا أرغب بإفراغ حقائبي والراحة قليلا بعد سفري الطويل ..
نهضت السيدة منار قائلة :- ستفرغها لك إحدى الخادمات .. سترشدك نجوى وهي مدبرة المنزل إلى غرفتك .. وستلبي على الفور جميع رغباتك .. ربما بعد أن تأخذي قسطا من الراحة قد تحبين أن آخذك في جولة حول الحديقة وفي أرجاء المنزل
تمتمت نانسي بتهذيب :- شكرا للطفك
اصطحبتها نجوى .. وهي امرأة ممتلئة الجسم إلى الطابق الثاني .. حيث قادتها إلى غرفة فسيحة .. تأملتها نانسي بصمت .. لقد كانت غرفة أحلام أي عروس شابة .. بأثاثها الثمين المصنوع من الخشب الثقيل .. والسجادة الوثيرة التي غطت الأرضية اللامعة .. الستائر الرقيقة التي تهادت أمام النوافذ العريضة التي سمحت للشمس بغمر الغرفة بوفرة .. رأت حنان ترتب أغراضها داخل الخزانة الكبيرة .. فلاحظت الملابس الرجالية المرتبة داخلها .. وزجاجات العطر الغالية الثمن التي توزعت على منضدة الزينة .. وفي صدر الغرفة كان هناك باب مفتوحا ظهر من خلفه حمام مترف .. ارتعش جسدها توترا وهي تفكر بهذه الليلة التي ستشارك فيها زوجها غرفته لأول مرة
قالت نجوى :- هل أوصل الآنسة الصغيرة إلى غرفتها ؟
نظرت لينا إلى نانسي بتردد .. وكأنها تخشى أن تضيع إن افترقت عن أختها .. فأشارت لها نانسي بأن تلحق بالمرأة ..وفور أن أصبحت وحيدة في الغرفة مع حنان .. جلست على طرف السرير الكبير الذي غطاه مفرش أنيق مطرز
استدارت حنان نحوها قائلة :- لقد رتبت جميع أغراضك يا نانسي .. هل أنت بخير ؟
أطلقت السؤال عندما لاحظت شجوب وجه نانسي وتوترها .. أجابت نانسي قائلة :- لا أدري .. أنا خائفة يا حنان .. لم أتوقع بأنني سأنتقل للإقامة في قصر منيف يبدو إلى جانبه منزل والدي الكبير وكأنه عش عصافير .. أو للعيش برفقة أشخاص يكرهونني .. لم يخبرني محمود أبدا بأنه يقيم مع عائلة عمه ..
قالت حنان متفهمة :- لا أظنه قد وجد الوقت المناسب مع كل الأحداث التي طرأت .. أنا أيضا لم أرتح لتلك المرأة وابنتها المغرورة .. من الواضح أنهما ليستا سعيدتين بزواج محمود بك
ثم قالت بخبث :- ولكن ليس عليك التفكير بهما الآن .. بل بهذه الليلة .. وما ينتظرك يا عزيزتي
احمر وجه نانسي وهي تقول :- حنان .. اخرسي واذهبي لتفقد لينا .. أرغب بأن أرتاح قليلا
أطلقت حنان ضحكة عالية وهي تقول :- أمرك يا آنستي
انصرفت حنان تاركة نانسي وحدها .. فتكورت فوق السرير وهي تحاول السيطرة على اضطرابها .. بين ليلة وضحاها .. تغيرت حياتها بشكل كامل .. وأصبحت زوجة لرجل ثري غريب عنها .. لا تعرف عنه أي شيء .. وربما يتوقع منها الليلة أن تكون زوجته فعليا
لا إراديا سالت دمعة ساخنة على خدها .. وأخذت تلوم والدها على ما يحصل معها .. لو لم يفعل ما فعله .. لما أتيحت الفرصة لأي انسان لاستغلال ظروفها كما فعل محمود ويشتريها ..
تذكرت كلمات ماهر في المستشفى.. فانتابها غضب كبير من نفسها .. ومن محمود .. ومن والدها
وأقسمت بأنها لن تسمح لمحمود أبدا بأن يفرح بانتصاره .. ثم وبدون ان تشعر .. راحت في نوم عميق



نسمات عطر 02-01-2017 06:37 PM

منقولة من منتدى غرام~ عندما تنحني الجبال~
 
الفصل الثاني عشر

زوجي الغامض



فتحت نانسي عينيها بخمول .. ثم توترت مرة واحدة عندما احست بانها لم تعد وحيدة في الغرفة .. انتفضت جالسة وهي تنظر إلى محمود الذي كان جالسا على الأريكة يراقبها .. اضطربت وهي تلاحظ نظراته الثاقبة .. فامتدت يدها لا إراديا لتتأكد من إحكام إغلاق أزرارها .. التقطت عيناه على الفور حركنها هذه .. ولكن تعابير وجهه بقيت هادئة وهو يقول :- أرجو أن تكوني أفضل حالا الآن
مررت يدها عبر شعرها الفوضوي محاولة ترتيبه قائلة باضطراب :- ما كان عليك تركي نائمة كل هذا الوقت
:- كان التعب واضحا عليك .. فلم أشأ إزعاجك
اعتدلت في جلستها بارتباك .. إنها المرة الأولى التي يراها فيها مستيقظة من النوم .. فاقدة لكل دفاعاتها وعاجزة عن الكلام .. قال بهدوء :- آسف لأنني لم أكن موجودا لاستقبالك .. فقد اضطررت للذهاب إلى الجامعة لأمر طارئ .. عرفت بأنك قد قابلت العمة منار .. وريم
قالت ساخرة :- قابلتهما بالتأكيد .. ولأكن صادقة معك .. لم يبدو عليهما السرور للقائي
عقد حاجبيه وكأن طريقة كلامها لم تعجبه .. فقال :- لقد كانتا متفاجئتين .. فلم يعلم أحد بزواجنا قبل الأمس
قالت بحيرة :- ولماذا أخفيت زواجنا عن عائلتك ؟ ألم تخبرني بأن عمك هو بمثابة والدك ؟
قال باقتضاب :- هو كذلك .. ولكن زواجي أمر يخصني وحدي .. وأنا لست بحاجة كي آخذ إذنا من أي أحد لأتزوج
حاولت أن تستوعب الأمر فلم تستطع .. ففكرت بأن محمود قد خمن بأن عائلته لن توافق على زواجه منها هي .. ففضل مفاجئتهم .. طرحت أخيرا السؤال الذي أقلقها كثيرا :- لماذا لم تخبرني بأنك تعيش مع عائلة عمك ؟
قال ببرود :- أنا لا أعيش مع عمي .. بل عمي هو من يعيش معي
ثم فسر قائلا :- لقد بنى والدي هذا المنزل قبل وفاته بسنوات .. لقد كان منزل أحلام والدتي .. وقد بنياه معا .. اختارا كل حجر بني به .. وعندما توفيا .. ما كان من الممكن لمراهق في الثامنة عشرة بأن يعيش وحده في مكان كهذا .. فانتقل عمي مع عائلته للإقامة معي .. وحتى الآن .. هم عائلتي الوحيدة .. وهو سيبقى دائما بمثابة الأب لي
ساد صمت ثقيل لاحظت نانسي خلاله شيء من القسوة يسكن داخل عيني محمود .. هل سيأتي ذلك اليوم الذي يكشف فيه محمود عن غموضه لها
قال فجأة :- هل قابلت جدتي ؟ .. والدة أمي ؟
قالت بدهشة :- جدتك ؟
قال باستهزاء :- أتصور بأن زوجة عمي لم تحاول حتى الإشارة إليها .. أحيانا ينسى سكان البيت وجودها بسبب اعتزالها عن الجميع في غرفتها .. سأعرفك إليها بعد الغداء .. هيا بنا .. الجميع في انتظارنا لنأكل معا
قالت باضطراب :- سأبدل ملابسي أولا ثم أوافيك
نهض قائلا :- سأسبقك إذن إلى الأسفل .. لا تتأخري
تركها مغادرا الغرفة .. فزفرت بقوة وهي تشعر بأعصابها المشدودة ترتخي .. إن وجوده معها في مكان واحد يسبب لها اضطرابا كبيرا .. ويختل توازنها ..فلا تكون أبدا نانسي .. بل شخص آخر .. وكأنه يسلب بسلطته بقايا كيانها القديم ويصنع منها شخصا آخر لا تحبه .. لم تعجبها أفكارها هذه .. وقررت بأنها إن كانت ستسايره .. فإنها أبدا لن تكون طوع بنانه
قامت لتبدل ملابسها حريصة على أن تكون في أبهى طلة .. على الأقل ليختفي الضعف المفاجئ الذي لم تعرف قبلا بوجوده .. ارتدت فستانا بسيطا انما أنيق يجمع بين اللون الأسود والرمادي .. فلم يحن بعد وقت التخلي عن اللون الأسود .. وضعت بعض الزينة الخفيفة على وجهها .. وصففت شعرها ثم نزلت
كان الكل في انتظارها .. حتى لينا التي فوجئت بها نانسي تتحدث بانهماك مع شاب صغير لم يتجاوز الثامنة عشرة .. قدم نفسه على أنه فراس .. شقيق ريم الأصغر .. كان يشبه ريم كثيرا باستثناء قامته الكطويلة والنحيلة .. قام رجل مسن يحييها ببشاشة .. فأدركت بأنه عم محمود .. قال لها :- يمكنك مناداتي بالعم طلال
ابتسمت بدبلوماسية وهي تقول :- سأفعل بالتأكيد
كان السيد طلال رجلا بشوشا ومرحا .. استمر طوال فترة تناولهم الغداء حول المائدة الطوية في غرفة الطعام في توجيه الكلام إليها .. ورواية المواقف الطريفة التي حدثت معه .. حتى أنه أضحك نانسي أكثر من مرة .. بالرغم من هذا .. كان هناك بريق أخافها في عينيه عندما كان ينظر إليها متفحصا في غفلة منها .. لم تفهمه جيدا أو تدرك معناه .. ثم قررت بأنها تتوهم بالتأكيد .. فالسيد طلال كان الشخص الوحيد المرحب بها في هذا المكان .. بعكس زوجته المتحفظة بغرور .. وابنته التي لم تتوقف عن تزجيه نظرات الحقد إليها
قال محمود بعد الغداء :- أستأذنكم جميعا .. سأخذ نانسي لأعرفها إلى جدتي
اصطحبها إلى الطابق الثالث فقالت :- ظننت بأنني سأقابلها أثناء الغداء
قال بهدوء :- أخبرتك بأنها لا تخرج أبدا من جناحها
لم تسأله عن السبب وهو ما عرفته بنفسها فور أن فتح لها أحد الأبواب ودعاها إلى الدخول .. لترى امرأة مسنة ااغاية تجلس على فراشها .. بينما تقوم ممرضة خاصة بمساعدتها في الأكل .. بنظرة واحدة .. عرفت نانسي بأن هذه المرأة عمياء
شعرت الجدة بهما فقالت بحنان :- أهو أنت يا محمود ؟ ادخل يا حبيبي
قال :- لست وحيدا يا جدتي
رفعت المرأة حاجبيها الأبيضين وهي تقول :- أهي هنا معك ؟ اقتربي يا عزيزتي .. واجلسي إلى جانبي ... لا يمكن أن تتخيلي سعادتي بزواج محمود أخيرا .. لقد حان الوقت ليستقر ويكون عائلته الخاصة
جلست نانسي على مقعد قريب من السرير وهي تتأمل وجه المرأة الذي كسته التجاعيد .. وشعرها الفضي الناعم الذي تربطه خلف رأسها .. وأطلت من عينيها الباهتتين نظرة حنون .. قالت :- اسمك نانسي .. إنه اسم غريب
وضحت نانسي بحرج :- لقد اختارته لي أمي .. فقد ولدت أمها في مدينة نانسي الفرنسية .. ولم تتوقف طوال حياتها عن الحديث عن طفولتها هناك .. فأطلقت أمي علي الإسم إكراما لوالدتها التي لم يكن قد مضى على وفاتها أشهر عندما ولدت
ابتسمت الجدة قائلة :- لقد حدثني عنك محمود كثيرا .. ووصفك لي بشكل جعلني واثقة بأنك بارعة الجمال
تمتمت نانسي :- لست جميلة إلى هذا الحد
لطالما كانت نانسي واثقة من جمالها المميز .. ولكنها الآن بعد كل مصابها .. لم تعد واثقة بأنها تحلت يوما بأي جمال داخلي
:- أنت طالبة لدى محمود .. كم هذا مثير للخيال .. أن يقع حفيدي في حب تلميذته .. كيف وقعتما في الحب .. هل تستطيعين إخباري ؟
احر وجهها وهي تلاحظ محمود الذي انتظر إجابتها دون أن يحاول إنقاذها .. فقالت بارتباك :- حسنا .. لقد بدأ الأمر بشجار
بدت الدهشة على وجه الجدة وهي تردد :- شجار !
قالت نانسي بحرج :- كنت أنا تلميذة مغرورة .. وكان هو أسيتاذا متعجرفا .. وكان من الطبيعي أن نتشاجر
ابتسمت الجدة برقة :- فهمت الآن .. لقد حدث الشيء نفسه مع والدي محمود .. ابنتي كانت طبيبة ماهرة وواثقة من نفسها .. وعادل والد محمود كان مريضا شقيا إذ كسر ساقه ذات مرة ودخل المشفى .. كانت ابنتي وفاء تعود بعد كل مراجعة له غاضبة وحانقة على المريض المدلل الذي لا يكف عن الانتقاد .. وبعد فترة .. دخلت إلى البيت بلا إنذار سعيدة ومشرقة وهي تخبرني بأن مريضها المشاكس قد خطبها
كرت سحابة حزن على وجه الجدة وهي تقول :- لقد كانت مليئة بالحيوية .. وعادل كان رجل أعمال عنيد .. أظن بأن محمود قد أخذ عن أبيه صلابته .. ومن أمه رقته وحنانه
ضحك محمود قائلا :- أحذرك بأن جدتي إن بدأت في تعداد مميزاتي .. فهي لن تتوقف قبل ساعات
ضحكت جدته قائلة :- لست بحاجة لأن أفعل .. من الواضح بأن نانسي تعرف جميع مزاياك ما دامت قد وقعت في حبك .. ألي كذلك يا عزيزتي ؟
ساد صمت طويل التقت خلاله عيناها بعيني محمود الذي نهض قائلا :- سأتركك قليلا مع نانسي يا جدتي .. هناك ما أرغب بمحادثة عمي به
غادر الغرفة تاركا نانسي في اضطراب تحاول جاهدة تهدئة دقات قلبها .. قالت الجدة بهدوء :- أعتقد بأنك قد قابلت منار زوجة عم محمود وابنتها ريم
:- نعم
قالت الجدة :- لا تهتمي في حال استقبلتاك ببرود .. فهما لم تتصورا أبدا أن محمود قد يتزوج بغير ريم
هكذا إذن .. نظرات ريم الحاقدة لم تكن بدون سبب .. لقد كانت مغرمة بالرجل الذي تزوج بها
قالت الجدة :- وماذا عن طلال ؟ كيف استقبلك ؟
:- لقد كان بشوشا ومرحبا
:- متأكدة بأنه قد انزعج كثيرا لأن محمود لم يخبره بزواجه .. فقد اعتاد بعد وفاة والدي محمود على أن يحاول إدارة حياة محمود بنفسه .. وعندما كبر محمود شجعه على أن يسلك طريق الدراسة والتعليم حتى يستمر هو في السيطرة على حياته وعلى أعمال أبيه على هواه .. ولكن محمود لم يكن ابن أبيه بدون فائدة .. لقد أصر على استلام جميع أعمال وأملاك والده حتى مع انشغاله بالتحصيل العلمي .. ثم عمله بالجامعة .. تمكن من فرض شخصيته سواء في العمل أو في هذا المنزل الذي ظنت السيدة منار بأنها سيدته حقا .. إنها صفعة قاسية أن يحضر محمود من تستلم هذه المكانة بعد والدته
قالت نانسي بقلق وقد وجدت في الجدة الطيبة صدرا واسعا تستطيع الثقة به :- في الواقع أنا لم أهيء نفسي لوضع كهذا .. فمحمود لم يتحدث كثيرا عن عائلته
:- لابد أنه لم يجد الوقت المناسب ليفعل .. لقد أخبرني بوفاة والديك .. وأقدر شعورك بالغربة والخوف من الفترة القادمة .. محمود سيوفر لك الأمان ويحميك .. أما عن عمه .. فمحمود يقدره ويحبه كوالده بالضبط .. لطالما كانت عائلة عمه عائلته .. أما الآن .. فلديه أنت
صمتت للحظات ثم قالت :- ما الذي أعجبك بولدي ؟ أعني ما الذي دفعك لحبه ؟
أجفلت نانسي لهذا السؤال .. بماذا تجيب ؟ لا يمكنها إخبارها بأنها لا تطيقه .. وأن شيئا لا يعجبها به .. ولمنها عادت وفكرت بأن هذا غير صحيح .. فقد سبق وكسب محمود احترامها بحزمه ووقوفه إلى جوار عائلتها .. تمتمت :- هناك الكثير مما فيه يحيرني ويثير الاضطراب في نفسي .. ربما هذا التناقض في شخصيته .. أحيانا هو قاسي وصارم .. وأحبانا يكون حنونا ومهتما
بدا على الجدة أنها تنتظر من نانسي أن تسترسل في الكلام فأكملت :- ربما وقاره وكبرياءه هما ما يجذبني غليه .. ربما لأنه الشخص الوحيد الذي لا أستطيع الاعتداد بنفسي أمامه
سهمت وقد نسيت وجود المرأة أمامها وهي تقول مفكرة :- إنه لطيف مع أختي.. وكان عطوفا مع والدتي .. كان نبلا منه أن يمنح أشخاصا لا يهمونه بعضا من وقته ويشعرهم بأنه واحد منهم
قالت الجدة بحنان :- كيف لا يهمونه إذا كنت أنت منهم ؟
ابتسمت نانسي بضعف دون أن تجيب .. فسألتها الجدة فجأة :- هل هو وسيم ؟
دهشت نانسي وسألت :- ماذا ؟
أوضحت الجدة بهدوء :- لقد فقدت بصري منذ عشر سنوات ... لا يمكنك تصور اشتياقي إلى رؤيته .. هل تسمحين لي برؤيته من خلال عينيك ؟
شعرت نانسي بالأسف على هذه السيدة العاجزة عن رؤية أحب الناس إليها .. تمتمت :- إنه وسيم
أسندت المرأة رأسها إلى الخلف وقالت :- صفيه لي .. أرجوك
تمتمت نانسي :- إنه طويل جدا .. يتجاوز طوله الثمانين سنتيمترا .. شعره قاحم السواد .. كثيف ومتماوج .. لون بشرت قمحي جذاب لوحته الشمس .. عيناه بلون السكر المحروق .. يطل منهما تعبير متسلط .. وكأن الكون يدور من حوله ولأجله فقط
ضحكت الجدة قائلة بحنان:- إنهما عينا والده .. كانت وفاء تقول دائما بأن عينيه هما سر نجاحه في عمله .. إذ يستطيع بهما السيطرة على ما يريد .. والحصول على ما يريد
ابتسمت نانسي بارتباك بينما قالت الجدة :- أكملي أرجوك .. صفي لي ملامحه
أكملت نانسي :- أنفه مستقيم بزاوية حادة .. فمه واسع بشفتين تميلان إلى الامتلاء .. ذقنه بارزة بعض الشيء .. تمنح ملامحه قوة تضاهي قوة شخصيته
احمر وجه نانسي وهي تسرد هذه التفاصيل .. متى تأملت وجهه عن قرب لتعرف دقائقه بهذا الشكل ؟
قالت الجدة برقة :- تحبينه .. أليس كذلك ؟
قبل أن تفكر حتى بجواب .. لاحظت محمود الواقف عند الباب المفتوح وقد علت عينيه نظرة غريبة .. خفق قلبها بقوة .. منذ متى وهو يقف هنا ؟ هل سمع شيئا مما قالته عنه ؟
قالت الجدة وقد أحست بوجوده :- محمود .. هل أنت هنا ؟
قال بهدوء :- نعم يا جدتي .. جئت آخذ زوجتي لأنك بحاجة إلى الراحة
قالت برقة :- زوجتك رائعة يا محمود .. أتمنى أن تنجبا لي الأحفاد بسرعة
انحنى يقبل جبينها ثم يدها قائلا :- سيحدث هذا قريبا يا حبيبتي
اعتذرت نانسي من الجدة .. وسارت معه خارجا .. قال بهدوء :- أعتقد بأنني قد جئت في وقت مناسب لأمنعك من تدمير جدتي عندما تجيبين على سؤالها .. أليس كذلك ؟
قالت بجفاف :- بل أنقذتني أنا لأنني كنت على وشك الكذب عليها
قال مستغربا :- وهل كنت ستكذبين ؟
هزت كتفيها :- لقد أحببت جدتك كثيرا .. ولن أستفيد شيئا من ذكر الحقيقة لها سوى بجعلها تتألم
قال متهكما :- هذا جيد .. لديك قلب يهتم بالآخرين .. انت تتطورين
كبتت غيظها وهي تقول :- ما الذي أردته مني ؟
:- أن أطوف بك المكان قبل أن أغادر إلى عملي .. كي تعرفي أين تتحركين بالضبط أثناء تجوالك فيه ..
أشار لها حوله إلى الطابق الثالث قائلا .. هذا الطابق مخصص لإقامة المستخدمين .. اختارت جدتي الإقامة فيه لتبتعد عن الضوضاء .. ولأنها لا تغادر غرفتها أبدا .. بل هي بالكاد تغادر سريرها بسبب التهاب المفاصل .. ولكنني أزورها باستمرار وأخصص لها ممرضة للاهتمام بها .. كما يزورها الطبيب بشكل دوري للاطمئنان عليها
تابع تجواله بها عبر الطابق الثاني حيث غرف النوم .. وصالة فسيحة للجلوس .. ثم إلى الطابق الأرضي الذي احتوى على غرف الاستقبال والطعام .. والمكتبة .. كانت تستمع إليه وهي تتأمل الجدران العالية المزينة باللوحات الجميلة .. والأثاث الثمين الملائم للديكورات الحديثة الطراز ... ما زالت غير قادرة على تقبل ثراء محمود الشديد .. بدلا من أن يريحها هذا ويسعدها أشعرها بالخوف من المستقبل الذي ينتظرها مع رجل بسطوته قامت هي بإهانته أكثر من مرة
أخذها في النهاية إلى غرفة مكتبه التي احتلت مكتبة كبيرة جدارا كاملا ضمت أكبر مجموعة كتب رأتها في حياتها .. ثم مكتب ضخم مصنوع من الخشب الثقيل مرتب بعناية علاه جهاز كومبيوتر حديث الطراز .. وسجادة بألوان مشرقة غطت جزءا كبيرا من الأرضية الرخامية .. قال بهدوء :- هنا أقضي معظم أوقاتي
تحسست الكتب بأناملها وهي تقول بذهول :- هل قرأت كل هذه الكتب ؟
ابتسم قائلا :- لقد جمعت أمي جزءا كبيرا من هذه الكتب .. فقد كانت مولعة بالقراءة .. وأنا من بعدها اقتنيت مجموعة كبيرة
نظر إلى الكتب ذات الأطر الأنيقة وقال :- ولكن إجابتي عن سؤالك هي النفي .. لم أقرأها كلها .. فهناك كتب لا توافق ذوقي
أدركت بأنه يقصد ما يعود إلى غيره من سكان المنزل .. تأملت قسما ضم روايات رومانسية نسائية الطراز .. وكتب عن الجمال والموضة .. من الواضح أن هذه الكتب تخص ريم
قال :- يمكنك استعمال هذه الغرفة أثناء دراستك
لاحظ تغير ملامحها بسبب التوتر فقال :- أنت تذكرين اتفاقنا يا نانسي .. أريدك أن تعودي إلى الجامعة منذ صباح الغد .. ومأمون سيكون تحت أمرك .. سيكون عمله الاهتمام بتنقلاتك .. إلا في حال كنت أنا موجودا فسأوصلك بنفسي
لم ترد عليه .. فأدارها إليه قائلا بحزم :- لا أريد ترددا .. لن يجرؤ أحد على التعرض لك بالكلية .. أعدك
ابتلعت ريقها باضطراب .. كيف عرف بما يخيفها .. ثم تذكرت بأنه كان شاهدا على اضطهاد الطلاب لها أكثر من مرة .. قالت بعصبية :- أنا لست قلقة .. فليجرؤ أحدهم على الاقتراب مني وسيناله ما لا يعجبه
ابتسم وهو يقول مداعبا :- يا إلهي .. لقد بعثت الخوف في نفسي .. هذا ما أريده منك .. أن تعودي إلى الكلية محملة بقوتك القديمة .. التي لا يجرؤ أحد على مواجهتها
لم تبتسم .. فقد كان القلق يعصف في كل خلاياها من العودة إلى ذلك المكان بعد هجوم جابر لها .. ومن لقاءه مجددا وإن كان قد حكى لأحد عما فعله بها ..
عندما شاهدت جميع أنحاء المنزل أخذها في جولة في الحديقة قائلا :- في الربيع يصبح هذا المكان رائعا
تمتمت وهي تنظر إلى الجمال المحيط بها :- أستطيع تخيل هذا
استدار نحوها قائلا :- سأذهب الآن يا نانسي .. كنت أرغب بالبقاء معك في أول يوم لك هنا .. ولكن العمل يناديني
تمتمت :- هل ستتأخر ؟
ها هي تستجوبه كأي زوجة تقليدية تفتقد زوجها .. الناقص هو أن ترتمي عليه وترجوه ألا يذهب .. نظر إلى وجهها متفحصا وهو يقول :- في الواقع نعم .. سأتأخر قليلا
اقترب منها وربت على وجنتها قائلا :- تذكري بأن هذا هو بيتك الآن
أومأت برأسها دون أن تقول شيئا .. ظنت بأنه سيضيف شيئا إلا أنه قال أخيرا :- أراك لاحقا
راقبته يبتعد .. ويستقل سيارته .. فتنهدت وهي تعود إلى داخل المنزل .. كانت في طريقها إلى غرفة لينا عندما أتاها صوت ريم قادما من خلف أحد الأبواب .. كادت تتابع طريقها لو لم تسمع اسمها فتوقفت .. وسمعت ريم تبكي وهي تقول :- ما الذي أعجبه بها ؟ .. ليست أكثر جمالا مني .. إنها ابنة لص حقير وستحرجه أينما ذهب
توتر جسد نانسي بغضب .. سمعت صوت منار تقول :- لا تقلقي يا حبيبتي .. لن تمر فترة طويلة حتى يمل منها .. ويرميها في الشارع كما فعل مع غيرها
لم تستطع نانسي أن تسمع المزيد .. وإلا كانت ستقتحم الغرفة وتنهال على الإثنتين ضربا .. دخلت إلى غرفة لينا لتجدها جالسة على طرف السرير ساهمة .. جلست إلى جانبها وهي تقول برقة :- ما الأمر ؟.. تبدين وكأن المكان لا يعجبك .. إنه أكبر وأجمل من منزلنا القديم
قالت لينا بخفوت :- بالتأكيد ؟ ولكن ما الفائدة إذا كان سكانه لا يحبوننا
عقدت نانسي حاجبيها قائلة :- لماذا تقولين هذا ؟
قالت لينا بغضب :- تلك المتعجرفة ريم .. إنها تعاملني وكأنني أحد الخدم
قالت نانسي بهدوء :- لا تهتمي لأمرها يا لينا .. كما أن فراس يبدو لطيفا معك
أشرق وجهه لينا وهي تقول :- بالفعل .. فراس طيب جدا ويحب الموسيقى والرسم .. لقد تحدثنا كثيرا .. إنه معجب بمحمود كثيرا ويحترمه .. وقد قال عنك بأنك جميلة جدا
ابتسمت نانسي بخبث قائلة :- فقط أنا ؟
احمر وجه لينا دون أن تجيب فضحكت نانسي برقة .. ثم قالت بجدية :- اسمعيني جيدا يا لينا .. من المؤكد بأن المرحبين بنا في هذا المنزل قلائل .. ولكننا لن نستسلم لريم ولأمها .. لا تنسي بأن محمود معنا .. وهو لن يسمح لأي أحد بأن يزعجنا
لم تكن متأكدة حقا مما تقول .. ولكن الراحة التي ارتسمت على وجه لينا استحقت تلك الكذبة .. قالت لينا فجأة :- هل تحبينه يا نانسي ؟
أجفلت نانسي وهي تقول :- ماذا ؟
:- أنا أعرف لماذا تزوجت بمحمود .. لقد سمعتك تتحدثين مع حنان
وعندما لم تجبها نانسي قالت :- أنا لست صغيرة يا نانسي .. أنا أعرف بأنك لن تتمكني من العيش معه إن كنت تكرهينه
قالت نانسي بهدوء :- أنا لا أكرهه
تمتمت لينا :- محمود شخص رائع .. أنا أحبه كثيرا .. وأتمنى أن تحبيه أنت أيضا
ربتت نانسي على شعر أختها الناعم وقالت :- لا تشغلي رأسك بهذه الأمور .. أنا سأكون بخير
ذلك المساء لم يحضر محمود وقت العشاء .. وحول المائدة .. انتقلت عينا نانسي عبر الوجوه الضاحكة وهي تشعر بالأسى الشديد لغيابه .. فشعورها بالغربة وسط أشخاص لا تثق بهم كان قويا .. تركزت نظرات ريم عليها وقد أطل منها الحقد .. فتذكرت نانسي الحديث الذي سمعته سابقا .. هل سيمل منها محمود حقا ويرميها في الشارع ؟ .. هل سبق وفعل هذا مع غيرها من النساء ؟
تذكرت الشائعات الغامضة التي سمعتها دائما عنه في الكلية .. من الواضح أنها لم تكن قادمة من فراغ .. وأن محمود فعلا كان له العديد من الصديقات قبل الزواج .. وربما ما زال
فاجأها الغضب الذي اعتراها .. لماذا تزوج منها إذن إن كان يعبث هنا وهناك ؟ لقد كان واضحا عندما قال بأن الوقت قد حان ليستقر وينجب الأطفال .. أهذا هو السبب الذي دفعه لربط نفسه بها ؟ أم لتكون ستارا لمغامراته المتعددة ؟
لا .. لا يبدو على محمود أنه من هذا النوع .. كان دائما وقورا ومتزنا .. ولطالما عاملها بتحفظ دون أن يقلل من احترامها يوما ..
خطرت على بالها فكرة أخرى أذهلتها .. هل يعود السبب إلى أنه قد عرف بأنها ليست من النوع المستهتر .. فقرر بأن الوسيلة الوحيدة للحصول عليها هي الزواج ؟
لم تستطع البقاء أكثر برفقة الآخرين بعد انتهاء العشاء .. فاعتذرت وغادرت غرفة الجلوس .. وبينما هي تصعد الدرج متجهة إلى غرفتها .. لحقت بها ريم لتقول وهي تقف أسفل الدرج :- لا تبدين بخير
ردت نانسي وهي تنظر إليها :- أنا متعبة فقط .. سأخلد إلى النوم
قالت ريم بهدوء :- لا أظنك تعانين من التعب .. ربما من القلق
نزلت نانسي حتى واجهت ريم قائلة ببرود :- ولماذا علي أن أكون قلقة ؟
هزت ريم كتفيها قائلة بلؤم :- ربما تتسائلين عن مكان محمود .. وعن موعد عودته
:- محمود في عمله .. لقد سبق وأخبرني بأنه سيتأخر
ضحكت ريم باستهزاء قائلة :- أ مازال محمود يستعمل هذه الخدعة ؟
عقدت نانسي حاجبيها دون أن تعلق فأكملت ريم :- عليك أن تكوني حذرة يا نانسي .. فمحمود ولد وحوله جيش من النساء .. وليس من السهل أن يتخلى عن كل هذا لمجرد أنه قد تزوج
ردت نانسي بصلابة :- أنا أثق بزوجي ثقة عمياء
أطلقت ريم ضحكة صغيرة وهي تقول ساخرة :- لا تنسي بأنه يعمل مع والدي .. ووالدي ماكان ليتركه ويعود باكرا تاركا محمود وحده غارقا في العمل
اقتربت من نانسي قائلة :- هل تعرفين بأن لمحمود شقة في المدينة .. شقة فاخرة مجهزة بجميع وسائل الراحة .. لقد اعتاد أن يقضي فيها الكثير من لياليه .. فهو قطعا لن يحضر صديقاته إلى هنا .. وأنا واثقة بأنه لم يخبرك بها ولن يفعل .. كي تبقى شقة العزوبية جاهزة دائما لأي موعد طارئ
بالرغم من توتر جسد نانسي وتأثير كلمات ريم السامة عليها .. قالت بمرح :- أنت محقة .. فهو لم يخبرني بها
منحتها ابتسامة لعوب وهي تقول :- لقد أخذني إليها ... أين تتوقعين بأننا قد قضينا الوقت بعد زواجنا وقبل حضوري إلى هنا ؟
اقتربت لتنظر إلى عينيها العسليتين الغاضبتين وقالت :- أما عن صديقاته اللاتي تتحدثين عنهن .. فأنا واثقة بأن العديد منهن تمنين الزواج به .. بل ربما انتظرنه طيلة حياتهن .. وهذا لا يهمني إطلاقا .. لأنه عندما قرر الزواج أخيرا .. اختارني أنا
منحتها ابتسامة حلوة وهي تقول :- تصبحين على خير يا ريم
صعدت إلى غرفتها .. ومنعت نفسها بصعوبة من صفق الباب بقوة .. تمتمت بغضب :- الحقيرة
ثم نظرت إلى صورة صغيرة له على منضدة الزينة وقالت بغل :- أيها المزيف الحقير
بدلت ملابسها وارتدت منامة حريرية بيضاء .. ثم دست نفسها في السرير وهي تتساءل .. هل كانت ريم تكذب عليها .. أم أن محمود يمتلك مثل تلك الشقة في قلب المدينة ؟
تقلبت في الفراش وهي تفكر كالمحمومة .. هل سيشاركها محمود هذه الليلة فعلا ؟ .. هل سيشاركها السرير ويحاول أخذ حقوقه منها ؟
التدفئة المركزية كانت تعمل بأقصى طاقاتها .. ولكنها كانت تعرف بأن الحرارة التي كانت تجتاحها نابعة من أعماقها هي .. كان مجرد التفكير في محمود يلمسها تثير جنونها .. كيف ستسمح له بهذا بينما تأخذها الأفكار حوله في كل مكان .. أخذت تقسم بأغلظ الأيمان بأنه لو حاول لمسها فسينال منها ما يستحق .. ستقاومه وتركله .. تترك الغرفة إن اضطرت مهما كان وضعها سيكون مذلا أمام ريم ..
أخفت وجهها في الوسادة بإرهاق .. لقد أخبرها صراحة بأنه يريدها .. وهو ليس بالرجل الذي يقبل بسهولة ألا يحصل على عروسه بعد أسبوع من زواجهما .. تذكرت نظراته في كل مرة كان يوضح لها نواياه ... فارتجفت ..
إن حصوله عليها في ظروف زواجهما الاستثنائية سوف يشعرها بمزيد من الذل والهوان .. ويؤكد لها على بيعها لنفسها له .. بالضبط كما قال ماهر ..
لم تدر كم مر من الوقت وهي تتقلب عاجزة عن النوم .. حتى شعرت بوصوله
أدرات ظهرها متظاهرة بالنوم في لحظة دخوله إلى الغرفة .. كانت حركاته هادئة وصامتة وهو يتجول في الغرفة .. سمعته يفتح الخزانة .. ثم سمعت حفيف ثيابه وهو يبدلها .. شعرت بالعرق يبلل جسدها ووجهها من فرط التوتر والترقب .. شعرت به يزيح البطانية الثقيلة والدافئة ففاجأها التيار البارد الذي تسرب إلى جسدها الدافئ .. استقر إلى جانبها بصمت .. فأحست بدفئه رغم المسافة الفاصلة بينهما.. واستنشقت عبير عطره الرجولي الزكي .. لم يلمسها .. أو حتى يحاول الاقتراب منها .. وخلال دقائق .. سمعت صوت انتظام أنفاسه .. لقد استغرق في النوم
رغم استرخاء أعصابها أخيرا .. إلا أن مزيجا من السخط والحيرة اجتاحا فكرها .. الحيرة من تصرفه .. والسخط من حرمانه لها من فرصة رفضه ومقاومته .. ما الذي يهدف إليه بالضبط ؟ .. هل أدرك فجأة بأنه لا يريدها حقا كما كان يظن ؟ .. أم أنه يهدف إلى إثارة أعصابها وإهانتها برفضه هو لها ؟
مهما كانت أسبابه .. فقد جنب نفسه الكثير من المشاكل .. وعندما نامت أخيرا .. كانت قد استغرقت وقتا طويلا لتفعل مانعة نفسها بصعوبة من إلقاء أي نظرة عابرة نحو الرجل الذي تزوجها
لا .. بل الرجل الذي اشتراها



نسمات عطر 02-01-2017 06:41 PM

الفصل الثالث عشر



هل أغار ؟؟



هتفت حنان باستنكار :- لم يحدث شيء !
قالت حنان وهي تمشط شعرها بعصبية :- لقد أخبرتك بأنه قد وصل متأخرا ونام دون أن يوجه لي أي كلمة .. لقد كان يظنني نائمة في الواقع
فكرت حنان قليلا ثم قالت بحزم :- هذا يدل على نبل أخلاقه
نظرت إليها نانسي باستنكار فأوضحت حنان :- لابد أنه يقدر عدم تجاوزك بعد لوفاة والدتك .. ويترك لك المجال لتتأقلمي مع وضعك الجديد كزوجته
تجهمت نانسي .. قطعا هي لم تفكر بهذه الطريقة .. هل كان هذا هو هدف محمود ؟ ألا يجبرها على شيء ليست مستعدة له بعد ؟ .. لم تعرف هل تقدر فيه فعله هذا أم تحقد عليه لأنه يثبت لها من جديد بأنه أفضل منها .. ولكن الحقيقة هي أن صورته داخلها قد تغيرت قليلا .. ما الذي توقعته ؟ الدكتور محمود أستاذ جامعة قدير .. وليس رجل غابة متوحش .. تنهدت وهي تقول :- من الأفضل أن أذهب إلى الجامعة قبل أن أتأخر
ارتدت ملابس داكنة اللون بالطبع شديدة الأناقة .. مع زينة خفيفة على وجهها لم تنقص شيئا من جمالها ورقي مظهرها ..
إن كانت ستعود إلى الجامعة .. فستتسلح بأقوى أسلحتها .. الأناقة
أوصلها مأمون إلى بوابة الجامعة .. وهناك سألها :- متى أعود لاصطحابك يا سيدة نانسي
نظرت إلى ساعتها قائلة :- في الساعة الثانية والنصف
ترجلت من السيارة بساقين مرتعشتين .. وبصعوبة استطاعت اختراق الجامعة وهي تعتنق روحها القديمة .. المشبعة بالثقة والكبرياء .. أدهشها رد الفعل الذي وجدته إذ أسرعت زميلاتها نحوها مرحبات بها ببشاشة .. بعبارات العتاب للغياب الطويل .. ثم أطلقت إحداهن تعليقا خبيثا عن الدكتور محمود .. هكذا إذن .. لقد أدركن بأنها الآن أصبحت زوجة أستاذهن .. بل هي زوجة رجل مهم في المجتمع .. مما يعني أن إغضابها ليس من مصلحتهن .. لدهشتها لم تكن نانسي سعيدة لهذا .. فهي لا ترغب بأن يعود مجدها القديم القائم على المصالح والذي أثبت هشاشته من خلال تجربتها .. لم ترغب بمودة تختفي عند حدوث أي مشكلة معها .. إلا أن هذا يبقى أفضل بكثير من عدائهم واضطهادهم لها
تساءلت عن مصدر معرفتهم بخبر زواجها .. وعندما انتهت محاضرتها الأولى .. خرجت لتجد ماهر في انتظارها.. نظرت إليه ببرود وهو يتجه نحوها قائلا :- صباح الخير يا نانسي .. تسعدني عودتك
تمتمت بهدوء :- أشكرك
قال بخفوت :- أعتذر عما بدر مني في المستشفى يا نانسي .. لم يكن من حقي مخاطبتك أو الحكم عليك بهذه الطريقة .. لقد عرفت بوفاة والدتك .. والدكتور محمود هو أفضل من يهتم بك ويحميك وقد خلت حياتك من أي معين
رفعت عينيها إليه قائلة :- هل أنت من أخبر الطلاب بزواجي من الدكتور محمود ؟
:- كان لابد أن أمهد لعودتك .. وقد توقعتها .. الآن لن يجرؤ أحد على الاقتراب منك أو الخطأ في حقك
ثم قال وقد ظهر القلق في عينيه :- هل تسامحينني يا نانسي ؟
ابتسمت قائلة :- أنت صديقي الوحيد يا ماهر .. لو لم تأت إلي لأتيت أنا إليك
تبادلا بعض الأحاديث قبل أن يفترقا ليلتقيا بعد المحاضرة الثانية
لم تر نانسي محمود في الكلية ذلك النهار .. بل هي لم تره على الإطلاق ذلك الصباح إذ استيقظت لتجد جانبه من السرير فارغا مما أشعرها بالراحة والإسترخاء
أوصلها ماهر إلى حيث يقف مأمون بالسيارة في انتظارها وهو يقول :- ان احتجت لأي مساعدة فلا تترددي في سؤالي .. وسأحضر لك كل ما تحتاجينه من أوراق ومحاضرات فاتتك
:- أشكرك يا ماهر
ترددت قبل أم تطرح عليه السؤال الذي كان يقلقها منذ الصباح .. وعندما طرحته قال بدهشة :- جابر ؟ ما الذي ذكرك به الآن ؟ لقد طرد من الكلية منذ فترة طويلة .. ربما بسبب إحدى فضائحه الأخلاقية
هدأت أعصاب نانسي التي أمضت يومها تتلفت يمينا ويسارا خوفا من مصادفته في الكلية .. عندما وصلت إلى البيت .. بدلت ملابسها ثم تفقدت لينا التي كانت ترسم في غرفتها .. قضت معها بعض الوقت .. ثم قررت النزول إلى المطبخ والبحث عما تأكله وقد شعرت بالجوع الشديد بسبب وصولها متأخرة عن موعد تقديم الغداء ..
توقفت جميع العاملات عن العمل على إثر دخولها إلى المطبخ .. ونظرن إليها بدهشة .. أسرعت نجوى نحوها وهي تقول بارتباك :- سنعد لك الغداء فورا يا سيدتي
قالت نانسي بهدوء :- أخبريني أين أجد كل شيء وسأخدم نفسي بنفسي
موقفها كان مفاجئا حتى لحنان التي أبت إلا أن تساعدها في وضع الطعام داخل المايكروويف وتسخينه .. ورغم اعتراضها لم تقبل نجوى أبدا إلا أن تقدم لها الطعام في غرفة المائدة وبطريقة لائقة
وعندما بدأت بالأكل سألت نجوى :- هل يأكل السيد محمود كثيرا خارج المنزل ؟
أجابت نجوى :- نادرا ما يتناول غداءه هنا .. ولكنه غالبا ما يعود وقت العشاء
أنهت نانسي طعامها بهدوء .. ثم سألت فور انتهائها :- هل الجدة مستيقظة ؟
:- لا أعتقد يا سيدتي .. فهي تنام دائما في هذا الوقت
تساءلت نانسي عما تفعله .. فقررت الدخول إلى مكتب محمود والبحث عما تقرأه .. دخلت لتجد ريم هناك تجلس على إحدى الأرائك الجلدية باسترخاء وتتصفح إحدى المجلات .. اعتذرت نانسي قائلة :- أنا آسفة .. لم أعرف بوجود أحد هنا
أجابت ريم ببرود :- كما ترين .. أنا هنا ولا أحب أن يقاطعني أحد أثناء مطالعتي
كبتت نانسي غضبها وهي تقول :- في هذه الحالة عليك إيجاد مكان آخر لمطالعتك .. فأنا بحاجة إلى كتاب
نهضت ريم بغضب .. ولكن قبل أن تنطق بـأي كلمة .. ارتفع صوت محمود يقول :- مرحبا أيتها الفتاتين
استدارتا نحوه فاقترب من نانسي قائلا :- كيف حالك يا حبييبتي ؟
وكي يفاجئها .. انحنى ليطبع على وجنتها قبلة سريعة جعلت قلبها يخفق بقوة .. ولكنها فاجأته بدورها وهي تقول برقة شديدة :- بخير يا حبيبي .. لقد اشتقت إليك كثيرا
ارتفع حاجباه بدهشة بينما استرقت نانسي النظر نحو ريم الساخطة .. والتي قالت بحنق :- بالإذن
ما إن خرجت حتى ابتعدت نانسي عنه وهي تقول بجفاف :- أهلا دكتور .. لم أتوقع عودتك باكرا
قال ساخرا :- كما لم اتوقع عند عودتي عرضا غراميا أمام ابنة عمي .. ما هو هدفك بالضبط ؟
قالت ببرود :- ربما انا لا أحب أن يدرك أي من سكان المنزل حقيقة زواجنا المخزي .. وريم تنتظر كالصقر الجائع أقل لمحة عن ذلك .. لا تحاول التظاهر بأنك لم تعرف بان ابنة عمك مغرمة بك
قال ببرود مماثل :- اتركي ريم في حالها .. وأنصحك أن تهتمي بأمورك الخاصة في هذا المنزل .. وبدلا من إجهاد نفسك في مشاكسة الآخرين .. تذكري كيف وصلت إلى هنا
قبل أن تتمكن من منع نفسها هتفت بغل :- أنا أكرهك
وضح حقيبة اوراقه على المكتب وهو يقول :- وهل ظننتني متيم في هواك ؟
استدار نحوها يسألها فجأة :- كيف كان نهارك في الجامعة .؟
هزت كتفيها قائلة :- جيد
نظر إلى وجهها متفحصا وكأنه كان في انتظار جواب أكثر إسهابا .. سألها :- هل قابلت ماهر؟
:- طبعا قابلته .. هل نسيت بأنه صديقي ؟
تجهم وجهه دون أن يعلق .. قال مغيرا الموضوع :- جهزي نفسك هذه الليلة .. فنحن مدعوان للعشاء
قالت بدهشة :- نحن ؟
:- نعم .. أحد شركائي وأعز أصدقائي عرف بزواجنا ودعانا للعشاء احتفالا به .. يجب أن تتوقعي الكثير من هذه الدعوات .. فأنا لدي الكثير من المعارف
لاحظ ترددها فسألها :- هل من مشكلة يا نانسي ؟
لم ترغب حقا بقول ما يشغل بالها .. ولكنها تجاوزت كرامتها وقالت بانزعاج :- ليس لدي ما أرتديه
دهش وكأن هذا كان آخر ما توقعه منها .. وقال :- عرفت بأنك قد أحضرت معك الكثير من الحقائب الممتلئة بالملابس
قالت بحدة :- أنت لا تفهم .. ملابس السهرة لدي قديمة وقد لبستها أكثر من مرة .. كما أنها لا تناسب امرأة متزوجة
نظر إليها طويلا ... قبل أن يبتسم لدهشتها بحنان قائلا :- علي إذن أن أعتذر منك يا زوجتي العزيزة .. لم تحصلي على زفاف لائق كغيرك من العرائس .. أو حتى على جهاز مناسب .. كان علي التفكير بهذا مسبقا .. أنا آسف
فغرت فمها ذاهلة عندما قال :- يمكنك أخذ مأمون والذهاب إلى السوق وشراء كل احتياجاتك .. واحتياجات لينا أيضا .. ما يهمني هو أن تكوني جاهزة في تمام الساعة الثامنة لنلحق بموعدنا .. هل يناسبك هذا ؟
أفاقت من دهشتها .. ورفعت رأسها قائلة بشموخ :- لا بأس
ضحك وهو يقترب منها .. وينظر إليها برقة قائلا :- أنت طفلة صغيرة يا نانسي .. مهما حاولت التظاهر بالقوة والنضوج .. فأنا أستطيع بسهولة رؤية تلك الطفلة المختبئة هنا
أشار إلى صدرها .. قبل أن يداعب أنفها بخفة ويتركها مغادرا المكتب .. عقدت ساعديها أمام صدرها محاولة إبعاد تأثير لمسته العابرة وهي تفكر بعناد .. إن كان يظن بأنه قد اشتراني .. فهو لن يدفع ثمنا بخسا لي .. من واجبه أن يوفر لي كل ما أرغب به .. أليس كذلك ؟
في تمام الساعة الثامنة .. كانت نانسي تضع لمسات الزينة الأخيرة أمام المرآة .. وبطرف عينها كانت تراقب محمود وهو يحكم وضع ربطة عنقه .. ملاحظة وسامته وجاذبيته الصارخة في الملابس الرسمية .. حتى الآن لم تستطع التأقلم مع إقامتها في غرفة واحدة معه .. كانت تشعر بالتوتر في كل مرة ينفردان فيها .. نهضت قائلة :- أنا جاهزة
نظر مطولا إلى ثوبها الأسود الجميل .. الذي غطى بطوله كاحليها .. وناسب جسدها بشكل تام .. كان عاري الكتفين وقد زين صدره دبوس على شكر نمر ماسي صغير بعينين من الزمرد كان من بقايا مجوهرات والدتها
تأمل شعرها الذي رفعته بشكل بديع أظهر عظام وجنتيها الجميلة وعنقها الناعم الرشيق .. فابتسم قائلا :- مدهشة
توترت تحت أنظاره المتأملة .. راقبته وهو يرتدي سترته قائلا :- ولكن هناك شيء ناقص
عبست قائلة :- ماذا ؟ ما هو ؟
استدارت تنظر إلى المرآة بقلق .. لقد تبرجت بإتقان فظهر لون عينيها الأخضر الفيروزي .. وفمها بدا أكثر جمالا وامتلاءا بعد أن طلته بلون وردي فاتح .. راقبته يقترب منها بهدوء ويخرج شيئا من جيبه .. حبست أنفاسها عندما فتحها لترى محبس الزواج الذهبي مرفقا بخاتم ماسي يخطف الأنظار ببريقه .. تمتمت باضطراب :- ما هذا ؟
قال بهدوء :- زوجة فاضل محمود لن تتجول امام الناس بلا خاتم زواج يليق بها
عقد لسانها .. ولم تستطع النطق بكلمة وهي تتأمل الخاتم الجميل .. أمسك يدها .. وأحاط بنصرها الأيسر بالخاتمين دون أن يتوقف عن النظر إليها ..ثم رفع يدها إلى شفتيه ليطبع قبلة طويلة على بشرتها الناعمة مما جعل رجفة خفيفة تسري في أوصالها .. قال بعمق :- لقد سبق وقلت بأن هذه الأصابع الناعمة قد خلقت لأجل ارتداء الخواتم الثمينة
تسارعت أنفاسها وقد أحست بشيء كالشلل يلفها عندما قربها منه بنعومة هامسا في أذنها .. أنت تشبهين هذا النمر النائم على صدرك يا نانسي .. بعينيه الخضراوين .. واستعداده للقفز بعيدا عند أول لمسة
وكأنها كانت في انتظار كلمته لتصحو من غيبوبتها وتهتف بذعر :- لقد تأخرنا
انسلت من بين يديه وتناولت حقيبة يدها قائلة :- ألن نذهب ؟
ظهر شيء من الفوضى في عينيه وهو يقول :- بلى .. سنذهب .. هيا بنا
ارتدت معطفها وهي تحاول تهدئة نبضات قلبها العنيفة .. يا إلهي ساعدني .. ثم غادرا معا
التقت في المطعم الفاخر بشريك محمود وزوجته .. كان رجلا متوسط العمر .. وزوجته كانت ثلاثينية حسناء .. بدا من حرارة استقبالهم لمحمود شدة إعجابهم به .. وبعد أن عرفها إليهما وبالعكس قالت الزوجة إيناس :- أخيرا تزوجت يا محمود .. لم أظن أبدا بأن هذا اليوم سيأتي قط
قال محمود باسما وهو ينظر إلى نانسي :- لابد ان يتخذ الرجل القرار الحاسم عندما يجد الشخص المناسب
تورد وجه نانسي وهي تتحاشى النظر إليه بينما قالت لها إيناس :- عندما نلتقي ينشغل عصام ومحمود دائما في أحاديث العمل .. فأشعر بالملل الشديد .. الآن لا امانع ان يتحدثا في العمل طوال الأمسية .. فقد حصلت على صديقة جديدة
منحتها نانسي ابتسامة صادقة وقد أعجبت بها .. بينما قال زوجها مفكرا :- أنت من عائلة راشد .. بالتأكيد لا يمت إليكم سلمان راشد بأي صلة صحيح ؟.. إنه ذلك الرجل الذي اتهم بالقيام بأعمال غير مشروعة .. والذي مات في السجن .. لقد عرفته شخصيا قبل أن يتم اتهامه .. لقد كان شخصا جيدا .. ما زلت غير مصدق للاتهامات التي وجهت إليه .. هل تعرفينه ؟
شحب وجه نانسي في الوقت الذي قال فيه محمود باهتمام :- لقد أخبرني عمي بأنك قد طرحت عليه موضوع الأرض هذا الصباح .....
تمكن محمود من تغيير الحديث بمهارة حيث التفت الرجل لحديثه باهتمام .. بينما مالت زوجته نحوها قائلة :- لم أتخيل يوما ان أرى محمود متزوجا .. لقد بدا لفترة طويلة عازفا عن الزواج .. وقد كرس نفسه لعمله في شركاته وفي الجامعة .. أما عن زواجكما دون ضجة فهذا لم يدهشني .. لطالما كان محمود كارها للمظاهر الزائفة
ابتسمت نانسي قائلة :- يبدو أنك تعرفينه جيدا
قالت إيناس بمرح :- لقد كنت زميلته في الجامعة .. محمود كان شابا مجتهدا في دراسته .. وذا شخصية لامعة بين زملاءه .. ولا أخفي عنك مدى شعبيته بين الفتيات .. فقد كن يحمن حوله كالنحل حول وعاء العسل .. أي منهن لم تكن مميزة بالنسبة إليه
تساءلت نانسي إن كانت هذه المرأة أيضا إحدى المعجبات القديمات به .. وكأنها قد قرأت أفكارها قالت :- لو لم أكن مغرمة بعصام ابن خالتي منذ الطفولة لأغرمت بمحمود كأي فتاة طبيعية أخرى .. فهو يمتلك جميع المقومات التي تجعله مرغوبا .. ولكنني دائما أحببت عصام 00 تزوجنا بعد تخرجي مباشرة .. ولدينا الآن 3 أطفال بارعي الجمال
كانت سهرة لطيفة للغاية .. فقد قضت نانسي وقتا ممتعا بصحبة الزوجين المرحين .. بل واكتشفت بأن زوجها البارد قادر أيضا على أن يكون مرحا بدوره عندما يرغب .. كادت الأمسية أن تكون كاملة لو لم تقترب فتاة سمراء من طاولتهما وهي تقول بسعادة :- محمود .. يا لها من صدفة سعيدة .. مضى وقت طويل منذ لقائنا آخر مرة
وقف محمود لتحية الفتاة التي أسرعت ترمي نفسها عليه معانقة إياه فقال بهدوء وهو يبعدها عنه بلطف :- مرحبا هديل ..
التفتت هديل إلى الآخرين قائلة بمرح :- عذرا أيها السادة .. محمود صديق قديم ... لا يظهر إلا لماما .. فكان علي استغلال رؤيته لتبادل بعض الحديث معه
عادت تعاتبه قائلة :- أين أنت يا رجل ؟ منذ تلك الحفلة التي أقامها والد نسرين لن نرك في أي مناسبة .. اسمع .. أرغب بأن أراك في ...
قاطعتها نانسي قائلة ببرود :- ألن تعرفني بصديقتك يا محمود
انتبهت الفتاة في تلك اللحظة إلى رفيقة محمود التي شملتها بنظرات ازدراء شديدة .. فتنحنح محمود وهو يقول :- أقدم لك زوجتي يا هديل .. نانسي .. هديل صديقة قديمة
الصدمة العنيفة بدت جلية على وجه الفتاة وهي تنقل نظرها عبر الوجوه وكأنها تنتظر من يضحك في وجهها معلقا بأنه محمود يمزح .. بينما بدا القلق على وجه إيناس .. وانزعاج في وجه محمود الذي لم يخف ضيقه من هذا اللقاء غير المتوقع
تمتمت هديل قائلة :- أنا آسفة .. لم أعرف
قالت نانسي بفتور :- بالتأكيد لم تعرفي .. لقد تزوجنا حديثا جدا
استدارت الفتاة نحو محمود قائلة :- هل عرفت نسرين بذلك ؟
قال بهدوء :- سيعرف الجميع عاجلا أم آجلا .. تفضلي وشاركينا السهرة
قالت ببرود :- أشكرك .. أنا مضطرة للذهاب .. سعدت بلقائكم
منحت نانسي نظرة قاسية وكأنها تستثنيها من كلامها .. ثم ابتعدت
قضت نانسي بقية السهرة صامتة بالرغم من محاولة إيناس الترويح عنها ..وعندما ذهبتا إلى استراحة السيدات وجدت إيناس الفرصة لتقول لها :- كل الرجال لديهم قصص ومغامرات قبل الزواج .. أنا واثقة بأن هذه الفتاة كغيرها لم تعد تعني شيئا لمحمود
قالت نانسي بهدوء :- بالتأكيد
لم تتفوه بحرف طيلة الطريق إلى البيت .. وعندما دخلت إلى غرفة النوم كان أول ما فعلته هو انتزاع خاتمي الزواج من إصبعها ورميهما فوق منضدة الزينة .. دخل محمود خلفها وهو يقول :- أفهم من هذه التصرفات الطفولية بأنك غاضبة
استدارت إليه وهي تقول بانفعال :- غاضبة .. هذه هي أقل كلمة قد تصف مشاعري في هذه اللحظة .. أعرف بأنك لا تهتم بمشاعري مثقال ذرة .. ولكن إياك أن تهزأ بكرامتي في العلن يا دكتور محمود .. إياك أن تظهرني أمام الناس بمظهر الزوجة المخدوعة الحمقاء وأنت تتباهى بتاريخك العظيم مع النساء
قال بغضب :- الفتاة لم تكن تعرف بزواجنا يا نانسي
صاحت :- وأنت لم ترغب بإيذاء مشاعرها ففتحت لها ذراعيك
ضيق عينيه وهو يقول :- هل أفهم من هذا بأنك تغارين ؟
احمر وجهها من هذه الحقيقة التي لم تخطر على بالها .. ولكنها قالت بعصبية :- أنا لا أغار عليك .. بل على كرامتي وكبريائي .. ومظهري أمام الناس .. كيف سيكون رد فعلك لو تركت أنا زميلا لي يحتضنني أمام معارفك
قال بخشونة مفاجئة :- كنت قتلتك
أجفلت لعنفه المفاجئ والبريق الوحشي الذي أطل من عينيه وهو ينظر إليها بطريقة جعلتها تخاف حقا .. تمتمت بتوتر :- هاقد فهمت وجهة نظري
قال ببرود :- الزوجة الحقيقية هي التي تبذل جهدها لتمنع زوجها من النظر إلى غيرها بدلا من الانفجار غضبا كلما اقتربت منه امرأة
راقبته متوترة وهو يبدأ بتبديل ملابسه فقال :- ما الذي تفعله ؟
قال وهو يحل أزرار قميصه :- كما ترين .. أبدل ملابسي
توقف فجأة وهو يلاحظ وجهها المحتقن فقال :- ما الأمر ؟ هل تكرهين أن أفعل هذا أمامك ؟
قالت بصوت مختنق :- نعم
نظر إليها من رأسها حتى أخمص قدميها بطريقة جعلتها ترتعش .. ثم قال :- هل نسيت بأنك زوجتي يا نانسي ؟ وأن ما يحق لي هو أكثر بكثير من تغيير ملابسي أمامك
شعرت بالذعر وهي تراه يقترب منها .. تراجعت وهي تقول بقلق :- ما الذي تفعله ؟ إياك والاقتراب مني
ولكنه استمر في الاقتراب فتراجعت حتى التصقت بزجاج النافذة الكبيرة وهي تصيح بذعر :- إياك أن تلمسني .. أحذرك بأنني سأصرخ عاليا .. سأركلك .. سأضربك
أغمضت عينيها بقوة عندما مد يده نحوها .. ثم فتحتهما بدهشة وهي تدرك بأنه لم يلمسها .. بل مد يده إلى النافذة خلفها يحكن إغلاقها قائلا ببرود :- الجو بارد في الخارج .. تأكدي في المرة القادمة من إحكام إغلاقها
تراجع وهو يحمل ملابسه ويدخل إلى الحمام مغلقا الباب خلفه .. فزفرت بقوة وهي تحاول استعادة هدوئها .. إنه يعبث بها وبأعصابها .. ولكنها تعرف بأنه عندما يقرر بأن الوقت قد حان لامتلاكها فإن أي من اعتراضاتها لن تجدي .. وهذا اليوم لن يكون بعيدا .. لقد قرأت هذا في عينيه بوضوح .. بدلت ملابسها بسرعة ودست نفسها في السرير .. سمعته يخرج من الحمام ويستقر إلى جانبها .. ساد صمت طويل في الغرفة المظلمة إلا من ضوء الأباجورة المجاورة لطرفه من السرير ..
قال فجأة بينما هي تدير ظهرها له :- لم أقصد جرح مشاعرك يا نانسي .. لم يكن بيني وبين هديل أي علاقة في أي وقت مضى .. لطالما كانت مجرد صديقة لا أكثر
أرادت أن تتجاهله .. ولكنها قالت دون أن تنظر إليه بجفاف :- من الواضح أنها لم تعتبرك صديقا على الإطلاق
:- هذا شأنها هي .. إن آخر ما قد أرغب بفعله هو إهانتك أمام الآخرين
استدارت نحوه مترددة .. فاستطاعت رؤية بريق عينيه القاتمتين .. بينما غطت الظلال معالم وجهه تمتمت :- أشكرك لأنك وقفت إلى جانبي عندما تحدث السيد عصام عن أبي
قال بحنان فاجأها :- أنت زوجتي يا نانسي ... وقد وعدتك يوما بأنني سأحميك
فكرت بأنها لا تتذكر هذا الوعد .. إلا ان حنانه جعلها تشعر بالضعف فجأة وبالرغبة بالبكاء .. منذ متى لم تشعر نانسي بالحماية ؟ أحست بان هذا الشعور بعيد جدا عنها .. فتمتمت بصوت اجش :- تصبح على خير
وادارت له ظهرها كي لا يتمكن من رؤية دموعها .. فأطفأ هو نور الأباجورة .. وساد الظلام في المكان .. فراحت نانسي في النوم بعد فترة قصيرة
بعد حلم مريع .. استيقظت نانسي مذعورة عندما سمعت صوت محمود ينادي باسمها .. لاحظت بأن وجهها مغطى بالدموع .. وأن شهقاتها تتلاحق بسرعة وكأنها تبكي قال محمود وهو يمسح الدموع عن وجهها :- اهدئي يا نانسي .. إنه مجرد كابوس
تمتمت بكلمات غير مترابطة :- لقد رأيت أبي .. ورأيت أمي أيضا .. ولينا كان تغرق
ضمها إليه بقوة وهو يقول بصوت حنون :- لم يحدث شيء .. ولن يحدث لك أي مكروه
ارتعدت وهي تشعر بذراعيه القويتين تحيطان بها .. وبصدره الصلب يحتويها .. استنشقت عبيره الرجولي الذي كان له أكبر التأثير على أعصابها .. بينما هو يهدهد لها كالأطفال هامسا :- لن أسمح لأحد بأن يؤذيك يا نانسي .. أنت ستكونين بأمان .. أعدك
انتابها شعور غريب وهي تستمع إلى هذه الكلمات وإلى نبرة صوته .. ثمة شيء مألوف لم تستطع تمييزه .. ولكنها سرعان ما نسيت كل شيء وهي تغفو على صدره


نسمات عطر 02-01-2017 06:43 PM

الفصل الرابع عشر



وماذا بعد ؟


رفعت نانسي عينيها عن كتابها لتبتسم في وجه لينا التي دخلت عليها وهي تقول بلهفة :- نانسي .. لقد دعاني فراس لحضور حفلة موسيقية يقيمها المعهد الذي يدرس فيه مساء اليوم.. هل أستطيع الذهاب ؟
نظرت نانسي إلى فراس الذي وقف عند الباب بحرج ثم ابتسمت قائلة :- بالتأكيد
أطلقت لينا صيحة سعادة وهي تعانقها بامتنان ثم تستدير نحو فراس قائلة :- سأبدل ملابسي وأوافيك
ركضت خارجة بينما اعتدلت نانسي التي كانت تجلس مسترخية على أريكة جلدية احتلت موقعا تحت نافذة غرفة المكتب .. قال لها فراس :- شكرا لسماحك للينا بمرافقتي
قالت بلطف :- بل شكرا لك لأنك تعاملها بلطف
نظر إلى كتابها قائلا :- انت تدرسين الاقتصاد كابن عمي محمود .. لقد رغبت دائما بأن أكون مثله .. ولكن هوايتي الموسيقية قد غلبتني
قالت :- أنا متأكدة بأنك ستصبح موسيقيا بارعا
صمت لثواني قبل أن يقول :- على عكس والدتي وريم أنا سعيد لزواج محمود بك .. ما كان ليسعد مع ريم
قالت بحذر :- لماذا تعتقد هذا ؟
قال وهو يهز كتفيه :- لقد كانا صديقين دائما .. وقد خرجا معا مرارا .. ولكنه لم يشعر نحوها يوما بما يتجاوز الأخوة .. كما أنه وريم غير متلائمين .. ريم لا تناسبه أبدا
تمتمت :- أنت تحب محمود كثيرا
قال بصدق :- لطالما كان قدوتي الأولى
بعد دقائق نزلت لينا بعد أن تأنقت .. ورافقت فراس إلى الخارج .. فخلعت نانسي حذائيها ورفعت قدميها فوق الأريكة وعادت تحاول متابعة الدراسة
استغرقت في القراءة حتى أنها لم تشعر بمحمود وهو يدخل إلى الغرفة ويقف متأملا إياها لتوان قبل أن يتنحنح كاشفا عن وجوده .. فارتبكت عندما رأته وحاولت الاعتدال فقال مسرعا :- ابقي كما أنت
اقترب وهو ينظر إلى كتابها قائلا :- أنت تدرسين .. هذا جيد .. إن أردت أي مساعدة في الدراسة أخبريني
قالت بقلق :- إن رغبت باستعمال المكتب .. يمكنني أن أخرج
قال :- لا تقلقي .. لدي بعض المحاضرات لأجل الغد أرغب بمراجعتها .. ولن يزعجني وجودك
جلس خلف المكتب .. وأخرج حاسوبه المحمول من حقيبته الجلدية .. وأخذ يعمل بصمت .. وجدت نانسي نفسها تنسى كتابها وترمقه بطرف عينها .. هي لم تره منذ يومين .. كان يستيقظ مبكرا قبل نهوضها .. ثم يعود متأخرا بعد أن تنام .. وقبل هذا .. كان دائما يعاملها بلطف حيادي .. يشبه لطفه مع لينا أو أقل .. ولكنه كاف ليدفعها لافتقاده خلال الأيام التي لم تره فيها
رف رأسه إليها سائلا :- هل من شيء يزعجك ؟
احمر وجهها وهي تقول :- لا شيء
اعتدل قائلا :- كيف لا شيء .. لقد كنت تنظرين إلي بتركيز وكأنك ترغبين بالحديث معي
كانت مضطرة لاختلاق شيء ما .. فقالت :- كنت أتساءل كيف استطعت دراسة كل هذه الكتب الضخمة والوصول إلى المراتب العالية بينما أعجز أنا عن فك طلاسم كتاب واحد
ضحك قائلا :- هل تجدين أي صعوبة في الدراسة ؟ كل ما عليك فعله هو أن تحبي ما تدرسينه
قالت :- لم أستطع يوما أن أحب الاقتصاد أو أن أستوعبه
:- لماذا تدرسينه إذن ؟
هزت كتفيها :- لم يكن لدي طموحا مختلفا .. ولا هواية مميزة كحب لينا للرسم
ابتسم وهو ينهض ليتجه نحوها .. جلس إلى جانبها على الأريكة الكبيرة فاعتدلت باضطراب .. تناول كتابها من بين يديها قائلا :- لكل إنسان هواية أو ميول معينة .. فكري جيدا .. لابد من وجود عمل تحبين القيام به
فمرت قليلا ثم قالت بتردد :- ألن تضحك ؟
ابتسم فجأة لسؤالها الطفولي فقالت بسخط :- لن أخبرك إذن
لم تدرك نانسي إلى أي حد كانت تبدو طفولية بالتنورة الزرقاء القصيرة والقميص الأبيض المقلم .. وشعرها المعقود على شكل ذيلي حصان خلف عنقها .. أطلت نظرة رقيقة من عينيه وهو يداعب شعرها قائلا :- لن أضحك .. أعدك
رغبت بإبعاد يده عنها ولكنها خشيت ان يدرك الاضطراب الذي تسببه لها لمسته .. تمتمت :- أحب الطبخ
رفع حاجبيه دون أن يعلق .. فأوضحت :- عندما عملت لفترة في المخبز .. انبهرت بشدة وأنا اجد موادا بسيطة تتحول بشكل سحري إلى انواع مختلفة من الخبز والفطائر .. شعرت بالفضول لمعرفة ما تفعله حنان لتحضر لنا الأطعمة الشهية التي كنا نأكلها .. فبدأت أساعدها .. كنت أستمتع فعلا بهذا
قال مبتسما ..:- ما الذي يمنعك من استمرار المحاولة .. انا متأكدة بان الطباخة لن تمانع اقتحامك للمطبخ ..أحب أن أتذوق شيئا من صنعك .. حتى لو مت بعدها تسمما
تأوه عندما ضربت ذراعه بقبضتها .. ثم ضحكا معا .. قالت بحرج :- الأشياء الاخرى التي أحبها ليست مهمة .. اعني بانها تافهة نوعا ما .. أحب كل ما يتعلق بالملابس والزينة والرياضة .. باختصار أحب كل ما يجذب فتاة أفسدها الدلال
رسمت ابتسامة إحباط على شفتيها .. فقال بهدوء :- ليس من المعيب ان تهتمي كغيرك من الفتيات بهذه الامور .. كما أنك لست فتاة أفسدها الدلال
نظرت إليه مصدومة فقال باسما :- أنت مغرورة .. ومتعجرفة .. ولكن لو كنت مدللة حقا لما تمكنت من الصمود في وجه الظروف السيئة التي واجهتك
أمسك يدها الرقيقة .. ونظر إلى عينيها قائلا :- أنت قوية يا نانسي .. ويجب أن تبقي قوية
التقت عيناهما طويلا قبل أن تتورد وجنتاها وهي تقول :- أشكرك يا دكتور محمود
قال بحزم :- توقفي عن مناداتي بالدكتور
بدا عليها الارتباك فأمسك ذقنها بين سبابته وإبهامه .. وأجبرها على النظر إليه وهو يقول :- هيا .. أسمعيني اسمي مجردا
تمتمت بحرج :- محمود
:- مرة أخرى
قالت بحيرة :- محمود
لمحت بريقا غريبا في عينيه وهو يقول :- إياك أن تناديني بهذه الطريقة بالجامعة وإلا فقد هيبتي أمام التلاميذ
اقترب منها فجأة وهو يقول بصوت أجش :- وقبلتك أمام الجميع بلا تردد
ارتعدت وهي تشعر بأنفاسه قريبة منها وهمست :- محمود
:- عفوا
اعتدل محمود على الفور وابتعد عنها بسرعة عندما دخلت ريم إلى الغرفة .. وعبست وهي تنظر إليهما قائلة بجفاف :- لم أدرك بأنك لست وحيدا يا محمود .. لقد كان أبي يبحث عنك
نهض قائلا بهدوء وكأن اللحظة الرقيقة التي مرت بينهما لم تكن :- هل وصل ؟ سأوافيه حالا
خرج ليترك الفتاتين وحدهما .. وضعت نانسي إحدى ساقيها فوق الأخرى وهي تقول بكسل :- ما الأمر يا ريم ؟ لا تقولي بأنك قد صدمت .. فأنت تعرفين بأن ما يحدث بيني وبين محمود أكثر بكثير من هذا
لرت ريم فمها قائلة بمكر :- لم أصدم يا نانسي .. بل تذكرت المرات التي ضبطت فيها أنا ومحمود في وضع كهذا
شعرت نانسي بطعنة أليمة في صدرها .. وبذلت جهدا خرافيا كي تخفي تأثير كلمات ريم المسمومة عليها .. قالت ببرود :- لقد سبق وعرفت بأنك كنت مولعه بزوجي يا ريم .. ما من داعي لتلميحاتك الرخيصة هذه
نهضت واتجهت نحو الباب .. وقبل أن تخرج استدارت نحو ريم قائلة :- تذكري دائما يا ريم بأنني المرأة التي تزوجها محمود .. وأن ماضيه بما يحتويه من مغامرات لا يهمني بما أنه قد انتهى
وبينما هي تغادر سمعت ريم تقول من ورائها بخبث :- المهم أن تتأكدي بأنه قد انتهى
أقفلت نانسي الباب ورائها بهدوء شديد .. بينما كانت النار تتأجج داخلها كالبركان الثائر .. إنها تكذب .. تكذب .. لا يمكن أن يكون محمود على علاقة بها .. إنه ليس موجودا طوال اليوم .. وعندما يتقابلان تكون هي موجودة دائما .. ولكن ريم أيضا تكون غائبة طوال النهار .. هل يتقابلان خارجا ؟ .. هل يلتقيان في تلك الشقة التي تحدثت عنها ريم ؟
ما الذي حدث لها ؟ لماذا تشعر بغضب شديد وبنيران تستعر في صدرها .؟ هل تغار ؟ .. لا .. هي لا تغار .. كما أن ريم تكذب بالتأكيد .. إنها تحاول إغضاب نانسي لا أكثر
في البهو وجدت السيدة منار توبخ إحدى الخادمات بعنف وقسوة .. وقفت لتعرف الحكاية وقد أشفقت على الفتاة المسكينة التي أجهشت في البكاء وهي تقف وسط شظايا ما كان يوما إناءا أثريا
كانت السيدة منار تقول :- هل تدركين ما فعلته بالضبط ؟ .. لقد حطمت تحفة فنية عمرها يعود إلى العديد من السنوات.. لن تبقي في هذا المنزل لحظة واحدة .. اجمعي أغراضك وارحلي من هنا
أخذت الفتاة تتوسل إليها .. بينما المرأة مصرة على موقفها .. اقتربت نانسي وهي تقول بهدوء :- لا أجد أي داعي لإجراء قاسي كهذا يا سيدة منار
عبست منار قائلة :- ليس هناك داعي أكبر مما فعلته هذه المهملة
:- ما زلت أجد بأن الفتاة لا تستحق الطرد بسبب خطأ بسيط قد يحدث مع أي منا
قالت منار بخشونة :- كان عليها أن تكون أكثر حذرا أثناء التنظيف .. لقد اتخذت القرار ولا رجعة فيه
ألقت نانسي نظرة سريعة على الفتاة المنهارة .. ثم قالت بحزم :- الأمر لم ينته يا عمتي .. الفتاة لن تخرج من هذا المنزل .. بل هي لن تعاقب على ما فعلته دون قصد منها
صاحت منار بغضب :- ومن الذي قرر هذا
قالت نانسي :- أنا
ساد صمت طويل نظرت خلاله كل منهما نحو الأخرى بتحدي وغضب .. استدارت نانسي نحو محمود الذي أقبل مع عمه على إثر الضجة .. قال السيد طلال :- ما الذي يحدث هنا ؟
قالت منار بغضب :- لقد حطمت هذه المهملة تحفة غالية الثمن .. ونانسي ترفض معاقبتها
عقد محمود حاجبيه ونظر إلى نانسي التي قالت بصرامة :- لم تقصد تحطيمها .. خطأ كهذا لا يستحق أن تطرد لأجله .. مهما كانت التحفة غالية الثمن .. فهي لا تستحق أن يقطع رزق إنسان لأجلها
استمر محمود في صمته وهو يستمع إليها .. فقالت :- كل إنسان معرض إلى الخطأ .. وهذه الفتاة عملت هنا منذ سنوات كما علمت .. أي أنها فعليا أصبحت جزء من العائلة .. وقد عملت لفترة طويلة على خدمة سكان هذا البيت وراحتهم .. وليس من العدل أن تلقى في الشارع بسبب خطأ بسيط .. إن حدث هذا فلن يشعر أي موظف في هذا المنزل بالأمان بعد الآن .. وبالتالي لن يكون مخلصا
قال محمود بهدوء :- هل تؤمنين بهذا حقا ؟
قالت بحزم :- بالتأكيد
نظر إلى عمه وزوجته قائلا :- مادامت نانسي ترى هذا فليحدث ما تريد .. إنها سيدة هذا المنزل على أي حال .. من حقها وضع القوانين كما تشاء
بدت منار وكأنها قد تلقت صفعة قوية على وجهها .. بينما أظلمت عينا عمه .. شعرت نانسي بالامتنان لمحمود لوقوفه إلى جانبها .. بل كانت أكثر ذهولا من الآخرين .. أسرعت الخادمة الشابة تشكرها بحرارة .. فأوقفتها نانسي قائلة بحزم :- عودي إلى عملك
خلال وجبة العشاء .. ساد صمت ثقيل بين الجالسين .. كانت صدمة كبيرة للسيدة منار أن يعلن محمود وبوضوح سحب البساط من تحت قدميها .. وتقديمه لنانسي على انها سيدة المنزل الجديدة .. لم تتح الفرصة لنانسي لأن تشكره كما يجب إذ استأذن ليدخل إلى مكتبه وبقي فيه لساعات .. بينما دخلت هي إلى المطبخ كعادتها بحثا عن حنان .. صديقتها الوحيدة في هذا المنزل .. ففوجئت بالترحيب الكبير من العاملات هذه المرة .. أعدت لها نجوى شرابا ساخنا احتسته نانسي وهي تجلس على طاولة كبيرة توسطت المطبخ .. جلست نجوى أمامها بعد أن استأذنت .. وأخذت تشكرها لما فعلته وتحكي لها عن السيدة منار وتصرفاتها المتعجرفة مع الخدم .. قالت :- ليس هناك من يحسن معاملتنا سوى السيد الصغير .. فراس .. أما أخته ريم فهي تتصرف منذ سنوات على أنها سيدة المنزل المستقبلية
سألتها نانسي بتردد :- ومحمود ؟
: - من النادر أن يحتك السيد محمود بالخدم .. إنه يتعامل بهدوء ووقار مع الجميع .. حتى مع أفراد عائلته
قالت حنان التي كانت تساعد في تجفيف الأطباق :- السيدة نانسي كانت دائما مخدومة مثالية .. كانت مخيفة في بعض الأحيان .. ولكنها لم تظلم أبدا أي أحد
ضحكت نانسي قائلة :- مخيفة ! .. هذه الكلمة لا تصف حقا ما كنت عليه
ابتسمت حنان قائلة :- أفضل استخدامها كي لا أغضب مخدومتي
نهضت نانسي قائلة :- سعدت للجلوس معكن
أسرعت نجوى تقول :- هل تحتاجين إلى أي شيء يا سيدة نانسي ؟
قالت بدهشة :- لا .. أشكرك
خرجت من المطبخ وهي تدرك بأنها قد احتوت كل خدم البيت إلى جانبها
قضت بعضا من الوقت إلى جانب الجدة ثم صادفت محمود وهي نازلة .. سألها مبتسما :- كيف حال دتي ؟
ابتسمت بدورها قائلة :- بخير 00 وترغب برؤيتك
قال وقد بدا عليه الإرهاق :- سأحدثها قليلا ثم أذهب إلى النوم .. ماذا عنك ؟
قالت بارتباك :- سأنتظر لينا .. فهي لم تعد بعد
استأذنته ونزلت إلى الطابق السفلي .. جلست في غرفة الجلوس إلى جوار النافذة تراقب الظلام الشديد .. لقد تأخرت لينا .. غفت دون أن تشعر .. لتصحو على صوت لينا تقول :- نانسي .. لقد عدت
فتحت نانسي عينيها .. ثم قالت عابسة :- لقد تأخرتما كثيرا
قال فراس الواقف إلى جوار لينا :- أنا أعتذر يا نانسي .. لقد دعوت لينا إلى العشاء
اعتذر وصعد إلى غرفته .. بينما أخذت لينا تحكي لها عن اليوم الرائع الذي قضته مع فراس .. ونانسي كانت تستمع إليها وعلى شفتيها ابتسامة باهتة .. كانت تود لو تحذر أختها من صداقتها لفراس .. إن فراس فتى طيب ومن الواضح أنه لا يشبه أخته في شيء .. ولمنه يبقى أحد أفراد هذه العائلة المريبة التي تكرهها وتتحين الفرص للنيل منها .. ولكن بريق السعادة الظاهر في عيني لينا منعها .. مر وقت طويل منذ وجدت نانسي أختها بهذه السعادة
أدركت بأن الوقت متأخر عندما نظرت إلى ساعتها .. فأوصلت لينا إلى غرفتها .. ثن فتحت باب غرفتها وتسللت بهدوء إلى الداخل .. كانت الغرفة مظلمة إلا من نور الأباجورة الصغيرة إلى جانب محمود الذي بدا واضحا استغراقه في النوم .. بدلت ملابسها بهدوء .. ثم تسللت إلى الفراش .. تقلبت كثيرا دون أن تتمكن من النوم وهي تتذكر كلام ريم .. هل كانت تكذب حقا عندما تحدثت عن علاقتهما ؟ .. لا .. لو كان محمود يحب ريم لتزوجها هي .. كما أنها لم تلحظ على محمود أي إشارة في وجود ريم تدل على وجود مشاعر بينهما .. ولكن ماذا عن الشقة المزعومة ؟ هل هي موجودة أم من نسج خيال ريم ؟ تذكرت هديل والصدمة على وجهها عندما عرفت بزواجه .. من الواضح أنها كانت تتوقع بطريقة ما أن يختارها هي .. أو تلك المدعوة نسرين .. لقد سألته إن عرفت نسرين بزواجه أم لا .. وهذا يعني بأن نسرين هذه كانت تعني له شيئا ..
زفرت بقوة وهي تتقلب فوق السرير .. الحيرة والغضب داخلها يفاجئانها .. عليها أن تعترف بأن ثمة غيرة تشتعل داخلها .. تذكرت الحديث الذي دار بينها وبين محمود في المكتب .. لقد كان رقيقا .. وحنونا .. ومتفهما .. لم يحدث أن تبادلا الحديث بهذا الشكل الودي من قبل .. وعندما كاد يقبلها شعرت بالخوف الكبير .. والفضول الشديد اتجاه تلك القبلة التي لم تحصل عليها .. لا تستطيع أن تتجاهل مشاعرها التي اجتاحتها وهو يميل نحوها .. لقد رغبت في تلك القبلة .. خافت منها .. ولكنها رغبت بها .. عللت لنفسها بانفعال أن اثنين لن يتجادلا حول جاذبية محمود .. وأنها إن مالت إليه فإن أحدا لن يلومها ..
عادت تتقلب وهي تفكر بأن محمود يشاركها السرير منذ أسابيع .. ولكنه لم يحاول يوما أن يلمسها .. بقدر ما سبب لها هذا من الراحة .. بقدر ما أزعجها .. أن ينام هو قرير العين إلى جانبها بينما تقضي هب الليل كله متوترة ومتحفزة تصارع وحدها تلك المشاعر المتضاربة داخلها .. انتابها قلق مفاجئ حول انجذابه نحوها .. ثم ذكرت نفسها بأنه قد تزوجها لهذا السبب بالذات ..
أدركت بأنها لن تتمكن من النوم حتى تطفئ نور الأباجورة الأصفر المستفز .. عل النعاس يعرف طريقه غليها ويسكت وساوسها وأفكارها .. اعتدلت .. وألقت نظرة على محمود الذي كان ينام على جانبه الأيمن حيث كان ظهره مواجها لها .. مدت يدها من فوقه محاولة الوصول إلى المصباح فلم تصل .. مدت جسدها بحذر بحيث لا تلمسه .. ومدت يدها .. إلا أنها وقبل أن تصل إلى المصباح شعرت بذراعه تلتف حول خصرها .. فصرخت بذعر عندما سحبها لتجد نفسها خلال لحظة ممددة على ظهرها وهو فوقها مكبلا حركتها
خفق قلبها وهي تجد عينيه اللامعتين تحدقان فيها عبر الضوء الخافت .. وأنفاسه الحارة تلفح وجهها المتورد اللاهث ... همست بصوت مرتعش :- محمود .. أنا ..
وقبل أن تكمل عبارتها .. أطبق شفتيه على شفتيها بقبلة طويلة .. متسلطة متملكة .. ارتعد جسدها بعنف عندما شعرت بملمس شفتيه القاسيتين .. وبقبلته تزداد حرارة وتملكا .. تمكنت بصعوبة من انتزاع نفسها من بين أحضانه وهي تهتف :- محمود .. أرجوك
أفلتت منه .. وقفزت من فوق السرير .. فالتصقت بالجدار وهي ترتجف بقوة وعنف .. اعتدل جالسا وهو يقول بانزعاج :- إلى متى يا نانسي ؟
منعت بصعوبة دمعة خوف من الفرار من عينيها .. بينما وقف وهو يقول بحزم :- لقد تركت لك كل الوقت اللازم لتتأقلمي مع وضعك الجديد يا نانسي .. لقد مضت فترة طويلة على وفاة والدتك .. وإن ام تتجاوزي بعد حزنك عليها فأنت في مشكلة
عندما لاحظته يقترب منها .. انكمشت على نفسها وهي تقول متلعثمة :- ليس الآن .. أرجوك .. لست جاهزة
عندما اقترب أكثر ركعت على الأرض مغمضة عينيها وهي تحيط جسدها بذراعيها صارخة بذعر :- أرجوك
سمعته يزفر بقوة وهو يقول بانزعاج :- اعتدلي يا نانسي .. أنا لن أهاجمك
رفعت رأسها إليه فوجدت انزعاجا حقيقيا في عينيه .. قال ببرود :- سأمنحك فرصة أخرى يا نانسي .. ولكن لا تتوقعي مني الكثير من الصبر
عاد إلى السرير من جديد دون أن يلقي نحوها نظرة أخرى .. فما كان منها إلا أن ارتدت روبها بيد مرتعشة .. وخرجت جريا من الغرفة
في غرفة المكتب .. حاولت أن تجد كتابا تقرأه فلم تستطع .. فجسدها لم يتوقف بعد عن الارتعاش ... لقد كانت تتساءل منذ دقائق فقط عن شعورها في حال قبلها .. ألا يقول المثل احذر مما تتمناه ؟
تذكرت قبلته .. ولمساته المتملكة .. الخوف الذي أصابها كان بسبب المشاعر الغريبة والمتضاربة التي انتابتها عندما قبلها .. لم تتخيل أبدا بأنها ستتأثر إلى هذا الحد .. لقد أصاب جسدها ما يشبه الشلل والضعف الشديد بحيث كادت تعجز عن مقاومته ... لا .. لن تعود إلى الغرفة .. ليس قبل أن ينام .. حتى أنها لا تثق به وهو نائم .. بل لا تثق بنفسها إن لمسها مجددا .. وبينما كانت تتخبط بين أفكارها .. راحت في نوم عميق

نسمات عطر 02-01-2017 06:52 PM


الفصل الخامس عشر





أكرهك



عندما استيقظت نانسي من النوم وجدت نفسها في سريرها .. تساءلت وهي تتثاءب عن كيفية وصولها إلى هنا .. لم تجد محمود إلى جوارها فأدركت بأنه قد غادر مبكرا .. تذكرت ما حدث ليلة الأمس وخمنت بأن محمود هو من حملها صباحا إلى هنا .. فهي لا تذكر أبدا عودتها إلى الغرفة .. بل هي ما كانت لتعود بإرادتها أبدا .. ارتعشت وهي تتذكر قبلته .. من الواضح أن الوقت الذي منحها إياه قد انتهى .. وأنه يريد أن يتمم آخر شروط اتفاقهما .
طرقت حنان الباب ودخلت قائلة ببشاشة :- صباح الخير
نهضت نانسي من السرير قائلة :- صباح الخير يا حنان
كانت قد اعتادت قضاء بعض الوقت مع حنان كل صباح قبل ذهابها إلى الجامعة .. فعليا .. حنان كانت صديقتها الوحيدة .. بينما هي تمشط شعرها بعد أن غسلت وجهها .. حكت لها باختصار ما حدث ليلة الامس .. فقالت حنان :- هذا متوقع يا نانسي .. لقد مضى على زواجكما أسابيع .. قالت نانسي متوترة :- لقد نجوت بنفسي هذه المرة .. أما في المرة القادمة فلن أعرف ما أفعله
قالت حنان بحدة :- ما عليك فعله ! .. هل نسيت بأنك زوجته ؟ إن طالب بك يا عزيزتي فهذا من حقه
عبست نانسي بينما أكملت حنان :- إن لم تمنحي زوجك ما يريد فسيضطر للبحث عمن ترضي رغباته في مكان آخر
وضعت نانسي بعض اللون الوردي على وجنتيها بعصبية .. إن لم يكن يفعل هذا منذ الآن
قالت باقتضاب :- سأذهب إلى الجامعة .. هلا أخرجت لي الكنزة الزرقاء ؟
في الطريق إلى الجامعة قال لها مأمون :- لقد طلب مني السيد محمود ألا آتي لاصطحابك يا سيدتي .. قال بأنه سيوصلك بنفسه اليوم
نضى اليوم بسرعة .. لم تر خلاله ماهر إلا أثناء المحاضرة التي كان محمود سيلقيها .. جلس إلى جانبها على المقعد الأخير الذي اعتادا الجلوس عليه وهو يقول :- أنا آسف لتأخري
منحته ابتسامة سريعة .. سرعان ما اختفت عندما دخل محمود إلى القاعة ملقيا التحية .. بحث عنها بعينيه حتى وجدها ..
عقد حاجبيه وهو ينظر إلى ماهر .. بدأ بإلقاء المحاضرة بأسلوبه المعتاد السلس والحازم .. كانت لديه طريقة خاصة في جذب الطلاب إلى ما يقوله .. وبث الحماس داخلهم .. لاحظت بانتباه الفتيات اللاتي احتللن الصف الأول ويراقبنه بانبهار .. لوهلة انتابها شعور بالفخر لأن هذا الرجل هو زوجها .. لم ينظر إليها أبدا خلال المحاضرة .. وعندما انتهى الوقت .. خرج جزء من الطلاب وتجمع جزء آخر حوله يطرح عليه الأسئلة .. بينما تسللت هي إلى الخارج برفقة ماهر .. وفي الخارج خاطبتها إحدى زميلاتها قائلة :- كيف هي الأحوال مع الدكتور محمود يا نانسي ؟ لا تبدوان لي كعروسين في شهر العسل
قالت نانسي بهدوء :- هل توقعت أن نتبادل الغول في العلن ؟
هزت الفتاة كتفيها قائلة :- على كل حال .. فلتعلمي بأن هناك العشرات من الحاقدات عليك لاختطافك أكثر عزاب الكلية جاذبية
ابتسمت نانسي قائلة بلؤم :- أنا لا أستحق ما هو أقل .. كما أنني لم أختطفه .. محمود هو من اختطفني
نجحت في أداء دورها ببراعة .. فهي لن تسمح لأي كان بأن يفكر بأنها لم تعد نانسي القديمة .. القوية المقاتلة والمتباهية لمجرد أنها قد تزوجت محمود
سألها ماهر :- هل ستصعدين إلى الكافيتريا
:- ليس اليوم يا ماهر .. سأوافي الدكتور محمود فهو ينتظرني في مكتبه لنذهب معا
صعدت الدرج بخفة نحو مكتب محمود .. كانت تعرف أين يقع بالضبط فقد سبق ودخلته مرة من قبل .. عندما وقع شجارها الأول مع محمود .. طرقت الباب بهدوء حتى سمعت صوته يأذن لها بالدخول .. لم تجده وحيدا .. بل كانت معه الآنسة ديمة .. إحدى الأستاذات في الكلية .. نظرت الآنسة ديمة إليها من خلال نظاراتها الأنيقة تتفحصها بفضول .. بينما قال مححمود :- ادخلي يا نانسي .. أنت تعرفين بالتأكيد الآنسة ديمة .. هذه زوجتي نانسي
كانت الآنسة ديمة متوسطة الجمال طويلة القامة بجسد نحيل .. ترتدي ملابس أنيقة وعملية .. تذكرت نانسي الاشاعات التي كان الجميع في الكلية يتناقلونها عن وجود علاقة بينهما .. وأن الأستاذة التي لا تصغره بكثير كانت تجد فيه العريس المناسب .. ابتسمت نانسي وهي تقول :- أهلا يا آنسة ديمة .. عفوا فأنا لم أعرف بأن محمود ليس وحيدا
نظرت إليه قائلة بدلال :- ما الأمر يا دكتور محمود ؟ ألم يكن من المقرر أن تقلني إلى البيت ؟
رفع حاجبيه بطريقة دلت على تعجبه وقال بهدوء :- طبعا سأفعل
نهضت ديمة قائلة بحرج :- أستأذن .. سنكمل حديثنا فيما بعد يا دكتور محمود
راقبتها نانسي وهي تخرج .. قطعا لن تفكر بعد الآن بالنظر إلى زوجها .. نظرت إلى محمود فرأته عابسا يقول :- أنت لن تتغيري أبدا
تناول معطفه الطويل وارتداه فوق بذلته الرمادية الأنيقة قائلا بجفاف :- تفضلي أمامي
أقفل باب المكتب .. وسار معها خارجا من الكلية .. شعرت نانسي بأنظار الجميع تتجه نحوهما .. فأدركت بأنها الآن تنتمي إلى محمود .. وأن تقدير الجميع لها يعود لهذا السبب .. ’لمها هذا بشدة .. هي تحت حماية محمود الآن .. ولم تعرف لماذا تسبب لها هذه الحقيقة الغضب ..
طوال الطريق إلى البيت لم يتحدثا بكلمة .. فأدركت بأنه ما يزال غاضبا لما حدث ليلة الأمس .. هل مان يتوقع منها أن تفتح لها ذراعيه وتستقبله بالأحضان ؟ .. انتظر منها أن تترجل من السيارة عندما وصلا .. فقالت مترددة :- ألن تنزل ؟
قال باقتضاب :- لا .. لدي عمل
وعندما لاحظ ظلال الاحباط على وجهها خفت حدة صوته وهو يقول :- لن أتأخر .. سأعود بعد ساعتين
ترجلت وراقبته يبتعد وهي تتساءل إن كان سيأتي ذلم اليوم الذي يصبحان فيه زوجين طبيعيين .. في داخلها .. رغبت بهذا كثيرا .. ولكنها لسبب ما شعرت بأن أمنيتها هذه بعيدة المنال
غيرت ملابسها .. ثم نزلت إلى المطبخ لتبحث عما تأكله .. سألت عن لينا فعلمت بأنها قد خرجت مع فراس مما أغضبها بشدة .. وقررت بأن حديثا طويلا ينتظر لينا .. لينا يجب أن تعود إلى المدرسة
صعدت إلى جدة محمود حيث كانت الممرضة تقرأ لها الجريدة .. عرضت مبتسمة أن تقوم هي بهذه المهمة .. وما إن جلست مكان الممرضة حتى سألتها الجدة :- أصدقيني القول يا نانسي.. هل أنت ومحمود سعيدين ؟
قالت كاذبة :- طبعا يا جدتي .. لا يمكن أن نكون أكثر سعادة
قالت الجدة بقلق :- ثمة شيء غير طبيعي في علاقتكما .. ربا كوني عمياء يجعلني أكثر حساسية للصوت .. لم يبد لي محمود طبيعيا هذا الصباح .. وأنت أيضا لست كعادتك
تمتمت نانسي :- لا شيء غير قابل للإصلاح .. صدقيني يا جدتي .. ما من داعي للقلق
قرأت لها قليلا .. ثم انسحبت من الغرفة عندما حان موعد قيلولة الجدة .. فكرت بأن تنام بدورها قليلا .. ولكنها لم ترغب بأن يأت محمود ويجدها نائمة .. نزلت إلى غرفة الجلوس .. فوجدت ريم هناك تتحدث هاتفيا إلى إحدى صديقاتها .. فجلست نانسي على إحدى الأرائك واضعة إحدى ساقيها فوق الأخرى .. ما من عمل تقوم به سوى مشاكسة ريم .. إنها تحب هذا
أنهت ريم مكالمتها .. وأخذت تنظر إلى نانسي مليا .. سألتها نانسي :- أين العمة منار ؟
:- ليست في البيت .. أي مكان هو أفضل من التواجد معك
قالت نانسي بحلاوة :- حقا .. ولماذا أجدك هنا ؟
اعتدلت ريم محاولة كبت غضبها .. ثم قالت :- هل تعرفين مع من كنت أتحدث ؟
هزت نانسي كتفيها قائلة :- ولماذا قد أهتم ؟
تجاهلت ريم كلامها وقالت :- لقد كنت أتكلم مع نسرين .. هل يعني لك الاسم شيئا ؟
لم ترد نانسي .. ولكن التوتر والحذر نبها جميع حواسها .. قالت ريم بخبث :- إنها خطيبة محمود
شعرت نانسي وكأنها قد تلقت صفعة على وجهها وهي تنزل ساقها قائلة باضطراب :- تعنين خطيبته السابقة
ابتسمت ريم متهكمة وهي تقول :- بل هي ما زالت خطيبته كما يعلم الجميع .. لقد كان من المقرر أن يتزوجا قريبا .. إلا أن محمود اختفى فجأة عن الأضواء .. وتوقف عن الاتصال بنسرين .. ولم تسمع عنه أي شيء إلا خبر زواجه المفاجئ .. وممن ؟
رمقتها بازدراء شديد وهي تقول :- من أين التقطك محمود ؟ .. هل وجدك عند بوابة السجن .. تبكين أباك الذي مات ذليلا في أحد جحوره بعد فضيحته ؟
تمتمت نانسي :- أيتها الأفعى
أطلقت ريم ضحكة عالية ساخرة وهي تقول :- هل تحاولين الهرب من الحقيقة يا نانسي ؟ لقد تزوجك محمود إما شفقة عليك .. وإما لأنه لم يستطع الحصول عليك بطريقة أخرى .. ولكن أتعلمين ؟
بدت في عينيها نظرة حقد شديد وهي تقول :- ربما اختارك لأنك أرخص من غيرك .. والرخيصة دائما ما تكون مرغوبة من الرجال .. ولكن ليس لفترة طويلة .. ماهي إلا شهر أو اثنين حتى يما منك .. ويرميك في الشارع .. ثم يبحث بعدها عن المرأة الملائمة له .. والتي تستحق أن تحمل أطفاله .. واسمه إلى الأبد
نهضت نانسي ببطء .. ثم فالت بهدوء مخيف :- منذ متى ؟
رددت ريم بحذر :- متى ماذا ؟
:- منذ متى وأنت تركضين خلف محمود وتتوسلين إليه أن يتزوج بك دون فائدة ؟ ربما منذ طفولتك انتابتك تلك الأحلام والطموحات بأن تصبحي زوجته .. وأن تسودي هذا البيت أنت وأمك .. كم من المؤسف ألا تتحقق أحلامك .. وأن تراقبي محمود وهو يتزوج بأخرى
اقتربت منها وهي تقول بقسوة :- يجب أن تدركي يا ريم بأنني أنا زوجة محمود .. سواء كان هذا مؤقتا أم لا .. فأنا زوجته الآن .. وسيدة هذا المنزل .. وحين تتحدثين إلي بهذه الطريقة مجددا .. قد تكون النتيجة رميك أنت وعائلتك خارج هذا البيت
امتقع وجه ريم .. ولم تجد ما ترد به على نانسي التي شعرت فجأة بمن يراقبها .. استدارت لتجد محمود واقفا عند الباب وفي عينيه نظرة غضب شديدة .. تجاهلته وهي تقول لريم باستعلاء :- عن إذنك
غادرت الغرفة بوقار مرورا من أمامه .. وما إن اختفت عن أنظار ريم حتى صعدت جريا إلى غرفتها علما منها بأنه سيلحق بها .. أغلقت الباب خلفها . ثم جلست أمام منضدة الزينة تتظاهر بتمشيط شعرها بيد مرتعشة .. محاولة التظاهر بالهدوء .
دخل إلى الغرفة وصفق الباب خلفه بقوة .. فقالت بلا مبالاة :- لقد عدت باكرا اليوم
قال ببرود :- أشكر الله على عودتي باكرا لأكتشف الطريقة التي تعاملين بها عائلتي يا نانسي
نهضت لتواجهه وهي تقول بحدة :- أنت لم تكن موجودا في بداية الحديث ..
صاح بغضب :- مهما كان دافعك فلا شيء على الاطلاق يمنحك الحق في إهانة عائلتي ومعاملتهم كأنهم أشخاص من الدرجة الثانية
كانت هذه هي المرة الاولى التي تجد فيها محمود غاضبا بهذا الشكل .. لقد احتقن وجهه واطلت نظرة مخيفة من عينيه .. أكمل صائحا :- لقد ظننت بأنك ربما تغيرت بعد كل ما حدث لك .. ولكن لا .. ما ولت كما أنت الفتاة المتعجرفة والمغرورة .. الأنانية التي لا تحب إلا نفسها
أخذ نفسا عميقا وهو يقول بصرامة :- إياك أن تنسي حقيقة وضعك يا نانسي قبل أن تتعالي على الآخرين .. تذكري فقط كيف وصلت إلى هذا المنزل ؟ .. وأنك لو لم أتزوج بك .. لربما كانت نهايتك كوالدك .. فتاة مثلك قد تفعل المستحيل حتى تحافظ على مستوى معيشتها .. قد تسرق كما فعل والدك .. وقد تبيع نفسها كما فعلت أنت
قبل ان تفكر .. سقطت يدها على وجهه بصفعة دوى صوتها عاليا .. وقبل أن تفيق من ذهولها لفعلتها .. كان قد هوى على وجهها بصفعة عنيفة جعلتها تصرخ بألم وتتراجع إلى الخلف متعثرة فوق منضدة الزينة مما سبب سقوط بعض الأغراض على الأرض .. جذبها من شعرها ليقربها منه وهو يقول بلهجة مخيفة :- إياك أن تفعليها مجددا يا نانسي .. وتذكري بأنني لن أكون أبدا أحد العبيد الذين كانو يسعون تحت قدميك طلبا لرضاك .. وإن فعلتها مجددا .. فأنا أعدك بأن ردي لن يكون سهلا أبدا .. بل لن تتخيلي حتى في أسوأ كوابيسك كيف سيكون
دفعها بعيدا عنه وخرج صافقا الباب خلفها .. أطلقت صرخة ألم وغضب وهي تستدير لتمسك بصورته وتقذف بها على الأرض بكل قوتها .. وتنهال عليها بحذائها .. ولم تتوقف حتى أصبح زجاجها فتاتا
ومع هذا لم تستطع أن تهدأ.. كانت دموعها تسيل بغزارة وهي تتحسس موضع صفعته الذي كان ما يزال مخدرا.. الوغد .. الحقير .. لم يسبق لها أن صفعت من قبل أي أحد من قبل .. بأي حق يسمح لنفسه بإهانتها وجرح كبريائها .. بصفعها لأجل .. لأجل ريم
أخذت تتحرك في الغرفة كالنمر الحبيس .. شعرت بأن أنفاسها تضيق داخل الجدران التي بدت لها وكأنها تميل لتطبق على أنفاسها .. يجب أن تخرج من هذا المكان وإلا فإنها ستموت اختناقا
تناولت حقيبة يدها وخرجت لا ترى أمامها .. لمحت محمود يتحدث هاتفيا من خلال الباب المفتوح لغرفة المكتب .. فتجاهلته وتابعت طريقها .. خرجت لتجد مأمون يمسح السيارة .. فدخلت إلى المقعد الخلفي دون أن توجه له أي كلمة .. فأسرع بارتباك يحتل مكانه خلف المقود قائلا :- إلى أين يا سيدتي ؟
قالت باقتضاب :- انطلق ولا تسأل
انطلق بالسيارة صامتا .. فأرخت رأسها على المقعد وهي ما تزال تخفي وجهها بكفها حتى لا يرى مأمون أثر الصفعة على خدها .. أوقفته في منتصف المدينة .. نزلت وصفقت الباب خلفها دون أن ترد على مأمون الذي هتف :- متى أعود لأخذك يا سيدتي ؟
سارت دون توقف وهي تحاول إخماد النار المشتعلة داخلها .. كانت تشد قبضتيها بقوة وكأنها في أي لحظة ستنهال على أو عابر إلى جوارها ضربا .. كانت ما تزال تشعر بالإهانة والغضب .. بل هو أكبر بكثير من الغضب .. شيء دفعها للتفكير بطرق خيالية للانتقام من محمود .. ولكن كيف ؟ كيف ؟
توقفت فجأة عند متجر للأدوات المنزلية .. شردت لحظات وهي تتأمل الواجهة ثم دخلت وهي تقول للبائع :- أريد هذه الدزينة من الأكواب الزجاجية
منحها ابتسامة عريضة وهو يقول :- يسعدني أن أعرض عليك ما لدي يا سيدتي .. توجد ألوان مختلفة وأنواع ..
بتر عبارته عندما لا حظ الشر المطلق في عينيها وأسرع يلبي رغبتها
خلال دقيقة كانت قد اشترت الأكواب وخرجت من المتجر.. سارت قليلا حتى وجدت زقاقا ضيقا لا يعبره الكثير من الناس .. أخرجت الأكواب وبدأت ترميها الواحدة تلو الأخرى نحو أحد الجدران لتراقبها وهي تتحطم متخيلة أن الجدار هو رأس محمود .. شعرت بوجود من يراقبها فاستدارت لترى امرأة بدينة مسنة .. وشاب صغير على بعد خطوات ينظران إليها بدهشة .. صاحت بخشونة وهي تلوح بالكوب الأخير :- ما الأمر ؟ أهذه أول مرة تريان فيها مجنونة ؟
ابتعدا بذعر عن مرمى الكوب .. وعندما حطمته بدوره زفرت بقوة .. الآن هي أحسن حالا
وجدت نفسها بعد دقائق من مواصلة السير في وسط السوق.. ضاعت بعد ذلك وسط الزحام ..والناس الساعين بين المتاجر .. أخذت تتأمل الواجهات بتمعن .. لو كانت في مزاج مختلف لأفرغت كل مافي حقيبتها من أموال ولكنها الآن تفكر في أمر مختلف .. كيف ستستمر في العيش مع محمود بهذه الطريقة ؟ .. شجارات وصدامات .. وفي النهاية يصفعها لأجل ريم .. الحقير .. حتى والدها لم يرفع يده عليها يوما .. فكيف جرؤ هو ؟ أي نعم لقد سبق وتلقت علقة ساخنة من جابر .. ولكن لا مجال للمقارنة .. فمحمود زوجها .. من حقها عليه أن يحميها من سموم ريم .. لو أنه استمع إلى ما قالته لقدر سبب تصرفها .. ولكنه حتى لم يسألها عما دفعها لقول ما قالته .. وكأنه قد تحين الفرصة لإهانتها وتذكيرها بوضعها .. بأنه قد اشتراها .. لقد تأكدت الآن بأن ماهر لم يكن يكذب .. فهي بالنسبة لمحمود زوجة اشتراها في موسم التخفيضات .. ولا أحد يعرف متى سيمل منها .. ويرميها كما قالت ريم بالضبط
جلست في إحدى المقاهي المطلة على الشارع .. واحتست بشرود فنجان القهوة الذي طلبته .. دفاعه المحموم عن ريم يؤكد شكوكها .. فقد جمعت بينهما علاقة فيما مضى قد سبق وأكدها فراس .. أما ما تأكدت منه الآن هو أن هناك شيء ما زال مشتعلا بينهما .. أغضبها هذا بشدة .. وانتابها شعور بان محمود يجب أن يكون لها وحدها .. ثم عادت تشتم نفسها .. هي لم تعد تريده .. بل هي لم ترده يوما .. فلم كل هذا الغضب .. على كل حال .. إذا ظن محمود بأنه بصفعته سيوقفها عن إثارة جنون ريم فإنه مخطئ .. ارتفع رنين هاتفها المحمول فنظرت بغل نحو اسم زوجها .. ثم أقفلت الهاتف بلا تردد .. كان الوقت قد تأخر .. والظلام بدأ يخيم على المدينة .. لابد أنه يتساءل بجنون عن مكانها .. ليس اهتماما وقلقا بقدر ما هو غيرة على إحدى ممتلكاته التي دفع فيها ثمنا باهظا .. هي لن تعود إلى البيت حتى تكون جاهزة لرؤية وجهه دون أن تقتلع عينيه .. يجب أن تحافظ على هدوئها وألا تسمح لسكان ذلك المنزل المجانين بإثارة غضبها .. لن تنجح العصبية في منحها الانتصار الذي تنشده .. بل المكر .. مكر النساء .. ابتسمت بخبث وهي تفكر بالطرق المختلفة التي تستطيع فيها إثارة جنون محمود .. ثم دفعت ثمن فنجان القهوة .. ونهضت تكمل جولتها
بعد فترة طويلة كانت نانسي قد بدأت تشعر بالتعب ..وعندما بدأت السماء تزخ بهدوء قررت بأن الوقت قد حان لتعود إلى المنزل .. وقفت على الرصيف تراقب السيارات بتردد .. إن أخذ سيارة أجرة إلى تلك المنطقة البعيدة لمخاطرة كبيرة .. وهي تعترف بأنها منذ هجوم جابر عليها أصبحت أكثر خوفا وحذرا .. بينما هي مستغرقة في التفكير لم تشعر بالصبي الذي اقترب منها بحذر .. وإذ به يختطف حقيبة يدها الصغيرة ويندفع راكضا .. صحت من صدمتها سريعا واندفعت تركض خلفه وهي تصيح بذعر :- لص .. أمسكوا اللص
لكن الفتى كان أسرع منها بكثير .. بينما أعاقها حذائها ذو الكعب العالي .. عبر الفتى الشارع فجأة فلحقت به دون تفكير .. وإذ بأصوات السيارات تصرخ منبهة .. وعندما توقفت أخيرا كانت إحدى السيارات تحاول جاهدة تفاديها .. لينتهي الأمر بها تصطدم بحافة السيارة وتسقط على الأرض متدحرجة فوق الإسفلت بقسوة .. فتحت عينيها بصعوبة لتجد عشرات الرؤوس تطل عليها بقلق وذعر .. صاح شاب بدا من شحوب وجهه أنه سائق السيارة :- هل أنت بخير يا آنسة ؟
نهضت بصعوبة وهي تشعر بالألم في كل جزء من جسدها .. وقفت تحاول الحفاظ على توازنها فسألها الشاب :- هل أنت بخير ؟ هل أوصلك إلى المستشفى : هل أتصل بعائلتك ؟
كان واضحا بأن خوفه كان من توريطها له في المشاكل أكثر م سلامتها .. فقالت بعصبية :- أنا بخير تماما
لاحظت بانزعاج الوحل الذي لطخ ثيابها .. تنورتها التي تمزقت بخط طولي من الأسفل حتى منتصف فخذها .. يا إلهي .. إنها تبدو مريعة .. ابتعدت عن الزحام والاعين الفضولية وهي تعرج بسبب تحطم أحد كعبي حذائها وكأن المصائب لا تأتي إلا دفعة واحدة .. ازدادت الأمطار حدة لتغرقها تماما من رأسها حتى أخمص قدميها .. وقفت على الرصيف .. ولفت نفسها بذراعيها وهي ترتعش من البرد وقد نسيت معطفها في غمرة غضبها وعجلتها .. كيف ستعود إلى البيت ؟ .. ليتها لم تصرف مأمون دون أن تطلب منه العودة
وقفت إلى جانب الرصيف في مكان لا تصله سيول الأمطار ووقفت خافضة رأسها تفكر بحل دون فائدة .. كان الناس يعبرون إلى جانبها دون أن يمتنعوا عن النظر إليها .. الغريب أنها بالرغم من بؤس حالتها .. فقد كانت تبدو جذابة وجميلة بشكل غريب .. بشعرها المبلل الذي التصق بعنقها وجبينها .. وملابسها التي التصقت بجسدها .. كانت أنظار الناس تختلف من شخص إلى آخر .. بعضهم كان ينظر إليها بشفقة .. والبعض الآخر ازدراءا ظنا منهم أنها إحدى الفتيات اللاتي ينتظرن من يتودد إليهن .. وآخرون كانوا يتأملونها بوقاحة علهم يحصلون على دعوة منها
سرعان ما خلت الشوارع في هذا الجو الماطر .. ووجدت نفسها وحيدة .. شعرت بالخوف والتعب .. والألم يصرخ من كل جزء منها .. استندت إلى الجدار بإرهاق سامحة للدموع بأن تسيل من عينيها بغزارة
.. لم يكن أمامها حل سوى الاتصال بمحمود .. مهما كان الأمر مذل لها .. فقد كانت تفضل الموت بردا على الاتصال به .. وبما أنها قد فقدت هاتفها المحمول مع حقيبتها .. فعليها الاتصال به من أي هاتف قريب ..
.. وما إن خطت خطوتين حتى توقفت سيارة إلى جانب الطريق مصدرة ضجيجا عاليا .. تعرفت إلى السيارة فور نظرها إليها بطرف عينها .. وإلى صاحبها الذي ترجل منها وهو يصفق الباب خلفه بعنف .. بالرغم من دموع السعادة التي سالت من عينيها إلا أنها تظاهرت بأنها لا تراه وقد لاحت ذكرى صفعته أمام عينيها .. تابعت سيرها .. شهقت عندما أمسكت يده بذراعها وجذبتها لتستدير نحوه بقسوة .. صاح بغضب :- أنا أبحث عنك منذ ساعات أيتها الغبية بينما تتسكعين هنا كال....
توقف عن الكلام عندما لاحظ دموعها التي ملأت وجهها اشاحب .. وملابسها التي اتسخت .. عقد حاجبيه قائلا بانزعاج :- ما الذي حدث لك ؟
دون أن تجيبه ترنحت وكادت تسقط لو لم يمسك بها بين ذراعيه .. خلع معطفه وأحاطها به وقادها إلى السيارة حيث أجلسها في المقعد الأمامي.. ودار حول السيارة ليجلس خلف المقود .. ما إن انطلقت السيارة حتى أخرج هاتفه المحمول وسمعته يتحدث إلى شخص ما ويقول :- لقد وجدتها .. أوقفوا البحث
هل كان يبحث عنها طوال هذ الوقت ؟.. كان الإرهاق واضحا على وجهه إن كانت قد سببت له القلق فهي ليست آسفة .. أنهى المكالمة ونظر إليها صائحا بغضب :- أنت فتاة عديمة المسؤولية .. لقد خصصت لك سيارة وسائق فقط لأجل تنقلاتك .. كدت أفصل مأمون اليوم عندما أخبرني ببساطة بأنك صرفته دون أن تحددي له موعدا للعودة .. هل تعلمين بأنني ما إن بدأ الوقت يتأخر حتى بحثت عنك في المستشفيات ومخافر الشرطة .. وأرسلت من يبحث عنك في كل مكان وأنا أتصور مكروها قد أصابك .. لقد جن جنوني وأنا أجوب الشوارع بحثا عنك وأنا أعرف بألا مكان تلجئين إليه
كانت أعصابها مرهقة إلى حد دفعها للصراخ بانفعال :- توقف .. أتوسل إليك أن تتوقف .. لست قادرة على سماع المزيد من التوبيخ والإهانات
خفت حدة صوته وهو يقول :- لماذا لم تعودي إلى البيت ؟ .. لماذا ظللت تجوبين الشوارع حتى هذا الوقت المتأخر دون أن تتعبي نفسك بالإجابة عن اتصالاتي ؟
سالت دموعها وهي تقول بصوت مرتجف :- لم أستطع .. لقد سرقت حقيبة يدي .. وفقدت معها هاتفي وكل ما أحمل من مال
لم يكن الوقت مناسبا لتخبره بأنها تعمدت تجاهل اتصالاته معظم الوقت
صمت للحظات ثم قال :- كان بإمكانك أخذ سيارة أجرة وتأجيل الدفع حتى وصولك إلى البيت
خرج صوتها أقرب إلى النشيج وهي تقول :- لقد حاولت .. ولكنني خفت .. خفت من سلك ذلك الطريق البعيد والمهجور في سيارة غريبة
صمت للحظات وقد بدا في عينيه تعاطف غريب .. تمتم :- لماذا لم تحاولي الاتصال بي ؟
تركت دموعها تسيل مجددا فقال بحدة :- تبا لك يا نانسي .. بالطبع كرامتك وكبريائك المجروح منعاك من الاتصال بي .. كنت تفضلين الموت هناك على قارعة الطريق من البرد والجوع والتعب على أن تتنازلي وتتصلي بي
أرخت رأسها على النافذة غير قادرة على الرد .. فقال وقد خفت حدة صوته :- لقد قلقت عليك كثيرا .. ولينا أيضا قلقة .. فأنت لم يسبق أن تأخرت بهذا الشكل .. لقد أخبرتها بأنك تزورين إحدى صديقاتك .. ولكنني أشك بأنها قد صدقتني
أغمضت عينيها .. كيف لم تفكر بلينا ؟ لابد أنها جزعة الآن .. وتتذكر المرة الوحيدة التي تأخرت فيها عندما هاجمها جابر .. لم تعد قادرة على التركيز قفد كانت مرهقة للغاية .. واهتزاز السيارة ساهم في جعلها تغرق في نوم مضطرب
فتحت ينيها جزعة عندما فتح الباب المجاور لها .. فقالت باضطراب :- ماذا حدث ؟
أطلقت صيحة قصيرة عندما انحنى محمود ليحملها واضعا إحدى يديه تحت ركبتيها والأخرى خلف ظهرها .. صرخت باحتجاج وضعف طالبة منه أن ينزلها .. فتجاهلها وهو يدخل إلى البيت .. ليرى حنان في انتظارهما قائلة بقلق :- ما خطب السيدة نانسي ؟
قال :- متعبة قليلا .. أتبعيني إلى الغرفة
صعد بها الدرج بينما استسلمت نانسي لحمله لها .. بل أسندت رأسها على صدره باسترخاء وقد شعرت بأنها بين ذراعيه محمية تماما .. بينما لحقت بهما حنان راكضة .. عندما دخل محمود إلى الغرفة قال بحزم :- جهزي لها الحمام وبعض الملابس الدافئة
أسرعت حنان تنفذ أمره بينما أوقف هو نانسي في منتصف الغرفة فانزلق معطفه من فوق كتفيها على الأرض .. تماسكت بصعوبة مانعة نفسها من السقوط من فرط التعب .. فوجئت به يمد يديه نحو قميصها يحل أزراره بسرعة .. فقاومت يديه وهي تصيح بذعر :- ماذا تفعل ؟
قال عابسا :- أنزع عنك هذه الملابس المبللة حتى لا تصابي بالمرض
استمرت في إبعاد يديه قائلة :- سأنزعها بنفسي
أنت بالكاد تستطيعين رفع يديك
سرعان ما سحب القميص بعيدا عنها فأسرعت تخفي جسدها بذراعيها بسرعة ودموعها تسيل من عينيها بحرج .. أخذت ترتعش من الخوف والبرد إلا أن نظراته إليها لم تكن على الاطلاق نظرة رجل إلى امرأة .. صاح بانزعاج وهو يرى الكدمات والجروح التي توزعت على ظهرها وكتفيها :- ما هذا ؟
أخذ يتحسس الكدمات فتأوهت بألم .. قال بقلق :- كيف أصبت بهذه الكدمات ؟
نظر إلى تنورتها الممزقة والتي لم يلاحظها حتى الآن ..:- ما الذي حدث لك بالضبط ؟
قالت بضعف :- لقد صدمتني سيارة وأنا ألحق باللص الذي سرق حقيبتي
هتف من بين أنفاسه :- رباه
أمسك كتفيها وهو يقول بعنف :- لقد كدت تقتلين نفسك يا نانسي .. هل تدركين هذا ؟
أخذ يهزها بقوة مما جعلها تصرخ بألم .. وتفقد قدرتها على الوقوف .. أمسك بها بقوة وضمها إلى صدره الصلب ليمنعها من الوقوع .. خرجت حنان في تلك اللحظة وهي تقول بارتباك :- الحمام جاهز يا سيدي
حملها بين يديه وأدخلها إلى الحمام فأسرعت حنان تقول :- لا تتعب نفسك يا دكتور محمود .. سأساعدها أنا
تردد للحظات قبل أن ينزلها أرضا ويتركها لحنان مغادرا المكان تماما .. بعد الحمام ساعدتها حنان على ارتداء ملابسها وهي تقول :- لو لم أتدخل .. لأصر الدكتور محمود على مساعدتك بنفسه في الحمام .. ترين هنا بأنك تدينين إلي بالكثير يا عزيزتي
كانت نانسي أكثر إرهاقا من أن ترد على مداعبة حنان التي أكملت :- لقد كان الدكتور محمود قلقا عليك .. لم يترك أحدا إلا وسأله إن علم بوجهتك .. لقد بدا كالوحش الكاسر وهو يتخيل مكروها أصابك
ساعدتها بحذر على التمدد على السرير .. فدخل محمود في هذه اللحظة وهو يقول :- يمكنك الانصراف الآن يا حنان
أمسكت نانسي بيدها متوسلة لها بعينيها أن تبقى .. ولكن حنان ربتت عليها مطمئنة .. ثم خرجت .. اقترب منها محمود قائلا بوجوم :- كيف تشعرين الآن ؟
تمتمت بإرهاق :- بخير .. ما دمت بعيدا عني
لم يعلق على كلامها .. ولكنه قال باقتضاب :- لقد أحضرت مطهرا لجروحك
جلس إلى جانبها على طرف السرير وأزاح الغطاء عنها متجاهلا احتجاجها الضعيف .. رفع قميص نومها ليكشف عن فخذها الأيمن حيث وقع بصره على الجرح الكبير السطحي إنما مخيف الشكل .. وقال بانزعاج :- أنت محظوظة لعدم إصابتك بكسور خطيرة
حاولت أن تنزل القميص فمنعها .. ثم راقبته وهو يبلل قطعة قطن بالسائل .. ثم يمررها على الجرح فأغمضت عينيها متألمة وهي تقول :- أنت عنيد .. أليس كذلك ؟ تحصل على ما تريد بسهولة
قال بهدوء :- كما ترين
كانت قد بدأت تتحدث دون وعي وقد استولى عليها الإرهاق :- أكره عنادك .. أكره عجرفتك .. اكره إهاناتك المستمرة لي
قال بصبر :- أنا لا أحب أن أهينك يا نانسي .. أنت من يضطرني بتصرفاتك الرعناء
أدارها لتتمدد على جانبها .. وكشف عن الجروح التي سبق ورآها في كتفيها وذراعيها .. وأخذ يطهر الجروح بينما كانت تقول بمرارة :- أنت شرير .. أنت لا تختلف عنهم .. أنت مثلهم بالضبط
سالت دموعها بينما سألها بتوتر :- من تقصدين ؟
لم تسمعه .. بل أكملت :- هم أرادو أذيتي .. أرادو إهانتي وإذلالي .. وأنت أيضا
تحت ملمس يديه الرقيقتين بدأت تشعر بالراحة والاسترخاء .. فأغمضت عينيها باستسلام لسلطان النوم ... إلا أنه أدارها إليه وهو يقول متوترا :- من هم يا نانسي ؟
قالت بنعاس :- لماذا تجلس معي هنا ؟ اذهب إلى صديقاتك .. هن يناسبنك أكثر مني .. على الأقل أنت تكن لهن بعض الاحترام والتقدير ..ولا تكرههن كما تكرهني
تنهد قائلا :- أنا لا أكرهك يا نانسي
:- اذهب إلى ريم .. بل إلى نسرين .. أليست خطيبتك ؟
ردد عاقدا حاجبيه :- نسرين
فتحت عينيها .. ونظرت ناعسة إلى وجهه الغامض .. ثم رفعت يدها تتحسس ذقنه الخشنة وهي تهمس :- أنت وسيم جدا
لمست أناملها شفتيه .. ثم انزلقت إلى عنقه قبل أن تسقط إلى جوارها وقد غرقت تماما في النوم .. زفر بقوة وهو يصارع المشاعر المتضاربة داخله .. دثرها جيدا بالبطانية الناعمة .. ثم أزاح خصلة من الشعر عن جبينها وهو يتمتم :- أنت أيضا جميلة يا نانسي



نسمات عطر 02-01-2017 07:01 PM

الفصل السادس عشر



القط والفأر


أصر محمود على أن تلازم نانسي السرير حتى تشفى تماما من جراحها .. مانعت في البداية .. ولكنها أذعنت عندما فكرت ببشاعة ذهابها إلى الجامعة بوجه مكدوم .. واستسلمت تماما إلى رعاية حنان التي أصدر لها محمود أوامر صارمة بالعناية بها .. في اليوم التالي للحادث .. فاجئها محمود بهاتف جديد أعطاها إياه قائلا :- يجب ألا يفرقك هذا الهاتف حتى أجدك أينما كنت
كانت تقدر أسباب قلقه الشديد .. فقد عرفت من حنان كيف جن جنونه عندما غابت لساعات طويلة خارج البيت دون ان يعرف طريقا لها .. ولكن ما إن خفت كدماتها حتى أصرت على العودة للمواظبة على الدوام في الكلية رغم اعتراضات محمود الشديدة ..
منذ شجارهما وهي بالكاد تتبادل معه الحديث .. عندما يطرح عليها سؤالا تجيبه بقرف بأقل كلمات ممكنة .. وفي الليل تسبقه إلى السرير متظاهرة بالنوم .. وعندما كان يلحق بها كان ينام بدوره فور وضع رأسه على الوسادة دون أن يلقي عليها نظرة
هي لم تسامحه على الإطلاق على صفعه لها .. حتى لو كان معذورا بعد صفعها له أولا .. إلا أن أي شيء لا يمنحه العذر لتوجيه تلك الكلمات القاسية التي قالها ذلك اليوم
لقد أظهر لها بوضوح مقدار ازدراءه لها .. وتفضيله لريم عنها .. بحق الله إنه حتى لم يسألها عن سبب شجارها مع ريم .. بعرفها .. لقد استحق تلك الصفعة .. وكانت لتكررها مجددا لو عاد بها الزمن
لن تسمح لأحد .. أي أحد بالحديث عن والدها بسوء .. بالذات محمود الذي يظن بأنه قد اشتراها ..
كانت قد نوت من قبل على الانتقام منه ومعاقبته على معاملته السيئة لها .. ولتفعل هذا .. كان عليها أن تكتشف نقطة ضعف لديه تساعدها في مهمتها .. وقد اكتشفت بأن نقطة ضعفه تلك كانت جسدها
لقد سبق ودخل عليها فجاة اثناء ارتدائها ملابسها .. لاحظت إجفاله .. وفقدانه لتماسكه وهو ينظر عبر أزرار قميصها المحلولة .. ومتابعته لها بعينيه وهي تترك الغرفة إلى الحمام دون ان تنطق بحرف
لقد وجدت سلاحها .. ستفقد عقله و وقاره الذين لطالما ميزاه .. ستنتقم منه أشد انتقام .. في الأيام التي تلت كانت تتعمد ارتداء الملابس المثيرة .. أسلوبها كان يعتمد على الملابس ذات الحشمة الخادعة .. التي تظهر بما تستره كل ما تخفيه .. كان ينظر إليها واجما كلما تبخترت امامه .. فتلاحظ هي انقباض أصابعه وكأنه يمنع نفسه بصعوبة على ضربها علة استفزازها له .. بينما كانت هي تتجاهله راسمة على وجهها علامات البراءة التامة .. وكأنها لا تفهم سبب غضب زوجها العزيز
رغم سعادتها بإزعاجها له .. فقد كانت تعرف بأنها ستدفع الثمن على ما تفعله قريبا .. محمود ليس من النوع الذي قد يسكت على مشاكسة زوجته له .. لقد حولت الأمر بينهما إلى حرب بتجاهلها له واستفزازها العلني له
كانت تفكر بهذا كله وهي تقف أمام خزانة ملابسها في محاولة لاختيار ما ترتديه .. فاختارت كنزة صوفية ناعمة .. وتنورة قصيرة حمراء اللون .. ارتدت تحتها جوارب سوداء سميكة أظهرت طول وجمال ساقيها .. أكملت مظهرها بحذاء عالي الرقبة وتسريحة شعر طفولية .. ثم تناولت حقيبة ظهر صغيرة وخرجت
عندما رآها ماهر في الجامعة أطلق صفيرا طويلا وهو يقول حائرا :- تبدين رائعة
قالت بحدة :- أنا دائما رائعة
:- بالتأكيد .. ولكنك ما عدت ترتدين ملابسك بهذه الطريقة منذ فترة طويلة .. ألا يغضب مظهرك الدكتور محمود ؟
قالت بانزعاج :- لا علاقة بمحمود بما أرتديه .. أنا ألبس بهذه الطريقة من قبل زواجه بي .. ولن أغير طريقتي لأجل أي أحد كان
هز كتفيه قائلا :- كما تشائين .. هل تشربين كوبا من الشاي قبل بدء المحاضرة ؟
ابتسمت قائلة :- بالتأكيد .. أرغب بأكل شيء أيضا فأنا لم أتناول إفطارا اليوم
في الكافيتريا .. جلسا في مكانهما المعتاد .. وطلبا بعض الشطائر .. وأخذا يتناولانها وهما يتبادلان الحديث والضحك . توقفت عن الأكل عندما دخل محمود برفقة أستاذين آخرين .. عندما رآها .. عقد حلجبيه وقد أطل من عينيه غضب شديد .. ثم تابع طريقه ليجلس مع زميليه حول طاولة مخصصة للأساتذة .. قال ماهر بقلق :- نانسي .. أنا أشعر بأن الدكتور محمود لا يحب تواجدنا معا .. أرى هذا في نظراته كلما رآنا معا
قالت بحزم :- لا تهتم .. علاقتنا ليست من شأنه
إلا أن ماهر قال بحدة :- لا أريد أن أكون سببا للمشاكل بينكما يا نانسي
قالت بانزعاج :- هلا توقفت عن الولولة كالنساء .. أخبرتك بألا تهتم .. أي مشاكل قد تحدث بيني وبين محمود لن تكون بسببك
راقبت محمود وهو يغادر معتذرا ليلحق بمحاضرته .. المحاضرة التي سيكون عليها حضورها مع ماهر بعد دقائق
ألقى المحاضرة بهدوء وجفاف على غير عادته .. استطاعت هي أن تلاحظ الغضب المبطن داخل صوته .. وعندما أنهى المحاضرة .. اجتمع الطلاب حوله كالعادة .. وعندما أرادت الخروج من القاعة برفقة ماهر .. فاجأها صوته يقول بصرامة :- نانسي .. أرجو أن تنتظريني في مكتبي
استدارت نحوه بحدة لتجده قد عاد يجيب عن أسئلة الطلاب الكثيفة .. فقال ماهر مترددا :- إذن .. لن نراك قبل الغد
قالت بحدة :- بل ما زلنا على موعدنا
صعدت إلى مكتب محمود .. وألقت نفسها على الأريكة الجلدية الصغيرة وهي تزفر بقوة .. ما الذي يريده منها ؟ .. كانت تعرف بأن شجارا جديدا في انتظارها .. لقد نجحت بكسر برود محمود اتجاهها والذي استمر لأيام منذ شجارهما الأخير ..
والآن .. هي خائفة من نتيجة تصرفاتها .. من الواضح أن صبر محمود قد بلغ نهايته
اعتدلت عندما دخل إلى المكتب .. ألقى أوراقه على المكتب .. واستدار نحوها قائلا بصرامة :- قفي
وقفت بحيرة .. فنظر إليها من رأسها وحتى أخمص قدميها ببرود شديد وهو يقول :- ما هذا الذي ترتدينه ؟
قالت ببساطة :- هذه ملابس
لمعت عيناه بغضب وهو يقول :- أعرف بأنها ملابس .. منذ متى ترتدين ملابس تظهر جسدك كاملا يا نانسي ؟ انظري إلى نفسك جيدا .. أهذا مظهر طالبة جامعة محترمة ؟ تبدين وكأنك لا ترتدين شيئا
قالت بعناد :- إن ملابسي محتشمة يا دكتور محمود ولا تظهر سنتيمترا من جسدي .. كما أنني كنت دائما أرتدي ملابسي بهذه الطريقة
قال بعنف :- كان هذا قبل أن أتزوج بك .. أنا أرفض أن يراك الناس بهذا المظهر السخيف .. هيا بنا .. سنعود إلى البيت
قالت رافعة رأسها بتحدي :- أنا لن أعود معك
ساد صمت ثقيل تخلله التوتر بكثافة شديدة قبل أن يقول محمود ببرود :- ماذا قلت ؟
قالت بعصبية :- لقد قلت بأنني لن أعود معك إلى البيت .. لدي موعد مع أصدقائي .. سنحضر المسرحية التي تقيمها فرقة الكلية مساء هذا اليوم في قاعة المؤتمرات
قال ببرود :- وأصدقاءك هؤلاء هم ماهر بالطبع
هزت كتفيها بلا مبالاة وهو تقول :- طبعا ماهر من ضمنهم
أمسك ذراعها بقوة وهو يقول بلهجة مخيفة :- هل تتحدينني يا نانسي ؟ تجوبين الكلية مع حبيبك القديم .. وترتدين ملابس مبتذلة ناسية أن زوجك أستاذ في هذه الكلية .. هل تحاولين السخرية مني ؟ أنت لن تذهبي إلى المسرحية .. بل ستعودين معي إلى البيت .. ومن الآن فصاعدا .. لا أريد أن أراك مع ذلك الفتى ماهر .. أتفهمينني ؟
صاحت بحدة :- بالطبع لا أفهم
نظرت إلى عينيه وهو تقول :- ما لا تعرفه يا دكتور محمود هو أنك لا تمتلكني .. ولن تجعل مني أبدا أحد مقتنياتك .. أنا حرة في تصرفاتي .. أصاحب من أريد .. وأعود إلى البيت متى أريد .. لم يكن ضمن اتفاقية زواجنا أن أغير من نمط حياتي لأجلك
كانت تعرف بأنها تلعب بالنار .. قال ببرود مخيف :- إن لم تفعلي ما آمرك به يا نانسي فستندمين
قالت بتحدي :- أنا لست خائفة منك
سحبت ذراعها من بين أصابعه .. ودلكت مكانها وهي تقول بجفاف :- لقد أخبرت مأمون أين ومتى يجدني
غادرت المكان مسرعة قبل أن تسمح له بإضافة أي كلمة قد تثنيها عن قرارها .. قابلت ماهر عند باب الكلية برفقة بعض زملاءهما .. وانطلقوا معا
في تمام الساعة الثامنة مساءا .. خرجت نانسي مع زملاءها وهم يضحكون تحت تأثير المشهد الختامي من المسرحية .. همست إحدى زميلاتها في أذنها قائلة :- تريدين الصدق .. لم أتوقع أن يسمح لك الدكتور محمود بالحضور .. فالأساتذة يكرهون هذا النوع من ال مسرحيات لاعتقادهم بأنه نوع من الفن السطحي والمبتذل ..
قالت نانسي بهدوء ك- محمود يقدر اختلاف الأذواق بين أفراد جيله وأفراد جيلنا
تمتمت صديقتها بحسد :- تبدين سعيدة بزواجك يا نانسي .. لابد أن تكون سعيدة من تتزوج برجل كالدكتور محمود
منحتها نانسي ابتسامة باردة وهي تفكر بأن المظاهر خادعة .. إن علمت أي من زميلاتها بما تعانيه في حياتها مع محمود فإنها لن تصدق .. بدأت الأمطار تهطل فجأة بغزارة مما جعل الفتيات تصرخن بذعر .. والفتيان يضحكون بسرور .. ضحكت نانسي التي أغرقها المطر قائلة :- من حسن حظي بأن السائق قد وصل .. أراكم غدا يا رفاق
أطلت نظرات الحسد والغيرة من أعين زميلاتها .. بينما لوح لها ماهر مودعا .. ركبت السيارة مسرعة ممتنة للدفء الشديد داخلها .. إلا أنها عندما وصلت إلى البيت كانت ترتجف من البرد .. فكان أول ما خطر ببالها هو أخذ حمام ساخن تدفئ به عظامها ..
وبالفعل .. أمضت وقتا طويلا داخل الحمام تقف تحت سيول المياه الساخنة بامتنان .. حتى أحست باسترخاء كل خلية في جسدها .. أجبرت نفسها على الخروج أخيرا .. وأحاطت جسدها بمنشفة كبيرة وخرجت بعد أن جففت شعرها بقوة .. بالرغم من دفء الغرفة .. فقد بدت لها باردة بعد حرارة الحمام .. جلست أمام منضدة الزينة تمشط شعرها الرطب .. وتنظر إلى وجهها المتورد بفعل أبخرة الحمام .. استغرقت ثواني كي تتبين بأنها ليست وحيدة في الغرفة .. وأن شبحا يقف مستندا إلى الجدار إلى جانب باب الحمام بحيث لم تلمحه عند خروجها .. أطلقت شهقة ذعر وهي تستدير نحو محمود الذي عقد ساعديه أمام صدره الذي ظهر عبر قميصه المفتوح .. وأطلت من عينيه نظرة أخافتها .. تشبثت بالمنشفة وهي تقول باضطراب :- محمود .. لم أدرك أنك هنا .. متى عدت ؟
قال بهدوء :- منذ دقائق .. لا تبدين مسرورة برؤيتي .. هل كنت تفضلين رفقة ماهر عوضا عني ؟
نهضت واقفة وهي تقول متوترة ك- لم أتوقع عودتك الآن .. هذا كل شيء
كانت نظراته تمسح جسدها ببطء ما جعل خوفها واضطرابها يزدادان .. سارت بخطوات سريعة نحو الحمام.. فوقف في طريقها قائلا :- إلى أين تذهبين ؟
قالت بتوتر :- سأرتدي ملابسي في الحمام
:- أفضلك هكذا
احمر وجهها بشدة وهي تقول متظاهرة بالنزق :- محمود .. ابتعد عن طريقي
لوى فمه وهو يقول متهكما :- أظنك ستقولين لي الآن بأنك لست إحدى مقتنياتي .. وأن أتركك وشأنك
صاحت بعصبية مخفية خوفها الشديد :- بالتأكيد
حاولت تجاوزه .. ولكنه أمسك بذراعها بشدة .. وجذبها نحوه مما جعلها تطلق شهقة عنيفة عندما وجدت نفسها ملتصقة بصدره القوي .. كان وجهه قريبا للغاية من وجهها عندما قال بصوت جمد الدماء في عروقها :- دعيني أصحح لك معلوماتك يا عزيزتي .. أنت ملكي .. منذ وقعت على وثيقة زواجنا التي تثبت بأنك زوجتي .. ونعم .. إن شئت فأنت إحدى مقتنياتي
صاحت بغضب :- لن أكون كذلك ولا في أحلامك
قال بصوت أجش :- أنت زوجتي يا نانسي .. وقد تركتك خلال الأيام السابقة لأنني رجل يعرف كيف يتسلى .. كيف يجعل طعامه أكثر شهية كلما تأخر في أكله .. كنت ألعب معك لعبة القط والفأر مستمتع بكل مرة تظنين فيها بأنك قد نجوت من قبضتي .. أما الآن .. فقد مل القط .. وحان الوقت ليستمتع بفريسته
قاومته بشراسة وهي تصيح :- إياك أن تقترب مني يا محمود فاضل .. وإلا فإنني سأصرخ عاليا وأتسبب لك بفضيحة
شهقت بقوة عندما دار حول نفسه فجأة ساحبا إياها معه ليلصقها بالجدار ويحاصرها بجسده مثبتا إحدى يديها إلى الجدار .. بينما تشبثت يدها الثانية بمنشفتها خوفا من سقوطها .. قرب وجهه منها حتى أحست بأنفاسه تلفحها وهو يقول:- اصرخي يا نانسي .. لن يجرؤ أي فرد في هذا البيت على دخول هذه الغرفة ما دمنا فيها معا
شعرت بأنفاسه الحارة تحوم حول وجهها .. وبيده الكبيرة الدافئة تتحسس عنقها الرقيق بلطف .. انحنى يطبع قبلة ناعمة على بشرتها .. فارتعدت وهي تغمض عينيها مقاومة المشاعر الغريبة التي أخذت تعتريها .. عاد يقبل عنقها .. إلا أن قبلاته كانت تزداد حرارة .. وهي تصعد ببطء نحو وجنتها .. همست لاهثة :- توقف .. أرجوك
كان جسدها يرتعش في كل مرة تلمس فيها شفتاه بشرتها .. أخذ قلبها يخفق بجنون عندما أمسك ذقنها ورفعها لتنظر إليه ترقرقت الدموع في عينيها وهي تهمس :- أرجوك
ولكن عينيه كانتا تنظران إلى شفتيها المنفرجتين رتوق شديد .. ارتعشت شفتاه باضطراب .. إنه يريدها .. بل هو يرغب بها إلى حد الجنون .. وما كان ليتركها لتفلت من بين يديه هذه المرة
بدون إنذار .. قطع المسافة الصغيرة الفاصلة بينهما .. وتناول شفتيها بقبلة عنيفة جعلت جسدها ينتفض بقوة .. ترك يدها ليتمكن من احتضانها جيدا بين ذراعيه فتشبثت به بقوة مصدومة من ذلك الكم الهائل من المشاعر الذي اجتاح جسدها .. مشاعر غريبة وجديدة من التوق والحاجة واللهفة .. لم تعرفها من قبل .. لقد أشعل محمود نارا داخلها .. وشوقا إلى هذا الرجل الذي ضمها إليه بقوة كادت تسحقها وهو يمطرها بقبلاته المحمومة .. توقفت للحظات عن مقاومته ووجدت نفسها تبادله تلك القبلات .. وتتقبل يديه اللتين أخذتا تلمسان جسدها من فوق المنشفة الرطبة في اكتشاف مثير لمعالمه الأنثوية .. همس في أذنها لاهثا :- أنت لي يا نانسي .. لي وحدي
ارتعدت وقد أصابها خوف كبير .. دوت همساته في أذنها .. بينما تذكرت فجأة ريم .. وهديل .. ونسرين .. وغيرهن من النساء اللاتي ينتظرن أن يمل منها محمود بعد أن يأخذ منها ما يريد .. وبعدها .. سيبعدها عنه .. ويبحث عن أخرى تمنحه المزيد من الإثارة
لا .. هي لا تريده أن يبعدها .. بل لا تريده أن يكون لغيرها ..
أبعدته عنها وهي تصيح بين دموعها :- توقف .. توقف
تراجعت حتى التصقت بالجدار .. وأخذ جسدها يرتعش بقوة وهي تنظر إلى مظهره المشوش والمتوتر .. لقد كان يبدو مثيرا بشعره الذي تشعث بفوضوية .. وقميصه المفتوح الأزرار .. وذلك الوميض الجائع إليها في عينيه .. صاحت بحرقة :- إياك أن تلمسني .. أنا أكرهك .. أكرهك
زمجر صائحا :- أنت لا تكرهينني يا نانسي .. بل ترغبينني كما أرغبك
انكمشت عندما سحبها نحوه مجددا بوحشية وهو يقول بخشونة :- كبرياءك هذا لم يقف حائلا أمامي يا نانسي .. أنا أريدك .. وأريدك الآن
صرخت بذعر عندما حملها بين ذراعيه واتجه بها نحو السرير ليرميها فوقه بقسوة .. قبل أن حتى أن تفكر بالهرب .. كان قد كبل حركتها بجسده الضخم .. وأسكت صراخها بقبلة وحشية .. فأدركت مذعورة بأن أي صراخ منها لن يأت بنتيجة .. لقد قرر القط بأن الوقت قد حان ليستمتع بفريسته
وما على الفريسة إلا أن تبكي بصمت مستسلمة لمصيرها



نسمات عطر 02-01-2017 07:06 PM

الفصل السابع عشر

حب أم كراهية


دخلت نانسي إلى الحمام بسرعة وهي تقفل الباب خلفها بإحكام بيدين مرتعشتين .. واستندت إليه وهي ترتجف بقوة .. سمعت طرقات قوية عليه وصوت محمود يصيح :- نانسي .. افتحي الباب
صرخت بذعر :- لا .. لا .. اذهب من هنا .. اتركني .. أنا لا أريد أن أراك
تفجرت دموعها بغزارة .. بينما عاد صوته يقول بنبرة أهدأ إنما أكثر توترا :- نانسي .. أرجوك افتحي الباب
صاحت وهي تبكي :- ارحل .. ارحل .. أنا أكرهك .. أكرهك
جثت على الأرض وهي تبكي بحرقة .. دون أن يتوقف جسدها عن الارتعاش .. توقف فجأة عن الاصرار عليها .. ولم تعد تسمع صوته .. لم تدر كم بقيت على هذه الحالة .. ولكنها في النهاية وجدت نفسها تغفو جالسة على أرض الحمام .. ولم تشعر إلا بصوت حنان يوقظها وهي تطرق الباب قائلة بقلق :- نانسي .. هل أنت بخير ؟
هتفت بلهفة :- حنان
نهضت .. ووضعت عليها روب حمام مان معلقا وراء الباب .. فتحته فذعرت حنان من مظهرها المشوش .. وعينيها المنتفختين من البكاء :- يا إلهي نانسي .. ما الذي حدث ؟
ألقت نانسي بنفسها بين ذراعي حنان وهي تبكي بحرقة .. حنان هي الوحيدة التي تستطيع نانسي أن تبوح لها بآلامها ومشاكلها
بعد قليل كانت نانسي قد اخذت حماما وتركت حنان تمشط شعرها بينما هما جالستان على السرير .. لم تستطع نانسي منع دموعها من الانسياب وهي تكرر :- انا أكرهه .. أكرهه .. وسأكرهه إلى الأبد
منعت حنان نفسها من الابتسام بصعوبة وهي تقول :- اهدئي يا عزيزتي .. لو ان كل امرأة كرهت زوجها لهذا السبب لما بقي حب بين زوجين على وجه الأرض
صاحت نانسي وهي ترتعش :- ولكنه مختلف .. إنه قاسي ومتوحش .. أنا واثقة بان أبي لم يكن يعامل امي بهذه الطريقة
تنهدت حنان قائلة :- ما حدث كان متوقعا يا نانسي .. لقد تمنعت كثيرا .. ويصعب على الرجل أن يعيش كل هذه الفترة تحت سقف واحد مع زوجته دون أن يلمسها .. لقد كان نبلا منه أن ترك لك بعض الوقت كي تتخطي ازماتك .. ولكن الأمر قد زاد عن حده .. إن لكل رجل احتياجاته .. وإن لم يجدها عند زوجته فسيبحث عنها خارجا
هتفت نانسي بخشونة :- هل أنت في صفه أم في صفي ؟
ابتسمت حنان قائلة :- طبعا في صفك .. ولكن كل امرأة ينتابها هذا الشعور في البداية .. خاصة وهي لم تتعود بعد على زوجها .. تشعر بالصدمة والكراهية نحوه .. ثم يتحول إحساسها إلى المودة والألفة فلا تستطيع العيش من دونه
قالت نانسي ساخرة :- إن كان الأمر كذلك فلماذا طلبت الطلاق من زوجك ؟
صمتت حنان للحظات وكأن السؤال قد آلمها .. ثم قالت بهدوء :- هل تظنين بأنني قد طلبت الطلاق من نبيل لأنني كنت أكرهه ؟ العكس هو الصحيح يا نانسي .. لقد تركته لأنني أحببته بجنون
بدت الدهشة على وجه نانسي فأكملت حنان :- لقد كان حبي الاول والأكبر .. هو أيضا أحبني منذ الطفولة .. سنوات زواجنا الاولى كانت كالجنة ..كادت حياتنا تكون كاملة لولا ان نبيل كانت له عادة سيئة .. وهي إقامة العلاقات الغرامية العابرة .. لقد كان يفعل هذا قبل زواجنا .. واستمر بعده .. يعلم الله أنني حاولت تغييره .. وأنه حاول بدوره ان يتغير .. ولكن رفقاء السوء وقفوا حائلا دون هذا ..وهو لم يستطع التخلي عن أصدقائه فكان الثمن ان تركته
سالت دمعة ساخنة من عين حنان فهتفت نانسي بتعاطف :- أنا آسفة يا حنان .. لو كنت أعرف لما سألتك
لم تتخيل أبدا أن يحمل القلب الطيب لحنان كل هذا الألم .. حنان التي أفنت عمرها في خدمة عائلة نانسي دون أن تجلب معها مشاكلها الشخصية .. قالت نانسي :- إن كنت تحبينه إلى هذا الحد فلماذا تركته ؟
مسحت حنان الدمعة الفارة وهي تقول :- لأنني أحبه تركته .. ما كنت أستطيع العيش معه وانا اعرف بأن الكثيرات تشاركنني به .. لو أنني لم احبه كل هذا الحب .. لربما تمكنت من البقاء معه .. ولكن لا تقلقي .. مضت سنوات طويلة على هذه القصة .. ولم تعد تؤثر بي كالسابق
ربتت على كتف نانسي قائلة :- أرجوك يا نانسي أن تمنحي الدكتور محمود فرصة .. أنا واثقة تماما بانه يحبك .. أتمنى أن تتمكنا من العيش بسعادة دون مشاكل
ومض بريق عنيف في عيني نانسي وهي تتذكر الليلة السابقة .. ثم صاحت بحدة :- لا .. لن أسمح له بلمسي مجددا حتى لو كانت حياتي على المحك
تنهدت حنان قائلة :- لا فائدة .. لن تتعلمي أبدا .. هل أحضر لك الافطار إلى هنا .. أم تتناولينه في الأسفل مع العائلة ؟
تمتمت :- سأتناوله هنا .. لست جاهزة بعد لمواجهة أي احد
خرجت حنان فتمددت نانسي على السرير تبكي بمرارة .. كانت تعرف بان اليوم الذي سينفذ فيه صبر محمود قادم لا محالة .. ولكنها لم تتخيل أبدا ان يكون الأمر بهذه الطريقة .. لقد كان قاسيا معها .. عنيفا .. ربما لانها لم تتوقف عن مقاومته لحظة واحدة .. كانت كالقطة الشرسة وهي تدفعه عنها .. هل كان عليها ان تكون أكثر خضوعا ؟ أكثر تعاونا ؟ ولكنها ما كانت لتمنحه نفسها بهذه البساطة .. إن كبريائها يمنعها من ان تقدم له نفسها وكأنها حقا كما قال .. أحد ممتلكاته .. ولكن ماذا كانت النتيجة ؟ ما شعرت به الليلة السابقة كان الإذلال والإهانة .. وعندما تركها اخيرا هربت إلى الحمام كارهة أن ترى وجهه بعد الآن .. تمنت أن تفتح باب الحمام لتجده قد اختفى .. وهذا بالضبط ما حصل .. فكما عرفت من حنان .. غادر محمود في وقت مبكر للغاية .. هي لا تعرف وقت عودته ولكنها ترفض ان تراه .. تتمنى ان تموت قبل ان يلمسها مجددا .. طرق الباب ودخلت لينا التي قالت وهي تنظر إلى وجهها الباكي :- ما الامر يا نانسي ؟ لماذا تبكين ؟ .. هل تشاجرت مع محمود ؟
كذبت قائلة :- لا تقلقي يا عزيزتي .. لقد تذكرت امي فحسب
عانقتها لينا بقوة وهي تقول :- أتعلمين ؟ لقد أرسلت صباح اليوم رسالة جديدة لخالي في فرنسا
تمتمت نانسي :- أما زلت تأملين بان نجده .؟
قالت لينا :- انا متأكدة بانه مسافر إلى مكان ما .. يجب أن يعرف بما حصل .. فهو منذ الآن عائلتنا الوحيدة
تمتمت نانسي ك- انت محقة .. كيف تسير امورك هذه الأيام ؟
مطت لينا شفتيها قائلة :- أشعر بملل كبير .. امارس الرسم .. استمع إلى الموسيقى .. كل يوم أقوم بنفس النشاطات ولا اعرف كيف أضيع وقتي
قالت نانسي بهدوء :- ألا تفكرين بالعودة إلى المدرسة ؟
صاحت لينا بحدة :- لا
عبست نانسي وفتحت فمها لتناقشها .. إلا ان لينا نهضت وهي تقول بعناد :- لا أريد مناقشة الموضوع الآن ..
تركت الغرفة قبل ان تنطق نانس يحرف واحد .. شعرت بالغضب الشديد وكأن مشاكل لينا هي ما ينقصها الآن .. يجب ان تتحدثا في الموضوع ذات يوم .. لا يمكن أن تستمر لينا على هذه الحالة
لم يأت محمود ذلك المساء .. تجرأت ونزلت لتناول العشاء خشية أن يشك أحد أفراد المنزل بشيء . تناولت العشاء صامتة فحدثها السيد طلال قائلا :- أرجو ألا يزعجك غياب محمود هذه الليلة .. لديه عمل كثير يتطلب منه البقاء في المدينة
توقفت عن الاكل .. إذن .. محمود لن يأت الليلة .. وعمه يظن بانها تعرف هذا .. قالت بهدوء ك- لقد أخبرني بالأمر .. وانا أعذره
أشعرها غياب محمود بالراحة .. بالرغم من هذا كانت تشعر بتحفز تام اثناء تمددها فوق سريرها في محاولة منها للنوم ...ماذا إن عاد ؟ ماذا لو أراد الحصول عليها مجددا ؟ تقلبن فوق السرير بتوتر .. كانت مع كل حركة تصدر تنتفض وتنهض ظنا منها انه محمود .. ولكنه لم يأت .. لا هذه الليلة .. ولا الليلتين التاليتين .. وبدأت هي تشعر بالقلق .. خاصة عندما امسكتها ريم فجأة في صباح أحد الأيام وهي تقول ساخرة :- ما الأمر ؟ هل بدأ محمود يمل منك ويشرد بعيدا ؟ لم اتوقع أن يحدث هذا بهذه السرعة .. ألا تتساءلين عما يفعله وحده في المدينة .. في تلك الشقة الواسعة والخالية ؟
ردت نانسي بهدوء :- طبعا لا أتساءل .. فهو يكلمني يوميا عدة مرات .. ونقضي الليل بطوله ونحن نتحدث عبر الهاتف .. فهو لا يستطيع ان ينام دون ان يسمع صوتي
رفعت ريم رأسها قائلة :- هل تظنين بانك تخدعينني ؟ لقد سمعتكما تتشاجران قبل يومين ..
ضحكت نانسي بدلال وه يتقول :- هل ظننت باننا كنا نتشاجر ؟ كنت لأخبرك بما كنا حقا نفعله لولا خوفي على حيائك .. فانت فتاة غير متزوجة .. وأخشى عليك من الصدمة .. إنما أخبريني .. هل تمضين جل وقتك خلف باب غرفتنا تحاولين معرفة ما يدور بيننا ؟ لم لا تجدين لنفسك عملا أفضل ..كالبحث عن عريس مناسب قبل ان يفوتك القطار ؟
تركتها واقفة وانسحبت إلى غرفتها .. كانت غاضبة وقلقة .. ماذا لو كانت ريم محقة ..وأن محمود يسلي نفسه مع امراة اخرى أكثر تعاونا ... احمر وجهها وهي تجوب الغرفة بعصبية .. ما الذي اصابها ؟ هبل تشعر بالغيرة ؟ هل تفتقد إلى محمود ؟ بالتأكيد ثمة رفض قاطع داخلها من فكرة تواجده مع امراة اخرى .. فما الذي يعنيه هذا ؟
رمت نفسها على الأريكة بإرهاق ..إنها لا تعرف حقيقة مشاعرها اتجاه محمود .. أهي تكرهه ؟ .. ام تفتقده ؟ تمتمت بمرارة :- آه لو أعرف حقيقة مشاعري
تلك الليلة .. نامت وهي تحارب صراعا داخلها .. وأسئلة كثيرة لا اجوبة لها .. شعرت بلمسة دافئة على كتفها .. فتحت عينيها بنعاس لتنتفض بعدها وهي ترى محمود يجلس غلى جانبها .. يكسو وجهه شحوب غريب .. وفي عينيه تعبير آسر لم تفهمه .. بدا كئيبا وهو يحاول تهدئتها .. قالت وهي تتراجع مبتعدة عنه :- ابتعد عني .. لا تلمسني
قال متوترا :- اهدئي يا نانسي .. انا لن أؤذيك
سالت دموعها وهي ترى يديه تمتدان إليها :- أرجوك ابتعد عني
امسكها وسحبها إليه فقاومته بضعف في البداية عندما ضمها إلى صدره بقوة .. وسرعان ما استسلمت لعناقه وهي تجهش بالبكاء بين طيات قميصه .. ربت على ظهرها بحنان وهو يقول :- انا آسف يا نانسي .. لم أرد أن أسبب لك الأذى .. لم أرغب بهذا أبدا
رفع وجهها المغطى بالدموع إليه .. وقال بصوت أجش :- لن أؤذيك مجددا يا نانسي .. أعدك
عاد يضمها إليه بقوة .. فاستكانت بين ذراعيه شاعرة بحنان غريب يلفها .. بالأمان والراحة .. أي تناقض هذا .. فتارة تراه وحشا كاسرا تخاف منه حتى الموت .. وتارة تشعر بانه ملجأها الوحيد .. وأن احدا لن يصل إليها بين ذراعيه وتحت حمايته .. تمتمت بين خصلات شعرها الذهبية :- لم أستطع مواجهتك بعد ما حدث .. كان علي ان اغيب لفترة كي أحاسب نفسي .. ولكنني لم استطع ان اغيب اكثر .. لا أستطيع الابتعاد عنك يا نانسي
مددها على السرير .. وتمدد إلى جوارها دون أن يتركها أو يتوقف عن ترديد عبارات مهدئة في أذنها كان عليها أكبر تأثير .. إذ استرخت حواسها .. وهدأت نفسها
ووجدت نفسها تغرق بين ذراعيه في نوم عميق






الفصل الثامن عشر


منقذي أنت



شحب وجه لينا وهي تقول :- لقد سبق وأخبرتك بانني لست جاهزة بعد
قالت نانسي بحدة :- انا أظنك قد أصبحت جاهزة تماما للعودة إلى المدرسة .. لقد مرت فترة طويلة منذ وفاة والدنا .. لم يعد احد يذكر اسمه .. أنامتأكدة بانك لن تواجهي المشاكل خاصة في المدرسة الجديدة التي اخترتها لك
وقفت لينا وهي تهتف بعنف :- انت لا تفهمين .. لن ينسى احد على الإطلاق اسم سلمان راشد .. سيظل الجميع يعايرنا ..
قاطعتها نانسي وهي تقف بحزم :- لقد اتخذت القرار يا لينا .. ستبدأين بالذهاب إلى المدرسة منذ الصباح .. لن أسمح لك بالتسكع اكثر وقضاء الوقت بلا فعل أي شيء سوى مصاحبة فراس .. لقد حان الوقت للنظر في أفعالك
اتسعت عينا لينا الزرقاوان فبدا الذعر فيهما وهي تجد نفسها عالقة بلا مخرج .. دوى صوت محمود الهادئ يقول :- ما الذي يحدث هنا ؟ أصواتكما تملأ البيت
كان يبدو قد عاد لتوه من عمله وقد ظهر الإرهاق جليا عليه وهو يضع حقيبة أوراقه فوق المكتب فأسرعت لينا نحوه وهي تقول شاكية :- تريدني نانسي ان اعود إلى المدرسة
شعرت نانسي بالغيظ من تصرف لينا التي نسيت بأن نانسي هي المسؤولة عنها .. وهاهي تشتكيها إلى محمود وكأنه والدهما البديل
منذ تلك الليلة التي عاد فيها محمود معتذرا من نانسي بعد غيابه لأيام عن البيت .. عندما نامت بين ذراعيه باكية كالبلهاء .. وهما يتعاملان مع بعضهما بأسلوب التجاهل التام ..
يتحدثان أمام الآخرين بشكل طبيعي .. ووحدهما كالغرباء تماما .. كما كانا يتصرفان سابقا .. تتظاهر هي بالنوم .. وينام هو دون ان يوجه لها أي كلمة لينهض صباحا ويغادر قبل استيقاظها .. مع فرق بسيط وهو انها لم تعد تستفزه كالسابق .. وكأنها باتت تخشى أن تثير غضبه مجددا وقد عرفت ما الذي يعنيه غضب محمود
سمعته يقول للينا بهدوء :- وأين المشكلة ؟ نانسي تفكر بمصلحتك ليس إلا
ارتد وجه لينا إلى الوراء وهي تقول مصدومة :- ماذا ؟ . ولكن .. أنا ...
أحاط كتفيها بذراعه وهو يقول بلطف :- ليس هناك داعي لقلقك يا لينا .. لقد سبق وأخبرتك بأنني سأمحي كل من يوجه نحوك كلمة مزعجة واحدة .. المدرسة الجديدة ممتازة وقد تحدثت بنفسي إلى ...
أكمل إقناعه السحري للينا وهو يقودها إلى الأريكة الجلدية بينما توجهت نانسي نحو نافذة غرفة المكتب المطلة على الحديقة وأخذت تنظر عبرها إلى الشمس الغاربة بكآبة
تكره الاعتراف بهذا .. ولكن لمحمود تأثير كبير على لينا .. إنه الوحيد القادر على إقناعها بالأمر .. لقد أصبحت شقيقتها تعتمد عليه تماما في كل شيء
سمعت لينا تقول باضطراب :- ولكن ماذا لو .. ماذا ..
صمتت وهي تعض على شفتها السفلى فربت على شعرها الناعم وهو يقول :- أعرف بالضبط ما يخيفك .. الحادث الذي تعرضت له نانسي لا يمكن ان يتكرر معك .. حياة نانسي فيها الكثير من التعقيدات .. وبالتالي لديها الكثير من الاعداء في الجامعة .. أما أنت فلا أظن احدا بقادر على أذيتك أو حتى كرهك
التفتت نانسي نحوهما مصدومة وكأنها قد تلقت صفعة قوية .. لم يشعر أحدهما بشحوب وجهها وارتعاشها وهي تحدق بهما .. بل لم يشعرا بها وهي تترك المكتب وتجري كالمجنونة بين أروقة البيت حتى وصلت إلى المطبخ .. دخلت وهي تقول لاهثة :- أين حنان ؟
تبادلت الطاهية نظرات الحيرة مع نجوى التي قالت :- لقد كانت تنفض الغبار في غرفة الجلوس
أسرعت نانس إلى هناك لتجد حنان منهمكة فعلا في مسح الغبار عن الأسطح الزجاجية .. ولكنها توقفت فور أن لمحت نانسي .. قالت بقلق :- ما الامر يا نانسي ؟ هل انت بخير ؟
حاولت نانسي تهدئة أنفاسها المبهورة ثم قالت :- حنان .. أنت كنت موجودة في كل مرة انفرد فيها محمود مع والدتي ولينا في منزل الشاطئ .. صحيح ؟
قالت حنان بحيرة :- صحيح
قالت نانسي باضطراب :- هل سبق واخبرته أمي عن الحادث الذي تعرضت له .. ذلك الاعتداء أثناء عودتي من الجامعة ؟
قالت حنان :- لا يا نانسي .. والدتك رحمها الله كانت تعرف مدى حساسيتك من الموضوع .. وكانت تعرف بأنك ما كنت ترتاحين للدكتور محمود في ذلك الوقت .. وما كانت لتخبره بسر كهذا
أغمضت نانسي عينيها وهي تقول :- ماذا عن لينا ؟
:- لقد كرهت لينا دائما الاستماع إلى القصة .. فكيف بالتحدث عنها ؟ هل نسيت بانها كانت ترى الكوابيس بسببها ؟
انهارت نانسي جالسة على المقعد وكل عضلة في جسدها ترتعش وهي تقول :- كيف عرف محمود به إذن ؟ كيف عرف بحادث لم يعرف به سوى أربع أشخاص ؟
أمسكت حنان بكتفها قائلة :- نانسي .. أين المشكلة في معرفة الدكتور محمود بالقصة ؟ إنه زوجك الىن .. ومن حقه أن يعرف دقائق حياتك
لكم تكن نانسي تستمع إلى ما تقوله حنان .. بل كان عقلها يفكر كالمجنون .. ولم يهدا عن التفكير لحظة واحدة حتى أثناء تناولها العشاء مع العائلة .. الكل كان يتحدث وكأن شيئا لا يشغله لإلا هي .. كانت تتناول طعامها بصمت وهي ترمق زوجها بنظرات مختلسة وهو يتحدث إلى عمه .. تأملت وجهه الرجولي الوسيم .. نظراته القوية .. كتفيه العريضتين .. يديه الخشنتين وهو يلوح بهما أثناء حديثه فارتجفت عندما تذكرت ملمسهما عليها .. ما الذي يخفيه عنها محمود يا ترى ؟ متى ستفك غموضه وتعرف ما يفكر به عقله المعقد ؟ .. أحس بنظراتها فالتفت إليها متعجبا .. فعادت تغوص في طبقها الذي أنهته دون ان تحس بطعمه ..وبعد العشاء .. اعتذرت على الفور وصعدت إلى غرفتها متعللة بالصداع ..
وعندما أغلقت الباب على نفسها .. بدلت ملابسها .. وأحكمت إغلاق روبها فوق بيجامتها الحريرية .. وانتظرت وهي جالسة باستقامة فوق الأريكة الصغيرة .. تحدق امامها بجمود .. حتى دخل محمود ليفاجئ برؤيتها صاحية على غير العادة .. أقفل الباب وراءه بهدوء قائلا :- ظننتك مصابة بالصداع
وقفت وهي تقول بتوتر :- لقد كنت كذلك
:- لماذا لم تخلدي إلى النوم إذن
خلع حذائيه .. ثم بدأ يحل أزرار قميصه عندما تتبعت ما يقوم به وهي تقول :- لقد كنت في انتظارك
التفت نحوها .. ولاحظ وجهها الشاحب وعينيها القلقتين .. قال بقلق :- ما الأمر ؟ .. هل من مشكلة ؟ هل هي لينا مجدا ؟
أغمضت عينيها بقوة للحظات ثم فتحتهما قائلة :- كيف عرفت ؟
رمش بعينه مستغربا وهو يقول :- عرفت بماذا ؟
قالت بعصبية :- تعرف بالضبط ما أقصده .. لقد سمعتك تتحدث إلى لينا .. كيف عرفت بأمر الحادث الذي تعرضت له قبل أشهر ؟ أعرف بأن أمي لم تخبرك .. هل هي لينا ؟
صمت للحظات طويلة وهو ينظر إليها دون تعبير على وجهه قبل أن يقول بهدوء :- لا .. لينا لم تخبرني
ازداد وجهها شحوبا .. وتسارعت نبضات قلبها وهي تقول :- كيف عرفت إذن ؟ من أخبرك بالأمر ؟
استدار نحوها و واجهها تماما وهو يقول :- كيف تظنينني عرفت يا نانسي ؟
ارتدت إلى الخلف ..واتسعت عيناها وقد هبط الإدراك عليها مرة واحدة .. وعرفت ما كان قلبها يعرفه منذ البداية .. قالت بصوت مختنق :- لقد كنت أنت .. أنت من أنقذني ذلك اليوم من بين براثن جابر ورفيقه .. صحيح ؟
صمت للحظات ثم قال :- هذا صحيح ..
أحاطت نفسها بذراعيها وهي تقول باضطراب :- ولكن كيف ... كيف كنت هناك في الوقت المناسب ؟ أنت من بين جميع الناس .. كيف ؟
توتر فمه وهو يقول :- لقد صارحني ماهر قبل الحادث بأيام بقلقه من تهديد جابر الذي لم يطلق يوما تهديدا لم يعنه حقا .. نهار الحادث كنت قد أمسكت ذلة على أحد رفاق جابر المقربين .. وابتززته بها مقابل إخباري بنوايا جابر .. فعرفت بأنه كان من المفترض به أن يعترض طريقك في تلك اللحظة ..
عنما وصلت .. كان الوقت قد تأخر على منعه من إلحاق أي ضرر بك .. فكرت بأنني لو كنت قد تأخرت قليلا بعد ...
ظهر غضب عنيف في عينيه وهو يتذكر مظهرها .. ملقاة على الأرض .. مضرجة بالدماء وممزقة الثياب .. وذلك الحقير يهم باغتصابها .. ارتجفت نانسي وقد انتابتها نفس الذكرى .. إلا أنها كانت تفكر بشيء مختلف تماما .. تمتمت بصعوبة :- وبالطبع .. كنت انت من حملني إلى المستشفى ودفع جميع تكاليف العلاج .. ورفض ذكر اسمه كي لا أعرف من يكون
قال بقلق :- علاقتنا كانت حساسة في تلك الفترة يا نانسي .. معرفتك بالحقيقة كانت لتؤذيك أكثر مما قد تساعدك
بدت وكأنها لم تسمعه وهي تكمل :- ثم قمت بطرد جابر من الجامعة عقابا له على فعلته
أشتدت قبضتاه غضبا وهو يقول :- لولا خوفي من معرفة الناس بما حدث لتسببت بدخوله السجن لفترة طويلة للغاية
أغمضت عينيها وهي تقول بصوت بدأ يفقد تماسكه :- وهذا كله لم يكن كافيا لتتخلص من إحساسك بالذنب لأنك لم تستطع إنقاذي تماما .. فلحقتني وعائلتي إلى منزل الشاطئ .. صحيح ؟ وجودك هناك لم يكن صدفة على الإطلاق
ساد صمت ثقيل بينهما .. نظر خلاله محمود إلى نانسي وكأنه يتمنى أن يتوقف هذا الحديث عند هذا الحد .. ولكن مرأى حالتها المضطربة جعلته يدرك بأنها لن تهدأ حتى تعرف الحقيقة .. اعترف قائلا :- لا .. لم يكن وجودي هناك صدفة على الإطلاق .. لقد وضعت من يراقبكن بعد الحادث مباشرة خوفا من عودة جابر ومحاولته أذيتك مجددا .. عرفت من خلاله بأنكن قد غادرتن المدينة وتوجهتن إلى منزل الشاطئ العائد إلى خالك
همست :- لماذا فعلت هذا ؟ لماذا لحقت بنا إلى هناك ؟
مرر يده عبر شعره الكثيف وهو يقول بانفعال :- لماذا تظنينني فعلت هذا يا نانسي ؟ لقد كاد الرجل يغتصبك بحق الله .. ولو أنني لم أتأخر في الحضور لما أذاك بذلك الشكل .. لقد كنت ضعيفة للغاية رغم تظاهرك بالقوة .. ما كنت بقادرة على مواجهة الواقع أنت أو عائلتك دون مساعدة .. كان علي اللحاق بك لأتأكد بأنكن بخير
اغرورقت عيناها بالدموع وهي تحس بطعنة قوية من الألم في صدرها .. تراجعت وهي تقول بمرارة :- نعم .. هذا صحيح .. وكم كانت صدمة قوية أن تمرض أمي وتموت .. وتجد أنت الفتاتين اليتيمتين قد أصبحتا بلا حماية هل حملت نفسك مسؤولية مرض أمي أيضا يا محمود ؟ هل فكرت بأن الزواج بي كان الطريقة المثلى لإسكات ضميرك المتعب .. الوسيلة الوحيدة لمنحي أنا وأختي المسكينة سقفا يأوينا ؟ .. أظن بأن اعمالك الخيرية قد تخطت الحدود هذه المرة يا محمود .. إذ تخلين عن حريتك بسببها
قطع المسافة بينهما فورا وقد أغضبه تهكمها .. أمسك بكتفيها يهزها بقوة قائلا :- لا تتحدثي بهذه الطريقة يا نانسي .. أنا لم أتزوجك شفقة أو رأفة بك .. أنت تعرفين جيدا لماذا تزوجتك
ابتعدت عنه وهي تنظر إليه قائلة بمرارة :- نعم .. أعرف جيدا بأنها كانت الطريقة الوحيدة التي تجعلني أقبل المال اللازم لعلاج والدتي .. كما أنني حسنة الشكل لحسن حظك مما يجعلني زوجة مرغوبة منك .. مع أنني متأكدة بانك كنت لتتزوجني حتى لو كنت قبيحة أو بدينة
قال بحدة :- نانسي
أمسكت أذنيها وهي تهز رأسها قائلة بألم :- أرجوك يا محمود .. لا أريد أن أسمع المزيد .. أرجوك
تركت الغرفة مسرعة .. نزلت إلى المطبخ لتجد حنان جالسة برفقة نجوى تحتسي معها كوبا من الشاي .. نهضتا فور أن رأتاها عند الباب .. وجهها مغطى بالدموع .. وشهقاتها تتوالى بشكل طفولي .. أسرعت نجوى تصب لها كوبا من الشاي
بينما وقفت حنان وهي تقول بقلق :- يا إلهي .. ما الذي حدث يا عزيزتي ؟
ضمتها بسرعة بين ذراعيها وهي تقول بين شهقاتها :- لقد كان هو يا حنان .. لقد كان هو
أجلستها حنان برفق بينما وضعت نجوى كوب الشاي الساخن أمامها وغادرت المطبخ تاركة للفتاتين حرية الحديث .. قالت نانسي مرتعشة :- لقد كان محمود .. هو من أنقذني ذلك المساء .. هو من حملني إلى المستشفى ودفع التكاليف .. لقد كان محمود
قالت حنان وهي تمسك بيدها ..:- اهدئي يا نانسي .. لطالما أردت معرفة الشخص الذي أنقذك وقد عرفته الآن .. يجب أن يكون هذا خبرا جيدا
هزت نانسي رأسها قائلة :- أنت لا تفهمين خقيقة الأمر يا حنان.. عندما استيقظت في المستشفى .. كان أول ما خطر على بالي هو أن أعرف اسم الشخص الذي أنقذني من مصير أبشع من الموت .. لفترة طويلة لم أفكر إلا بذلك الشخص الغامض .. تمنيت دائما أن أجده في يوم من الأيام لأتمكن من رد جميله .. كنت مستعدة لمنحه حياتي مكافئة له على ما فعله .. وفي النهاية .. أكتشف بأن منقذي هو الرجل الذي تزوجته
تمتمت حنان :- نانسي
هتفت حنان :- انت لا تفهمين مأزقي الحال يا حنان .. مشكلتي الكبرى هي انني اكتشفت لتوي بأنني أحب محمود .. أحبه بجنون
قالت حنان ببهجة :- هذا رائع يا نانسي .. لقد ظننت دائما بأنك تكرهينه
وقفت نانسي وأخذت تتحرك في المطبخ بلا توقف وهي تتكلم كمن يخاطب نفسه :- نعم .. لقد ظننت نفسي أكرهه .. إلا أن الحقيقة هي أنني قد أكون وقعت في حبه منذ البداية دون أن أدري .. لقد بدأ بكسب احترامي بازدرائه لي وطرده لي من مكتبه رافضا رشوتي .. ثم الطريقة التي أشعرني فيها دائما بالعجز أمامه .. الطريقة التي أذاب فيها كبريائي كلما تواجهنا .. محمود هو الشخص الوحيد الذي أجدني عاجزة عن التبجح أمامه والاعتداد بنفسي
ثم الطريقة التي عامل فيها أمي قبل وفاتها .. لقد جعلها تحس بالراحة والأمان لوجوده إلى جانبنا وقد حرمنا أبي من هذا الإحساس .. لقد كان للينا الناصح الأمين والأخ الأكبر والوالد البديل عن جدارة .. لقد وقف إلى جانبنا عند مرض أمي ولم يتردد لحظة واحدة قبل أن يتكفل هو بكل شيء .. لقد احتواني بكرمه وصبره وحنانه .. ومعرفتي بأنه هو من أنقذني حطمني تماما
وقفت حنان قائلة بقلق :- هذا جيد يا نانسي .. أنت تحبين زوجك ..
هتفت نانسي بمرارة :- لا .. ليس جيدا على الإطلاق عندما أعرف بأنه قد تزوجني شفقة علي و إسكاتا لضميره .. ليس جيدا عندما أجهل عنه كل شيء ولا أتوقف عن التفكير بما يخفيه عني بعد
فكرت بألم .. عندما أفكر بريم وهديل ونسرين وغيرهن من النساء اللاتي تجهل حقيقة مكانتهن في حياة محمود
أسرعت حنان تقول بلهفة :- لا يا نانسي .. محمود يحبك .. وأنا متأكدة من هذا .. وأنت أيضا تحبينه فلا تعذبي نفسك بدون داعي حقيقي
هزت نانسي رأسها قائلة :- لا .. أنا لا أحب محمود .. سأظل أردد هذه العبارة حتى تتحول إلى حقيقة .. لن أحبه حقيقة حتى أتأكد بأنه لي .. لي وحدي بقلبه وجسده ومشاعره
وقفت حنان وهي تنظر إلى نانسي الحزينة بيأس من تغيير رأيها .. تمتمت نانسي :- آسفة لأنني أزعجتك يا حنان .. انسي كل ما قلته لك .. أنا سأنساه أيضا ولن أفكر به مجددا
عندما عادت إلى غرفة النوم .. كانت تأمل بأن تجد محمود نائما كي تتجنب مواجهته .. ولكنه اعتدل فزق السرير فور دخولها وقد علا وجهه الوسيم القلق وهو يقول :- هل أنت بخير ؟
حاولت ألا تنظر إلى صدره العاري القوي العضلات وهي تقول بفتور :- طبعا بخير .. ولك لا أكون كذلك ؟
دارت حول السرير .. ودست نفسها في جانبها منه وهي تمنح محمود ظهرها .. فقال بتوتر :- يجب أن نتحدث يا نانسي .. لقد عرفت بأن معرفتك بهذا ستزعجك .. لهذا فقط أخفيته عنك
تمتمت دون أن تنظر إليه :- ولماذا تزعجني .. كان علي أن أعرف كي أشكرك على إنقاذك لي.. وعلى ما فعلته وتفعله لأجلي ولعائلتي .. سأتذكر هذا دائما عندما تعايرني بأنك قد اشتريتني .. لن أجرؤ عندها على فتح فمي بكلمة
صاح بحدة :- نانسي
أمسك بكتفها وأدارها إليه بقوة .. فرأى وجهها المغطى بالدموع .. وفمها المطبق بقوة وكأنها تمنع نفسها من البكاء .. عرف بأنها قد تنهار عند أقل ضغط منه .. فاكتفى بأن قال بإصرار :- أنا لم أتزوجك شفقة عليك يا نانسي
نظرت إلى عينيه الداكنتين لفترة طويلة وهي تتمنى أن تعرف حقا ما يختبئ خلفهما .. ثم أشاحت ببصرها هامسة :- تصبح على خير
تركها هذه المرة تبتعد عنه دون اعتراض .. للحظات لم تشعر بأي حركة منه وكأنه ينظر إلى ظهرها متأملا .. ثم وأخيرا .. أطفأ نور الأباجورة المجاورة للسرير .. وخلد إلى النوم



نسمات عطر 02-01-2017 11:29 PM

منقولة من منتدى غرام~ عندما تنحني الجبال~
 
الفصل التاسع عشر


نكبة أخرى


عادت نانسي من الجامعة مع انتصاف اليوم .. لم تكن في مزاج جيد لقضاء الوقت برفقة زملائها المبتهجين .. كانت قلقة على لينا التي ذهبت إلى المدرسة أخيرا هذا الصباح لأول مرة .. ورغبت بشدة في أن تكون موجودة لحظة وصولها
.. سألت نجوى فور دخولها المنزل عن لينا فقال :- لقد وصلت منذ دقائق .. إنها في غرفتها
أسرعت نانسي تقفز فوق الدرج وصولا إلى غرفة لينا الصغيرة .. فوجدتها جالسة على الأريكة دون أن تغير زي المدرسة الرسمي الأنيق .. وقد بدا عليها التعب والاكتئاب .. قالت بمرح مصطنع :- لقد نسيت كم تبدين فاتنة في الزي المدرسي .. هيا تكلمي وأخبريني عن نهارك في المدرسة الجديدة
جلست إلى جانبها بينما قالت لينا وهي تجذب رباط شعرها لتحرره قائلة بملل :- لقد كان جيدا .. المدرسة جميلة والمعلمات طيبات كما يبدو .. وقد عقدت صحبة على الفور مع بعض الفتيات
نظرت نانسي إلى وجهها الملول بحيرة .. ثم قالت بقلق :- ما الذي يزعجك إذن ؟ تبدين تعيسة .. هل وجه أحدهم أي كلمة مزعجة نحوك ؟
نظرت لينا إلى أختها بتأنيب ضمير :- لا .. لم يتحدث أحد عن أبي .. بل لم يذكر اسمي أي أحد به .. أنا آسفة لأنني أقلقتك
قالت نانسي :- ما الأمر إذن ؟
ابتسمت لينا بحرج قائلة :- لقد نسيت مدى كرهي لأداء الواجبات المنزلية .. وقد حملتني المعلمة كومة منها بسبب تأخري عن التلميذات
تنهدت نانسي بارتياح وهي تجذب شعر أختها الذهبي بغيظ :- أيتها الكسولة .. تستحقين عقابا على الرعب الذي أشعرتني به
ضحكت الفتاتان في اللحظة التي دخلت فيها نجوى قائلة وهي تبتسم لمرأى الضحكات على وجهي الفتاتين :- لقد وصل الدكتور محمود .. ويطلب منكما موافاته في غرفة الاستقبال
أومأت لها نانسي برأسها ثم نظرت إلى لينا وهي تقول مازحة :- لابد أن بابا الجديد يريد أن يطمئن على نهار صغيرته في المدرسة
ضحكت عندما احمر وجه لينا بخجل .. ثم سارتا معا نحو غرفة الاستقبال فور أن غيرت لينا ملابسها .. عندما دخلتا توقعتا ان تجدا محمود وحيدا .. إلا أن نظرهما تعلق فورا بالرجل الجالس إلى جواره .. الرجل الأربعيني الأشقر الوسيم الذي بدا الحزن واضحا في وجهه وهو يقف فور رؤيته لهما
تجمدتا للحظات طويلة وهما تنقلان بصرهما بين محمود الواقف إلى جواره جامد الملامح .. وبين الرجل الذي نظر إليهما بلهفة .. لينا كانت أول من كسر الجمود .. إذ انهمرت دموعها وهي تصيح بلهفة :- خالي فوزي
ركضت نحوه ورمت نفسها في حجره فورا .. ثم تبعتها نانسي فاحتوى الفتاتان بين ذراعيه وهما تبكيان .. بينما سالت دموع ساخنة من عينيه وهو يقول بألم :- أنا آسف يا صغيرتي .. آسف لأنني لم أكن موجودا خلال مرض أمكما وعند وفاتها .. آسف لأنني لم أقف إلى جواركما في محنتكما
كان اللقاء مفعما بالمشاعر والانفعالات .. وعندما انتهت العاصفة .. جلس الخال على الأريكة وقد جلست الفتاتان حوله وهو يحكي لهما عن رحلته المفاجئة مع زوجته حول أوروبا .. وفقدانه لهاتفه وعجزه عن الاتصال بهن .. حتى أنه لم يعرف بفضيحة والدهما حتى اتصل به محمود قبل أيام وقد تمكن بوسائله الخاصة من العثور عليه .. وأخبره بكل شيء فترك ما وراءه وعاد فورا
سالت دموعه مجددا وهو يقول :- ليتني كنت موجودا .. ليتني تمكنت من وداعها على الأقل
ضم الفتاتين إليه وهو يقول :- من حسن الحظ أن الدكتور محمود كان موجودا لأجلكما .. لا أعرف كيف أشكرك يا دكتور على كل ما فعلته للفتاتين .. ووقوفك إلى جانب مريم قبل وفاتها .. أنا أشكرك من كل قلبي
قال محمود بوجوم :- لا داعي لشكرك يا سيدي .. نانسي هي زوجتي .. وعائلتها عائلتي .. لقد قمت بواجبي ليس أكثر
لم تستطع نانسي النظر إليه وقد طعنتها الكلمة في قلبها .. نعم .. لقد فعل ما فعله باسم الواجب .. حتى زواجه منها كان واجبا فرض عليه
أصر محمود على أن يبقى السيد فوزي في ضيافته خلال وجوده في البلاد رغم اعتراض الأخير .. إلا أنه أذعن في النهاية عندما ألحت عليه الفتاتين
تناولت العائلة العشاء برفقة الضيف وقد بذلت الطاهية جهدا كبيرا في صنع ما لذ وطاب على شرف الضيف .. الذي أثار جوا مرحا على المائدة وهو يحكي مغامراته والأحداث الشيقة التي صادفته هو وزوجته أثناء سفرهما المتواصل
حتى أن ريم النادرة الابتسام كانت تضحك بتقدير للضيف الوسيم والمرح
قادت نانسي خالها إلى غرفته حيث كانت حنان تضع الملاءات الجديدة .. حياها فوزي وقد تذكرها منذ كانت تلهو مع نانسي وهما طفلتان صغيرتان .. وعندما انصرفت التفت إلى نانسي وفتح لها ذراعيه فأسرعت ترمي نفسها بينهما وهي تقول :- مممم ما أروع الرجوع إلى البيت
ضحك وهو يقول :- لا أصدق خروج كلام كهذا من سيدة منزل بهذه الضخامة
قالت بانزعاج :- تعرف جيدا ما قصدته
أبعدها عنه .. ونظر إليها قائلا بقلق :- هل أنت سعيدة يا نانسي ؟
ابتسمت باضطراب قائلة :- ما الذي تظنه ؟ طبعا أنا سعيدة ..
قال :- الدكتور محمود رجل رائع .. إنه قوي الشخصية ومثقف ونبيل .. وهو أيضا رجل أعمال مرموق ومعروف .. أنا متأكد بأنك ستكونين بخير تحت رعايته .. ولكنني أريد أن أسمعها منك .. هل يعاملك بشكل جيد ؟
تمتمت :- بالتأكيد ..
لم ترغب بإثارة قلق خالها بإظهار مخاوفها وشكوكها اتجاه محمود .. أو بالمشاكل التي لا تتوقف بينهما .. ولكنها لم تتوقع أن يقول أبدا :- إذن .. سأكون مطمئنا عندما أعود إلى فرنسا الأسبوع القادم برفقة لينا
شحب وجهها وهي تتراجع إلى الخلف قائلة بارتباك :- ماذا ؟
:- تعرفين بأنني لا أستطيع ترك لينا هنا يا نانسي .. إنها مسؤوليتي الآن .. أنت لديك زوجك وبيتك .. وهي ما تزال طفلة صغيرة بحاجة إلى الرعاية .. أنا وزوجتي سنكون في غاية السعادة لوجودها معنا بعد أن حرمنا الله من الأطفال
قالت بانفعال :- ولكن لينا سعيدة هنا .. إنها تحصل على كل ما تحتاجه وأكثر .. فلماذا تأخذها بعيدا .. أنا أعتني بها كما يجب
نظر إليها بطريقة ذات معنى وهو يقول :- مهما كانت رعايتك لها كبيرة يا نانسي .. فهي لا يمكن أن تعيش تحت رعاية زوج شقيقتها في وجود خالها .. كما أنها ما كانت لتوافق على الذهاب معي لو كانت سعيدة حقا
قالت بصوت مختنق :- هل .. هل تكلمت معها في الموضوع ؟
:- نعم .. عندما كنت تشرفين على إعداد العشاء .. وقد أبدت حماسا كبيرا للفكرة
أمسك بكتفيها ونظر إلى عينيها قائلا :- انظري إلى نفسك يا نانسي .. أنت ما عدت طفلة صغيرة .. لقد أصبحت امرأة .. مسؤولة عن زوج وبيت وأطفال سرعان ما سيأتون إلى الحياة .. أنا الآن مطمئن عليك .. ولكنني لن أرتاح حتى أتأكد بأن لينا أيضا بخير .. وهذا لن يحدث إلا إن كانت تحت رعايتي
فور أن خرجت من غرفة خالها ذهبت نانسي إلى غرفة لينا لتجدها ترسم بشرود وهي جالسة على الأريكة .. أقفلت نانسي الباب ورائها وهي تقول محاولة إجبار نفسها على التزام الهدوء :- ماذا ترسمين ؟
نظرت إليها لينا من فوق دفتر الرسم قائلة :- أحاول رسم أمي .. ولكنني لا أستطيع تجسيد ابتسامتها .. أخشى بأنها لم تبتسم كثيرا في أيامها الأخيرة فنسيت كيف تبدو
جلست نانسي إلى جوارها صامتة للحظات ثم قالت :- لقد تحدث إلي خالنا منذ قليل
اعتدلت لينا قائلة بقلق :- هل حدثك عن سفري معه ؟
اغرورقت عينا نانسي في الدموع وهي تقول :- لماذا يا لينا ؟ .. لماذا تريدين تركي وحدي ؟
أسرعت لينا تقول :- لن أتركك وحدك .. فمحمود معك .. هو سيحميك ويرعاك .. أنت لست بحاجة إلي
قالت نانسي بخشونة :- بل أنا أحتاج إليك .. فقط أخبريني بما يدفعك للرحيل .. لماذا لست سعيدة هنا ؟
نظرت لينا حولها وهي تقول بحزن :- أنا سعيدة بوجودي معك يا نانسي .. ولكنني لا أستطيع منع إحساسي بأنني دخيلة في هذا البيت .. دائما أحس بأنني غريبة في منزل لا يحبني سكانه .. وأنني عالة على محمود مهما كان طيبا وكريما ..
الأمر مختلف معك فأنت زوجته .. وسيدة هذا البيت .. هو دائما سيكون إلى جوارك عند الحاجة .. وأنا لن أشعر بأنني في بيتي حقا إلا إن أقمت مع خالي ..
ابتسمت قائلة :- هل تتخيلين ذهابي إلى هناك .. وزيارتي لمتحف اللوفر .. وتعلمي الرسم في باريس مدينة الفن والجمال .. لقد قال محمود بأنه سيحضرك لزيارتي بين الحين والآخر وأننا لن نشعر أبدا بأننا بعيدتان عن بعضنا
تجمدت نانسي وهي تقول :- هل يعرف محمود بهذا ؟
:- نعم .. لقد أخبرته منذ دقائق .. كنت أخشى أن يغضب .. ولكنه أكد لي بأن هذا البيت سيظل مفتوحا لي دائما إن رغبت بالعودة .. وأنكما ستكونان دائما إلى جانبي عند الحاجة .. أنت محظوظة به يا نانسي .. محمود رجل رائع .. بعد رحيلي ستتمكنين من إصلاح الأمور بينكما .. ولن يشكل وجودي بعد الآن أي ضغط عليك .. وستدركين بأنك تحبين محمود وتعيشين معه لأنك تريدين ذلك .. وليس لأن أختك الصغرى بحاجة إلى مأوى
صمتت نانسي للحظات طويلة قبل أن تقول :- أنت أكثر نضوجا مما ظننت يا لينا
قالت لينا بتهكم وكأنها تؤكد نظرية نانسي :- من يستطيع مقاومة النضوج في ظروف كظروفنا
عانقتها نانسي وهي تقول دامعة :- سأشتاق إليك
تمتمت لينا وهي تبكي :- أنا أيضا سأفتقدك .. وسأفتقد محمود وحنان .. عديني بأنك ستنجبين لي أبناء أخت قريبا
ضحكت نانسي بين دموعها وهي تلكز رأس شقيقتها مداعبة .. إلا أنها وفور خروجها من الغرفة .. تركت العنان لمشاعرها .. وسمحت للدموع بالانهمار فوق وجهها بلا توقف .. اندفعت إلى غرفة المكتب حيث عرفت بأنها ستجد محمود .. واقتحمت المكان قائلة بعنف :- أنت خططت لهذا .. أليس كذلك ؟
وقف محمود تاركا عمله على الحاسوب قائلا بتوتر :- ما الذي تتحدثين عنه ؟
هتفت به :- لقد عرفت بأن خالي سيفكر بأخذ لينا معه .. لهذا بحثت عنه وأحضرته إلى هنا .. تريد أن تحرمني من الفرد الوحيد الذي تبقى من عائلتي .. لماذا .. لماذا تريد أن تكسرني .؟ ما الذي فعلته لك ؟
كانت الهستيريا تتخلل صوتها بينما دار هو حول المكتب متجها نحوها ليمسكها بقوة ويهزها قائلا :- هل جننت يا نانسي .. لماذا قد أرغب بأذيتك ؟ هل تظنين بأن رحيل لينا لا يحزنني أنا أيضا ؟ .. لا تستطيعين منعها من فعل ما تريد .. لو أنني عرفت بأنها ستتخذ قرارا كهذا لما ....
تنهد وهو ينظر إلى وجه نانسي الباكي قائلا :- لقد بحثت عن خالك وأحضرته لك كي تشعري بأنك لست وحيدة يا نانسي .. هناك من يحبك ومستعد للوقوف إلى جوارك ودعمك عند الحاجة .. لقد فعلت هذا لأجلك .. وليس لأحرمك من لينا
أجهشت بالبكاء فسحبها نحوه يضمها بقوة إلى صدره أحست بيديه تربتان على ظهرها وشعرها بحنان وعنما رفعت رأسها ونظرت إليه .. توقف بكائها .. وأجفلت للنيران المشتعلة التي أطلت من عينيه وهو ينظر إلى ملامح وجهها الطفولية .. والدموع التي ملأت عينيها الحزينتين .. أحست برجفة تسري في جسدها وهي تدرك مدى قرب كل منهما من الآخر .. فابتعدت مسرعة وهي تمسح دموعها قائلة :- أنا ذاهبة لأنام
وخرجت مسرعة قبل أن يقول ما يدفعها للبقاء .. وهو ما كانت كل ذرة في جسدها تصرخ متوسلة لها به



نسمات عطر 02-01-2017 11:35 PM

الفصل العشرون

ألم لا ينتهي

تركت نانسي أوراقها عندما دوى رنين هاتفها المحمول المرمي إلى جوارها على الأريكة حيث كانت تحاول جاهدة ان تدرس في غرفتها .. ابتسمت عندما لمحت اسم ماهر وأجابت عن المكالمة قائلة :- لا .. لست ندى .. لقد اخطأت الرقم
ساد الصمت للحظات طويلة كادت خلالها تنفجر ضاحكة .. قبل ان تسمع نحنحته المحرجة وهو يقول :- لا .. لم أخطئ الرقم .. كيف حالك يا نانسي .. لقد أصبحت كسولة هذه الأيام بغيابك المتكرر عن الجامعة
كانت تحب إغاظته منذ بدأت الخيوط الوردية تلف علاقته بندى زميلتهما الحسناء الخجول .. ولمعرفتها بأن ماهر أكثر خجلا في هذه الأمور من صديقته تجاهلت الموضوع قائلة :- لا أشعر برغبة في رؤية أحد .. أو حتى الخروج من غرفتي
قال بتعاطف :- أمازلت حزينة بسبب سفر لينا ؟
ابتلعت غصة وهي تتذكر سفر لينا قبل أسبوع .. لقد منعت نفسها بصعوبة من البكاء وهي تودعها في المطار .. لم تبك حتى بعد أن عادت إلى البيت .. اكتفت بحبس نفسها في غرفتها في عزلة عن العالم الخارجي تفكر بمسار حياتها الغريب .. لم تفكر قبل أشهر قليلة بأن الأمر سينتهي بها يتيمة الأبوين ... بلا أخت تؤنس وحدتها وتمنحها الدعم .. متزوجة من رجل لا تعرف مشاعره او نواياه اتجاهها
ما الذي منعها بالضبط من مصارحة خالها بعدم سعادتها في هذا البيت .. والسفر برفقته وبرفقة لينا ؟ .. لا تعرف .. ولكنها حتما لم ترغب بالابتعاد عن محمود وتركه للفتيات المستعدات دائما للحلول مكانها .. الحالة الوحيدة التي ستدفعها للرحيل هي يقينها التام من عدم حبه لها .. أو خيانته لها .. وهو ما لم يحدث حتى الآن .. وهي لن تتحرك من هنا حتى تعرف ما يخفيه عقل زوجها الغامض عنها
تمتمت :- لقد بدأت أعتاد على الامر
:- هل سأراك صباح الغد إذن ؟ الامتحانات على الأبواب .. وعليك تعويض ما فاتك .. سأصور لك محاضرات الأسبوع الماضي طبعا وسأحضرها معي غدا
ابتسمت وهي تتخيل الاخلاص في عينيه البنيتين من الطرف الآخر وقالت ممتنة :- شكرا لك يا ماهر .. لا أعرف حقا ما كنت لأفعله من دونك
انتفضت عندما دوى صوت انصفاق باب الغرفة .. والتفتت نحو محمود الجامد الملامح مما ناقض نيران الغضب المستعرة في عينيه .. تعمدت أن تقول وهي تلاقي نظرات محمود بتحدي :- اتطلع بشوق لرؤيتك صباح الغد يا ماهر .. إلى اللقاء
أنهت المكالمة ونظرت إلى محمود الذي خلع معطفه الثقيل ورماه على السرير بإهمال فقالت بلا مبالاة :- لقد عدت باكرا
قال بجفاف :- نعم فعلت .. لقد ظننت بأن زوجتي الحزينة لفراق شقيقتها بحاجة إلى مواساتي .. لأجد بأن حبيب القلب قد قام بهذه المهمة
وقفت قائلة بحدة :- لا تقل هذا عن ماهر .. لقد سبق وأخبرتك بأننا صديقين فقط
تقدم نحوها وهو يصيح غاضبا :- وقد سبق وأخبرتك بأنني أرفض مصاحبتك له والتسكع معه
قالت بعناد :- لا تستطيع منعي .. أنا حرة وأستطيع فعل ما أريد
قبض على ذراعها فجأة وشدها إليه قائلا من بين أسنانه :- هل تتحدينني يا نانسي ؟
كبتت صيحة ألم سببته لها أصابعه القاسية .. ورفعت عينيها الخضراوين نحوه لتصدم بقربه الشديد منها .. تمكنت من استنشاق رائحة عطره .. بينما تجولت عيناه الغاضبتان فوق صفحة وجهها قبل أن تتوقفا عند فمها الناعم .. لم تخطئ فهم اللهيب الذي حل محل الغضب في نظراته .. المشكلة هي أن اضطرابا غير مرغوبا به بدأ يسري في كيانها .. إذ أخذت نبضات قلبها تتسارع وهي تشعر بحرارة أنفاسه تلفحها ..لا .. لن تسمح لنفسها أبدا بالضعف أمامه
رفعت ذقنها وهي تقول بوقاحة :- ما الأمر ؟ هل ستغتصبني مجددا
توتر فمه وعاد الغضب يكتسح الرغبة في أعماق عينيه الداكنتين .. قست أصابعه حول ذراعها حتى كادت صيحة الألم تفلت من بين شفتيها .. قال ببرود :- حصول ا لرجل على ما هو له لا يسمى اغتصابا
قالت بغيظ :- أنا لم ولن أكون لك أبدا
شدها إليها حتى التصقت به وهو يقول بخشونة :- هل تراهنين ؟
ارتجفت وهي تشعر بقوة عضلات صدره تعانقها .. وذراعيه المحكمتين حولها .. أحست بخدر غريب يلفها وقد سيطرت عليها جاذبيته فلم تستطع دفعه بعيدا .. أما هو .. فقد نظر بقسوة إلى اضطرابها الشبيه باضطراب الفأر العالق في المصيدة .. ثم مط شفتيه بازدراء وهو يقول :- للأسف الشديد .. لا مزاج لدي اليوم لتناول وجبة باردة لا حياة فيها
عندما تركها كانت وجنتاها قد احمرتا غيظا وهي تغمغم بحقد :- أكرهك
ابتعد وهو يقول ببرود :- وكأن مشاعرك نحوي تهمني بأي طريقة .. أظن بأن العمة منار قد أخبرتك عن الحفل الذي يقيمه السيد رفيق محجوب
دلكت ذراعها حيث كان يمسك بها وهي تقول :- طبعا أخبرتني
:- هذا جيد .. اشتري لنفسك ثوبا جديدا ملائما للمناسبة .. فهذا سيكون ظهورنا الأول أمام الناس والمجتمع
غاظتها طريقة كلامه الباردة وكأنه يتحدث إلى مستخدم لا قيمة له لديه .. قالت بتهكم :- أه .. تذكرت بأنك تزوجتني لأشرفك أمام الناس .. أمرك سيدي .. سأشتري ثوبا جديدا وأبدو في أروع مظهر ممكن يليق بسيادتك .. سيدي .. هل من أوامر أخرى ؟
كان قد فتح باب الغرفة بنية الخروج وكأنه لم يعد يحتمل البقاء معها في مكان واحد .. التفت إليها ونظر إليها ببرود شديد وهو يقول :- لا تراهني كثيرا على حسن حظك يا نانسي .. مهما كان صبري طويلا فإنه سينفذ في النهاية
ثم غادر تاركا إياها تفكر بكلماته بقلق .. هي لا تتعمد ابدا إثارة غضبه .. ولكنها تفعل هذا كوسيلة دفاع كلما أحست بنفسها ضعيفة أمامه .. زفرت بقوة وهي تتجه نحو النافذة .. لا مزاج لها لحضور ذلك الحفل .. وأين المتعة في لقاء أشخاص لا تعرفهم يحدقون بها وهو يفكرون بوالدها وبما دفع محمود للزواج منها ؟
رفيق محجوب هو رجل أعمال مرموق .. وصديق قديم للعائلة .. الكل مدعو لحضور الحفل.. العم طلال وزوجته .. ريم وفراس .. وهذا يعني أنها يجب أن تبذل مجهودا مضاعفا في الاهتمام بنفسها كي تثير غيرة ريم وغيرها من الفتيات بينما هي ترافق محمود
على غير عادتها لم تثر فيها الفكرة الحماس .. وتمنت لو تجد عذرا يمنعها من الذهاب .. ولكنها لا تظن محمود قد يمنحها أي عذر خاصة بعد الطريقة التي أغضبته فيها
اختارت للمناسبة ثوبا بلون التوت .. بدا رائعا على بشرتها القمحية الناعمة .. والتف حولها ملفتا النظر إلى جمال وتناسق جسدها النحيل .. كان محتشما بشكل خادع .. فالذراعين وأعلى الصدر والظهر كاملا كان مغطى بالدانتيل الشفاف المطرز بنعومة .. بينما أظهرت التنورة الضيقة والواسعة من الأسفل كالسمكة انسيابية جسدها .. تحلت بالعقد الماسي الذي أعطاها إياه محمود صباح اليوم بلا مقدمات وهو يقول بجفاف بأن الناس ستنظر فورا نحو عنقها وأذنيها ليقيموا حليها وإن كانت ملائمة لزوجة محمود فاضل أم لا
زينت أذنيها بالقرط الماسي الذي تدلى ملفتا النظر إلى عنقها الطويل الرشيق .. ثم تبرجت ببراعة وصففت شعرها على شكل تاج صغير تدلت منه خصلات ناعمة التفت حول وجهها
بدت رائعة .. بل مذهلة الجمال .. تاقت لتعرف رأي محمود بها .. ولكنها تعمدت أن ترتدي ملابسها في الحمام وتتأخر حتى تتأكد من خروجه كي تجعل مظهرها مفاجأة له
ارتدت معطفها الجميل المحلى بالفراء .. وخرجت من غرفتها وهي تتهادى فوق حذاء مذهل عالي الكعبين
كان محمود في انتظارها في البهو برفقة عمه وفراس وقد ارتدى كل منهم حلة كاملة شديدة الأناقة فبدا الثلاثة بهجة للنظر .. اما محمود فقد بدا رائعا وشديد الوسامة وهو ينظر إليها خلال نزولها الدرج ببطء .. لم ير شيئا من فستانها بعد .. إلا ان عيناه تعلقتا بوجهها الجميل المتورد مما جعلها ترتعش خجلا
السيدة منار كانت جاهزة أيضا بفستان كلاسيكي أسود في غاية الاناقة .. نظرت إلى الساعة قائلة بنزق .. ستؤخرنا ريم كالعادة
دوى صوت ريم من الأعلى يقول :- انا جاهزة .. لا داعي لمزيد من التذمر
إن كانت نانسي تخبئ تأثير مظهرها حتى وصولها إلى الحفلة .. فإن ريم كانت بالعكس منها .. تمسك بمعطفها بيدها .. وتسير متمايلة بفستان رائع الجمال .. بزرقة داكنة .. عاري الصدر والذراعين .. أظهرت تنورته القصيرة جمال ساقيها الطويلتين
نظرت إلى محمود بدلال وهي تخاطب والدها :- انا جاهزة يا أبي .. لنذهب قبل أن نتأخر
ثم نظرت إلى نانسي مبتسمة بلؤم :- لا اطيق صبرا للوصول إلى الحفلة .. لدي إحساس بانها ستكون حفلة الموسم
رفعت نانسي رأسها وبادلتها نظرات التحدي وهي تتأبط ذراع محمود قائلة بنعومة :- هل نذهب ؟؟؟
قال بحزم :- هيا بنا
طبعا استعملت العائلة سيارتين .. واتجهت نحو مكان إقامة الحفلة في أحد أكبر فنادق المدينة .. صالة الاحتفال كانت واسعة للغاية وفي غاية الفخامة .. وقد زينت باحترافية من قبل خبير .. فور أن خلعت معطفها انصبت نظرات الآخرين عليها .. لم يستطع محمود إزاحة عينيه عن جسدها الملفوف في القماش ذي اللون المثير .. وقد أطلت من عينيه نظرة قالت الكثير رغم صمته الثقيل .. لفتا الأنظار فور دخولهما الصالة حيث أسرع السيد رفيق يحييهما برفقة زوجته الجميلة ذات الشعر المصبوغ .. التي رحبت بمنار وريم بحرارة .. بينما حيت نانسي بتحفظ وهي تهنئها على الزواج وتتأملها بفضول شديد .. كان على نانسي أن ترسم على شفتيها ابتسامة باردة وهي تتلقى نظرات الناس التي لاحقتها أينما ذهبت .. الرجال لم يتوقفوا عن التحديق في جمالها الغريب .. والنساء في تقييمها بالنظرات والهمسات .. بل أنها سمعت اسم والدها أكثر من مرة .. قالت زوجة السيد محجوب وهي تهنئ محمود :- مبارك يا محمود .. ليت والدتك كانت موجودة لتقابل عروسك الجميلة .. نسرين هنا في مكان ما وسترغب في رؤيتك بالتأكيد .. هي أيضا متحمسة للقاء عروسك
تجمدت نانسي وأحست بالهواء يقل من حولها .. نسرين هنا .. لماذا ؟ هل هي ابنتهما ؟ لماذا لم يخبرها محمود ؟.. ولماذا يخبرها إن كان لا يعرف بأنها قد أخذت فكرة مسبقة من ريم عن علاقته بها ؟
لم يظهر أي رد فعل عليه وهو يقول باسما :- سأراها لاحقا بالتأكيد
أما ريم فقد ابتسمت بتشفي مما جعل نانسي تعرف سبب تشوقها لحضور الحفلة .. أمسك محمود بمرفقها وجذبها إلى داخل القاعة قائلا :- ما الأمر ؟ تبدين شاحبة ؟
تمتمت بتوتر :- أنا قلقة فحسب .. فأنا لا أعرف أحدا بينما يعرفك الجميع ويسرع للترحيب بك بينما يجبرون أنفسهم حتى على النظر إلي
نظر إليها متفحصا وهو يقول :- أنت زوجتي .. ومن يعرفني يجب أن يعرفك شاء أم أبى .. أنا متأكد بأنك واهمة .. لقد وصلنا للتو وها أنت تسمحين لشبح فضيحة والدك بإفساد وقتك
منعت نفسها بصعوبة من اطلاعه على السبب الحقيقي لتوترها .. فهي ستقابل الفتاة التي كان من المفترض بمحمود أن يتزوجها .. إن كانت خطيبته كما قالت ريم وقد أخلف بوعده بالزواج من أخرى فلم يظهر الغضب أو الانزعاج على والديها وهما يرحبان به .. نفورهما كان موجها نحوها فقط
سرعان ما بدأ معارف محمود بالتوافد لتهنئته والتحدث إليه حول العمل والسياسة كعادة الرجال .. بينما بدأت النساء بتقبلها والاندماج مع خلفيتها الارستقراطية التي جعلتها واحدة منهن رغم سمعة والدها .. العقد الماسي المحيط بعنقها قد قام بفعله وأسال لعابهن وجعل الاحترام يقفز فورا ليغلف معاملتهن لها .. لقد كان محمود محقا في فهمه للمجتمع
كانت تتحدث إلى سيدة مسنة .. تومئ لها بصبر متظاهرة بالاستماع حتى أحست بأنها أصبحت بعيدة عن محمود .. اعتذرت للسيدة وقد وجدت أخيرا عذرا يمكنها من الفرار .. ثم أخذت تبحث بعينيها هنا وهناك عن زوجها حتى وجدته واقفا برفقة صاحب الدعوة ورجل آخر .. يتبادلون حديثا جديا فأخذت تراقبه وتتأمله بشغف من بعيد .. متعجبة من نفسها .. كيف غفلت يوما عن وسامته الشديدة وجاذبيته الفياضة .. كيف تتلمذت على يديه لسنوات دون أن أقع في حبه ؟ هل كنت عمياء وأنانية إلى حد العجز عن رؤية أي شيء غير نفسي في تلك الفترة ؟
اقتحمت فتاة الجمع الرجالي فجأة وهي تقول شيئا وهي تضحك أثار ضحك الرجال .. نظرت إلى محمود وكلمته بحرارة وكأنها تعرفه منذ فترة طويلة .. بينما رد عليها هو بعفوية جعلتها تتأبط ذراعه بدلال وهي تحدث السيد رفيق
خفق قلب نانسي بقوة .. أحست بأطرافها باردة للغاية وهي تحدق في الفتاة الحسناء .. كانت شديدة الجمال ببشرة سمراء ناعمة لا شائبة فيها .. وشعر شديد السواد انسدل خلف ظهرها بحرية .. كانت ترتدي ثوبا أبيضا احتضن قوامها الأنثوي بإحكام مظهرا تفاصيله .. من تكون هذه المرأة ؟ هل هي .. ؟
لم تكن بحاجة إلى مزيد من التساؤل .. فقد سمعت صوت ريم يقول من خلفها .. :- لماذا تقفين وحيدة يا عزيزتي ؟
تلقائيا نظرت إلى حيث تحدق نانسي المتوترة .. ثم ابتسمت بخبث قائلة :- رأيت نسرين إذن .. ما رأيك بها ؟ جميلة .. صحيح ؟.. تعتبر نسرين من أشهر فتيات المجتمع الراقي وأكثرهن جمالا وثراءا .. أرجو ألا تشعري بالتهديد منها
قالت نانسي بتوتر :- ولماذا علي أن أفعل ؟
تجاهلت ريم سؤالها .. ونظرت إلى محمود ونسرين الذين أصبحا وحيدين فجأة وقالت :- ألا يبدوان جميلين معا ؟ .. يليق كل منهما بالآخر وكأنه قد خلق له
ثم نظرت إلى نانسي قائلة بتشفي :- ألم تدركي يا عزيزتي حتى الآن بأنك سخرية الحفل ؟ الكل يعقد المقارنات بينك وبين نسرين .. الكل يتساءل عما أصاب محمود ليتزوج بفتاة مثلك ويترك امرأة حقيقية مثلها .. لا أستطيع أن أحسدك بعد الآن ...فكل ما أشعر به اتجاهك هو الشفقة يا نانسي
تركتها وفي عينيها بريق الانتصار .. وعادت إلى مجموعة من الفتيات انفجرن في الضحك فور بدأت ريم بالكلام وهن ينظرن إلى نانسي المجروحة .. كالعادة كان غضبها هو وقود قوتها .. فوجدت نفسها تسير نحو محمود ورفيقته التي كانت تقول له شيئا وفي عينيها نظرة عتاب مغناج .. قطع رده الهادئ فور أن رأى نانسي القادمة نحوهما .. لاحظ على الفور نظرة عينيها التين امتلأتا بدموع الغضب .. فأسرع يقول وهو يمد لها ذراعه :- أين كنت يا نانسي ؟ لقد بحثت عنك طويلا ..
آه .. نعم .. وأنا أستطيع الطيران .. :- أقدم لك نسرين .. إنها ابنة السيد رفيق
قالت نسرين وهي تبتسم لنانسي ببشاشة :- سررت لمعرفتك يا نانسي .. لقد سمعت عنك الكثير .. ليس من محمود بالطبع فهو شديد التكتم لابد وأنك قد عرفت هذا بنفسك بعد أشهر من الزواج
العبارات المبتهجة لم تخدعها .. والمعنى الخفي لم يفتها كما لم يفتها توتر محمود عنما قالت نسرين بدلال :- ابنة السيد رفيق !! تقولها وكأننا غريبين يا محمود .. وكأننا لا نعرف بعضنا جيدا منذ فترة طويلة
ثم عادت تنظر إلى نانسي التي يكاد الغيظ يأكلها ..وقالت :- لقد كنت أعاتب محمود لتوي على إخفائه إياك عن الجميع .. لا أعرف حقا سبب إقدامه على هذا .. فأنت حلوة للغاية .. وأظن بأننا سنكون صديقتين
في أحلامك .. ابتسمت نانسي وهي تقول ببرود :- بالتأكيد
أمسكت نسرين بذراع محمود وهي تقول لنانسي :- سأسرق منك محمود قليلا .. فأخي يبحث عنه منذ فترة لبحث موضوع معين معه .. أنت لا تمانعين .. صحيح
قالت نانسي مبتسمة ببرود :- على الإطلاق ..
لاحظ محمود الغضب البارد تحت القشرة الهادئة لنانسي .. فخاطب نسرين قائلا :- سألحق بك بعد قليل
رفرفت الفتاة له بعينيها قبل أن تبتعد وهي تتمايل بدلال جعل دماء نانسي تفور .. قال لها :- هل من مشكلة ؟ تبدين غاضبة ؟
لا والله لن تفرحه بإظهار الغيرة القاتلة التي تشعر بها .. ابتسمت قائلة بفتور :- ولماذا أغضب ؟ أنا أشعر بالملل فقط
بدا الاعتذار على وجهه وهو يقول :- أنا آسف لأنني قد تركتك وحيدة .. لدي الكثير من المعارف والشركاء بين الحضور .. أعدك بأن أتفرغ تماما لك بعد دقائق
قالت بابتسامة جامدة :- لا تقلق .. سأكون بخير .. كما أن ريم تقوم بواجبها في تسليتي كما يجب
عبس قائلا :- ماذا تقصدين ؟
قالت بابتسامة حلوة :- أقصد ما فهمته يا زوجي العزيز .. من الواضح أنك تعرف ابنة عمك جيدا لتقدر مدى استمتاعها بهذا الحفل .. إنها ترغب بمشاركتي في متعتها فقط
ارتفع صوت نسرين ينادي محمود عبر القاعة المزدحمة .. فنظر إليها بنفاذ صبر وهو يقول لنانسي :- سنتحدث لاحقا .. وستفسرين لي كلامك
ابتعد تاركا إياها .. فانزوت في مكان بعيد وهي تحتسي كوبا من العصير قدمه لها أحد المضيفين .. كانت تشعر بالحزن والاكتئاب في مكان ممتلئ بأشخاص يكرهونها .. أحست بالصغر وانعدام الثقة بالنفس وهي تفكر بنسرين .. تلقائيا بحثت عنها بعينيها لتجدها كما توقعت تكاد تلتصق بزوجها المنهمك في الحديث مع شاب يشبه نسرين قليلا .. تأملت الفتاة مليا وهي تتذكر كلمات ريم .. (الكل يتساءل عما أصاب محمود ليتزوج بفتاة مثلك ويترك امرأة حقيقية مثلها)
ما الذي يميزها عنها .. فنانسي لا تقل عنها جمالا .. إنها تفتقر فقط لامتلاك جسد ناضج الأنوثة كجسد نسرين .. جسد امتلأ بالمنحنيات والارتفاعات الواضحة عبر الفستان الضيق .. والمحملة بدعوة صريحة لأي رجل
كزت على أسنانها بغضب وقد أعمتها الغيرة .. لا .. محمود لا يهتم لهذا النوع من الجمال وإلا ما كان تزوج بها هي .. ولكنه أيضا تزوج بها ليساعدها في تخطي مشاكلها وليس لأنه مغرم بها
.. انصرف الشاب تاركا محمود ونسرين وحدهما .. التفتت نسرين نحوه وأخذت تتحدث إليه وهي تمرر أصابعها ذات الأظافر المطلية فوق سترته السوداء الأنيقة وهي تقول شيئا .. بينما تتبع هو لمستها بعينيه ثم عاد ينظر إليها
أحست نانسي وكأن يدا ثقيلة تهوي على وجهها .. بالكاد لاحظت نظرات الناس إليها .. وقهقهة ريم وصديقاتها وهي تندفع كالعمياء نحو أقرب مخرج أوصلها إلى الشرفة .. كان البرد شديدا ولكنها بالكاد أحست به
تفجرت دموعها وسالت كالأنهار فوق وجنتيها وشهقاتها تتعالى بانهيار .. أحست بأنها تختنق .. وبرغبة عارمة بأن تموت الآن عل شيئا من ألمها يزول ويختفي .. علها تنسى ما رأته قبل لحظات
لقد كانت نسرين تقف إلى جوار محمود على بعد مسافة منه .. مظهرهما ما كان ليوحي بأي شيء لولا أن نانسي رأت بوضوح النظرة التي ارتسمت في عيني محمود وهو ينظر إلى نسرين
لقد كانت نظرة مفعمة بالرغبة .. الرغبة الخالصة ..
تلك النظرة التي رأتها ليلة حصل محمود عليها .. أحست وهي تتذكرها بطعنة نجلاء تشق قلبها إلى نصفين ... لماذا .. لماذا ؟
تعالى نشيجها وهي تشعر بالألم ينخر في صدرها بلا رحمة .. لقد قتلتها تلك النظرة .. فهي لم تكن مجرد نظرة .. لقد كانت اعترافا .. اعترافا بحقيقة العلاقة التي ربطت بين محمود ونسرين فيما مضى .. اعترافا بأن في قلب محمود مشاعر جياشة نحو نسرين .. اعترافا بأنه لم يحبها يوما .. وإلا ما كان انجذب لغيرها بهذه السهولة
أحست بالغضب الشديد .. بالقهر والإذلال .. عاد إليها ذلك الشعور يوم عرفت بأن محمود هو من أنقذها .. الشعور بأنها واجب حمله محمود فوق ظهره دون أن يرغب ..
ارتفع رنين هاتفها من داخل حقيبتها الصغيرة .. أهملته إلا أنه عاد للرنين بإصرار .. فأخرجته بيد مرتعشة مدركة تماما هوية المتصل .. فور ردها كان صوته يهتف بغضب :- أين أنت يا نانسي بحق الله ؟ أبحث عنك منذ نصف ساعة
هتفت بعنف :- ما الذي تريده مني ؟ لا أريد أن أراك أبدا
.. في ظروف أخرى كان ليرد على ثورتها بعنف .. إلا أنه لاحظ البكاء في صوته.. قال بتوتر :- هل أنت تبكين ؟ ما الذي حدث ؟
وكأنها كانت في انتظار سؤاله لتجهش في البكاء فقال بحدة :- أين أنت ؟ أخبريني الآن أين أنت بالضبط ؟
وجدت نفسها تخبره تحت إلحاحه .. وإذ به ينهي المكالمة فورا .. حاولت تمالك نفسها كي تستعيد شيئا من قوتها أمامه ولكنها لم تستطع .. نظرة عينيه وهو يلتهم منحنيات جسد نسرين الفاتنة كانت تذبحها في الصميم
وعندما سمعت صوت زجاج الباب يزاح .. وصوته يقول :- البرد قارص أيتها المجنونة .. هل تنوين قتل نفسك ؟
ضغطت أصابعها على زجاج الكأس بقوة جعلتها تتحطم في يدها فأسرع نحوها ليمسك بمعصمها وهو يشتم ويحاول إبعاد الشظايا عن يدها الدامية ثم يخرج منديلا من جيبه ليحيط جرحها به وهو يقول :- متهورة كالعادة وبحاجة إلى وصي يلاحقك كظلك
عندما نظر إلى وجهها لاحظ انهيارها وارتعاش جسدها الشديد فهتف من بين أنفاسه :- رباه .. ما الذي حدث لك يا نانسي؟
عادت تبكي بنفس الحرقة فأسرع يخلع سترته ويضعها حول كتفيها المرتعشين وهو يقول بوجوم :- سأتحدث إلى السيد رفيق كي نرحل حالا دون ضجة أو لفت للأنظار .. انتظريني هنا لأحضر لك معطفك
عندما تركها فكرت بألم .. كيف يمكنه أن يكون بهذا البرود .. كيف يتظاهر بالقلق علي والحزن لبكائي في الوقت الذي يكن فيه المشاعر لامرأة أخرى ؟ .. المنافق الحقير
الغضب نجح في السيطرة على إحساسها بالحزن .. ومنحها القوة اللازمة لتمسح دموعها وتستعيد شيئا من هدوئها مع عودة محمود بمعطفها.. سرعان ما كانا قد خرجا من الفندق وانطلقا بعيدا في سيارة محمود .. انزوت فوق مقعدها والتصقت بالنافذة وهي تتأمل الشوارع المظلمة وهي تشعر بتعاسة لم تعرفها يوما .. تعاسة لا تشبه أبدا إحساسها بالألم والعار بعد وفاة والدها .. أو إحساسها بالحزن واليتم بعد وفاة والدتها .. أو بالوحدة عند رحيل لينا ..
لقد كان إحساسا قاتلا لم تعرفه من قبل .. لقد كانت الغيرة .. الغيرة على رجل اكتشفت لتوها بأنه لم يكن لها يوما ولن يكون .. هل يمكن لألمها هذا أن يزول يوما أو أن يخف
سألها محمود وهو ينظر إليها بشكل عابر:- هل أنت مستعدة الآن للكلام والتحدث عما تسبب ببكائك في الحفلة ؟ هل وجه إليك أحدهم كلاما مسيئا أو ذكرك بوالدك ؟
لم ترد بكلمة .. بل عادت دموعها تسيل بغزارة جعلته يقول بتوتر :- نانسي
قالت بألم :- أرجوك يا محمود .. لا أستطيع الكلام الآن .. لا أستطيع
أتبعت كلماتها بشهقة جعلت أصابعه تنقبض فوق المقود وكأنه يحاول كبت عاصفة هائجة تدور داخله .. فور وقوف السيارة أمام المنزل أسرعت تنزل منها وتسير مسرعة إلى الداخل .. دخلت إلى غرفتها فلحق بها إلى هناك عندما خلعت معطفها وقال بصرامة :- هلا تكلمت الآن وأخبرتني عما حدث
قالت من بين أسنانها :- لا .. لن أتحدث إليك .. بل أنا لا أريد أن أراك على الإطلاق
قال بحدة :- نانسي .. راقبي ما تقولين
أدارت ظهرها له وهي تقول بضحكة مرة :- ماذا ستفعل يا محمود ؟ هل ستضربني ؟ لو تعرف كم أتوق لأن تفعل
أمسك ذراعها وأدارها إليه فأبعدته وهي تصيح بانفعال :- لا تلمسني .. إياك أن تلمسني .. أنا أكرهك .. هل سمعتني جيدا ..أكرهك
اندفعت نحو الحمام وأقفلته ورائها ثم انهارت على الأرض باكية بعنف غير مبالية بسماعه لها .. كانت قد وصلت إلى حالة لم تعد معها قادرة على التماسك أكثر .. لقد عرفت اليوم وهي تراقب محمود المحاط بالنساء بأنها تعشقه بجنون .. وأنها لن تستطيع العيش بدونه
وعندما شاهدت بأم عينها نظراته إلى نسرين أحست وكأن روحها تسحب من بين أضلعها .. هل يعرف محمود إلى أي حد جرحها ؟ هل يعرف كم أهانها وأذلها وطعنها في الصميم ؟
لم تعرف كم طال بها الزمن وهي حبيسة الحمام .. إلا أنها وبعد أن استنزفت دموعها كلها .. وأحست بأنها قد تحولت إلى جسد بلا روح .. أدركت بأنها يجب أن تخرج عاجلا أم آجلا .. تخلصت من الفستان الثمين ولفت نفسها بروب الحمام .. استجمعت شجاعتها وعادت إلى الغرفة مجددا لتجد محمود ما يزال مرتديا ملابسه باستثناء سترته وربطة عنقه
كان واقفا أمام النافذة ينظر بشرود عبرها إلى عائلة عمه التي وصلت لتوها .. اعتدل فور أن رآها .. ونظر إليها بطريقة جعلتها تدرك بأنه قد سمعها تبكي في الحمام
نظر إلى وجهها الأحمر وعينيها المنتفختين .. وفمها المتوتر .. وقال :- يجب أن تتحدثي إلى في النهاية يا نانسي .. يجب أن تخبريني بما حدث .. إن كان هناك من سبب لك الألم في الحفلة
قالت بجفاف :- وكأنك تهتم حقا بما يؤلمني .. لقد كدت تخدعني للحظة
توجهت إلى الخزانة لتخرج قميص نوم ترتديه ففوجئت به يقف ورائها ويديرها إليه قائلا بحدة :- لقد طفح الكيل يا نانسي .. لن أقبل بأن تقللي من احترامي .. كما لن أقبل بأن أرى زوجتي منهارة في مكان عام دون أن أعرف السبب .. أنت ستخبرينني حالا بما حدث
قاومت يديه قائلة بعنف :- أبعد يدك عني .. أنا أكرهك .. هل سمعت ..أكرهك ولا أحتمل لمستك .. أنت تقرفني وتثير اشمئزازي
برقت عيناه بغضب وهو يقول :- هل تقرفك حقا ؟ لم لا أختبر هذا بنفسي ؟
دفعها لتسقط فوق السرير وأمسك يديها قبل أن تضربه بهما .. وجثم فوقها يكتم فمها الصارخ بفمه .. قاومته بشراسة وكأنها قطة برية .. وكل جزء منها كان يصرخ رافضا له .. ابعد وجهه عنها ينظر إلى وجهها اللاهث .. إلى عينيها اللامعتين ووجنتيها المحمرتين من حرارة عراكهما .. نظر إلى شفتيها المتورمتين من فعل قبلاته .. ثم إلى الجزء المفتوح من روبها والذي كشف عن بعض جسدها .. وبلمح البصر كان غضبه قد انحسر بعيدا .. وحلت محله الرغبة العمياء وهو ينظر إلى وجهها مجددا ويقول هامسا :- لا تحاربيني يا نانسي .. أريدك .. أريد قلبك وجسدك .. أريدك راضية وسعيدة بين ذراعي ولو لمرة
همساته الحارة جعلت الدماء تفور في عروقها .. جعلت الجانب الضعيف فيها والمغرم به يتحرق شوقا لمنحه ما يريد .. تاقت إليه .. وإلى حنانه .. وإلى حبه الخالص .. وكأنه رأى بوادر الاستسلام في عينيها عاد يقبلها مجددا برقة وعاطفة جعلتها تذوب وترفع يديها لتمسك بكتفيه بقوة في تجاوب معه .. لقد كانت على وشك الاستسلام التام له ولحبه لو لم تسمع ذلك الصوت يشمت بها قائلا :- وهل أنت متأكدة بأنك أنت من يمارس الحب معها في هذه اللحظة ؟
كان هذا كافيا لها كي تستعيد صوابها .. وتتذكر بالضبط ما يجب ان تكرهه لأجله ..دفعته عنها بكل مل تملك من قوة وإرادة وهي تهتف بعنف :- اتركني أذهب أيها المنافق الكريه .. أنا أكرهك .. ولن أسمح لك بلمسي أبدا بإرادتي الحرة
زمجر غاضبا من تمردها المتأخر .. وقال بغضب :- فليكن بدونها إذن ..
أمسك طرفي روبها وأزاحهما عن بعضهما فوجدت نفسها تصيح بجنون :- ما الأمر يا محمود ؟ هل أثارتك نسرين الليلة إلى حد ما عدت معه بقادر على كبت رغباتك
أجفل محمود وهو ينظر إلى وجهها العنيف فقال متوترا :- ما الذي تقولينه ؟
لم تتردد أكثر وقد طفح بها الكيل .. صرخت به بانفعال :- هل كان إغرائها لك كبيرا لدرجة تدفعك لاغتصاب الزوجة المتاحة لك وقتما أحببت يا محمود ؟ .. هل وصل تأثيرها بك إلى هذا الحد ؟..
تراجع عنها منزعجا وهو يقول :- ما هذا الهراء الذي تتفوهين به ؟
جلست وقد سالت دموعها مجددا وهي تقول :- إياك أن تنكر .. لقد رأيتك تنظر إليها في الحفل .. لقد كنت تلتهمها بعينيك .. لم يغفل أحد عن الطريقة التي كنت تضاجعها فيها بنظراتك
مرر يده عبر شعره الكثيف وقد تلون وجهه وهو يقول بانزعاج :- أنت تتوهمين يا نانسي
وقفت تواجهه وهي تقول بوحشية :- انظر إلي يا محمود ..وإياك أن تكذب علي .. هل تنكر بأنكما كنتما تتغازلان علنا في ذلك الحفل ..هل تنكر بأنك كدت تأكلها بعينيك على بعد أمتار من زوجتك ؟ هل تنكر بأنك كنت تحدق بها برغبة جامحة دون اعتبار لما يقوله الناس عنك
ابتعد محمود عنها تماما وقد بدا عليه التوتر .. نظر إلى وجهها الثائر وأدرك بأن أعصابها على المحك .. ولكنه لم يستطع إلا أن يغمغم :- نسرين امرأة جميلة جدا يا نانسي .. وما أنا إلا رجل
اتسعت عيناها وقد ذهلت للحظات من اعترافه .. ثم بدون أن تفكر اندفعت نحوه تضربه بقبضتيها بعنف وهي تصرخ به باكية :- أيها الحقير المنافق الكريه .. ألم تفكر بي ..ألم تفكر بكلام الناس وسخريتهم بي .. أنا أكرهك ولن أسامحك أبدا على ما فعلته
أمسك بيديها ليوقفها عن ضربه وهو يقول :- اسمعيني يا نانسي .. دعيني أشرح لك
أفلتت يديها من قبضتيه وسدت أذنيها رافضة الاستماع إليه وهي تبكي مصدرة أصواتا كي لا تصلها كلمة مما يقول رافضة أي عذر منه .. فما كان منه إلا أن أبعد يديها مجددا وهو يقول بغضب :- لن تكبري أبدا يا نانسي .. لنرى إلى أين سيأخذك كبريائك

نسمات عطر 02-05-2017 05:09 PM

الفصل الحادي والعشرون


عطشي إليك



قضت نانسي يومها في الجامعة شاردة تماما وغير واعية لضجيج زملائها من حولها خرجت من المحاضرة برفقة ماهر وندى دون أن تفهم حرفا مما قال المحاضر .. سألها ماهر :- هل ترافقيننا إلى الكافتيريا ..سنتناول غداءا خفيفا
تمتمت بكآبة :- لست جائعة .. أظنني سأعود إلى البيت فأنا أشعر بالتعب .. أراكم قريبا
اتصلت بمأمون الذي كان يقف بالسيارة أمام البوابة خلال دقائق.. ركبت بصمت وهي تفكر بعمق وحزن كما كانت تفعل منذ ليلة الحفل المشؤومة .. لقد مرت أيام على تلك الليلة .. ومازالت نانسي ترى تلك النظرة كل ليلة في كوابيسها .. تصحو باكية ومبللة في العرق .. وتنظر إلى محمود النائم إلى جوارها غير شاعر بما تحس به من ألم
لم يعد يتكلم إليها مطلقا منذ رفضها الاستماع إليه وإلى دفاعه عن نفسه .. هي أيضا بالكاد كانت تخرج من غرفتها أو تأكل أو حتى تتحدث إلى أحد .. لقد كانت غارقة في أفكارها وكآبتها .. وتحليلها المضني لما حدث .. لقد فكرت مليا .. وأدركت بأنها لا تحتاج إلى سماع دفاع محمود كي تعرفه وحدها .. فهو متزوج بها منذ أشهر عديدة .. وهي تبعده عنها بشراسة امرأة عجوز سليطة اللسان .. لقد سبق وحذرتها حنان بأن الرجل إن لم يحظى بما يحتاج إليه في بيته فهو سيبحث عنه خارجا .. وها هو محمود يبحث دون أن ينوي هذا حقا عن متعته لدى نساء أخريات .. لا تستطيع لوم محمود على شرود نظره لأنها المسؤولة الأولى عما حدث .. هي من أبعد محمود عنها .. هي من تنفره منها بدلا من السعي لكسب حبه .. لو كانت تستحق محمود حقا لما منحته أبدا سببا ليشتهي امرأة أخرى
قالت فجأة لمأمون :- لنعد أدراجنا إلى المدينة يا مأمون .. سنمر على السوق قليلا
ذلك المساء وقفت نانسي أمام المرآة الكبيرة في غرفتها .. ونظرت إلى انعكاس صورتها في المرآة بتوتر وتأملت نفسها بغلالة النوم الشفافة التي ابتاعتها من أحد أرقى متاجر المدينة .. ترى .. هل تجرؤ على اتخاذ تلك الخطوة ؟ هل تجرؤ على الظهور أمام محمود بهذه الهيئة والتقرب إليه ومحاولة إغواءه ؟
كان القميص الرقيق أسود اللون .. بحمالات رفيعة حمراء بالكاد ثبتت القماش الشفاف إلى جسدها .. أشرطة حمراء كانت تحد من اتساع فتحة الصدر الكبيرة التي حددت معالم أنوثتها بوضوح .. بالكاد كان طول القماش يغطي فخذيها فأظهر جمال ساقيها الطويلتين الرشيقتين الذهبيتي اللون ..
كانت قد تركت شعرها الناعم منسدلا خلف ظهرها بحرية .. واقتصرت على وضع القليل من الزينة خشية تشويه جمالها الطبيعي أو حتى إظهار تلهفها إليه ..بدت رائعة لعينيها وهي تتفحص نفسها بانتقاد عبر المرآة .. أي رجل يجب أن يفقد تماسكه ومقاومته عندما يراها .. ولكن .. هل تجرؤ على السماح لمحمود برؤيتها هكذا ؟
كانت قد قررت بعد تفكير طويل بأن تحارب لكسب حب زوجها ومنع مثيلات نسرين وريم من سرقته منها .. والخطوة الأولى كانت بمنحه ما يحتاج إليه منها قبل أن يسعى إليه خارجا
تصميمها على القتال بدأ يضعف وهي تفكر كالمحمومة بمحمود يلمسها .. أحست بوجهها يتورد وبتوترها يتصاعد وهي تنظر إلى نفسها مرة أخرى متسائلة إن كان سيتقبل مبادرتها بعد كل ما حصل بينهما .. وإن كان سيرفضها انتقاما لنفسه من كل مرة رفضته فيها .. كم ستشعر بنفسها رخيصة وسخيفة بمظهرها هذا
أسرعت تلف نفسها بروبها وتحكم إغلاق الحزام حول خصرها .. لا .. لن تستقبل محمود بذلك المظهر .. لن تحتمل رؤية الرفض والازدراء في عينيه .. فهي حتى الآن لا تعرف كيف ستتمكن من الإفصاح له برغبتها في مصالحته .. بخبرتها الضعيفة في إغواء الرجال .. كيف ستصارح محمود بما تريد
الساعة لم تتم التاسعة بعد .. ومحمود لم يعد .. فقد اعتاد ألا يعود حتى وقت متأخر من الليل تكون فيه نائمة .. وكأنه يتحاشى الاحتكاك بها بأي طريقة
ولكنها ستنتظره .. حتى لو تطلب الأمر منها البقاء مستيقظة حتى الصباح .. تكومت فوق الأريكة محاولة كبح توترها .. وسرعان ما غرقت خلال انتظارها في النوم دون أن تدري .. ولم تستيقظ إلا عندما سمعت صوت الباب يفتح .. فتحت عينيها بنعاس لتجد محمود يدخل إلى الغرفة حاملا بين يديه سترته وقد بدا عليه الإرهاق الشديد .. أجفل لرؤيتها تعتدل فوق الأريكة فقال بوجوم :- لماذا ما زلت مستيقظة ؟
مررت يدها عبر شعرها محاولة ترتيبه .. ورمشت بعينيها لتطرد النعاس غاضبة من نفسها لاستسلامها للنوم .. راقبته وهو يغلق الباب خلفه قائلة بارتباك :- لم أستطع أن أنام ففكرت في انتظارك
قال ساخرا وهو يسحب ربطة عنقه من مكانها :- هل أصابك الملل وقررت الشجار معي مجددا على سبيل التسلية .. آسف يا عزيزتي .. لا مزاج لي اليوم لتبادل الاهانات
قالت بتوتر :- لا أرغب في الشجار معك
جلس على طرف السرير وهو يخلع حذائه فلاحظت الظلال المحيطة بعينيه فقالت بقلق :- تبدو مرهقا هذا المساء
قال بتهكم :- بالله عليك لا تتظاهري بالاهتمام .. فأنا أكره النفاق
أحست بغصة بسبب ما سببته من نفور في نفسه منها .. لقد صدق حقا بأنها لا تهتم لأمره ولا تعبأ به .. كيف ستقنعه بأنه كان دائما مخطئا
عيثت أصابعها بعقدة روبها وهي تغمغم :- طبعا أهتم .. فأنت زوجي في النهاية صحيح ؟
خلع قميصه فحبست أنفاسها لمرأى عضلات صدره القوية وذراعيه المفتولتين .. وراته وهو يفتح الخزانة بحثا عن منامته فقالت باضطراب :- هل أنت جائع ؟ هل أعد لك ما تأكله ؟
صفق باب الخزانة فجأة واستدار نحوها قائلا بنفاذ صبر :- ما الأمر يا نانسي ؟ توقفي عن خلق المقدمات وأخبريني مباشرة بآخر ما سمعته عني .. وما سبب غضبك هذه المرة .. هيا .. كلي آذان صاغية .. فقط توقفي عن تمثيل دور الزوجة الحنون وتكلمي
تجمعت الدموع في عينيها وهي تحاول كبت ألمها الشديد .. لقد خسرت محمود .. أليس كذلك ؟ لقد فات الأوان على محاولتها إنقاذ زواجها وكسب حبه بعد كل ما فعلته بالرجل الذي تحب
همست بضعف :- لا شيء .. أنا آسفة .. أعدك بألا أزعجك مجددا
تحركت لتترك الغرفة قبل أن تسيل دموعها .. وإذ بعقدة الروب تحل تحت ضغط أصابعها .. وينزاح طرفي الروب ليكشف عن قميصها القصير والمثير .. نظرت نانسي إلى محمود بذعر لترى عينيه معلقتان بما ظهر تحت الروب وقد بدا عليه الذهول وعدم التصديق .. فهتفت مذعورة :- أنا عطشى .. سأذهب لأشرب شيئا
وقبل أن تصل إلى الباب كان محمود قد سبقها وأطبق يده على الباب مانعا إياها من فتحه .. رفعت عينيها إليه لتجد نارا ملتهبة تشتعل في عينيه العسليتين .. كان قريبا منها للغاية وقد تسارعت أنفاسه اللاهثة وهو ينظر إلى ما ظهر من الروب الذي أسرعت نانسي تغلقه بيدين مرتعشتين .. همس قريبا منها :- بل أنا العطشان دائما إليك يا نانسي
ارتجفت وهي تستند إلى الباب بظهرها وتتركه يحاصرها بذراعيه ويميل برأسه نحوها قائلا دون أن يصدق حقا ما يحصل :- أخبريني بأنني لا أحلم يا نانسي .. وأنك قد ارتديت هذا القميص لأجلي .. أخبريني بأنك قد أتيت حقا إلي بإرادتك الحرة
احمر وجهها وهي تخفض عينيها عنه وقد بدأ قلبها يخفق بقوة وكل ذرة من كيانها ترتجف خوفا وترقبا .. أمسك بذقنها ورفعها نحوه لينظر إلى وجنتيها المتوردتين وإلى عينيها المتضرعتين فارتجف جسده الضخم وهو يقول بصوت أجش :- أخيرا يا نانسي .. أخيرا يا حبيبتي .. لو تعلمين كم انتظرت هذه اللحظة .. وكم صبرت لأراك أمامي تنظرين إلي بهذه الطريقة .. تجاهرين برغبتك بي المماثلة لرغبتي بك
همست بضعف :- أنا .. أنا خائفة يا محمود
أمسك بها وقربها منه برفق .. وأزاح شعرها الكثيف عن وجهها وهو يهمس بحنان :- لا داعي للخوف يا عزيزتي .. سأهتم أنا بك .. سأرعاك وأحبك كما تستحقين بالضبط
دغدغت كلماته الحنون كيانها وجعلتها تزيد اقترابا منه تلقائيا .. بيدين مرتعشتين أزاح الروب عن كتفيها وتركه يسقط على الأرض .. حبس أنفاسه وهو ينظر إلى جسدها الجميل الذي تلألأت بشرته الناعمة تحت أنوار الغرفة الخافتة ..
رفع وجهها إليه واقترب منها قائلا بصوت أثقلته العاطفة :- أنت لي يا نانسي .. أنت لي وحدي
أحنى رأسه .. وتناول شفتيها بقبلة جائعة ومتلهفة .. بينما جذبتها يداه إلى صدره بقوة وأحاطتها ذراعيه بإحكام .. أحاطت عنقه بذراعيها وسالت دموع العاطفة من عينيها وهي تهمس في قلبها .. أنا لك .. كلي لك ..ولن أكون لغيرك أبدا

استيقظت نانسي صباحا لتجد نفسها وحيدة على السرير الواسع .. وكانت ممتنة لهذا كي تجد الفرصة لتحلل مشاعرها .. ما الذي ستحلله بالضبط .. لقد حصلت على ما أرادته تماما
ابتسمت برضا وهي تتمطى بسعادة .. ليلة الأمس منحها محمود ليلة لا تنسى من العاطفة الجياشة .. لا يمكن ألا يكن لها المشاعر بعد ما حصل بينهما .. تلك الكلمات الجميلة والهمسات الناعمة لن تصدر إلا عن رجل عاشق للمرأة التي يحب
قفزت من السرير إلى الحمام .. وخرجت من الغرفة بعد ساعة وهي تكاد تقفز في خطواتها من السعادة .. رأتها ريم في الممر وقد كانت نانسي تتحاشى لقائها في الأيام السابقة أتقاءا لشرها بعد ما حصل في الحفلة .. أما الآن فهي لا تبالي على الإطلاق .. محمود لها ولن تخشى أن تسلبه منها أنثى حاقدة كريم أو نسرين .. قالت ببشاشة :- صباح الخير يا ريم
عبست ريم غاضبة لسعادة نانسي الواضحة .. وقالت ببرود :- تبدين سعيدة
قالت نانسي بدلال :- ولم لا أكون سعيدة يا عزيزتي .. ألست امرأة عاشقة
قالت ريم بغيظ :- .. هل نسيت فورا ما حصل ليلة الحفلة ؟ لم أدرك كم أنت ساذجة إلا الآن
قالت نانسي متظاهرة بالبراءة :- وما الذي حصل ليلة الحفلة ؟
اقتربت من ريم قائلة بابتسامة قاسية على فمها وهي تقول :- أعرف بأن الفتيات اليائسات مثلك ومثل نسرين قد تتبعن الأساليب الرخيصة للفت نظر محمود إليهن يا ريم .. إلا أنه في النهاية زوجي أنا .. وقد اختارني أنا من بين العوانس المنتظرات في الدور بحثا عن عريس يحملهن فوق كاهله .. وأنصحك وغيرك بالبحث بعيدا عن زوجي وإلا فإنني لن أتردد في القتال لأجله بكل جهدي
تركت ريم واقفة تتميز غضبا .. ونزلت الدرج بخفة لترى حنان المذهولة من البريق المميز المطل من عينيها .. والتورد الذي كسا وجنتيها .. قالت بحيرة :- صباح الخير يا نانسي .. تبدين سعيدة على عكس حالك في الأيام السابقة
منحتها نانسي ابتسامة مشرقة وهي تقول :- ولم لا أكون سعيدة .. إنه نهار جميل .. وأنا جائعة وأتوق غلى فطور ضخم
اقتربت نجوى قائلة :- سيدة نانسي .. هناك مفاجأة لك في غرفة الجلوس ..
اسرعت نانسي تتبعها حنان إلى غرفة الجلوس لتفاجأ بالفعل بباقات الازهار الرائعة الجمال والمتعددة الالوان التي توزعت في الغرفة .. عشرات الباقات ذات النوع النادر التي ملأت الغرفة برائحتها الزكية وجعلت قلب نانسي يخفق بقوة ووجنتيها تتوردان سعادة ..تناولت البطاقة المرسلة مع الأزهار وقرأت التوقيع الانيق المألوف عليها وخط محمود يقول باختصار ( إلى امرأة حياتي .. شكرا للسعادة التي تغمرينني بها )
اغرورقت عيناها بالدموع تأثرا بلفتته الرومانسية .. وتساءلت بحزن .. أي حمقاء كانت لتبعد عنها رجلا رائعا كمحمود ؟ أكل ما كان عليها فعله منذ البداية هو الاستسلام لمشاعرها فقط كي تحظى بكل هذه السعادة ؟
قالت حنان من خلفها بخبث :- أظنني عرفت سبب سعادتك الاستثنائية ..
استدارت نانسي نحو حنان قائلة بحزم مصطنع :- وما الذي تفعلينه هنا ؟ عودي إلى عملك
ضحكت حنان وهي تقول :- امرك سيدتي المخيفة
دخلت السيدة منار لتعرف سبب الضجيج .. فعطست على الفور تأثرا برائحة الأزهار ثم قالت بانزعاج :- ما كل هذه الازهار ؟
قالت نانسي بهدوء :- لقد أرسلها لي محمود يا عمتي
ظهر الغيظ في عيني المرأة الاكبر سنا والتي قالت :- سأكون ممتنة لك إن أبعدتها عن الطريق .. او ربما احتفظت بها في غرفتك .. فانا لدي حساسية اتجاه رائحة الازهار
قالت نانسي بحزم :- انا آسفة يا عمتي .. الأزهار ستبقى كما هي .. ستضطرين لاستعمال غرفة اخرى خلال وجودها
شحب وجه العمة امام وقاحة نانسي التي حملت اصغر الباقات وصعدت بها إلى غرفتها حيث كان هاتفها يرن منذ فترة طويلة .. ابتسمت عندما خمنت هوية المتصل .. وأجابت لتسمع صوته يقول :- صباح الخير يا عروسي الحسناء
تمتمت بخجل :- صباح الخير
:- لماذا لم تجيبي على اتصالي فورا
:- لقد كنت أنظر إلى الأزهار التي أرسلتها .. شكرا لك .. لم تكن مضطرا لفعل هذا
قال بحنان :- بل أنا مضطر لفعل ماهو اكثر لأعبر عن سعادتي بزوجتي الغالية
احمر وجهها فقال بصوت جعل انفاسها تتلاحق :- هل تتوردين مجددا ؟ .. ظننت الخجل بيننا قد انتهى بعد ليلة الأمس
:- آآآآ .. مممم.. أنا
أطلق محمود ضحكة عالية أمام تلعثمها وارتباكها ثم قال بصوت شغوف :- لقد اشتقت لك
قالت بخجل :- وأنا أيضا .. متى ستعود إلى البيت
:- مع موعد العشاء فلدي محاضرات مهمة .. وعمل في الشركة .. مما يذكرني بشيء ..ما الذي تفعلينه في البيت أيتها الكسولة .. لماذا لست في الجامعة ؟
قالت بجرأة :- لقد فكرت بأنني لم أحظ بشهر عسل مناسب .. فمنحت نفسي اليوم إجازة على أمل ألا يشعر أستاذي اليوم بغيابي
:- ألن يشعر بغيابك ؟ سيلقي المحاضرة أخيرا بذهن واضح بدون أن يشوش وجودك تركيزه كالعادة
قالت بدلال :- لن يفتقدني على الإطلاق إذن
صمت للحظات قبل أن يقول بعمق :- سيثبت لك لاحقا إلى أي حد يفتقدك خلال بعده عنك
صمتت عاجزة عن الرد على وعيده الحار فقال برقة :- هل ستنتظرينني الليلة ؟
همست :- أنت تعرف بأنني سأفعل
:- وستكونين عاقلة وتتوقفين عن إثارة جنون عمتي وريم في غيابي ؟
ضحكت بانطلاق وقالت :- لا أعدك .. ولكنني سأحاول
:- ممم .. أظنك تستحقين عقابا شديدا على قلة أدبك
عندما انتهت المكالمة كانت دموع نانسي قد سالت أنهارا من فرط سعادتها .. ضمت الهاتف إلى صدرها وهي تهمس بيأس :- لو تعرف إلى أي حد أحبك
عندما عاد في المساء وجدها في المكتبة تبحث عن كتاب ما .. عندما التفتت إليه فاجأها بقبلة حارة تملصت منها ضاحكة وهي تقول :- محمود .. نحن لسنا وحيدين
نظر إلى ابنة عمه التي كانت ممددة على الأريكة تتصفح مجلة والغضب الأعمى يطل من عينيها فقال باسما :- سامحيني يا ريم .. لم أستطع مقاومة جمال زوجتي
أقفلت مجلتها قائلة ببرود :- بالإذن
خرجت من الغرفة فنظر إلى نانسي قائلا :- لقد اشتقت إليك
قالت متهكمة :- لقد عرف سكان البيت جميعا بهذا
ضمها إليه قائلا وهو ينظر إلى وجهها :- هل تتذمرين ؟
:- لا .. يبدو الوضع غريبا علي قليلا فحسب
داعب وجنتها الناعمة قائلا :- لن يكون كذلك بعد الآن .. أنت زوجتي .. ومن الطبيعي أن أظهر لك مشاعري دائما .. وأنت أيضا ستظهرين للجميع كم تحبينني وكم اشتقت إلي
رفعت وجهها إليه وهي تقول بوقاحة :- أنا لم أقل بأنني قد اشتقت إليك
نظر إلى فمها قائلا :- لا .. لأنك ستخبرينني بالفعل لا بالقول
أحنى رأسه ليقبلها في اللحظة التي ارتفعت طرقات الباب ودخلت نجوى قائلة بحرج :- العشاء جاهز يا سيدي .. والكل في الانتظار
اسودت عينا محمود وهو ينظر إلى الباب حيث توارت نجوى المحرجة .. فضحكت نانسي وهي تبعده عنها قائلة :- من الأفضل أن نوافي العائلة إلى غرفة الطعام قبل أن يرسلوا شخصا آخر للبحث عنا
زمجر قائلة :- تستطيعين النجاة بنفسك الآن .. ولكن ليس طويلا
خلال العشاء لاحظ الجميع تغير العلاقة بين كل من محمود ونانسي .. لم يغفل أحد عن النظرات التي كانا يتبادلانها .. أو الطريقة التي كان يطعمها فيها بيده كأي زوج مغرم .. بينما تمنحه هي ابتساماتها الواعدة
كسا الوجوم أفراد العائلة المحيطين بهما باستثناء فراس الذي بدا غافلا عما حوله وهو يتناول طعامه دون أن يتوقف عن الكلام عن آخر إنجازاته في معهده ..بعد العشاء أصرت نانسي على الجلوس مع العائلة في الصالة ( لعجز العمة عن دخول غرفة الجلوس بسبب الأزهار التي امتلأت بها ).. ولاحظت بدقة نظرات محمود التي كانت ترسل لها الرسائل المتتالية دون أن تعيره اهتماما وقد استلذت بهجة أن يطاردها رجل كمحمود ويسعى لكسب ودها وهو ما لم تعرفه من قبل
اعتذر محمود من الجميع متعللا برغبته في النوم باكرا .. ثم نظر إلى نانسي بطريقة ذات معنى قبل أن يسبقها .. فابتسمت متجاهلة إياها وهي تفكر .. هل يظن بأنها ستركض لتلبية رغباته فور أن يشير إليها ؟ يجب أن يتعلم أن يحترم رغباتها وإرادتها هو الآخر .. بعد ساعة كاملة .. أدركت نانسي بأنها كانت أكثر شوقا إلى زوجها مما ظنت .. فتسللت إلى الأعلى .. ودخلت إلى الغرفة لتفاجئ بالظلام الدامس المخيم عليها .. عقدت حاجبيها بقلق .. هل يعقل أن يكون قد نام ؟
ما إن أغلقت الباب ورائها حتى التفت ذراع قوية حول خصرها ورفعتها عن الأرض وكأنها لا تزن شيئا مما جعلها تصرخ بذعر انقلب إلى ضحك مجنون وهي تصيح :- ما الذي تفعله ؟
زمجر وهو يضمها إليه بقسوة قائلا :- أعاقبك أيتها الماكرة الصغيرة ذات العينين الخضراوين .. لماذا لم تلحقي بي على الفور ؟
قالت له وهي ترتعش لملمس شفتيه على عنقها ووجنتها :- لأنني لست جاريتك كما لست سيدي لأهب نحوك فور إشارتك إلي ..
كانت تحاول أن تصبغ الصرامة على لهجتها إلا أنها لم تنجح وقد بدأت يداه بحل أزرار قميصها .. إذ بدأت على الفور تضعف أمام حبها له وشعورها نحوه .. حملها بين ذراعيه إلى السرير العريض ووضعها فوقه منضما إليها .. ونظر إلى وجهها عبر الظلام الشديد حيث تمكنت من سماع صوت أنفاسه واضحا .. وتمكن هو من الإحساس بخفقات قلبها تدوي بقوة كالطبل .. قال بصوت جعل كل خلية في جسدها ترتعش شوقا .. :- بل أنا سيدك يا عزيزتي .. وسأثبت لك الآن وحالا كيف تعاقب المرأة حين تخالف أوامر سيدها
لم تعترض نانسي أبدا على عقابه لها .. في الواقع .. لقد كان ألذ عقاب عرفته في حياتها كلها .. حياتها التي لم يكن لها أي معنى قبل أن يدخلها محمود


نسمات عطر 02-05-2017 05:13 PM

الفصل الثاني والعشرون



إلى الجنة



استيقظت نانسي متاخرة في صباح اليوم التالي ووجدت نفسها وحيدة إلا انها لم تبالي ... فهي ومحمود لم يناما حتى الساعات الاولى من الصباح .. تذكرت ما حدث وهي تبتسم لنفسها عاطفة محمود الجياشة .. أحاديثهما التي استمرت طوال الليل .. احمرت وجنتاها وهي تشعر بالسعادة في اللحظة التي ارتفعت بها طرقات الباب قبل أن يفتح لتطل حنان حاملة صينية الإفطار قائلة :- صباح الخير يا عروس
شدت نانسي البطانية حول جسدها وهي تقول بحرج :- صباح الخير يا حنان .. ما سبب دلال هذا الصباح .. فأنا لم أطلب فطورا إلى السرير
لست أنت من طلب يا عزيزتي .. بل الدكتور محمود قبل ان يخرج صباحا .. أصر على ألا يوقظك احد وأن آخذ لك إفطارا كاملا إلى السرير .. بدا راضيا تماما هذا الصباح
احمر وجه نانسي وهي تغمغم :- توقفي يا حنان ... أنت تحرجينني
بعد ان أخذت حماما سريعا .. جلست تتناول إفطارها برفقة حنان التي لم تستطع كبح دموعها وهي تراقب نانسي تأكل بشهية وبريق السعادة يطل من عينيها .. لاحظت نانسي دموعها قالت بقلق :- ما الأمر يا حنان ؟ لماذا تبكين ؟
مسحت حنان دموعها وهي تقول متأثرة :- أفكر بأمك .. وأتمنى لو كانت موجودة لترى سعادتك بعينيها
توقفت نانسي عن الاكل وهي تفكر بأسى في امها التي توفيت قبل أن تطمئن على بناتها فتمتمت :- وأنا أيضا
ربتت حنان على كتف نانسي قائلة بحرارة :- الدكتور محمود رجل رائع يا نانسي ..ويحبك بجنون .. حافظي عليه بكل قواك .. ولا تسمحي لنفسك بخسارته
ابتسمت نانسي وهي تقول بامتنان :- لن أفعل يا حنان .. أعدك
ارتفع رنين هاتفها في هذه اللحظة فأجابت باسمة .:- صباح الخير
اتاها صوته الدافئ يقول :- صباح النور أيتها الغالية .. نائمة حتى الآن ؟
قالت متهكمة :- لم يجرؤ احد على إيقاظي بناءا على أوامرك يا أستاذي العزيز .. ظننتك غضبت لغيابي عن الجامعة صباح الامس
:- لنقل بانني اقتنعت بوجهة نظرك وأدركت استحقاقك لشهر عسل حقيقي .. لذا أطلب منك إعداد حقيبة باحتياجات تكفي 3 أيام
قالت بلهفة :- إلى أين سنذهب ؟
ضحك لفضولها الطفولي وقال :- إنها مفاجأة .. سيحضرك مأمون إلى الشركة حيث أنهي الآن بعض الاعمال تحضرا لغيابي .. ومن هناك سننطلق معا
أنهى المكالمة فظلت نانسي تحدق في الهاتف حتى سألتها حنان بفضول :- حسنا .. ماذا قال لك ؟
قالت نانسي غير مصدقة :- سيأخذني بعيدا لمدة ثلاثة أيام بدلا من شهر العسل الذي لم أحصل عليه
أشرق وجه حنان وهي تقول :- هذا رائع يا نانس ي.. أنت محظوظة للغاية .. سأعد لك حقيبة صغيرة ببعض الضروريات على الفور
راقبتها نانسي وهي تبدأ بتوضيب بعض الأغراض داخل حقيبة صغيرة بينما هي تفكر بكلماتها قلقة .. إنها محظوظة بالفعل .. ولكن إلى متى ؟.. بهجة محمود ودلاله لها يسعدها إلى حد تشعر معه بالألم في قلبها وهي تتذكر كلمات ريم القاسية .. ماذا سيحدث لها إن مل يوما .. إن سئم من جمال وبهجو لعبته الحالية وأراد الحصول على المزيد ؟ ماكانت لتشك لولا تلك النظرة القاتلة التي تقفز لتطل أمام عينيها بين اللحظة والاخرى لتذكرها بأن محمود إن ضعف مرة .. فمن الممكن ان يضعف ألف مرة
أزاحت تلك الأفكار المسمومة من عقلها وقررت بأن محمود لها .. ولن يأخذه منها أحد.. وأنها ستستمتع بوقتها معه دون ان تسمح للشكوك بأن تعكر عليها صفو حياتها .. فمحمود يظهر لها في الوقت الحالي الشغف الكبير وما عليها إلا ان تسعى للحفاظ على هذا الشغف بكل جهدها
ارتدت سروالا ضيقا من الجينز الذي اظهر جمال ساقيها .. وكنزو حمراء جميلة التصميم عالية الرقبة .. وتبرجت برقة وهي تنظر إلى وجهها الذي امتلك وهجا مختلفا بسبب السعادة
في السيارة .. وبينما يقلها مأمون إلى مقر الشركة في قلب المدينة .. كانت نانسي تنظر إلى المدينة المبتلة عبر النافذة .. ماهي إلا اسابيع قليلة وينتهي الشتاء .. وياتي الربيع حاملا معه الخضرة والأزهار والبهجة والحب
عندما توقفت السيارة في كراج المينى الضخم للشركة خطر في بالها سؤال أقلقها .. جعلها تنظر إلى مأمون وتسأله :- أخبرني يا مأمون .. هل هناك موظفات في الشركة ؟
أجفل لسؤالها بعد صمتها الذي استمر طوال الطريق وقال وهو يطفئ المحرك :- بالتأكيد .. هناك الكثير من الموظفات .. منهن الآنسة هلا سكرتيرة الدكتور محمود .. إنها لطيفة جدا
سكرتيرة .. لطيفة جدا .. اشتعل بريق التحدي والشقاوة في عيني نانسي وهي تترجل من السيارة بعد أن فتح لها مأمون الباب .. نظرت إلى ملابسها البسيطة بحسرة متمنية لو أنها ارتدت شيئا أكثر أناقة .. سألت مأمون بقلق :- هل يبدو مظهري جيدا ؟
تأملها بنظراته المتفحصة وهو يقول :- تبدين رائعة يا سيدتي ..أي من الموظفات لا تقارن بك مهما كانت بساطة ملابسك
انتبهت فجأة إلى أنها قد تبسطت كثيرا مع مأمون الذي كان يشبه بطباعه البسيطة حنان .. كان مستعدا للتواطئ معها فور أن يلمح تشجيعا .. فقالت له متظاهرة بالحزم .. :- ما الذي تنتظره ؟ أوصلني إلى مكتب محمود
ابتسم وقد اعتاد على طباع سيدته المتناقضة وقال فاهما توترها :- بالتأكيد يا سيدتي .. تفضلي
قادها إلى داخل صالة الاستقبال حيث حياها رجل الأمن باحترام ووقفت موظفة الاستقبال لتحييها فور معرفتها بهويتها .. لا .. لا خوف من هذه الموظفة .. صعدت مع مأمون إلى الطابق الخامس حتى أشار إلى باب كبير قائلا :- هذا هو مكتب السيد محمود .. سأنقل حقيبتك إلى سيارته وأذهب .. هل تأمرينني بشيء
شكرته بتوتر وهي تسير نحو الباب المفتوح .. وتدخل إلى مكتب السكرتيرة الجميلة اتي انهمكت في العمل على شاشة الكمبيوتر بتركيز مماأتاح لنانسي الفرصة لتأملها جيدا .. كانت جميلة بالفعل .. بأناقة كلاسيكية متمثلة بطقم أبيض شديد الأناقة .. وشعر أسود مرفوع بإتقان فوق رأسها .. ندمت نانسي تماما على بساطة مظهرها .. ثم دخلت رافض أن يهز شيء سخيف كهذا ثقتها بنفسها .. فهي نانسي راشد .. زوجة محمود .. بملابس أنيقة أو لا
رفعت الفتاة رأسها نحو نانسي قائلة باستغراب :- هل من خدمة يا آنسة ؟
قالت نانسي بشموخ :- أنا هنا لرؤية محمود
ذكرها لاسمه بدون ألقاب جعل الفتاة تعبس وهي تتأمل الهيئة الشبابية لنانسي .. قالت ببرود :- ومن تكونين ؟
قالت نانسي ببرود مماثل :- لم لا تخبرينه بوجودي .. وتسألينه بنفسي عمن أكون
قالت الفتاة بغيظ من وقاحة نانسي :- لديه اجتماع مهم .. وهو لا يحب أن يقاطعه أحد أثناء عمله
خرج في تلك اللحظة العم طلال برفقة رجلين أنيقين .. ودعهما ثم نظر إلى نانسي بدهشة قائلا :- أهلا بك يا نانسي .. ما الذي تفعلينه هنا ؟
رفعت رأسها بتحدي وقد لاحظت بأن وجودها لم يسعده وقالت :- جئت لأرى محمود يا عمي .. أظنه متفرغ الآن لمقابلتي
أسرع يخفي كل مشاعره وهو يقول :- بالتأكيد .. تفضلي بالدخول إلى مكتبه
دخلت وهي تنظر إلى الفتاة السمراء مبتسمة بانتصار .. وسرعان ما كانت تقف داخل مكتب محمود الذي وقف وهو يقول مبتسما :- أحييك على سرعتك .. لم أتوقع وصولك باكرا
قالت بدلال :- أهذا تذمر يا دكتور محمود؟ أستطيع الذهاب والعودة لاحقا إن كنت مشغولا
وصل إليها جذبها نحوه قائلا :- تستحقين عقابا على لسانك السليط
قالت بوقاحة :- هل تعني عقابا شبيها بعقاب ليلة الأمس ؟
ضحك قائلا : - وعقابا آخر لوصفك ما حدث ليلة الأمر بالعقاب
قالت وهي تشير إلى الباب :- لقد قابلت العم طلال لتوي .. ولم يبدو سعيدا لرؤيتي هنا
اختفت ابتسامته وهو يقول بوجوم :- ولماذا يتذمر من وجودك ؟ لابد أنك تتوهمين
ندمت على ذكر عمه وهي التي تعرف مدى حساسية محمود اتجاه عائلته .. أحاطته بذراعيها قائلة :- ألن تخبرني إلى أين سنذهب ؟
ابتسم قائلا :- توقفي عن طرح سؤال تعرفين بأنني لن أجيبك عليه .. لقد قلت لك بأن مقصدنا مفاجأة لك
ابتسمت قائلة :- متى سنذهب إذن ؟ هل يحق لي بطرح هذا السؤال ؟
:- بالتأكيد .. سنذهب فور أن أنهي بعض الأمور .. سآخذك إلى مكان لا يسعك فيه التفكير بسواي
كأن غيره من الممكن أن يشغل عقلها .. لاحظ نظراتها التي سهمت بعيدا .. فلكز رأسها بطرف إصبعه قائلا :- هل فهمت ما أعنيه ؟
ابتسمت وهي ترفع نظرها إليه :- آسفة .. من الآن فصاعدا لن أفكر بسواك
ظهر الرضا في عينيه وهو يقول :- لنوقع على اتفاقنا هذا إذن ..
انحنى يطبع قبلة خفيفة على شفتيها .. ثم نظر إليها عابسا وكأن تلك القبلة الصغيرة لم تكن كافية .. فعاد ليقبلها بشغف أكبر أطاح بصوابها .. وإذ بصوت السكرتيرة المرتبك يقول :- أنا آسفة
ابتعد محمود عن نانسي بهدوء عندما قالت السكرتيرة بحرج :- لقد .. لقد طرقت الباب مرارا .. أنا آسفة
رمت نانسي نحوها نظرة انتصار بينما قال محمود بهدوء :- لا بأس يا هلا .. تعالي أعرفك على زوجتي نانسي .. نانسي .. هذه هلا .. سكرتيرتي منذ فترة طويلة ..
ظهرت الصدمة على الفتاة التي قالت :- لم أعرف هذا .. اعذريني يا سيدتي لأنني لم أعرفك خارجا
قالت نانسي بابتسامة القطة الشبعانة وهي تقول :- لا عليك .. يسهل نسيان الخطأ عندما نحرص على عدم تكراره
اعتذرت الفتاة مجددا وخرجت فضحك محمود وهو ينظر إلى نانسي قائلا :- لا يمكن أن تتغيري .. صحيح
قالت نانسي وهي تمط شفتيها بحدة :- من واجبي إيقاظ أي امرأة من أحلامها عندما يتعلق الأمر بك
داعب وجنتها وهو يقول بحنان :- أحب غيرتك علي
فكرت بصمت .. بشرط ألا تكون في محلها يا محمود
في الطريق التزمت نانسي بالصمت لعلمها بأن محمود لا يحب التحدث كثيرا أثناء القيادة .. دوى صوت موسيقاه المفضلة المنبعثة من جهاز التسجيل بينما ركز هو انتباهه الكامل على الطريق .. الطريق الذي استغرق منهما حتى الآن أكثر من 3 ساعات .. وقد لاحظت نانسي بأن محمود يسلك الطريق المؤدي ‘إلى الجبل .. ورغم فضولها الشديد أصرت على عدم سؤاله عن وجهتهما كي لا تفسد المفاجأة التي يخبأها لها
إلا أنها في النهاية عندا تجاوز المدينة الجبلية الصغيرة .. واتجه نحو منزل صغير محاط بسور حجري لم تستطع الانتظار .. فسألته بفضول :- ما هذا المكان ؟
ضحك بانطلاق وهو يقول :- ظننتك لن تسألي أبدا ؟ ستعرفين حالا
نزل من السيارة كي يفتح البوابة .. ثم عاد إليها كي يدخلها إلى الساحة الداخلية ويقف أمام باب المنزل الصغير .. ثم عاد لينزل كي يغلق البوابة خلفه بينما نزلت هي من السيارة لتصدم بالبرودة الشديدة بسبب ارتفاع المنطقة .. أسرع محمود يحيطها بذراعه كي يقيها الهواء الشديد ويسير بها نحو الباب ويفتحه بمفتاح خاص ثم يدخلها
الدفء في الداخل كان مذهلا .. وهو أول ما لفت نظرها بعد البرد القارس خارجا .. ثاني ما أثار انتباهها هو النار المشتعلة في المدفأة الحجرية وقد أثار فيها وهجها والطقطقة الصادرة عن احتراق الخشب احساسا لذيذا بالدفء .. عندها فقط جرت بعينيها في المكان لتفاجئ بالمساحة الصغيرة للغرفة الحميمية الديكور كانت مكونة من قسم جلوس بأثاث وثير مصنوع من الجلد البني الوثير .. وقد بسطت سجادة متعددة الألوان على الأرض أمام المدفأة .. ووزعت مصابيح ذات إنارة رومانسية في المكان جعلته يبدو كالحلم
إلى جهة اليمين وعلى ارتفاع درجتين كانت هناك طاولة صغيرة تتسع لأربع أشخاص غطتها ملاءة بيضاء وعلاها شمعدان فضي بشموع طويلة لم تشعل بعد .. وقد جهزت الطاولة بأدوات مائدة لشخصين بالإضافة إلى وردة حمراء طازجة توسطت المائدة بإناء طويل
نظرت إلى محمود مذهولة وهي تقول :- محمود .. ماهذا المكان
ابتسم راضيا عن تأثرها وقال :- هل أعجبك ؟
عادت تنظر حولها مبهورة :- إنه جميل جدا .. يذكرني ببيت اللعبة الذي كنت أمتلكه في صغري .. هل هو لك ؟
أحاطها بذراعه قائلا :- لقد اشتريته منذ سنتين .. وأنا أهرب إليه كلما أحسست برغبة بالانفراد .. من الآن فصاعدا هذا سيكون ملاذنا الخاص
قالت بابتهاج :- إنه رائع ..لا أطيق صبرا لرؤية ما تبقى منه
سحبها من جديد عندما تحركت وقال :- يفضل ألا تفعلي لأنني لا أضمن خروجك من غرفة النوم إن دخلت إليها
صدمتها صراحته .. والرغبة المستعرة في عينيه فصدقته .. وقالت بخجل :- ما الذي تقترح ان نفعله إذن ؟
ابتسم لخجلها النادر .. وقال :- لابد أنك جائعة .. أنا متأكد من وجود شيء في المايكرويف ينتظر أن يعاد تسخينه .. ما رأيك أن نلقي نظرة سويا
المطبخ كان صغيرا وحميما للغاية .. إلا أنه مجهز بكل وسائل الرفاهية .. كان محقا فيما يتعلق بالوجبة المعدة للتسخين فقالت بدهشة :- إنها وجبتي المفضلة
وضع الطبق في جهاز التسخين بينما قالت بحيرة :- كيف استطعت فعل كل هذا ؟ تجهيز الطعام .. تنظيف البيت .. المدفأة المشتعلة ..
قال وه وينظر إليها من خلف كتفه :- ليس الأمر صعبا .. أطلب دائما من الجيران العناية بالمكان في غيابي .. وطلبت منهما تجهيزه مساء الأمس .. أردت الأمر أن يكون مفاجأة جميلة لك .. وسعيد لأن المكان قد أعجبك
وضع الطعام على الطاولة وأشعل الشموع .. ثم أزاح لها الكرسي لتجلس أمامه وهو يقول مداعبا :- تفضلي يا سيدتي
جلست وهي ترتجف من فرط المشاعر التي فاضت داخلها .. وهي تنظر إلى محمود الذي جلس أمامها وقد بدا رائعا عندما انعكس عليه ضوء الشموع الأحمر فجعلت وسامته تبدو شيطانية ومثيرة بشكل جعل نبضات قلبها تتسارع بجنون .. قال لها ك- بماذا تفكرين ؟
تمتمت :- بكل شيء.. بك .. بنا معا .. وحياتنا القادمة
أمسك يدها عبر الطاولة وهو يقول :- لنتناول طعامنا الآن .. وسنتحدث بعدها كما تشاءين
ابتسمت له وهي تطيعه برضا .. وبعد تناول الوجبة اللذيذة تعاونا في تنظيف المائدة .. ثم وقفت نانسي أمام الحوض لتنظف الأطباق بينما نظر إليها محمود متأملا وهو يقول باسما :- يبدو لي مظهرك وأنت تنظفين غريبا .. لا أصدق بأن نانسي فتاة القصور المدللة تنظف الآن الأطباق وكأنها قد ولدت وهي تقوم بهذا العمل
قالت منه متظاهرة بالغضب :- أتسخر مني ؟ من يسمعك لا يصدق بأنك الرجل الذي ولد حقا وفي فمه ملعقة من ذهب .. الطلاب في الجامعة كانوا يحتارون كثيرا حول حياتك البعيدة عن الجامعة .. البعض كان يقول بأنك ثري جدا .. والآخر كان يقول بأنك فقير جدا خلف مظهر الدكتور الوقور .. حيث استمتعوا بتخمين الأعمال الجانبية التي كنت تقوم بها بعد دوامك في الجامعة لتزيد من مدخولك
قال مستمتعا :- وماذا عنك ؟ إلى أي فئة كنت تنتمين ؟
قالت بارتباك :- أنا ؟
:- لا .. لا تخبريني .. أظنني عرفت وفقا للطريقة التي اقتحمت بها مكتبي عارضة علي رشوتك تلك
احمر وجهها وهي تغلق صنبور الماء وتجفف يديها هامسة :- لا تذكرني بهذا .. فهو يخجلني
أدارها إليه ونظر إلى وجهها الجميل قائلا :- لا أستطيع أن أنسى .. فجمالك في تلك اللحظة التي انفجرت فيها غاضبة وأنت تهددينني وتتوعدينني لا ينسى
رغم كلامه فهي لم ترغب بتذكر تلك الأيام .. فتمتمت :- هل أعد بعض الشاي ؟ ..
لوى فمه بابتسامة عابثة وهو يقول :- سأعده أنا .. سأثبت لك ما يمكن لرجل ولد وفي فمه ملعقة من ذهب أن بفعل .. انتظريني أمام المدفأة وسألحق بك فورا
أطاعته على الفور وذهبت إلى غرفة الجلوس حيث جلست على السجادة الصغيرة وأخذت تتأمل النيران المشتعلة بشرود حتى جاء أخيرا حاملا كوبي الشاي وناولها أحدهما ثم جلس إلى جانبها يتأمل النار بدوره .. احتست الشاي بتلذذ ثم قالت مازحة :- لذيذ جدا بالنسبة لابن القصور المدلل
قال بمكر وهو يميل نحوها :- ألا يستحق ابن القصور قبلة شكر على الشاي اللذيذ ؟
مالت لتطبع قبلة خفيفة على وجنته إلا أنه أسرع يجذبها ويقبل فمها بقوة جعلتها تشهق ضاحكة وهي تحاول منع الشاي من الانسكاب :- محمود .. انتبه
لم يسمح لها بالابتعاد عنه .. بل أصر على أن تبقى ملتصقة به تنعم بدفء جسده فلم تمانع .. سألته فجأة بتردد :- محمود .. لقد أردت أن أسألك شيئا ..
:- اسألي ما شئت
تورد وجهها وهي تحارب ارتباكها وتقول :- عندما .. تلك الليلة .. عندما غبت لأيام عن البيت .. هل .. هل جئت إلى هنا ؟
نظر إليها وقد اختفت ابتسامته فجأة .. وأطل في عينيه ندم عميق وهو يقول :- نعم يا نانسي .. لقد جئت إلى هنا لأنني لم أستطع أن أعود و أواجهك بعد ما فعلت .. الطريقة التي عاملتك بها لم تكن إنسانية على الإطلاق .. لقد انجرفت خلف غضبي ورغبتي بك فلم أفكر حتى رأيت دموعك .. وأدركت إلى أي حد جرحت براءتك تلك الليلة
لم أستطع العودة وفرض وجودي عليك مجددا قبل أن تهدأي على الأقل .. أنا آسف للغاية على ما فعلت .. لن أستطيع ما حييت أن أعوضك عن الأذى الذي سببته لك
لمست ذقنه الذي بدأ ينمو وهي تهمس :- أنا من عليه الاعتذار لك يا محمود .. لقد كنت وقحة للغاية وتعمدت مرارا أن أثير غضبك . . وكأنني كنت أحثك على فعل ما فعلت دون أن أعرف .. أدرك بأنني تصرفت بطفولية في كثير من الأحيان ..وبتهور في أحيان أخرى .. كنت عنيدة وغبية ولم تكن أنت مضطرا لتحمل المزيد من فتاة سيئة الخلق مثلي
قبل جبينها قائلا برقة :- ما حدث قد حدث .. وسننساه معا إلى الأبد .. ما رأيك ؟
أومأت برأسها .. ثم وضعت كوبها الفارغ جانبا واندست إلى جانبه أكثر وأغمضت عينيها وهي تصدر صوتا راضيا وكأنها قطة نعسانة فابتسم وهو يضمها إليه قائلا :- هل أنت سعيدة معي يا نانسي ؟
فتحت عينيها ونظرت إليه عندما أكمل :- لقد كان بإمكانك السفر مع خالك و ما كنت لأمنعك إن أصررت .. لا .. أظنني كنت لأمنعك بكل قوتي .. ولكنني لم أتخيل أن تبقي من تلقاء نفسك .. ظللت أقنع نفسي بأنك ربما رغم توتر علاقتنا تشعرين بالأمان معي .. وتحبين الإقامة في بيتي .. أما الآن وقد تحسنت علاقتنا فأنا أريد أن أعرف إن كنت سعيدة معي أم لا
تأملت وجهه الوسيم وقد أحست بحبه يطفو من كل حواسها .. قالت بدفء :- طبعا سعيدة يا محمود .. ربما لم نكن متفقين .. ولكنني دائما أحسست بالأمان معك .. منذ البداية ورغم إنكاري الشديد .. عندما لحقت بنا إلى منزل الشاطئ .. وجودك كان يطمئنني إلى وجود شخص يمكن الاعتماد عليه وقت الحاجة .. عندما توفيت أمي وقفت إلى جانبنا وكنت لنا سندا أنا ولينا وهو ما لن أنساه ابدا .. ربما كانت انهارت لينا لولا اهتمامك بها ورعايتك لها .. بعد زواجنا كنت صبورا للغاية معي بينما كنت أنا متحفزة دائما كالنمرة الشرسة .. وقفت إلى جانبي ودافعت عني في كل مناسبة وكأنني لست الزوجة التي تزوجتها كي تساعدها في محنتها بل ..
صمتت وهي تخفض عينيها فقال بهدوء :- هل تظنينني تزوجتك حقا لأنني أشفق عليك يا نانسي ؟ .. هل تصدقين بأن رجلا بالغا يربط نفسه بعد سنوات على الإضراب عن الزواج بامرأة فقط كي يساعدها في ظروفها الصعبة ؟ كان بإمكاني فعل أي شيء لمساعدتك .. كأن أجد لك وظيفة لدي أو أقرضك مبلغا من المال أو حتى أقدم لك النصح
قالت بحيرة وقلبها يخفق بقوة :- لماذا تزوجت بيس إذن ؟
نظر إلى عينيها المتسعتين بترقب وقال بهدوء ووضوح شديد :- لأنني أحبك يا نانسي .. تزوجت بك لأنني أحبك
دوت الكلمات في أذن نانسي وتردد صداها من حولها بينما أبت أن تصدقها وهي تحدق به مذهولة وتردد :- تحبني !
:- نعم .. أحبك .. ومنذ البداية .. منذ أول مرة رأيتك فيها .. أذكر أنك دخلت قاعة المحاضرات متأخرة وأنت ترتدين فستانا أزرقا بلون السماء .. شعرك كان منسدلا خلف ظهرك وقد انعكست أشعة الشمس على خصلاته الذهبية الناعمة .. أذكر جيدا بريق عينيك وأنت تطرقين الباب وتدخلين وكأنك تمتلكين المكان
قالت نانسي بارتباك :- لقد طردتني ذلك الصباح شر طردة من القاعة محذرا إياي من التأخر مجددا
ابتسم قائلا وهو يداعب شعرها الناعم :- ماذا كان علي أن أفعل عندما وجدت نفسي أسيرا لفتاة فاتنة .. نظرت إلي وكأنني قد ارتكبت جرما في الوقوف في وجهها .. كان علي مقاومة الاحساس الذي انتابني لأول مرة في حياتي .. إحساس بالانبهار والتوق إلى فتاة تبلغ نصف عمري تقريبا .. إلا أنها لا تقل قوة عن جبل شامخ
قالت مترددة :- لا بمكن أن تكون قد أحببتني في ذلك الوقت .. خاصة بعد الطريقة التي اقتحمت فيها مكتبك وكلامي الوقح معك
ابتسم قائلا :- لم يعجبني ما فعلته .. ولكنني أحببت قوتك وكبرياءك .. عشقت الطريقة التي واجهت بها الجميع بلا خوف بعد وفاة والدك .. لقد رغبت بأن أكون أنا من يساعدك في الحفاظ على شعلة الكرامة التي كانت لا تختفي أبدا من عينيك .. رغبت بأن أكون السند لك .. أن أحميك من أي أذى .. ذلك المساء عندما حاول جابر أذيتك كدت أجن لأن شخصا حقيرا كاد يدنس المرأة الأكثر سموا التي عرفتها في حياتي .. المرأة المحرمة كما كان جميع الطلاب ينادونك خلسة
احمر وجهها وهي تقول :- هل كنت تعرف هذا ؟
أطلق ضحكة قصيرة وهو يقول :- أعرف كل ما يتعلق بك .. لقد ظننت دائما بأن هذا اللقب يليق بك جدا .. فأنت كنت في نظري كالجوهرة بحاجة إلى عناية واهتمام .. أردت أن أكون أنا من يصونك ويحميك .. ويحافظ على بريقك الأخاذ النادر الوجود
تمتمت بذهول :- لم يكن لدي أي فكرة عن مشاعرك .. لماذا لم تخبرني بها من قبل ؟
:- وكيف لي أن أفعل وأنت تبدين دائما في وجودي كالقطة المتحفزة للقتال .. كنت متوترة وحذرة دائما .. كنت لا تخفين عني تذمرك وكراهيتك لي .. كيف سأصارحك بمشاعري في الوقت الذي أجبرتك فيه على الزواج مني بطرقي الملتوية وأنا أرى نفورك الواضح مني ..
همست بخفوت :- أنا آسفة يا محمود .. لقد سببت لك الكثير من الإزعاج والألم بتصرفاتي الحمقاء وعنادي
ضمت نفسها إليه فاحتواها بين ذراعيه بقوة سامحا لها بأن تقبله على شفتيه برقة ثم تسند رأسها على كتفه وتتأمل النار دون أن تصحو من ذهولها .. محمود يحبها .. محمود يحبها هي .. لا تستطيع أن تصدق .. إلا أنها تفعل .. فرجل كمحمود لن يقول شيئا لا يعنيه .. هو ليس كاذبا أو تافها ليفعل .. وقد سبق وحصل على ما يريده منها .. هل هي تحلم أم أنها حقا قد حصلت أخيرا على حبه الخالص
هل يمكن أن تجد السعادة الكاملة أخيرا ؟ .. لاحظت شروده وهو يتأمل النيران المتوهجة في الموقد فقالت بقلق :- ما الذي تفكر به يا محمود ؟
نظر إليها وابتسم على الفور قائلا :- أفكر بك .. وبأنك بين ذراعي أخيرا دون مقاومة يا نمرتي المتوحشة .. ترويضك كان صعبا .. إلا أنه يستحق العناء
قالت بغيظ مصطنع :- لا تكن متأكدا بأنك أنت من روضني .. قد أكون أنا من روضك يا أستاذ الجامعة البارد المتعالي
أطلق ضحكة عالية وهو يقترب منها هامسا أمام فمها :- ما رأيك بجولة ترويض ساخنة يا نمرتي خضراء العينين
دون أن ينتظر جوابها قبلها بحرارة أذابت عظامها .. ضمها إليه حتى أحست بصدره الصلب يضغط على صدرها بقوة .. تخللت أصابعه خصلات شعرها الكثة وتحركت شفتاه فوق فمها وكأنه يفرغ مشاعر قوية لم يعرف كيف يخرجها إلا بهذه الطريقة .. بدا لها لوهلة كالرجل العاجز المتمسك بقشة وهو يستجدي منها التجاوب بلمساته الحارة ابتعد عنها أخيرا وهو يقول لاهثا :- من الآن فصاعدا .. لن ترتدي قميصا مقفلا عندما نكون معا
حاولت السيطرة على نبضات قلبها وأنفاسها العنيفة بسبب هجومه السابق وهتفت :- ستفاجأ بالأشياء الصغيرة التي دستها حنان في الحقيبة وهي تظنني لا أراها .. أظنها ستعجبك
لوى فمه الجميل بابتسامة كثيرة وهو يقول :- وأنا أظن الحقيبة وما تحويه ستبقى كما هي خلال الأيام القادمة
أطلقت شهقة ضاحكة عندما حملها بين ذراعيه متجها بها نحو غرفة النوم .. فتح الباب دون أن ينزلها .. ودخل بها ليراقب بتلذذ ردة فعلها وهي تحدق حولها مذهولة في الغرفة التي أضاءتها عشرات الشموع العطرة الرائحة .. و السرير الضخم الذي فرش بوريقات الورود القانية الحمرة .. نظرت إلى زوجها الذي همس وهو يقفل الباب بقدمه ويقودها إلى السرير :- أهلا بك في الجنة يا حبيبتي


نسمات عطر 02-05-2017 11:17 PM

الفصل الثالث والعشرون


إلى الأرض



انتهت الأيام الثلاث وكأنها حلم .. وعادت نانسي مع محمود إلى البيت في مساء اليوم الرابع وهي تشعر بالحزن لانتهاء شهر العسل الرائع الذي قضته مع محمود .. لقد ظنت بأنها لا يمكن أن تحب محمود أكثر مما فعلت ولكنها كانت مخطئة .. الأيام التي قضياها معا أثبتت لها بأنها لا تحبه فحسب .. بل تعشقه بجنون .. كانت سعيدة جدا وهي تنام فوق صدره بعد أن عادا إلى البيت .. وأكثر سعادة عندما قال لها :- أنا أكثر منك أسفا لانتهاء عطلتنا يا عزيزتي .. أعدك برحلة أطول قريبا ..
صباح اليوم التالي احست بقبلته في وقت مبكر للغاية .. نظرت إليه بعينين ناعستين فرأته قد ارتدى ملابسه استعدادا للذهاب إلى العمل .. همست متذمرة :- هل أنت مضطر للذهاب ؟
ابتسم قائلا :- بقائي في البيت لن يطعمنا خبزا .. سأحاول ألا أتأخر .. وأنت عديني بأنك ستدرسين في غيابي
أومأت برأسها موافقة .. فقبل جبينها ثم غادر الغرفة .. فتقلبت برضا وهي تفكر ..أدرس !.. لا أعدك يا زوجي العزيز فأنا من سيطهو لك العشاء هذا المساء
استيقظت متأخرة .. وكان أول ما فعلته هو الذهاب إلى المطبخ لتناول إفطار سريع والتحدث ‘إلى الطاهية حول العشاء.. اتفقت معها على كل شيء ووضعت معها قائمة بما تحتاجه فرحبت تلك بمساهمة سيدة البيت في المطبخ وتشوقت لمساعدتها .
صعدت لرؤية الجدة وقد استبد بها الشوق للحديث معها والتماس بعض الحنان منها .. فرأتها تحت رحمة الممرضة التي انهمكت في حقنها بإبرة ما في ذراعها .. إلا أنها أحست على الفور بوجودها فقالت وهي تنزل أكمامها بصوت مشرق :- صباح الخير يا نانسي .. كم أنا سعيدة لسماع صوتك .. أرجو أن تكوني قد استمتعت برحلتك مع محمود
قالت نانسي بخجل :- هل أخبرك ؟
:- بالتأكيد .. يزورني محمود كل صباح مهما كان مستعجلا .. تعالي واجلسي إلى جانبي وأخبريني .. هل أعجبك منزل محمود الجبلي .. لم أذهب إليه قط رغم محاولاته الكثيرة لإقناعي .. فأنا لا أحتمل ساعات السفر بالسيارة
قالت نانسي باسمة :- خسارة .. لكنت أحببته كثيرا ..
اطل الدفء من عيني المرأة العجوز وهي تقول :- أنا سعيدة لأنكما قد تمكنتما من حل مشاكلكما أخيرا .. لا تسأليني عن الطريقة التي عرفت فيها .. فصوت محمود بدا مختلفا منذ أيام .. إنه سعيد ومرتاح البال وأنا لم أره بهذا الشكل منذ سنوات طويلة .. وأنت أيضا تبدين أكثر استرخاءا .. الحمدلله أنني قد عشت لأرى حفيدي سعيدا أخيرا
سالت دمعة ساخنة من عيني الجدة فأسرعت نانسي تقول بصوت أجش :- لا تبكي يا جدتي .. أعدك بأننا لن نتشاجر مجددا .. ومحمود سيظل سعيدا إلى الأبد
مسحت الجدة دمعتها قائلة :- أهذا يعني أنني سأحظى بأحفاد جدد قريبا
احمر وجه نانسي حرجا إذ أنها لم تفكر بأمر الأطفال مطلقا .. ولكنها تمتمت :- بالتأكيد
لم تعرف نانسي إلى أي حد تسرعت في إطلاق الوعود للجدة حتى ذهبت إلى غرفة المكتب حيث جلست خلف مكتب محمود الكبير في محاولة للدراسة إرضاءا لزوجها .. مر بها الوقت دون أن تدري وهي تتصفح الأوراق وتكتب الملاحظات .. وتحاول استيعاب الدروس المتراكمة .. حتى أنها لم تشعر بأنها لم تعد وحيدة إلا متأخرة
رفعت رأسها إلى ريم التي وقفت عند الباب تنظر إلى نانسي بكراهية شديدة أجفلت نانسي التي تماسكت وقالت بهدوء :- أهلا بك يا ريم .. لا يبدو مزاجك جيدا اليوم .. هل طار منك عريس جديد ؟
برق الحقد في عيني الفتاة وهي تتقدم إلى داخل ا لغرفة وتصفق الباب خلفها مما جعل نانسي تقفز من مقعدها متحفزة .. قالت ريم بغضب :- تظنين نفسك ذكية للغاية بانتصارك الباهت هذا .. ما أسهل أن تجعلي رجلا مجنونا بك فور ان تمنحيه ما يريد وتكونين له الساقطة التي يحتاجها .. إلا أن العبرة في احتفاظك بتعلقه يا عزيزتي
قالت نانسي متأففة :- ألا تملين من محاولاتك الفاشلة هذه في التفريق بيني وبين محمود .. انسي أمر الرجل .. فهو لا يريدك .. ل ا ي ر ي د ك .. كم من الصعب استيعاب هذه الكلمة
قالت ريم بغل متجاهلة كلام نانسي :- إلى أين أخذك هذه المرة ؟ هه .. إلى منزله الجبلي الصغير الحميم .. هل أعد لك وجبتك المفضلة .. وأشعل المدفأة ناشرا في المكان جوا رومانسيا كاذبا .. هل أشعل لك الشموع ونثر الورود فوق سرير الزوجية
تجمدت نانسي وهي تنظر إلى الحقد المطل من كل خلجات الفتاة .. فقالت بغضب :- هل تتجسسين علينا يا ريم ؟ كم دفعت للعائلة المسؤولة عن الاهتمام بالمنزل كي تعرفي بعقلك المريض ما حدث بالضبط بيني وبين محمود
ابتسمت ريم أخيرا بتشفي وهي تقول :- عن أي عائلة تتحدثين يا عزيزتي .. أنا لم أسأل أي أحد .. لقد عرفت بنفسي ما حدث بالضبط .. أتعرفين كيف ؟ لأنه تماما ما كان يفعله محمود لأجلي قديما عندما كان يأخذني إلى الكوخ دون علم عائلتي .. نعم يا عزيزتي .. لا ألومك على ذهولك .. فعلاقتي بمحمود كانت بهذا العمق .. لقد كنا حبيبين منذ الصغر .. وبعد نضوجنا لم يستطع إبعاد يديه عني كعادته كلما تواجدت أمامه امرأة جميلة .. لقد كنا نتقابل خارجا كلما أتيحت الفرصة لنا دون أن نشعر أحدا ممن حولنا .. التقينا في شقته في المدينة .. وفي المنزل الجبلي .. وفي مكتبه بالجامعة .. في أي مكان لا تصل إليه العيون ..
شحب وجه نانسي وكادت ساقاها تخوناها وهي تستند إلى طرف المكتب وتصيح بثورة :- أنت تكذبين .. تكذبين وبوقاحة أيضا .. لابد أنك مريضة نفسيا لتختلقي قصصا شائنة حول نفسك وحول ابن عمك .. محمود ما كان ليفعل هذا أبدا
ارتسمت ابتسامة مرارة على فم ريم وهي تقول :0 وهل أنت متأكدة ؟ هل تعرفين زوجك جيدا كما تتوهمين ؟ .. ألم تلاحظي بنفسك مدى شراهته الجنسية ورغبته التي لا تنتهي .. محمود لا يستطيع العيش بلا امرأة إلى جانبه .. لقد فطر على أن يحصل على ما يريد وقد كنت أنا لفترة طويلة ما أراد وسعى إليه .. هل تصدقين بأن رجل مثله قد يمنع عن نفسه فتاة جميلة تعيش تحت سقفه حتى لو كانت ابنة عمه .. حتى خلال زواجكما وتمنعك الواضح عنه .. وجد بي بديلا ومنفسا عن حاجاته .. أم أنك تظنينه ذهب إلى المنزل الجبلي أثناء غيابه وحيدا ؟؟؟؟ لقد كنت معه يا عزيزتي .. لقد لحقت به يوم رحيله ومكثت معه ليلة كاملة ..
تذكرت نانسي مذعورة .. هذا صحيح .. في اليوم التالي لرحيله رحلت ريم أيضا .. لقد قالت العمة منار بأنها ستمكث عند أقاربها لليلة واحدة .. هل كانت مع محمود ؟ لا .. مستحيل
قالت نانسي ب عنف :- أنت تكذبين .. إن كان كلامك صحيحا فلماذا تركك وتخلى عنك وتزوج بي .. لو كان يحبك ومازال يريدك لما تزوج بغيرك
قالت ريم وفي عينيها ألم كبير :- أنا لا أتحدث عن الحب يا عزيزتي .. محمود لا يعرف أبدا كيف يحب .. إنه يرغب فقط .. وقد تخلى عني حقا كما تقولين .. أتعلمين لماذا ؟ لأنني منحته ما يريد .. لأنني لم أمنع نفسي عنه كما كان علي أن أفعل .. لقد منحته كل شيء .. كل شيء .. ولهذا فقط تجدينني أجلس مثل الأرض البور في انتظار من يأخذها .. لأنني لم أعد متاحة لأي رجل آخر .. لقد أخذ محمود ما يريده ثم انسل من بين يدي خارجا عندما مل مني .. بكل بساطة وبكل هدوء .. توقف عن الخروج معي .. بالكاد صار يتحدث إلي .. وانتقل لمعاشرة فتاة أخرى تشكل له شيئا من التحدي .. هذا هو أسلوبه يا نانسي .. لقد انتقل من فتاة إلى أخرى أمام عيني بنفس الطريقة حتى سقط في شرك نسرين .. نسرين هي المرأة المناسبة له .. وهو ما أسكتني وجعلني أتوقف عن انتظاره .. فهي أكثر من أثار جنونه بجمالها وقوتها وأصلها العريق .. لقد كانت ندا له في كل شيء حتى أنه كاد يتزوجها .. الكل كان يعرف بأنه سيتزوجها في النهاية حتى جئت أنت
عاد الحقد يطل من عينيها ويشبع كلماتها التي سقطت فوق رأس نانسي المذهولة :- لقد جاء بك من لا مكان وجعلك زوجته .. هكذا بدون مقدمات .. كعادته لم يمنح نسرين أي توضيح .. لم يقطع علاقته بها حتى بشكل لائق .. لقد سمعت بنبأ زواجه من الآخرين كما كنت أراه بنفسي وهو يتنقل بين أذرع الأخريات .. أنت دون غيرك تمكنت من الحصول على لقب زوجة .. ما الذي فعلته حتى استحققت هذا اللقب .. هل تمنعت كثيرا .. هل وجدك من النوع الصعب التنازل ووجد بأن الزواج بك أسهل طريقة للحصول عليك .. هل كنت قطة شرسة كثيرة الخدش وأدخلت إلى حياته الحماسة والإثارة التي كان ينشدها ؟ ولكن إلى متى ؟ فها هو قد حصل على ما أراد .. وأصبحت طوع بنانه .. وانضممت شئت أم أبيت إلى قائمة فتوحاته .. لا تتوقعي أن يمنحك أي إشارة قبل أن يبدأ بغزوة جديدة يا عزيزتي .. ستسمعين بهذا بنفسك من مصادر أخرى كما فعلت العشرات
تراجعت نانسي وقد تجمعت دموع الصدمة في عينيها وهي غير قادرة على استيعاب ما تقوله ريم .. همست بذهول :- لماذا تخبرينني بهذا ؟ لماذا تقولين لي هذا الكلام البشع ؟
ارتجفت شفتا ريم وهي تقول :- لماذا ؟ .. لأنها الحقيقة .. لأنك ستعيشينها عاجلا أم آجلا .. أردت أن تعرفي ما ينتظرك مستقبلا .. أن تفهمي ما أحسه لأنه ستحسينه بنفسك في وقت قريب .. ستعرفين شعور المرأة العاشقة المنبوذة وهي ترى رجل حياتها يسعى خلف نساء أخريات بينما هي تخفي عارها عن أقرب الناس إليها غير قادرة على تفسير رفضها للزواج .. ستعرفين ما معنى أن تصبح المرأة كالكرسي القديم عديم الفائدة عندما يرميها رجلها في القبو كالنفاية عندما تنتفي حاجته إليها
كانت صوت ريم يتهدج أثناء كلامها ويزداد انفعالا .. حتى أجهشت في البكاء منهارة بعد انتهاء كلماتها فلم تستطع نانسي الصمود أكثر .. أسرعت تخرج من الغرفة كالمجنونة وتصعد إلى غرفتها مغلقة الباب ورائها وتستند إليه لاهثة .. لا .. ريم كاذبة .. إنها كاذبة كبيرة .. محمود يحبها هي .. ولن يفعل بها هذا أبدا
تذكرت دموع ريم وانهيارها .. لا يمكن أن يكون هذا تمثيلا .. تذكرت اللوم في نظرات نسرين وهي تحدثه في الحفلة .. تذكرت استنكار هديل عندما عرفت بزواجه وكأنه كان محجوزا لأخرى .. تذكرت نظراته التي افترست نسرين رغم وجودها على بعد أمتار عنه وكأنه لا يعترف بحرمة وجود زوجة له تقف إلى جانبه .. وكأن زواجه لا يعني أن يمنع نفسه عن المتع الأخرى المتاحة .. تذكرت الطريقة التي صبر بها عليها حتى نال ما أراد .. وما قاله لها عندما نفذ صبره .. إنه يعرف جيدا كيف يجعل فريسته أكثر شهية باللعب بها ومنحها كل الوقت قبل أن يأكلها .. وقد أكلها في لقمة واحدة .. كم كانت سعادته كبيرة عندما وجدها في انتظاره تفتح له ذراعيها مرحبة ومستسلمة أخيرا ..
كم سيمر من الوقت قبل أن يمل منها ومن استسلامها ويسعى خلف أخرى
استبد بها الذعر حتى كادت تصاب بالهستيريا .. لا .. محمود لها .. لها وحدها .. ستموت لو تخلى عنها أو خانها .. لن تحتمل الألم والعذاب وهي تسمع بغزواته بعيدا عن البيت
لم تعرف كم ظلت تقف ذاهلة مكانها حتى طرقت حنان الباب وهي تقول :- نانسي .. هل أنت هنا ؟ لقد أحضرت لك غداءا
فتحت الباب فذهلت حنان لشحوب وجهها .. وضعت الصينية على الطاولة واستدارت قائلة بقلق :- ما الأمر يا نانسي ؟ هل أنت مريضة ؟
نظرت نانسي إلى وجه حنان الطيب .. هل تخبرها بما عرفته من ريم ؟ هل تخيب أملها بعد أن أحست بالراحة أخيرا لسعادة الفتاة التي تربت إلى جانبها والتي تشعر بمسؤوليتها اتجاهها .. ابتلعت ريقها قائلة :- لا .. متعبة قليلا فحسب .. كما أنني لست جائعة .. سأنتظر حتى العشاء
قالت حنان بابتسامة ماكرة :- العشاء الذي تنوين إعداده لحبيب القلب ... هل يعرف الدكتور محمود أي حظ يناله بتنازل نانسي راشد شخصيا ودخولها إلى المطبخ خصيصا للطهي له
منحتها نانسي ابتسامة مرتعشة وهي تقول :- .. سيعرف قريبا
عندما بقيت وحدها ظلت تحوم في الغرفة كالمجنونة .. ماذا تفعل ؟ هل تواجهه ؟ هل ترمي في وجهه ما عرفته من ريم عنه ؟ .. وهل ستحتمل الحقيقة إن رماها في وجهها ؟ تذكرت اعترافه بتأثره بنسرين .. محمود لا يكذب .. ولن يتردد في تأكيد أقوال ريم .. لا .. لن تحتمل الحقيقة .. ولن تحتمل أيضا أن تمثل دور البلهاء فتمنحه ما يريد حتى يتركها أخيرا .. أمسكت رأسها وقد شعرت بالدوار من فرط التفكير .. ثم انتهى بها الأمر إلى البكاء كما فعلت ريم بالضبط ألما وحيرة
وفت بوعدها رغم ما تحس به من تشوش .. وأعدت وجبة لذيذة مع الطاهية حاولت أن تنسى خلال عملها فيها كل الواقع .. ولكنها تذكرته كله حين عاد محمود في المساء .. ودخل إلى المطبخ بحثا عنها ليجدها منهمكة في إعداد اللمسات الأخيرة للوجبة .. فوجئت العاملات من دخوله النادر الحدوث إلى المطبخ .. وراقبنه بجذل وهو يقبل رأس نانسي التي لم تشعر به إلا في تلك اللحظة .. قال برقة وهو ينظر إلى وجهها الذي لطخته بقعة من الصلصة :- الشائعات صحيحة إذن .. وزوجتي تطهو لي العشاء .. ألست محظوظا ؟
أحست بالغضب يطفو ليغطي على الألم .. ألن يحب أن يرى القطة المتوحشة وهي تتحول إلى دجاجة تجري وراءه كالمعاقة بحثا عن رضاه .. كبتت توترها وقالت :- من الأفضل أن تخرج كي لا تفسد المفاجأة
رغم محاولتها لإخفاء مشاعرها إلا أنه كان حساسا للغاية بالنسبة لمزاجها .. فعرف فورا بأن ثمة ما يشغلها فابتسم على الفور وقال :- حاضر يا سيدتي .. سأخرج وأنتظر بفارغ الصبر تذوق ما صنعته يداك
عندما خرج .. اسندت نانسي نفسها إلى طاولة المطبخ بتعاسة .. لكم يؤلمها قربه منها .. مجرد لمسه لها كفيل بجعل ساقيها تتحولان إلى هلام .. فكيف ستصمد إن لمسها مجددا
قدمت نجوى العشاء بينما اجتمعت العائلة كلها حول المائدة باستثناء ريم .. بررت العمة منار قائلة :- إنها متعبة اليوم .. الصداع لا يفارقها
قال محمود بقلق :- هل تحتاج إلى طبيب ؟
:- لا أظن .. بعد ليلة من النوم الجيد ستشفى تماما
نظرت نانسي إلى وجه زوجها الجالس إلى جانبها وهي تتساءل بتوتر عن سبب قلقه الشديد ... أهو قلق ا بن عم طبيعي .. أم قلق رجل على حبيبته السابقة
لاحظ نظراتها فمنحها ابتسامة دافئة لم تستطع الرد عليها .. بل غاصت في طبقها وأخذت تأكل وكأن حياتها متوقفة على الطبق الموجود أمامها .. قال العم طلال باسما :- أهنئك يا محمود .. زوجتك ليست جميلة فحسب .. بل طباخة ماهرة
قال محمود وهي يأكل دون أن تفارقها نظراته :- لا أحتاج إلى من يذكرني بـأنني محظوظ
لم تستجب نانسي هذه المرة أيضا إلى مداعبته .. بل لم تنظر إليه على الإطلاق .. وبعد العشاء صعدت إلى غرفتها متعللة بالتعب .. فلحق بها محمود بعد دقائق وقد كانت قد بدلت ملابسها واستعدت للنوم
قال بقلق وهو يلمس جبينها وهي ممددة فوق السرير :- هل أنت بخير ؟ ما الذي يؤلمك بالضبط ؟
أشاحت برأسها بعيدا عن يده قائلة بجفاف :- أحتاج فقط إلى أن أنام
تأملها بهدوء ثم قال متفحصا :- ما الأمر يا نانسي ؟ الأمر يتعدى التعب .. هناك ما يزعجك
قالت بنزق :- ما دمت تعرف هذا .. فلم لا تتركني أنام بسلام ..دون أن ترهقني بأسئلتك
أمسك بذقنها الدقيق وأجبرها على النظر إليه .. وقال بقسوة :- راقبي كلماتك جيدا يا نانسي عندما تخاطبينني
لمسته كادت تفقدها صوابها .. خلال لحظة تذكرت كل اللحظات الحلوة التي جمعت بينهما .. ثم تذكرت كل ما قالته لها ريم فشعرت بفؤادها يتمزق .. كيف يستطيع أي انسان أن يظهر كل هذا الحب لشخص دون أن يعنيه حقا .. كيف له أن يكون رقيقا معه بذلك الشكل ثم يقدم بكل قسوة على خيانته
فاضت دموعها رغما عنها .. وظهر حزنها الشديد وهي تهمس بصوت مرتجف :- أرجوك يا محمود .. أرجوك .. أريد فقط أن أنام
اختفت قسوته بنفس السرعة التي ظهرت بها .. وظهر التعاطف في عينيه الدافئتين وهو يربت على وجنتها قائلا :- سأتركك تنامين الليلة دون أن أزعجك إذن ..
راقبته وهو يخرج من الغرفة مغلقا الباب خلفه بهدوء .. فانزوت نانسي حول نفسها تبكي بصمت وهي تهمس بألم :- ماذا أفعل يا إلهي .. ماذا أفعل ؟
استمرت نانسي في تجاهل محمود ومنعه من لمسها لعدة أيام بعد ذلك .. في كل مرة كانت تمنحه أعذارا مختلفة حتى طفح الكيل به ذات ليلة فانفجر بها قائلا :- إياك أن تستعملي إحدى حججك الواهية يا نانسي .. أعرف بأن هناك ما يشغلك ويجعلك تتمردين وسوف تخبرينني به الآن
قالت بوقاحة وهي تتملص منه كالعادة وتتراجع بعيدا عنه وتقف أمامه متحدية :- كم أنت مغرور .. لماذا لا تقول بأنني وبكل بساطة لم أعد أطيق لمستك .. وأنني أنفر في كل مرة تقترب فيها مني ؟
قال محاولا كبت غضبه :- لأنني أعرف بأن هذا غير صحيح .. منذ أيام كنت تذوبين بين ذراعي عندما كنا وحيدين في المنزل الجبلي .. هل أنت غاضبة لأنك كنت راغبة في بقائنا هناك أكثر ؟ لقد سبق ووعدتك بأنني سأعوض عليك لاحقا
قالت بانزعاج واضح :- بالله عليك .. لا أحتمل حتى مجرد التفكير ببقائي معك في مكان واحد .. فكيف سأفكر بالعودة إلى هناك بصحبتك
لم يعد قادرا على احتمال غضبه فسحبها إليه متجاهلا مقاومتها الشرسة وقال وهو يكبل حركتها :- ستتكلمين الآن وتخبرينني بالضبط عما يزعجك .. لقد أوضحت لي سابقا بأن المنزل الجبلي قد أعجبك وبدوت سعيدة جدا عندما كنا هناك .. ولن أتركك حتى تخبرينني بما غيرك
حاولت ضربه بقدمها فمنعها بسحبها نحوه أكثر .. وعندما أحست بحرارة صدره وصلابته أحست بنفسها تكاد تجن من مجرد التفكير بريم في الوضع ذاته فصرخت فجأة بغضب :- بكل بساطة أنا لن أعود إلى مكان يكاد ينفجر من حرارة ذكريات نساء أخريات
عبس قائلا بغضب :- هل أنت مجنونة ؟ من أين أتيت بهذه الترهات ؟ عن أي نساء تتحدثين
سمح لها فجأة بالابتعاد فأصلحت قميص نومها المحتشم وهي تنظر إليه تكاد تنفجر غيظا من كذبه الصريح .. فصاحت به كالمجنونة :- هل تنكر بأن امرأة غيري قد ذهبت إلى ذلك المكان معك يا محمود ؟ دعني أطرح السؤال بطريقة أخرى .. عندما تركت البيت وذهبت إلى هناك ل3 أيام كاملة .. هل تستطيع القول بصدق بأنك كنت وحيدا طيلة هذه الأيام الثلاثة ؟
لاحظت تلك النظرة التي تجمدت في عينيه .. والشحوب الذي علا وجهه وهو يقول :- ما الذي قالته لك ريم بالضبط؟
أحست نانسي وكأن صفعة قاسية قد سقطت على وجهها .. وطعنة نجلاء اخترقت صدرها بلا رحمة .. لقد كان معها .. لقد اعترف الآن بشكل غير مباشر بأنه قد كان معها ..
تراجعت وهي تهز رأسها وتحاول جاهدة منع الدموع التي تجمعت داخل عينيها من الهرب .. قالت كالمذهولة :- يا إلهي .. أنا حتى لا أستطيع النظر إليك .. لا أستطيع حتى البقاء في مكان واحد معك
اندفعت نحو الباب فأسرع يعترض طريقها قائلا بتوتر :- إلى أين تذهبين ؟
انكمشت رافضة أن يلمسها بأي طريقة فلاحظ جيدا ردة فعلها وهي تقول :- سأنام في غرفة لينا .. لا أريد النوم معك تحت سقف واحد
زمجر قائلا من بين أسنانه :- أنت لن تتحركي من هنا حتى نتحدث يا نانسي
حاولت تجاوزه فأمسك بها .. قاومته وهي تصرخ كالمجنونة بينما حملها هو إلى السرير ورماها فوقه بقسوة .. وعندما حاولت القفز عنه مجددا عاد يمسك بها ويكبل يديها تحت ثقله فنظرت إلى وجهه الغاضب وصاحت بثورة حاقدة :- أنا أكرهك يا محمود فاضل .. أكرهك وأتمنى لو أنني لم أعرفك يوما .. ولن أنام معك في غرفة واحدة ولو كلفني هذا حياتي
قال بلهجة مخيفة :- احذري ما تقولينه يا نانسي لأنني قد أدفعك لتمني الموت حقا إن استمريت بالتصرف كالمجنونة .. أنت لن تغادري هذه الغرفة .. ولن تنامي في سرير آخر .. وأنا لن أجري وراءك مجددا كما أعتدت أن أفعل منذ قابلتك .. إن رفضت الاستماع إلي فإنني لن أرغمك .. ولكنني أقسم بأنني لن أكتفي بضربك إن قللت يوما من احترامي أو أسأت إلي أمام الآخرين .. أتفهمين ما أقول ؟
التقت عيناهما في نظرات تحدي قوية كادت تفجر الغرفة بما فيها .. نظر إلى وجهها المحمر من الغضب .. والنيران الخضرا في عينيها الجميلتين التين نطقتا بالكراهية الخالصة .. فأخذ نفسا عنيفا وهو يقول :- يا إلهي .. أظنني أنا لن أستطيع البقاء معك في مكان واحد
تركها فجأة .. وغادر الغرفة كالعاصفة دون أن يقول أي كلمة إضافية ..
أما نانسي .. وكأنه صار جزءا من روتين ما قبل النوم بالنسبة إليها .. دست رأسها في وسادتها الوثيرة .. وأجهشت في البكاء



نسمات عطر 02-05-2017 11:20 PM

الفصل الرابع والعشرون


نظرت نانسي بشرود عبر نافذة السيارة في طريقها إلى الجامعة .. وهي تشعر بنفسها مستنزفة تماما هذه الأيام .. منذ مواجهة ريم لها بالحقائق عن محمود .. وشجارها معه .. وهي تعيش ولا تعيش في ذلك المنزل الكئيب .. حتى مكالمات لينا الفرحة لم تساهم في منحها البهجة والسرور
وكيف لها أن تفرح .. بتعامل محمود البارد معها وكأنها هي المذنبة .. كان يخرج صباحا قبل استيقاظها ولا يعود حتى وقت متأخر .. بالكاد كان يتكلم معها أو حتى ينظر إليها .. وهي كانت تشعر به كل ليلة عندما يعود إلى البيت .. ويندس إلى جوارها في السرير حاسبا إياها نائمة .. بينما هي على وعي كامل بكل تحركاته وحتى بأنفاسه وهو يتقلب إلى جوارها قبل أن يستغرق في النوم .. لم تعد تحب الخروج من غرفتها .. وبالكاد كانت تتناول الطعام الذي تحضره لها حنان .. كانت غاضبة .. وحزينة .. ومتألمة من الشكوك التي زرعتها فيها ريم بكلامها .. ريم التي توقفت فجأة عن التحدث مع نانسي ومحاولاتها الحثيثة في إفساد حياتها .. وكأنها قد أدت رسالتها ولم تعد بحاجة لفعل المزيد .. قد تكون كاذبة .. وقد يكون كل ما قالته مجرد تلفيق لا أساس له من الصحة دافعه الحقد والحسد .. وقد يكون واقعا
كيف ستعرف نانسي الحقيقة بعد أن تخلت عن فرصة الاستماع إلى محمود .. محمود الذي تخلى تماما عن محاولاته لإرضائها
وكأن شهر العسل القصير الذي قضياه معا لم يحدث قط .. وكأنه لم يعترف لها بحبه يوما .. هل خسرت محمود نهائيا هذه المرة ؟ .. نزلت من السيارة أمام بوابة الجامعة .. وراقبت مأمون وهو يبتعد مانعة نفسها من اللحاق به وأخذها معه .. فمن المفترض بها أن تعود برفقة محمود اليوم .. كيف ستراه .. وترافقه .. وتشاركه السيارة .. كيف ستنظر إلى وجهه وهي ترى بعين الخيال ريم بين ذراعيه .. تنعم بما نعمت به هي من العاطفة ؟
لم تستطع حضور محاضرته .. لم تستطع النظر إليه أو تلقي نظراته الباردة كلما التفت نحوها .. لم تستطع رؤية زميلاتها المهووسات به يلتهمنه بأنظارهن متجاهلات كونه متزوج .. وكأن زواجه يشكل فارقا بالنسبة إليه
جلست في الكافيتيريا باكتئاب تنتظر مرور الوقت .. ولم تشعر إلا بماهر يطل عليها برفقة ندى قائلا بقلق :- نانسي .. لقد انتظرناك طويلا .. لماذا لم تحضري المحاضرة ؟
رفعت نظرها الذابل إليه وهي تتمتم :- أشعر بصداع شديد .. ففضلت البقاء هنا
جلس كما جلست ندى التي قالت :- هل تحتاجين إلى أي شيء ؟ ربما من الأفضل أن تعودي إلى البيت
قال ماهر بحزم :- سأوصلك .. هيا بنا
هزت رأسها بأسف قائلة :- لا أستطيع .. سأقابل محمود بعد قليل لنعود معا
وقفت قائلة وهي تحاول أن تطمئنهما بابتسامتها :- سأكون بخير .. لا تقلقا
لم تفتها نظرة ماهر المتشككة .. فهو يشعر منذ فترة بأنها تعاني بصمت رافضة مشاركة أحد في معاناتها .. كالعادة كان ماهر أفضل من يفهما في العالم .. أما كان وضعها أسهل لو أنها وقعت في حبه هو ؟
.. جرت قدميها جرا إلى الخارج حيث رأتها مجموعة من زميلاتها .. ألقين عليها التحية وبدأن بسؤالها عن حياتها بفضول .. قالت إحدى صديقاتها :- من المثير أن تكون الفتاة زوجة لرجل كالدكتور محمود .. أخبريني يا نانسي .. هل تقيمين كما يقول البعض في قصر منيف يعود لعائلته ؟.. كم أنت محظوظة
أسرعت أخرى تقول بخبث :- ومن يبالي بالمنزل بحق الله .. أراهن على أنه عاشق من الطراز الأول .. أليس كذلك يا نانسي ؟ هيا .. لا تخفي الأمر علينا
آخر ما تريد نانسي استعادته هو ذكرى حب محمود العاصف .. فتمتمت معتذرة منهن بهدوء .. وتركتهن متجهة نحو مكتب زوجها .. صعدت الدرج ببطء .. وذبول كالشاة المساقة إلى الذبح .. سمعت صدى الأصوات الصادر من مكتبه قبل حتى أن تصل إليه .. كان محمود هناك .. يجلس خلف مكتبه بوقار وقد أحاطت به ثلاث من زميلاتها تطرحن عليه الأسئلة المختلفة .. بينما يجيب هو عنها بهدوء .. وقفت نانسي بعيدا وهي تراقب نظرات الفتيات الولهى المعلقة به .. بينما بدا هو غافلا تماما عن هوس طالباته به .. وحدها نانسي أحست باحمرار وجوه الفتيات تأثرا عندما ضحك لتعليق إحداهن .. عندها .. لم تستطع التحمل أكثر .. وقد تغلب غضبها وغيرتها على حزنها .. فدخلت إلى المكان بغطرسة تليق بنانسي راشد .. ووقفت تنظر إلى المشهد الدائر أمامها ببرود شديد .. فور أن رأينها الفتيات .. ارتسمت نظرات الحسد والحقد على وجوههن وهن يعتذرن من محمود ويغادرن المكتب .. بينما وقف هو متناولا معطفه قائلا ببرود يماثل نظراتها :- جاهزة ؟
أومأت برأسها بتوتر وهي تراقبه يحمل حقيبته ويقفل باب المكتب فور خروجهما .. سارت إلى جانبه بصمت عبر أروقة الكلية أمام أنظار الجميع .. رغم كل شيء .. لم تستطع منع إحساسها بالفخر لكونه زوجها هي .. كما لم تستطع منع نفسها من الاعتراف بالأمان الذي تحسه معه .. إلى جواره هي آمنة .. ولن يصلها أحد على الإطلاق .. ولن يجرؤ أحد على أذيتها .. تكره هذا الإحساس بحاجتها الماسة إليه .. وكأنها لن تستطيع العيش بدونه لحظة واحدة .. هل هي ضعيفة إلى هذا الحد ؟ إلى حد الصمت على إذلال زوجها وخيانته لها بسبب حبها الشديد له ؟
في سيارته الفارهة .. قال ما إن انطلق بالسيارة ببرود :- لماذا لم تحضري المحاضرة اليوم ؟ أين كنت تتسكعين بدلا من الاستماع إلى نقاط مهمة قد تنفعك في الامتحان ؟
تمتمت بجفاف :- لقد شعرت بصداع مفاجئ
قال بجفاف :- صداع .. أم أنك كنت تلهين مع زملاءك
قالت بنزق :- لقد رأيت ماهر في المحاضرة اليوم .. وهذا يعني أنني لم أكن أتسكع مع أحد
انقبضت أصابعه حول المقود وقد أغضبته إشارتها إلى مدى عمق علاقتها مع ماهر .. قال بصرامة :- لا تتوقعي مني المساعدة عندما تجدين نفسم في مأزق مع قرب الامتحانات وأنت عاجزة عن دراسة ما فاتك
قالت بغل وصورة الفتيات الهائمات المحيطات به لا تفارق خيالها :- اطمئن .. لن أطلب منك المساعدة .. فقد رأيت بنفسي في مكتبك ما تقوم به من أعمال خيرية
نظر إليها بطرف عينه وهو يقول بصرامة :- شعورك بالغيرة ليست مبرر أبدا لوقاحتك يا نانسي .. احذري
أغضبها تخمينه الصحيح لشعورها القاتل بالغيرة .. فمطت شفتيها قائلة بازدراء :- أنا اغار ؟ وممن ؟ لا يا دكتور محمود .. يمكنك أن تحظى بتالكم الذي تريده من المعجبات الحمقاوات والعشيقات الذائبات في هواك .. انا لا أهتم لو عاشرت نصف نساء المدينة .. النساء اللاتي يكتفين بانتظار إشارتك عن بعد استعدادا لتلبية رغباتك .. يتمنين أن ينظرن ولو من بعيد إلى منزلك المقدس المحرم عليهن .. ذلك المنزل الكئيب الغارق في الكراهية والحقد .. والذي أكره كل زاوية فيه .. يحسدنني على نيل شرف اختيارك لي كزوجة غير عارفات للحقيقة المرة وراء استاذ الجامعة المحترم
أطبق فمه بقوة كابتا ردا غاضبا على استفزازها .. اكتفى بأن قال من بين أسنانه :- إياك ان تتكلمي عن منزلي بتلك الطريقة يا نانسي.. فأنت لا تساوين قيمة أصغر حجر فيه .. وما كنت تستحقين أبدا ان أدخلك إليه كزوجة لي على الإطلاق
قالت بحدة :- أرجوك .. وكأنك حقا تعاملني كزوجة .. أنت تعاملني كما تعامل عشيقاتك الكثيرات المستميتات في حبك ناسيا شيئا واحدا .. وهو أنني لم أرغب يوما بأن أكون زوجتك .. وأنني أكره ذلك اليوم الذي اقترنت فيه بك .. وربما كنت أحسد تلك الفتيات اللاتي حرمن من معرفة أي انسان أناني وانتهازي انت .. الفتيات اللاتي كنت تكتفي بلقائهن العابر في شقتك تلك التي تأبى ذكرها .. شقة العزوبية التي ما زالت تقوم بمهامها رغم زواجك مني
بالكاد تمكن محمود من تفادي سيارة اعترضت طريقه قادمة من شارع جانبي .. تأكدت نانسي من إحكام حزام الامان حولها وثد تذكرت بان محمود يتجنب دائما الجدال اثناء القيادة .. وقد عرفت الآن السبب .. فغضبه الشديد في هذه اللحظة يكاد يدمر ما تبقى من سيطرة لديه على نفسه .. حتى على سيارته .. قال من بين أسنانه وهو ينظر أمامه :- ألا أعاملك كزوجة يا نانسي ؟ ربما كنت حقا مخطئا منذ البداية عندما جعلت منك زوجة لي دون غيرك من النساء.. كان من الأفضل ان أختار الطريق الأسهل واحصل على ما أريده منك مقابل مساعدتي لك .. وأخرجتك من حياتي إلى الأبد
طعنتها كلماته في الصميم .. وجعلتها تنظر إليه قائلة بوحشية :- أتمنى لو انك فعلت .. لما كنت اضطررت للعيش معك وتحمل نزواتك ..
كلماتها الوقحة كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير .. قال بغضب عاصف :- احذري مما تتمنينه يا نانسي
انحرف فجأة بالسيارة مغيرا الطريق .. فنظرت عبر النافذة قائلة بتوتر :- إلى أين تأخذني ؟
وجهه الوسيم كان مكسوا بناع محكم من القسوة وهو يقول بصرامة :- إلى اين تظنين ؟ .. إلى الشقة التي تبجحت أمامي بمعرفتك عنها .. المكان الذي آخذ إليه أمثالك .. ما دامت معاملتي لك كزوجة لا تعجبك .. فستعرفين حالا كيف تعامل العشيقة .. أنت ستكونين منذ الآن عشيقتي الخاصة .. جاريتي المسؤولة عن فعل أي شيء لإسعادي
صاحت بانفعال :- هذا لن يحدث أبدا
ثال :- لقد طفح الكيل .. لأشهر وأنا أحرص على مشاعرك وأحاسيسك وأحتمل ما يفوق طاقتي من عجرفتك وكبريائك .. وغرورك الزائد .. وقاحتك وقلة احترامك فاقا الحد .. وقد حان الوقت لتدفعي الثمن .. ولتعرفي بالضبط مكانتك الحقيقية
أوقف السيارة امام مبنى جميل الشكل مكون من ثلاثة ادوار في أحد الأحياء الراقية ... خرج من السيارة وسحبها كم ذراعها ليخرجها مرغمة من مكانها .. قاومته بيأس وهو يجرها عبر البوابة المعدنية المزخرفة وهي تقول بعنف :- اتركني يا محمود .. أنا لا أريد ان أذهب معك
ولكنه كان غاضبا بشكا لم تره عليه إلا مرة واحدة .. عندما أخذها بالقوة لأول مرة .. اتسعت عيناها ذعرا عندما أدركت نواياه .. فتحولت مقاومتها إلى محاولات عنيفة للإفلات منه .. قبضته القاسية لم تتركها .. وفرق القوة بينهما جعل صعوده بها الدرج إلى الطابق الثاني مهمة سهلة للغاية .. فتح باب الشقة بمفتاح خاص .. ودفعها إلى الداخل .. نظرت حولها مرتجفة دون ان ترى إلى المساحة الواسعة للشقة المرفهة .. كانت حديثة الأثاث بديكور عصري جميل .. التفكير بالنساء اللاتي قصدن هذه الشقة مرارا برفقته جعلت دماؤها تفور .. وعقلها يكاد يجن .. وقف امامها كالجدار المنيع مانعا إياها من الوصول إلى الباب .. بالبريق الغاضب في عينيه .. والتصميم في ملامح وجهه .. قال بصرامة :- اذهبي إلى غرفة النوم .. وحضري نفسك لإرضائي صرخت وهي تنكمش مذعورة :- أنت مجنون .. للابد ان تكون مجنونا .. أخرجني من هنا فانا أريد العودة إلى البيت
خلع معطفه وسترته وهو يقول بحزم :- أنت لن تتحركي من هنا حتى تمنحينني ما أريد يا نانسي .. ستذهبين إلى غرفة النوم .. وتخلعين ملابسك .. وتنتظرينني كأي عشيقة محترفة .. وإلا اقسم بأنك ستندمين أشد الندم على عصيانك لي
تجمعن دموع الخوف في عينيها وهي تنظر حولها بعجز .. ثم تنظر إلى جسده الضخم الذي فاحت منه العدائية والتصميم .. وركضت نحو الباب دون تفكير في محاولة منها للفرار
إلا انه امسك بها بسهولة .. وحكلها بين ذراعيه نحو غرفة نوم واسعة بسرير عريض مغطى بمفرش أنيق أزرق اللون .. أنزلها أرضا فأسرعت تنزوي في نهاية الغرفة وقد تدفقت دموعها وهي تصيح بهستيريا :- إياك أن تلمسني .. أنا لا أحب أن تلمسني
عيناه الجائعتان مشطتا جسدها المغطى بالملابس البسيطة .. قال لها بجفاف :- سألمسك يا نانسي .. وأنت ستحبين لمستي . تمتنين لها أيضا .. اخلعي ملابسك
في تلك اللحظة .. انهار جدار القوة الذي كانت نانسي حريصة دائما على إحاطة نفسها به في وجه الازمات .. ووجدت نفسها تنهار هذه المرة بكل ما تشعر به داخلها من وحدة وألم وضعف شديد .. تعالى نشيجها وهي تقول بانهيار :- أرجوك لا تفعل هذا بي .. ليس بهذه الطريقة .. ليس مجددا
لم تؤثر به دموعها مثقال ذرة .. قال بصرامة :- أنا لن أرغمك يا نانسي .. فليس هناك من يغتصب عشيقته .. انت ستاتين إلي .. وستفعلين ما أريد.. وبالشكل الذي أريد .. كما تفعل أي جارية لسيدها
سرعان ما كانت ازرار قميصه قد حلت تماما .. فخلعه عنه وهو يكرر بصرامة :- اخلعي ملابسك يا نانسي
تراجعت إلى الخلف وهي تنظر إليه مصدومة .. غير قادرة على التفوه بحرف أمام قسوته التي لم تعهدها .. بصدره العاري ووحشية نظراته .. كان يبدو لها مخيفا جدا .. أشبه بالوحش الكاسر الجاهز للانقضاض على فريسته .. عندما لم تصدر عنها اي حركة .. قطع المسافة بينهما وأمسك بتلابيب قميصها ومزقه بحركة حادة مبعدا إياه عن كتفيها .. وقبل أن تتمكن من الابتعاد عنه جذبها إليه .. والتفت أصابعه حول شعرها بقسوة وهو ينظر إلى عينيها الدامعتين بخوف ..وفمها المرتجف ..وهو بقول بصوت خافت :- ستكونين لي هذه المرة يا نانسي .. ستكونين لي حتى لو اهتزت جبالك رفضا
أحنى رأسه يلتهم شفتيها بوحشية بينما جرت يداه فوق جسدها المرتعش بقسوة .. ثم دفعها بخشونة نحو السرير مجردا إياها مما تبقى من ملابسها
في النهاية .. حصل محمود على ما أراده بالضبط .. حصل على خضوع نانسي الكامل .. تحت تأثير الصدمة .. وبفعل قسوته عليها التي جرحت كيانها بلا رحمة .. تمكن محمود من إطفاء شعلة القوة التي حافظت عليها لفترة طويلة داخلها .. كانت له ما أراد .. وفعلت كل ما أمرها به .. بجسد لا روح فيه .. وقد خلا لقائهما هذه المرة من الكلمات الرقيقة واللمسات الحانية التي أغدقها عليها في الماضي .. محمود الذي احبت وعشقت اختفى وحل حله وحش ضاري لم تعرفه من قبل .. كل ما اراده هو إشباع حاجاته بلا عاطفة او حب .. تركها في النهاية شبه محطمة عندما ابتعد عنها أخيرا .. رقدت نانسي كالخرساء وهي تنظر إليه يرتدي ملابسه بكل هدوء وهو يقول ببرود :- ارتدي ملابسك .. سأوصلك إلى البيت فلدي موعد مهم يجب أن الحق به
وكأن هذه الكلمات كل كانت تحتاجه بالضبط لتفوق على الواقع .. وتدرك تماما ما حدث للتو .. تصاعدت محتويات معدتها فجاة إلى حلقها فتحركت بلا تفكير نحو باب جانبي مؤدي إلى الحمام .. شعرت وكأنها نفرغ جسدها من روحها وهي تفرغ معدتها الفارغة أساسا في الحوض .. قبل ان تنهار على الأرض باكية وهي تتمنى ان تختفي في هذه اللحظة في أي جحر بعيد وتموت .. سمعت محمود يقول :- هل انت بخير ؟
نظرت إليه عبر دموعها .. ولاحظت وجوك وجهه الشاحب .. والقلق يعصف في عينيه وهو ينظر إليها من حيث يقف عند باب الحمام .. إذن .. فحبيبها محمود ما زال موجودا هناك .. في مكان ما تحت قناع القسوة الذي يرتديه في هذه اللحظة .. وقفت بصعوبة دون ان ترد عليه .. وغسلت وجهها الذابل بالماء البارد .. ثم التفتت لتجده قد اختفى .. عادت إلى الغرفة وارتدت ملابسها بآلية .. ثم ضمت قميصها الممزق إلى صدرها وهي تفكر بالطريقة التي ستخرج فيها بهذا المظهر .. انتفضت فجأة مجفلة عندما أحست بمعطف محمود يحط فوق كتفيها .. وسمعت صوته الجامد يقول :- ضعي هذا عليك
لولا حاجتها لما يوفره لها معطفه من سترة لرمته بعيدا عنها هربا من رائحة عطره التي غمرتها .. ساد الصمت بينهما طوال الطريق إلى البيت .. وبمجرد ترجلها من السيارة .. انطلق هو بها مبتعدا وكأنه لا يحتمل قضاء لحظة أخرى برفقتها .. دخلت المنزل بخطوات متثاقلة .. وحمدت الله على أن احدا لم يكن موجودا ليشهد معالم ذلها وانحطاطها .. وقد شعرت بأن محمود قد وسمها بمعاملته القاسية مدى الحياة
عندما دخلت إلى غرفتها أخيرا .. تركت المعطف يقع أرضا حول قدميها .. ودخلت فورا إلى الحمام .. تخلصت من ملابسها .. ووقفت تحت سيل المياه الساخنة تاركة إياها تلسع جسدها بلا رحمة .. وكأنها تمحي عنها آثار قسوته وحبه الجاف .. أخذا تبكي بلا انقطاع تحت المياه الحارة .. تبكي حبها الضائع .. وكرامتها الضائعة .. وكبريائها الذي انتهى على يدي محمود .. تبكي والديها الذين رحلا وتركاها وحدها بلا قريب أو معين .. تبكي وحدتها وحاجتها الشديدة إلى صدر حنون يحتويها
ارتدت قميص نومها وتكومت فوق السرير ترتجف من الحمى .. لا .. لم تكن حمى جسدية .. بل حمى نفسية أحست بأنها لن تنتهي .. دخلت إليها حنان بضع مرات بالطعام وقد اخافها وضعها المزري .. وامتناعها عن الأكل .. ورفضها للتحدث عما حدث وتركها حطاما وبقايا لما كانته
أطل الليل .. وازداد ارتعاش نانسي .. سيعود محمود بين لحظة وأخرى .. سيعود لترى نظرة الاحتقار في عينيه .. ستستمع إلى كلماته المهينة مجددا .. التفكير به يلمسها ويهينها بنفس الطريقة كادت تصيبها بالهستيريا .. وعندما احست أخيرا بوصوله في ساعة متاخرة من الليل .. ادارات ظهرها وتظاهرت بالنوم .. بينما كان قلبها يخفق بقوة كادت تفضحها .. سمعت تحركانه العنيفة .. حفيف ملابسه وهي تلقى أرضا بإهمال .. كانت اعصابه متحفزة تماما كأعصابها .. دخل إلى الحمام وغاب لفترة سمعت خلالها صوت المياه فتخيلت جسده الكامل الرجولة تحت المياه الغزيرة مما جعل الشوق اليائس يجتاحها .. كيف لها ان تحب رجلا وتشتاق إليه وتكرهه في الوقت ذاته ؟
حبست انفاسها عندما غادر الحمام .. ودس نفسه في السرير إلى جوارها .. لوقت طويل لم تجرؤ نانسي على النظر إليه حتى تأكدت من انتظام انفاسه .. استدارت ببطء .. ونظرت إلى وجهه النائم المواجه لها .. كان وجهه شاحبا ومرهقا .. وقد ظهرت الخطوط بين حاجبيه وحول فمه .. هل يتعذب كما تتعذب بسييه ؟
تأملت ملامحه الوسيمة .. ووجدت نفسها تتذكر الأيام السعيدة التي قضياها معا .. والحب الصادق الذي غمرها به ..
ما الذي حدث لينتهي الحلم ويبدأ الكابوس البشع الذي تعيشه .. تدفقت دموعها وهي تهمس بألم .. لو تعرف كم أحبك .. لو تعرف كم أكرهك .. لو تعرف فقط ما تسببه لي من ألم يا حبيب القلب
كتمت فمها بيدها كي لا يعلو نشيجها .. وأغمضت عينيها في محاولة منها لإيقاف سيل الدموع اللانهائي .. لم تعرف كم من الوقت استمرت في البكاء .. إلا انها عندما فتحت عينيها اخيرا .. شهقت بخشونة عندما رأت محمود ينظر إليها عبر الظلام وقد كسا الوجوم وجهه وبرقت عيناه الداكنتان وهكا تتفحصان كل دمعة تقطر منها .. منذ متى كان مستيقظا ينظر إلى بكائها المهين ؟
قبل أن تفكر .. هتفت بصوت مختنق :- أكرهك
اهتزت عيناه وكأن تصريحها قد ضربه بقوة بين ضلوعه .. ثم قال بصوت أجش :- أنا أيضا أكرهك
بانكسار وثقل .. استدارت نانسي بعيدا عنه كي لا يرى فورة دموعها الجديدة .. إلا انه أمسك بكتفها فجأة .. وسحبها إليه دون أن يترك لها الفرصة للاعتراض .. وخلال لحظة كانت محاصرة بين ذراعيه .. ووجهها مدفون في صدره الدافئ .. إحساسها بحنانه الذي طال شوقها إليه جعل حذرها يطير مع الهواء ..ووجدت نفسها تجهش بالبكاء بلا تحفظ هذه المرة
مرر يده عبر شعرها الناعم وهو يهمس في أذنها بصوت معذب :- انا آسف يا حبيبتي .. أعدك بحمايتك ورعايتك .. ثم اعود لأؤذيك مجددا
ازداد نحيبها قوة .. وكأن همساته تخرج كل الضغط الذي عانت منه خلال الأشهر الأخيرة .. انهالت قبلاته على رأسها وشعرها .. ثم أبعد وجهها ليقبل عينيها الدامعتين ووجنتيها المبتلتين .. رغم كل ما تشعر به من تعب نفسي .. كانت لمساته الحانية وقبلاته كل ما احتاجت إليه كي تستسلم لحبها وشوقها إليه
إنه حبيبها محمود يعود إلى الحياة مجددا .. يمنحها ما تحتاج إليه من حب وحنان .. فهل تستطيع الاعتراض ؟
عندما تناول شفتيها بين شفتيه .. وقبلها بعنف يائس .. تشبثت به وبادلته قبلاته بالضراوة نفسها .. وقد ألغت صوت العقل تماما من حساباتها .. فما يهما الآن هو حاجتها الماسة لان تشعر وبو كذبا بأن الرجل الذي تحب هو لها .. لها وحده

نسمات عطر 02-05-2017 11:25 PM


الفصل الخامس والعشرون


لا مزيد


كانت نانسي وحيدة عندما استيقظت صباحا ..هبت مجفلة فوق السرير .. ونظرت حولها بتوتر عبر الغرفة الفارغة .. ثم ضمت الملاءة إلى جسدها العاري وهي تستعيد بذل ذكرى ليلة الأمس .. لقد استسلمت له تماما .. منحته نفسها روحا وجسدا بكل ضعف وخضوع .. ما حدث بعد ظهر امس داخل شقته قد تكرر مجددا وهذه المرة برضاها التام .. وبدون أي ضغط منه .. صحيح ان الأمر كان مختلفا .. إذ غمرها محمود بمشاعره العاصفة والعنيفة وكأنه بفرغ كل يأسه وإحباطه اللذين استمرا طويلا .. لمساته المتلهفة كانت بعيدة تماما عن الحنان رغم كلمات الشوق الجارفة التي أمطرها بها
لقد فعلها مجددا .. أليس كذلك ؟ لقد أثبت لها من جديد الصورة التي يراها فيها .. ودون حتى أن تعترض هذه المرة
هل نجح محمود في ترويضها اخيرا؟ .. هل انتهت نانسي راشد التي عرفتها لعشرين عاما وبدأت أخرى بالكاد تبدو مثلها ؟
جرت نفسها من السرير جرا وقد استخرجت ما تبقى داخلها من قوة وكرامة .. ودخلت إلى الحمام بقرار ضعيف بالاستمرار في المقاومة .. أي شيء .. أفضل بالتأكيد من الحطام الذي بدأت ترى نفسها تتحول إليه
لا .. نانسي راشد لا تستسلم بسهولة .. أليس كذلك ؟
مشطت شعرها المبلل خلف رأسها .. وارتدت فستانا أزرق بسيط التصميم .. بالكاد تمكنت من وضع شيء من الزينة على وجهها بيديها المرتعشتين .. فمواجهة محمود ثانية تتطلب منها القوة والشجاعة .. خاصة بعد ما حدث بالأمس .. تمنت لو أن اليوم لم يكن عطلته الأسبوعية .. تمنت لو تنزل إلى الأسفل لتجد أنه قد ذهب إلى الشركة لسبب طارئ .. ولكنها ستواجهه عاجلا ام آجلا .. ولتكن المواجهة بين افراد العائلة حيث يمكنها التسلح بحرصها على مظهرها امامهم .. بدلا من محاصرته لها بين أربعة جدران فتفقد قوتها مجددا أمامه
نزلت الدرج ببطء وهي تنظر حولها بحذر .. لم تر أي شخص بعد وكأن أحدا لم يستيقظ رغم تأخر الوقت .. وجدت غرفة المكتب مفتوحة .. فسمعت صوت محمود يتحدث إلى شخص ما مما جعل قشعريرة قوية تسري في جسدها .. رغم رغبتها في الهرب بعيدا عن طريقه .. إلا انها لم تستطع مقاومة إلقاء نظرة سريعة نحوه دون ان يشعر .. وكأنها ترغب في النظر إليه وقراءة مشاعره قبل أن تواجهه
اقتربت بحذر وهي تدرك من كلامه بأنه ليس وحيدا .. ولم تعرف إلا متأخرة بان محدثه لم يكن إلا ريم .. تراجعت إلى الخلف وهي تكتم فمها بيدها كي لا تطلق صرخة ألم مدوية تهز أركان المنزل .. وبدون ان تفكر .. قفزت تعتلي الدرج نحو غرفتها مجددا .. حيث اخرجت حقيبة كبيرة من داخل الخزانة .. وبدأت تلقي فيها أغراضها كالمجنونة .. قبل أن يخذلها جسدها المرتعش .. وينهار أرضا في نوبة بكاء مريرة عجزت عن السيطرة عليها .. لقد راته بعينيها هذه المرة .. لم تكن إحدى أكاذيب ريم 00 أو إحدى شائعات الكلية .. لقد رأت ريم تجلس في حجره على مقعده الجلدي الكبير .. قبل أن يتبادلا تلك القبلة الساخنة غير مدركان لمراقبتها لهما
ما الذي تنتظره بعد أن رأت خيانته بأم العين ؟ ان يصارحها بها ؟ ما الذي تبقى لها في هذا المكان ويوقفها عن الرحيل ؟ حبها لمحمود ؟ فلتحل اللعنة على هذا الحب إن لم يكن يستحقه .. وإن كانت ستدفع ثمنه من كرامتها وكبرياءها
تمالكت نفسها .. ومسحت دموعها وقد اشتدت عزيمتها .. ونهضت تتابع بإصرار جمع حوائجها الضرورية في الحقيبة .. حتى انها لم تشعر بمحمود يدخل إلى الغرفة وينظر مذهولا إلى ما تفعله .. انتفض جسدها عندما دوى صوت انصفاق الباب العنيف .. ودوى صوت محمود يصرخ بحدة :- ما الذي تفعلينه ؟
نظرت إلى غضبه الشديد واستنكاره .. فلم تستطع إلا ان ترى ريم بين أحضانه تقبله بشغف .. فتماسكت وهي تقول بعنف :- كما ترى يا محمود .. أنا راحلة .. لن ابقى في هذا المكان دقيقة واحدة .. سأتركك وأطلب الطلاق لأنني لن أستطيع العيش معك اكثر
قطع المسافة بينهما ليمسك بذراعيها ويمنعها من إكمال ما تقوم به ..وهزها بقسوة صائحا بغضب :- انت لم تذهبي إلى أي مكان .. وأنا لن اطلقك أو أسمح لك بالرحيل .. انت ستبقين هنا ما دمت انا اقول هذا
حاولت التملص منه وهي تصيح :- بل ستطلقني يا محمود .. وأنا سأغادر هذا المكان وبلا رجعة هذه المرة
شدها إليه وهو يقول من بين أسنانه :- إلى أين ستذهبين ؟ فأنت لا تملكين مكانا تلجئين إليه سوى هذا المنزل .. أنا هو وسيلتك للعيش بكرامة يا نانسي أم انك نسيت
تذكيره لها بطريقة زواجهما جعلها تفقد أعصابها وتصيح بجنون :- كرامة ..رامة بقيت لي في العيش تحت سقف منزلك الكريه يا محمود ؟ ..أفضل الف مرة ان أجوب الشوارع متسولة اللقمة على ان أعيش معك لحظة أخرى .. لقد سئمت .. سئمت من كل شيء .. من عجرفتك وغرورك وخيانتك الصريحة لي .. من نظرتك الدونية التي لن تتوقف أبدا نحوي .. من عائلتك التي أكلها الغل والحقد.. عمتك التي كرهتني لظنها بانني سأحتل مكانها كسيدة للمنزل .. ريم المتربصة بك في الزوايا تنتظر دورها كأي ساقطة رخيصة كي تنال نصيبها منك .. عمك الغامض الذي لا يكف عن منحي ذلك الإحساس بانه يكيد لي .. لقد سئمت .. سئمت ولن احتمل هذا الوضع أكثر
لم تعرف بانها استغرقت في احتقاره وعائلته حتى هوت كفه على وجنتها تصفعها بقوة كادت ترميها أرضا لو لم يكن ممسكا بها .. اتسعت عيناها رعبا عندما كادت نيران الغضب الملتهبة في عينيه تحرقها .. راقبت كلماته القاسية وهي تنساب من فمه :- أنت لا تتعلمين يا نانسي .. مهما حدث تظلين تلك الفتاة المغرورة والمتكبرة السليطة اللسان التي تحتقر جميع الناس وتمعن في إذلالهم ناسية بأنها ابنة لص حقير مات في السجن .. وأنها لولا إحساني لسلكت طريق والدها نفسه بحثا عن الرفاهية ورغد العيش اللذين اعتادت عليهما .. إياك أن تهيني عائلتي مجددا يا نانسي لأن ظفر أصغرهم يساوي لدي كل ما تملكين
أحست نانسي بثقل كبير يطبق على أنفاسها .. وبطنين يدوي في أذنيها .. وغثيان قاومته حتى اللحظة الأخيرة وهي تضربه بقبضتيها على صدره بكل ما تبقى لديها من قوة وهي تهتف بانهيار :- إياك أن تتحدث عن أبي ..أنا أكرهك .. أكرهك
لم تسمع ما قاله محمود ردا على تصريحها .. فقد لفها الظلام خلال لحظة .. ووجدت نفسها تغرق بدون مقدمات في عالم اللاوعي


فتحت نانسي عينيها دفعة واحدة وهي تشهق مذعورة .. للحظة .. ظنت بأن كل ما حدث كان كابوس مريع .. تصريحات ريم الفظيعة .. إذلال محمود لها وقسوته عليها .. المشهد الغرامي الذي جمع بين ريم ومحمود .. خاصة عندما وجدت نفسها نائمة على سريرها ترتدي أحد قمصان نومها الدافئة .. بدون أي أثر حولها للحقيبة التي بدأت بتوضيبها .. إلا أن وخزة الألم في خدها أفاقتها على الواقع .. ما حدث لم يكن حلما .. كل لحظة مذلة عاشتها على يدي محمود كانت حقيقة .. الشعور بالألم القاتل عاد ينهشها مجددا وهي تتذكر كل ما حدث .. انتهاءا بصفعة محمود القوية .. كلامه المهين .. مهما فعلت .. فهي لن تضاهي قيمة عائلته لديه .. وريم ستبقى دائما بينهما مهما حاولت إبعادها
نهضت بسرعة .. وبدلت ملابسها بيدين مرتجفتين .. ارتدت أول ما وجدته أمامها .. سروالا من الجينز .. وكنزة زرقاء .. نزلت الدرج بحذر دون أن تصدر أي صوت .. سمعت صوت محمود فتجمدت مكانها .. ارتجفت أوصالها وتزايدت سرعة أنفاسها وهي تسمعه يتحدث من غرفة الجلوس بشيء من الانفعال .. تجاوزت الباب بسرعة نحو باب المنزل .. وخرجت لتجد حنان برفقة مأمون .. يتبادلان الحديث أمام السيارة .. التفت الاثنان نحوها متفاجئين من وجودها .. قالت حنان بقلق رغم اللون الوردي الذي كسا وجنتيها :- ما الذي تفعلينه هنا يا نانسي ؟ لقد قال الطبيب ....
أسرعت نانسي تقاطعها بحدة :- ما الذي تفعلينه أنت هنا ؟ تثرثرين مع السائق وكأن لا عمل لديك تأخذين عليه أجرا
فتحت حنان فمها مذهولة من الهجوم المفاجئ . . في حين التفتت نانسي نحو مأمون قائلة :- أنت .. جهز السيارة
قال بارتباك :- آه .. نعم .. سأبلغ الدكتور محمود ثم ...
قاطعته صارخة بجنون :- هل تجرؤ على معارضتي ؟ أقسم بأنني إن لم تتحرك في هذه اللحظة وتنفذ ما أقول سأصرخ كالمجنونة متهمة إياك بالتحرش بي
نقل نظرات الذهول بين نانسي وحنان التي أومأت له بعينيها مؤكدة بان مخدومتها لا تمزح ... فأسرع يجلس خلف المقود مستسلما وهو يدعو الله ألا يخسر وظيفته .. بينما جلست هي في المقعد الخلفي وهي تتذكر المرة السابقة التي غادرت فيها البيت على إثر صفعة محمود .. هل كان عليها أن تعرف منذ ذلك اليوم الاتجاه الذي ستسير عليه علاقتهما ؟ هل كان عليها ان تغادر البيت بلا رجعة منذ عرفت الشكل الذي يراها فيه محمود .. والسهولة التي فضل فيها ريم وعائلته عليها ؟
كانت ترتجف وهي تخفي وجهها بيدها .. دون ان تدرك كم كانت تبدو شاحبة وضعيفة لمأمون الذي أخذ ينظر إليها عبر المرآة بقلق دون أن يجرؤ على قول كلمة .. طلبت منه التوقف فور دخوله المدينة .. وترجلت من السيارة غير مبالية بصراخه ومحاولته اللحاق بها ليعرف وجهتها .. أو وقت عودتها .. استقلت اول سيارة أجرة وانطلقت بها بعيدا عن الرجل الذي حاول العودة إلى سيارته ليتقفى أثرها بعد فوات الأوان .. إذ كانت نانسي قد اختفت تماما من أمام عينيه .. فلم يجد امامه غير الاتصال عبر هاتفه بمحمود ليبلغه بالأخبار السيئة
وقفت نانسي شاردة الذهن على أحد الأرصفة تراقب السيارات الرائحة والغادية .. والناس تسير من حولها دون ان تشعر بهم . حتى سمعت صوتا مألوفا يقول :- نانسي !
التفتت نحو ماهر الذي نظر إليها بقلق وهو يقول :- لقد أتيت بأسرع ما استطعت .. ما الأمر ؟
رؤيتها لماهر الحبيب .. بالعقدة الدائمة بين حاجبيه ..في عينيه .. جعلت ألمها يتجدد مرة أخرى .. ارتجفت شفتها السفلى .. وتدفقت الدموع من عينيها .. ووجدت نفسها تندفع نحوه رامية نفسها بين ذراعيه وهي تبكي بمرارة أجفلته وأثارت ذعر وهو يمسك بها ويقول :- نانسي ما الذي حدث ؟
لاحقا .. وداخل أحد المقاهي المتواضعة .. طلب لها ماهر شرابا دافئا عل ارتجاف جسدها يتوقف .. ثم نظر إليها منتظرا بصمت أن تفضي ما لديها .. بينما أمسكت هي بالكوب الساخن يديها تنظر إلى السائل الذي تصاعد منه البخار وكأنها تبحث عن طريقة تبدأ بها حديثها .. فلم تجد إلا أن تدخل مباشرة في صلب الموضوع :- لقد تركت منزل محمود يا ماهر.. ولن اعود إليه مجددا
صمت ماهر لدقيقة كاملة لم تجرؤ خلالها على النظر إليه .. حتى قال بهدوء :- أهو من سبب لك هذه الكدمة ؟
امتدت يدها تلقائيا نحو موضع الصفعة وقد احمر وجهها إذلالا للذكرى .. عادت الدموع تتجمع في عينيها فمنعتها بعزيمة من الانهيار .. وتمتمت :- وهل يشكل هذا فارقا ؟ حياتي مع محمود قد انتهت .. أي تفاهم بيننا مستحيل تماما .. وأنا أفضل أن أموت أولا قبل أن أعود إلى ذلك المنزل
قال بلطف :- ألا تستطيعين إخباري بأي شيء ؟ سيريحك هذا قليلا .. وأنت تعلمين بأنني مستمع جيد .. كما أنني لن أستطيع مساعدتك إن لم أفهم الموضوع
هزت رأسها وهي تغمغم :- مشاكلي مع محمود أكبر من أن تشرح بالكلمات .. كما أنني لا أبحث عمن يفهم مشاكلي ويحاول حلها لي .. ما أريده هو ان أنسى محمود تماما وكانه لم يدخل إلى حياتي يوما
تأمل وجهها الشاحب بإمعان .. وقارن نانسي الجالسة أمامه بتلك التي عرفها لسنوات .. نانسي الجميلة الفخورة والقوية .. الفتاة الجالسة أمامه لم تكن إلا نسخة باهتة عنها .. ما الذي فعله محمود فاضل ليدمر نانسي راشد وقد فشلك كل ظروفها في تحقيق هذا ؟
تمتم :- ما الذي تنوين فعله الآن ؟
وضعت الكوب من يدها قائلة بتوتر :- لا أعرف .. لم أفكر بالأمر عندما خرجت من هناك .. كان همي الأكبر هو الرحيل قبل أن يتمكن محمود من منعي .. كل ما أردته هو ترك ذلك المنزل حتى وأنا اعرف بانني لا أمتلك مكانا يأويني .. حاجتي إليه هي ما أبقاني معه كل هذا الوقت .. حتى انه ...
احتبست الكلمات في حلقها إذ لم تستطع أن تواصل الكذب .. فما أبقاها لم يكن حاجتها إليه .. بل حبها له .. حبها الذي لم يستحقه أبدا
كتمت فمها بيدا كي لا يخرج النشيج منه .. بينما انهمرت الدموع بلا توقف مما جعل ماهر الذي لم ير نانسي باكية حتى عندما توفي والدها .. يرتبك ويعجز عن قول أي شيء لمواساتها .. تركها تفرغ مافي داخلها للحظات قبل أن يقول :-
هيا بنا يا نانسي .. لنذهب من هنا
مسحت دموعها وهي تهمس :- إلى أين ؟
:- أنت لست مضطرة لإخباري بمشاكلك مع الدكتور محمود يا نانسي .. ولكن إياك أن تفترضي عدم وجود من تلجئين إليه في الأزمات .. أنا معك دائما .. وبيتي مفتوح لك في اي وقت تريدين ... أنت ستأتين معي .. وتمكثين مع والدتي وشقيقتي حتى ترتبي أمورك كلها
نظرت إليه بارتباك إذ كان اللجوء إلى أي أحد لطلب المساعدة أمر جديد عليها .. ولكنه لم يترك لها مجالا للتفكير والتردد .. وقف راميا حفنة من الأوراق المالية على الطاولة .. وقال لها بحزم :- هيا يا نانسي .. أنت متعبة وبحاجة لنيل قسك من الراحة
لم تجادله أكثر .. فقد كانت بحاجة شديدة لإيجاد صدر حنون يحتويها ويحميها حتى من الرجل الذي تحبه بجنون . وقد وجدت هذا الصدر لدى ماهر كالعادة ..
مجددا يثبت لها ماهر بأنه الشخص الوحيد الجدير بصداقتها واحترامها .. شعرت بالراحة والاطمئنان وهي تقف .. وتسمح له بالتربيت على كتفها برفق أثناء خروجهما من المقهى في اتجاه سيارته الحمراء الصغيرة .. في اتجاه المجهول


نسمات عطر 02-05-2017 11:37 PM

الفصل السادس والعشرون


أين أنت ؟


مضى أسبوع تقريبا منذ مغادرة نانسي منزل محمود بلا رجعة .. ثمانية أيام مرت على اختباءها في شقة ماهر الصغيرة .. بين أمه الطيبة وشقيقتيه اللطيفتين
كانت مفاجأة السيدة رجاء كبيرة عندما عاد ماهر ذلك المساء إلى البيت برفقة نانسي .. استغرابها لم يطل كثيرا .. فهي تعرف مسبقا بانها إحدى اقرب أصدقاء ماهر .. أما عندما عرفت ظروفها ولاحظت دموعها الجافة وشحوبها .. سرعان ما أخذتها بين ذراعيها واحتوتها تحت جناحها وكأنها أحد أولادها .. وعلى الفور بدأت حملة تغذية مكثفة على الفتاة الشديدة النحول .. اهتمامها الشديد جعل نانسي تبكي أكثر من مرة وقد نسيت كيف تكون الحياة مع حنان أم كالسيدة رجاء .. شقيقتي ماهر .. لبنة وهي في التاسعة عشرة .. ولمياء وهي في الخامسة عشرة .. استقبلتاها في البداية بتحفظ وفضول .. سرعان ما اختفيا مع طبيعتهما المندفعة والصادقة .. احتلت نانسي سرير لمياء التي انضمت إلى لبنة في سريرها الضيق بلا تذمر .. ثم صارحتها الأختان لاحقا بانهما لطالما تشوقتا للقاءها بسبب حديث ماهر الدائم عنها .. حتى انهما ظنا لفترة طويلة بأن ما يربطه بها يزيد عن الصداقة مما فاجأهما عندما سمعتا بنبأ زواجها
لأول مرة منذ أشهر طويلة تحس نانسي بانها وسط عائلتها .. وسط أشخاص يحبونها ويحترمونها بغض النظر عن تاريخ وخزي والدها .. حتى أن أحدهم لم يسألها عن سبب شجارها مع محمود .. وهي لم تتحدث عنه لأنها لم ترغب في الإساءة إليه رغم كل ما فعله بها .. ولأن حديثها عنه لن يسبب لها سوى الألم والاذلال
السيدة رجاء سألتها أكثر من مرة إن كان هناك أي طريقة لتسوية الأمر مع زوجها .. فهي كسيدة تقليدية الطراز تؤمن بأن مكان المرأة يجب أن يكون مع زوجها .. ولكنها احترمت رغبة صديقة ابنها المقربة
لم يتوقف محمود عن الاتصال بها لحظة واحدة منذ تركها المنزل .. مرة بعد مرة طوال الليل والنهار .. دون أن تتعب نفسها بالرد عليه ولو لمرة .. منعت ماهر من البوح بمكانها لأي أحد خشية وصول محمود إليها .. لأنه إن فعل فهو قادر بسلطته عليها ان يعيدها مجددا مستغلا ضعفها اتجاهه وحبها له .. وماهر رغم اعتراضه وإصراره على انها يجب أن تراه وتتفاهم معه.. أو تطلب الطلاق منه صراحة على الأقل .. إلا انه احترك قرارها ورفضها للذهاب إلى الجامعة .. وحرص على تزويدها بكل ما تحتاج إليه من كتب للدراسة بدلا من شغل عقلها بالتفكير الذي ظهرت آثاره عليها واضحة .. ورغم تقديرها لجهوده فإن نانسي بالكاد كانت قادرة على فهم حرف واحد مما كانت تقرأه .. بينما عقلها مشغول تماما بالرجل الذي تركته خلفها هاربة .. يقاطع تفكيرها بين لحظة وأخرى رنين هاتفها باتصال آخر منه يستجدي منها الرد بلا فائدة .. أو رسالة نصية منه تستفهم عن مكانها
كانت ما تزال صاحية في وقت متاخر من الليل عندما أصدر هاتفها أزيزا معلنا عن وصول رسالة جديدة .. على ضوء الأباجورة الوحيدة المضاءة في الغرفة الصغيرة على المنضدة الفاصلة بين سريرها والسرير الذي ضم كل من لمياء ولبنة
رفعت الهاتف وقرات الكلمات المختصرة ( أين أنت ؟ أخبريني فقط بأنك بخير )
أغمضت عينيها بقوة مانعة نفسها من البكاء وهي تعيد الهاتف إلى مكانه دون ان ترسل أي رد كالعادة .. فسمعت صوت لمياء يقول :- أهي رسالة جديدة منه ؟
نظرت نانسي إلى الفتاة التي اعتدلت جالسة وقد ظهر عليها القلق فاومأت برأسها قائلة :- آسفة لأنني أيقظتك
:- لم أكن نائمة منذ البداية .. ألن تردي عليه هذا المرة أيضا ؟
نظرت نانسي إلى الهاتف وهي تتساءل .. ماذا ستقول له ؟ أي اتصال به كفيل بان يسبب لها الانهيار .. وقد بذلت جهدا كبيرا لتتماسك مجددا وتحاول استعادة قوتها .. تمتمت :- ليس هناك ما أقوله له
قالت لمياء بفضول :- هل تكرهينه إلى هذا الحد ؟
نظرت نانسي إلى الفتاة الصغيرة . كانت في مثل عمر لينا .. أصغر حجما ومختلفة بشعرها البني الداكن وعينيها الشبيهتين بعيني ماهر.. إلا أنها كانت أكثر نضوجا بكثير من عمرها .. وجدت نانسي نفسها تقول :- لا .. لا أكرهه على الإطلاق ... بل أحبه كما لن أحب أي انسان آخر في حياتي
قالت لمياء بحيرة وعدم فهم :- لماذا تركته إذن ما دمت تحبينه ؟
تنهدت نانسي وهي تتساءل عن الطريقة التي تستطيع فيها الإجابة عن هذا السؤال .. ثم تذكرت كلمات حنان التي ما زالت تدوي في أذنيها وكأنها قد سمعتها البارحة وقالت :- لأنني أحبه بجنون تركته .. لو أن حبي له لم يكن بهذه القوة .. لوجدت طريقة أبقى فيها معه
وكانت احتملت بطريقة ما مشاركة الأخريات لها به .. أهذا ما احسته حنان عندما تركت حب حياتها ورحلت دون اعتبار لآلام قلبها ؟
هزت لمياء رأسها دون فهم قائلة :- لن أطلب منك تفسيرا .. أظنها إحدى تعقيدات الكبار كما تقول لبنة .. مع انني أصر على أنك يجب أن تحاربي لأجل الفوز بالشخص الذي تحبين
قالت نانسي برقة :- هل تظنين هذا حقا ؟
:- ما أسهل السيطرة على الرجل باستعمال بعض الدهاء .. لقد قرأت هذا في مجلة ما وأطبقه دائما مع ماهر .. لهذا فهو لا يستطيع رفض أي طلب لي .. بعكس لبنة التي لا تتوقف عن الشجار معه
ضحكت نانسي وقد أدهشتها طريقة تفكير الفتاة الصغيرة فقالت :- أنت أكبر بكثير من عمرك
قالت لمياء بزهو :- هذا ما تقوله أمي .. كما أنها وماهر يظنان بأنني أتحدث دائما قبل أن أفكر .. هل تظنينهما محقين ؟
ارتفع رنين الهاتف مجددا فنظرت الفتاتان إليه وهو يتراقص مكانه وقد تصدر اسم محمود الشاشة الصغيرة المضاءة .. قالت لمياء بتعاطف :- أظنه قلق عليك
قلق .. كان بإمكان هذا ان يثير تعاطف نانسي عليه .. إلا أن ذكرى معاملته السيئة لها .. ورؤية ريم بين أحضانه جعلت قلبها يقسو مجددا .. خمد الهاتف أخيرا مما جعلها تعود لتتنفس مجددا .. كانت تعرف بانها مسالة وقت فقط قبل أنه يجدها محمود .. وبالفعل .. بعد يومين .. دخل ماهر عليها بعد أن طرق الباب أثناء انشغالها بشرح درس للمياء في الفرنسية .. التقطت توتره على الفور وسألته بقلق وهي تنتصب جالسة :- ما الأمر ؟
قال بجمود :- الدكتور محمود هنا
شحب وجهها وظهر الهلع في عينيها وهي تقول :- هنا ؟ كيف ؟ هل اخبرته بانني موجودة ؟
قال بتوتر :- لم أستطع الكذب عليه يا نانسي .. افهميني .. إنه حتى لم يسألني إن كنت موجودة أم لا عندما وجدته واقفا خلف الباب .. لقد طلب رؤيتك مباشرة وكأنه واثق من وجودك .. إنه ينتظر الآن في غرفة الضيوف مصرا على مقابلتك
الانفعال جعل نانسي ترتجف .. وكل ما دفعها للهرب منه يعود ليهاجم ذاكرتها .. لم تستطع تحمل رؤيته مجددا .. مواجهته والنظر إلى وجهه والتحدث إليه.. قالت بانفعال :- لا أسنطيع ان أراه .. أرجوك يا ماهر ... قل له أي شيء .. أي شيء
أسرعت لبنة تجلس إلى جوارها وتحيطها بذراعها محاولة تهدئتها ..ثم نظرت إلى ماهر قائلة بحزم :- لقد سمعت ما قالته .. نانسي لا تريد رؤيته
هز كتفيه دون ان بجد ما يقوله .. ثم غادر الغرفة بينما قالت لبنة برقة :- اهدئي يا عزيزتي .. لست مجبرة على لقاءه
قالت لمياء بقلق :- ماذا إن رفض الرحيل قبل لقاءها ؟
فكرت نانسي بأنه على الأرجح سيفعل هذا بالضبط .. وماهر مهما بلغت صلابته إلا ان محمود يظل في النهاية أستاذه وصاحب سلطة عليه .. تسللت خارجا ووقفت خلف باب غرفة الضيوف الموارب وأخذت تستمع إلى صوت محمود يقول بصرامة :- ماذا تعني بأنها لن تراني .. أخبرها بانني لم أذهب إلى أي مكان قبل التحدث إليها
قال ماهر بصلابة :- أنا آسف يا دكتور محمود .. نانسي امرأة حرة .. وإن رفضت رؤيتك فلا أحدج يستطيع إرغامها
سماعها صوت محمود بعد كل هذا الوقت جعل رجفة شوق تجتاحها بقوة .. لم تنسى للحظة عمق صوته الرجولي الجذاب وتأثيره عليها .. كادت ترى بعين الخيال الغضب الذي رسمته كلمات ماهر على وجهه وهو يقول بخشونة :- نانسي ليست حرة .. هي زوجتي وتنتمي إلي .. وإن لم أرها حالا وفي هذه اللحظة فستجد نفسك متورطا في تهمة اختطاف
قال ماهر بشجاعة فاجأتها :- نانسي هنا بكامل إرادتها.. وهي لن تبقى زوجتك لفترة طويلة .. سرعان ما ستحصل على الطلاق لتعود حرة مجددا
أسرعت نانسي التي قدرت بغريزتها كيف ستكون ردة فعل محمود على كلمات ماهر الاستفزازية تقتحم الغرفة لتجد محمود ممسكا بالفعل بتلابيب قميص ماهر وقد ظهر عليه الإجرام التام .. بينما ثبت أمامه ماهر بشجاعة مستعدا للعراك .. التفت الاثنان نحوها فور دخولها .. فارتخت قبضة محمود الممسكة بماهر عند رؤيته لها .. حبست أنفاسها وهي تحس بمشاعرها تفيض لرؤيته مجددا .. أهذا هو محمود حقا ؟ .. كان يبدو مختلفا وقد كسا الشحوب وجهه المرهق .. ونمت ذقنه مما أظهر تأثير قلقه الشديد عليها .. كان يبدو أكثر نحولا مما تذكر .. إلا أنه كان ما يزال محمود .. الرجل القوي الجذاب صاحب التأثير العنيف فيها حتى وهو يبدو في أسوأ حالاته كهذه اللحظة .. لا .. لن تضعف مجددا .. حتى وعيناه تلتهمانها بشوق ولهفة .. وكأنه لا يصدق وقوفها أمامه بدمها ولحمها قطعة واحدة بلا أي سوء .. رفعت ذقنها نحوه بصلابة وهي تقول بجفاف :- ها انا ذا امامك .. لست مضطرا لإيذاء ماهر كي تراني .. مع أنني أشك بوجود أي شيء يقوله احدنا للآخر
انسحب ماهر بهدوء تاركا الزوجين ليتحدثا معا مغلقا الباب وراءه دون ان يشعر به أحدهما .. تواجها طويلا .. كل منهما نظر إلى الآخر .. درست عيناه كل جزء من وجهها الشاحب الخالي من الزينة .. عينيها الواسعتين الحزينتين وشعرها الناعم المنسدل حول وجهها .. جسدها الذي غطاه سروال قديم من الجينز وقميص أبيض فضفاض استعارته من لبنة أظهر نحولها الشديد .. كانت تبدو أكثر ضعفا وهشاشة .. ولعينيه .. لم تبدو يوما أكثر جمالا .. قال بهدوء وكأن ثورة غضبه منذ دقائق لم تحدث قط :- كيف حالك يا نانسي ؟
تشنجت وهي تقول :- اعفني من تظاهرك بالاهتمام نحوي وأخبرني بما تريده مني يا محمود
برقت عيناه الداكنتان .. وأطلت منهما مشاعر عاصفة .. بينما توتر فمه وهو يقول :- أتلومينني على قلقي بعد غيابك واختفاؤك لعشرة أيام كاملة ؟.. ألديك فكرة عن شعوري وأنا ابحث عنك في كل مكان كالمجنون خلال الأيام السايقة .. لم أترك مكانا إلا وبحثت فيه .. مستشفى .. أو مخفر .. أو حتى مشرحة .. قلقا من إصابتك بمكروه .. توقفت عن الذهاب إلى الجامعة .. ولم تتركي أي خبر منذ مغادرتك البيت فجأة .. هل تتخيلين مدى قلقي وأنا أعرف بأنك لا تملكين مكانا تلجأين إليه .. وأنك قد تكونين في أي مكان .. وتعانين من أي شيء دون ان أكون قادرا على مساعدتك ؟ عشرة أيام لم أنم خلالها لحظة واحدة وأنا أنتظر أن تتصلي بي يوما أو ان تردي على رسائلي الكثيرة فقط كي أطمئن عليك .. حتى تذكرت ماهر فجأة .. كيف لم أدرك بانك قد تلجئين إليه وهو شديد القرب منك .. كيف لم أفكر بانك دونا عن جميع الناس ستختارين اللجوء إليه هو
صدقت نانسي قلقه الشديد عليها .. فهي اكثر من يعرف احساسه الشديد بالمسؤولية اتجاهها .. كما كانت معالم إرهاقه وقلقه واضحة تماما في هيئته البعيدة تماما عن مظهره المتماسك المعتاد .. بدا محمود لأول مرة فاقدا وقاره وقوته وهو يجد نفسه عاجزا أخيرا عن تحقيق ما يريد .. وفي هذه اللحظة .. كان غضبه عاصفا للجوئها إلى ماهر دون غيره .. وتعرف تماما بانه لن يخاطر بإظهار غضبه بينما هو في موقف ضعف يواجهه للمرة الأولى
قست نفسها ومنعتها من التعاطف معه .. وقالت بتحدي :- وهاقد وجدتني أخيرا .. وعرفت بانني بخير ولا أحتاج إليك أبدا .. فلم لا تقول ما لديك وتوفر الوقت على كلينا
توتر فمه بغضب حاول تمالكه وهو يقول :- تعرفين جيدا ما أريد قوله .. أريد أن تعودي معي إلى البيت .. بيتنا
تراجعت خطوة إلى الوراء وقد ارتسم الرفض التام على وجهها وهي تقول :- لا .. ذلك المكان لم يكن بيتي يوما .. وأنا لن اعود إليه أبدا .. بل انا لن أذهب إلى اي مكان معك
قال بصوت أجش :- أعرف بانك غاضبة .. وأنني قد أسات معاملتك مؤخرا .. أعذر كل رفض لك مني .. وأتفهم مشاعرك .. ولكن إياك أن تشيري ولو من بعيد إلى تركك لي
اليأس في صوته كاد يمزق قلبها .. وجعلها تكبت كل ذرة ضعف لديها وهي تقول متماسكة :- ما دمت تتفهم مشاعري وغضبي .. فستعرف بان لا حل لمشاكلنا إلا الفراق .. لا يمكن لزواجنا ان يستمر أكثر .. فأحدنا لا يسبب للآخر إلا التعاسة والألم .. انا لن أعود إليك يا محمود .. فانا ارغب في الطلاق
تجاوز المسافة الفاصلة بينهما وأمسك بذراعيها بقوة وهو يقول بخشونة :- أنا لن أطلقك يا نانسي .. أتفهمين ؟ وانت ستعودين معي إلى البيت والآن .. ولن أسمح لك بالغياب عن عيني مجددا
حاولت التملص منه بلا فائدة .. فرفعت رأسها نحوه تقول بعنف :- أظنك ستشير مجددا إلى شراءك لي .. وأنك لم تحصل على ما يكفي كتعويض عن كل ما قدمته لعائلتي
شحب وجهه وهو يقول بتوتر :- قد اكون أشرت إلى هذا عدة مرات في لحظات غضب عابرة .. ولكنني لم أشعر قط بانني قد اشتريتك .. أريدك أن تعودي معي لأنني أحتاجك .. وأريدك في حياتي .. الأيام السابقة التي قضيتها بدونك كانت كالجحيم .. لن أستطيع الصمود بعيدا عنك لحظة واحدة
اغرورقت عيناها بالدموع وهي تسمع الكلمات التي تتمنى كل امرأة سماعها من الرجل الذي تحب .. إلا أن ذكرى معاملته السيئة لها وخيانته لها منحتها القوة لتقول بألم :- إياك ان تكذب علي يا محمود .. أنا لم أكن بالنسبة إليك أكثر من شيء اشتريته .. أنت لم تحترمني أو تقدرني يوما .. حتى عندما كنت تعاملني بلطف .. كنت تؤمن في قرارة نفسك بانني امرأة رخيصة وتافهة دون ان تنسيها للحظة ماضي والدها القذر .. ما كنت أبدا لتعاملني بالطريقة نفسها لو انني كنت فتاة مختلفة .. لو انني ريم او نسرين.. او أي فتاة تمتلك خلفية محترمة ووالدا ذا سمعة عطرة .. لن استطيع البقاء معك وأنا احس بانك تحتقرني وتقدم الآخرين علي .. انا لن أكون سعيدة .. وأنت لن تكون سعيدا لانني لن أصبح أبدا كما تريد .. ليس هناك حل سوى ان نفترق .. وأن يحاول كل منا البحث عن سعادته في مكان آخر ومع شخص آخر
التهب الغضب في عينيه وهو يغرز أصابعه في ذراعيها قائلا بشراسة :- هذا ما تتمنينه أنت وصديقك الخانع ذاك .. أن يخلو لكما الطريق لتكونا معا من جديد .. لن تكوني له إلا على جثتي
فقدت اعصابها فجأة ودفعته عنها وهي تصيح بثورة :- أنا لن أكون له .. أو لك أو لأي رجل آخر .. لقد اكتفيت بسببك من كل جنس الرجال إلى الأبد .. لقد قتلت داخلي كل قدرة لي على العطاء او حتى الأخذ .. لقد ذبحتني يا محمود ... نجحت انت في ما فشلت كل المصاعب التي واجهتها في فعله .. لقد فقدت والدي .. تشردت وأهنت .. وحتى هوجمت .. إلا أنني كنت دائما قادرة على الوقوف صامدة على قدمي والاحتفاظ بكبريائي .. لقد ظننت حقا بانني قوية بما فيه الكفاية كي أصمد في وجه العواصف والرياح .. ظننت بانني لن انحني حتى تنحني الجبال .. إلا أنني لم أنحني فقط على يديك .. لقد انهرت تماما ولم يتبق مني إلا أشلاء من تلك الفتاة التي كنتها يوما .. ما الذي بقي لدي لأمنحه لك أو لأي رجل آخر من بعدك .. لقد خسرت كل شيء .. كل شيء
ابتعدت عنه وهي تجهش في البكاء مخفية وجهها بين يديها بينما تسربت الدموع الغزيرة من بين أصابعها لتذيب قلبه وهو يمد يده نحوها في محاولة يائسة لمواساتها .. إلا انها انتفضت فور أن لمسها وتراجعت عنه هاتفة بعنف :- لا تلمسني .. إياك ان تلمسني
قال بصوت أجش :- لم تخسري كل شيء يا نانسي .. ما زلت تملكين قلبي .. أنا أحبك .. ولن اتوقف لحظة واحدة عن حبك
استدارت نحوه صائحة بشراسة :- إياك أن تتكلم عن الحب يا محمود .. أنت لا تعرف ما هو الحب .. وان تعرف أبدا ما يعني ان يضحي الانسان لأجل من يحب وان يتقبله كما هو بعيوبه وزلاته لأنه يحبه
أغمض عينيه وهو يأخذ نفسا عميقا .. ثم قال بإصرار :- مهما رفضتني سأظل اكررها لك حتى تصدقيها وتؤمني بحقيقتها .. انا احبك يا نانسي .. احبك ومستعد لفعل أي شيء لتعويضك عن كل ما سببته لك من ألم .. اطلبي أي شيء .. أي شيء وسأنفذه لك فورا .. فقط امنحيني الفرصة .. فرصة واحدة لأثبت لك أهميتك لدي ومدى حبي لك
نظرت إليه من بين دموعها وقد شع بصيص من الامل داخلها .. أهذا ممكن ؟ هل هناك أمل ولو بسيط في ان تجد السعادة مع زوجها الذي تحب بلا أي عوائق أو شكوك ؟
لاحظ ترددها فأشرق الأمل داخله .. وعندما تكلمت أخيرا تمتمت :- لدي شرط واحد لأي تفاهم بيننا يا محمود .. شرط واحد قد يدفعني تنفيذك له إلى التفكير بكامل علاقتنا
أسرع يقول بلهفة :- اطلبي ما شئت
صمتت للحظات طويلة قبل أن تقول :- شرطي هو ان تخرج عائلة عمك من حياتنا تماما .. أن تغادر منزلك .. أو نغادره نحن .. علاقتك بهم يجب أن تقتصر على عملك مع عمك لا أكثر
ساد صمت طويل جمد خلالها محمود للحظات وقد صدمه طلبها .. ثم قال بتوتر :- أنت تطلبين مني التخلي عن عائلتي يا نانسي .. عمي لم يكن يوما مجرد عم .. كما لم تكن زوجته مجرد زوجة عم .. لا أستطيع إخراجهم من حياتي بهذه السهولة فقط لإرضاء إحدى نزواتك
أحست نانسي وكأن طعنة نجلاء اخترقت صدرها حتى بدأت تحس بالاختناق وصعوبة التنفس .. هاهو يفضل ريم عليها مجددا .. ها هو يرفض التخلي عنها رغم كل شيء .. هزت رأسها بألم غير قادرة على النظر إليه .. وتحركت نحو الباب دون أن ترى فأمسكها قبل أن تخرج وأدارها إليه قائلا بعنف :- انظري إلى يا نانسي .. انظري إلى وحاولي إنكار ما تشعرين به نحوي .. كل منا ينتمي إلى الآخر .. وقد جمعت بيننا ذكريات كثيرة تثبت هذا ..وإن كنت قد نسيت فانا قادر على تذكيرك
شدها إليه بقوة ومال نحوها محاولا تقبيلها .. فأبعدت وجهها عنه وهي تهتف بانهيار :- إياك أن تلمسني .. انا لا أستطيع حتى النظر إليك .. اتركني
تركها فجأة فابتعدت عنه وهي تكبت نشيجا قويا .. واستندت إلى الجدار وقد أحست بتراكم الضغوط عليها سيفقدها القدرة على الوقوف .. أطل ألم كبير من عينيه وهو يقول:- إياك أن تدعي كراهيتي يا نانسي .. إياك حتى أن تفكري بها .. لا تسمحي لمشاكل صغيرة وأوهام لا أساس لها ان تهدم ما جمع بيننا .. إن لم يكن من اجلنا .. فمن أجل طفلنا
رفعت نانسي رأسها إليه وحدقت به مذهولة ..لا يمكن أن يكون قد قال ما طنته قد قاله .. رمش بعينه ملاحظا صدمتها .. ثم نظر إلى بطنها الضامر المخفي بالملابس الفضفاضة مؤكدا :- نعم يا نانسي .. طفلنا .. عندما فقد الوعي ذلك النهار كان طبيب جدتي موجودا لحسن الحظ .. قام بفحصك وأفصح عن شكوكه بان شبب فقدانك الوعي قد يعود إلى حملك .. أنت قد تكونين في هذه اللحظة حاملا بطفلنا يا نانسي .. وأنت لن تسمحي لهذا الطفل بأن يولد ويعيش بعيدا عن احد والديه
كانت ما تزال تحدق به كالمجنونة وتلك الكلمة تدوي داخل رأسها بعنف .. طفل .. طفلها .. طفل محمود .. امتدت يدها تلقائيا نحو بطنها .. وحاولت دون تركيز حساب الأيام التي مرت على موعد دورتها الشهرية .. طفل .. طفل محمود .. ألهذا كانت خائرة القوى خلال الأيام السابقة .. تعاني من الغثيان والدوار .. ؟
لا .. لا يمكن .. مستحيل .. ترجمت رفضها على شكل همس :- مستحيل .. لا يمكن
عاد يمسك بها ليجبرها على النظر إليه .. وهو يقول بإصرار :- ليس مستحيلا يا نانسي .. أنت ستنجبين طفلنا .. لن أسمح أبدا بأن يولد ابني بعيدا عني .. انت ستعودين معي إلى البيت .. وأنا سأهتم بك وأرعاك .. فأنت تبدين ضعيفة ومتعبة .. وبحاجة ماسة إلى العناية .. وأعدك بانني لن أؤذيك مجددا
سطع ضوء قوي داخل رأسها في هذه اللحظة .. وظهرت الحقيقة المرة لتقتل كل امل لديها .. هذا ما اعاد إذن .. هذا ما جعله يائسا إلى هذا الحد لإعادتها إلى بيته .. فهس ستنجب له طفلا .. وريثا صغيرا يحقق آماله
وليس لأنه يهتم لأمرها كما حاول إقناعها .. لأنه لو كان حقا يكن لها أي نوع من المودة .. لو كان متمسكا بها بما يكفي لقدر الضغط الذي تعاني منه ولاستجاب لمطلبها الوحيد منه .. وهو ابتعاده عن ريم .. نظرت إلى وجهه الوسيم .. إلى الأمل و الاصرار في عينيه .. إلى ت وتر فمه .. وتذمرت .. تذكرت كل شيء .. فتراكم الألم ليخرج دفعة واحدة على هيئة صراخ جنوني :- ألن تؤذيني مجددا ؟ وكيف تؤذيني أكثر مما فعلت ؟ أنا اكرهك يا محمود .. أكرهك .. وأكره هذا الطفل الذي يجمعني بك .. وأتمنى الا انجبه أبدا
تحررت منه مستغلة صدمته لعنف كلماتها وبشاعتها .. واندعت خارجة من الغرفة .. وأقفلت باب غرفة النوم ورائها بينما وجد نفسه يلحق بها حتى وقف في الممر عاجزا .. مضطربا .. ليرى كلا من ماهر ووالدته يقفان على بعد أمتار عنه .. ينظران إليه بتعاطف وشفقة
انهارت نانسي في بكاء هستيري فوق السرير الصغير .. بينما حاولت كل من الفتاتين مواساتها بلا فائدة .. ثم دخل ناهر مع أمه مشيرا إلى شقيقتيه بالخروج .. فنفذتا أمره بلا تردد .. جلست السيدة رجاء إلى جوارها وضمتها إليها لتبكي على صدرها وهي تقول بحنان :- لقد رحل يا عزيزتي .. توقفي عن البكاء .. فهو لن ينفعك في ظروفك هذه
مسحت دموعها ونظرت إلى السيدة الطيبة التي قالت :- لم نتعمد الاستماع إلى كلامكما .. ولكنكما كنتما تصرخان .. وقد عرفنا بأمر الطفل
تمتمت نانسي :- إنها مجرد شكوك .. قد لا اكون حاملا حقا
:- ما أسهل أن نتأكد .. غدا صباحا سآخذك إلى طبيب مختص .. وسنعرف الحقيقة
جلس ماهر على السرير المجاور قائلا بقلق :- نانسي .. فكري جيدا بخطواتك القادمة .. الأمر لم يعد متعلقا بك وحدك .. هناك طفل متورط في القضية .. والدكتور محمود متمسك بك كما هو واضح .. وأنا لم أره يوما على هذه الحالة
هزت نانسي رأسها قائلة بألم :- لا مجال لعودتي إليه .. أعرف بانني أثقل عليكم ببقائي هنا .. ولكنني سأبدأ فورا بالبحث عن عمل والسعي خلف .....
قاطعتها السيدة رجاء مصدومة :- أي كلام هذا يا ابنتي .. هذا بيتك .. ولن أسمح لك بالتشكيك في ترحيبنا بك
قال ماهر بحزم :- لن نضغط عليك يا نانسي .. ولكننا معك خطوة بخطوة في كل ما تقررين فعله
مد يده إلى جيبه وأخرج ظرفا مغلقا وهو يقو ل:- لقد ترك لك الدكتور محمود هذا .. إنه مبلغ من المال لتأمين حاجاتك
قالت بصوت مختنق :- أنا لا أريد منه شيئا
قال ماهر :- هذا بالضبط ما قلته له .. بانك هنا لن تكوني بحاجة إلى أي شيء.. ولكنه دس الظرف في يدي غير مبال باعتراضي ورحل .. وأنت ما زلت زوجته يا نانسي .. وما هذا إلا جزء من حقك عليه
وضع الظرف على المنضدة المجاورة للسرير .. ثم غادر الغرفة برفقة والدته .. بينما تكومت نانسي على نفسها فوق السرير وهي تفكر بألم .. طفل .. هل حقا سأنجب طفلك يا محمود ؟ حتى بعد أن تركتك ورحلت عنك .. تترك لي تذكارا لن يسمح لي بنسيانك يوما ..وكأنني أستطيع يوما أن أنساك ..
ثم عادت إلى البكاء مجددا






نسمات عطر 02-05-2017 11:41 PM


الفصل السابع
والعشرون


في انتظارك


داعبت نسمة رقيقة بشرة نانسي فأغمضت عينيها وهي تأخذ نفسا عميقا مشبعا برائحة أوراق الربيع العطرة .. كان الطقس رائعا .. مائلا إلى البرودة .. إلا انه كان مناسبا للغاية لشخص بكآبة نانسي بحاجة إلى ما يرفه عنه قليلا .. فتحت عينيها لتتأمل الحديقة المحيطة بالكلية .. بينما هي تجلس فوق أحد المقاعد الحجرية .. بعد ان أخرجها غثيان مفاجئ من إحدى المحاضرات
لم يستطع شيء تحسين مزاجها منذ ذهبت إلى الطبيب برفقة أم ماهر وتأكدت من حملها .. عمر الجنين 10 أسابيع .. وهذا يعني بان الحمل قد تم في الليلة التي أخذها فيها محمود عنوة لأول مرة .. أكد الطبيب على اهمية الغذاء الصحي والمتكامل نسبة إلى نحولها الملحوظ .. ومنذ ذلك اليوم والكل يعاملها بحرص وكأنها مصنوعة من الزجاج .. السيدة رجاء تطعمها بإفراط . . لمياء ولبنة تمنعانها من بذل أي جهد .. ماهر يأتيها بما تحتاجه من محاضرات .. حتى بدات تحس بالاختناق وبالحاجة إلى الخروج والتخلص من إحساسها بالعجز .. وأصرت على مرافقة ماهر هذا الصباح إلى الجامعة . والآن .. في لحظة صفاء مع نفسها .. عرفت نانسي بأن السبب الرئيسي لإصرارها على الحضور هو أملها في رؤية محمود ولو من بعيد .. حتى مع علمها بأنه لا يكون موجودا في هذا اليوم من الاسبوع .. ولكنها بعد أيام على لقائها به .. بدأ الشوق يضنيها لرؤيته أو حتى سماع صوته وقد توقف عن الاتصال بها واكتفى بالاتصال بماهر يوميا للاطمئنان عليها رغم كراهيته لهذا .. توقفه عن محاولة التحدث إليها جعلت خيبة الأمل والحزن والكآبة تسيطر علبها .. هل صدق حقا بانها ترفض وجود هذا الطفل ؟
ربما في البداية .. معرفتها بحملها كانت صدمة كبيرة لها في حالتها النفسية السيئة .. إحساسها بانه قد سعى إليها وبحث عنها لأجل الطفل .. وليس لأجلها هي .. وأن الحب الكبير الذي ادعى انه يشعر به اتجاهها كان مجرد حيلة يستميلها بها ويخدعها بها .. كي تستسلم وتعود من جديد تحت رحمته
إلا انها بعد أن استمعت إلى خفقات قلب الجنين داخل عيادة الطبيب .. وتفكيرها كل ليلة بالكائن الذي بدأ يتشكل داخلها .. جعل إحساسا دافئا وعاصفا يجتاحها .. سوف تنجب طفلا .. طفلا صغيرا تحبه ويحبها بلا حدود .. طفل صغير يكون لها تماما .. طفل هو جزء من الرجل الذي حصل على حبها واحترامها وكراهيتها في وقت واحد .. فجأة .. لم تعد فكرة الحصول على ما يذكرها بمحمود سيئة
ورغم هذا .. فهي ما تزال قلقة ومتوترة بشان المستقبل .. حتى الآن لم تستطع أن تقرر تماما ما ترغب بفعله . لقد طلبت الطلاق من محمود .. وقد نصحها ماهر باللجوء إلى محامي مختص ليقوم بالإجراءات المناسبة إن رفض محمود منحها الطلاق من تلقاء نفسه .. وحتى الآن هي تتلكأ مؤجلة الأمر المحتوم وكأنها تنتظر .. تنتظر ماذا بالضبط ؟؟؟
تنهدت وهي تحيط نفسها بذراعيها وكأنها تحتضن نفسها وتمنحها الدعم في حالة الضعف التي تحس بها .. فكرت بيأس .. متى سينتهي الألم ؟
نانسي
التفتت إلى ماهر الذي اقترب برفقة ندى كما اعتاد دائما .. جلسا إلى جانبها بينما سألها ماهر :- كيف تشعرين الآن ؟
تمتمت :- أفضل بكثير بعد أن تنشقت بعض الهواء النقي
تأمل وجهها الشاحب وقال بإصرار :- تبدين متعبة .. ما كان عليك الحضور إلى الجامعة اليوم
نظرت نانسي إلى ندى التي تأرجحت نظراتها بين الفضول .. والانزعاج باهتمام ماهر الشديد بنانسي .. فقالت بضيق :- أنت محق .. أظنني سأعود إلى البيت
نهض فور وقوفها وقال :- سأوصلك
اعتذر من ندى التي رغم المودة التي تحملها لنانسي .. بدت غير سعيدة على الإطلاق بهذا الترتيب .. وفور ابتعاد نانسي وماهر سألته نانسي بحدة :- هل تعرف ندى بأنني أقيم في منزلك بشكل مؤقت ؟
قال بغضب :- أي سؤال هذا يا نانسي .. منذ متى أتجول هنا وهناك ناشرا أسرارك ؟
زفرت بقوة وهي تقول بتوتر :- أنا آسفة .. أعصابي مرهقة هذا اليوم .. وأشعر برغبة كبيرة في الشجار مع احدهم وكنت أنت كبش الفداء
نظر إليها متفحصا وهما يعبران معا بوابة الجامعة وهو يقول :- انا لا امانع في ان تفرغي غضبك بي .. ألن تخبريني بما يزعجك ؟ هل كنت تأملين برؤية الدكتور محمود ؟
نظرت إليه بحدة ساخطة من فراسته المعتادة .. وقالت بغيظ :- بالطبع لا .. ولماذا قد ارغب برؤيته ؟ لا تتعب نفسك بإيصالي .. عد غلى ندى .. سآخذ سيارة أجرة وأعود وحدي
أسرعت تقول عندما فتح فمه ليعترض :- إياك ان تحتج .. انا بحاجة إلى السير قليلا على أي حال .. لست في عجلة من أمري
تركها مستسلما لإصرارها وهو يقول :- لا ترهقي نفسك
تركته ملوحة بيدها وقطعت الشارع .. لتتوقف في منتصفه فجاة مذهولة وهي ترى سيارة زرقاء تتجه نحوها بسرعة جنونية بدت غير قادرة على تفاديها . جمدها الرعب .. فلم تشعر إلا بماهر يدفعها بقوة بعيدا عن طريق السيارة التي لم تخفف حتى من سرعتها وهي تبتعد عن الانظار .. سقطت نانسي على الأرض بعنف مع ماهر الذي قفز واقفا وهو يشتم هاتفا بغضب :- الحقير .. ليس لسيارته لوحة ..
لفتت انتباهه آهة انطلقت من فم نانسي فأسرع نحوها ليساعدها على الوقوف ..إلا أنها سرعان ما انثنت وهي تئن وقد شحب وجهها وألم حاد يمزق بطنها .. تغير لون ماهر عندما تذكر حملها وهتف بلوعة :- ما الذي حدث ؟ هل أذتك السقطة ؟
تمتمت مغمضة عينيها :- لا اعرف .. أحس بألم شديد
قال فورا وثد اتخذ قراره :- يجب ان يراك الطبيب حالا
دون ان تعترض هذه المرة .. ساعدها في الوصول إلى سيارته .. ونقلها إلى عيادة الطبيب الذي طمأنهما بعد ان قام بفحص نانسي بينما انتظر ماهر خارجا .. ثم اشتدت نبرته حزما وتحذيرا وهو يشدد على اهمية اعتنائها بنفسها والتزام الراحة خلال الأيام القادمة .. ووصف لها بعض الأدوية لتثبيت الجنين .. ثم خرجت نانسي محمرة الوجه برفقة ماهر بعد ان ألقى الطبيب بتعليمات خاصة ظنا منه بأن ماهر هو زوجها
في البيت .. بدا ماهر كالنمر الحبيس وهو يجوب غرفة الجلوس ويصيح غاضبا :- أنا متأكد مما رأيت .. ذلك السائق اتجه نحوك متعمدا بنية صدمك وقد ازال الأرقام من سيارته كي لا يتم التعرف عليه .. لا يمكننا السكوت عن هذا
تمتمت نانسي من حيث كانت ممددة على الأريكة بإلحاح من السيدة رجاء :- أنت تبالغ يا ماهر .. لماذا قد يرغب أي أحدهم بأذيتي ؟
إلا أنها كانت في الحقيقة تشعر بالقلق والخوف أكثر مما اظهرت .. وهي تتذكر مشهد السيارة الزرقاء القديمة الطراز تندفع نحوها بإصرار وكأنها حقا ترغب بأذيتها .. ولكن لماذا قد يرغب أي كان في إلحاق الأذى بها ؟ السؤال هو .. من قد يرغب في هذا ؟ هل هناك حقا من يكرهها إلى هذا الحد ؟
برزت صورة محمود فجأة امام عينيها فأزاحتها بعنف .. مهما كبرت المشاكل بينهما فإن محمود أبدا لن يسبب لها الأذى .. هل أنت متأكدة .؟
قطع ماهر أفكارها القلقة بهتافه :- أبالغ ! .. لقد كنت هناك يا نانسي .. ورأيت ما رأيته انا بالضبط شخص ما حاول إيذئك عمدا
قالت أم ماهر بقلق :- المهم انها بخير الآن .. لن تتعرض لأي أذى إن لازمت المنزل او حظيت بالمرافقة أينما ذهبت .. صحيح ؟
ارتفع في تلك اللحظة صوت لمياء وهي تقول مترددة :- أليس من حق زوج نانسي ان يعرف بما حدث ؟
اتجهت الانظار نحو الفتاة الصغيرة التي تلقت ركلة خفية من شقيقتها الكبرى لتصمت بينما قال ماهر :- لمياء محقة .. الدكتور محمود يجب أن يعرف
أسرعت نانسي تهتف مذعورة :- لا
نظر ماهر إليها وهو يقول بحزم :- فكري جيدا يا نانسي .. من حق الدكتور محمود أن يعرف بان شخصا ما قد حاول إيذاء زوجته .. الوضع لا يحتمل عنادك الطفولي هذا .. حياتك وحياة طفلك هما على المحك الآن
تناول هاتفها المحمول ودفعه نحوها قائلا بإصرار:- اتصلي به يا نانسي .. أنا لا أطلب منك التنازل والذهاب إليه .. فقط أخبريه بما حدث
تناولت الهاتف بيد مرتجفة .. وطلبت رقم هاتفه باضطراب شديد .. دوى الأزيز المألوف ليعبث بأعصابها .. ولم يطل الأمر حتى سمعت صوته الجهوري يقول بحدة :- نانسي
خفق قلبها بعنف لدى سماعها لصوته .. ووجدت نفسها عاجزة عن قول أي كلمة .. فعاد يكرر بصوت عصف به القلق :- نانسي .. اهذه انت ؟
غلبها الانفعال .. فدفعت الهاتف مذعورة نحو ماهر الذي نظر إليها بعتاب وهو يرفع الهاتف ويتحدث عوضا عنها :- دكتور محمود .. أنا ماهر .. لا .. نانسي بخير .. أنا من ألح عليها بالاتصال بك ولكنها عجزت في اللحظة الأخير عن إخبارك بما حدث
بكلمات مختصرة حكى ماهر ما حدث لمحمود .. فلاحظت تغير ملامحه واحمرار وجهه أمام كلمات محمود العاصفة التي انهالت عليه من الطرف الآخر .. وهو يجيب عن أسئلته .. تمتمت في النهاية :- بالتأكيد .. إنها هنا .. تفضل
لم تستطع نانسي التراجع وقد وجدت الهاتف بين يديها .. رفعته إلى أذنها وهي ترتجف كم الخوف هامسة :- ألو
أتاها صوت محمود القلق يقول :- نانسي .. هل أنت بخير ؟ هل أصابك مكروه ؟
اهتمامه الشديد جعل إحساسا دافئا بالحماية يجتاحها .. وجعل دموعا تتجمع في عينيها وهي تقول باضطراب :- أنا بخير
:- هل أنت متأكدة ؟ ما الذي قاله الطبيب ؟ هل الطفل بخير ؟
قالت بتوتر :- الطفل بخير يا محمود .. ليس عليك أن تقلق
ارتفعت حدة صوته وهو يقول بغضب :- أليس علي حقا أن أقلق يا نانسي ؟ أنا أعرف جيدا بأنك لم ترغبي أبدا بهذا الطفل .. وقد أخبرتني بنفسك عن رفضك له .. وأخمن بأنك ستكونين أكثر من مسرورة إن لم يقدر له أن يولد .. لقد ألحيت عليك مرارا بأن تعودي إلى بيتك كي أتمكن من العناية بكما معا إلا أنك بعنادك المعتاد رفضت وأصريت على تعريض نفسك للخطر .. ليكن بعلمك يا نانسي .. إن أصاب ابني أي مكروه بسبب أي إهمال أو تقصير منك .. فستدفعين الثمن غاليا
أحست نانسي بطعنة ألم قوية جعلتها نعجز عن التنفس للحظات .. محمود لم يكن قلقا عليها .. إنه مهتم فقط بسلامة طفله .. لقد صدق ظنها إذن .. محاولته السابقة لاستعادتها لم تكن إلا وسيلة لاستعادة الطفل الذي يأمل في إنجابه
الصدمة التي تعرضت لها منذ ساعات وحالة الضعف التي تمر بها .. الغضب والالم والمرارة .. كل هذا اجتمع داخلها ليدفع كل ما اختزنته داخلها من مشاعر عاصفة إلى الحافة .. تدفقت دموعها وهي تقف هاتفة بكل ما يعتمر داخلها من ثورة :- أهذا ما يهمك يا محمود ؟ لقد كدت فقد حياتي تحت عجلات سيارة مجهولة وكل ما تفكر به هو الطفل .. فلتعلم إذن بان مكروها لن يصيب ابني .. سأحميه بحياتي إن اضطررت .. وسأحرص على ألا يعرف أبا انانيا باردا وقاسيا وخاليا من المشاعر مثلك .. أب خائن لا يعرف معني الحب والإخلاص .. أب لن يتورع عن خيانة أمه تحت سقف بيتها بلا أي اعتبار للقيم والأخلاق .. أكرهك يا محمود .. أكرهك وأحتقرك ولا أصدق بانني قد أحببتك يوما .. أكرهك واتمنى لو انني لم اعرفك أبدا ....
خنقتها الدموع فسقط الهاتف من يدها وهي تخفي وجهها بيديها وتجهش في بكاء مر جعل السيدة رجاء ترتجف لوعة وقلقا وهي تضمها محاولة تهدئتها .. بينما التقط ماهر الهاتف .. وتحدث إلى محمود قائلا :- انا آسف يا دكتور محمود ... نانسي لن تستطيع التحدث إليك أكثر .. نعم .. حسنا . سأخبرها
أنهى المكالمة .. ونظر إلى نانسي التي عادت تجلس على الأريكة وأمه تطبطب عليها بحنان وهو يقول :- الدكتور محمود قادم إلى هنا .. سيكون موجودا خلال ربع ساعة
محمود سيكون هنا .. سيأتي إليها .. وسيثبت لها بأنها مخطئة في ظنها .. وأنه يحبها هي .. ويهتم لأمرها هي .. سيأتي لأنها في حاجة إليه .. في حاجة إلى وجوده إلى جانبها في هذه الظروف .. وإلى حمايته لها
اختفى فجأة غضبها منه .. ولم تعد ترغب إلى بحضنه يلفها ويمنحها الدفء والحنان .. سيبرر لها كل شيء .. ويفسر لها كل شيء .. وهي ستتفهم .. وتسامح .. فقط إن عاد إليها وأحبها من جديد
مرت ربع ساعة .. ثم نصف ساعة .. ثم ساعات أخرى دون أن يأت محمود .. ورغم هذا .. ظلت نانسي مصرة على أنه سيأتي .. وأن هناك ما أخره وعطله عن الحضور .. لقد قال بأنه سيأتي .. ومحمود لا يكذب
حقا .. ألم يكذب عليك مرارا مدعيا حبه لك ؟ ألم يعدك بحمايتك والعناية بك ثم أهانك وأذلك مرارا وتكرارا ؟
فوق سرير لمياء الصغير .. سهرت نانسي لساعات طوال دون أن تتوقف دموعها عن السيلان .. لقد منعت ماهر من الاتصال به .. وسؤاله عن سبب تأخره .. ورغم هذا .. ما زال جزء منها واثق بأنه سيأتي في النهاية
ومهما تأخر الوقت .. إن لم يكن من أجلها .. فلأجل طفلهما ..
ولكن محمود لم يأت .. وتجاوزت الساعة منتصف الليل .. وعم الهدوء الشقة الصغيرة وقد نام أصحابها .. ولم يعد هناك سوى نانسي المستيقظة .. تضع يدها على بطنها .. وتهمس لطفلها بألم شديد .. والدك سيأتي في النهاية .. لابد أن يأتي
إلا أن النعاس غلبها في النهاية .. ووجدت نانسي نفسها تنام وقد عرفت بأنها كانت مخطئة منذ البداية .. وأن محمود قد أخلف وعده كما أخله عدة مرات من قبل
لقد عرفت هذه المرة بأنها النهاية .. النهاية حقا

نسمات عطر 02-05-2017 11:48 PM



الفصل الثامن والعشرون




بين الحياة والموت



لم تفتح نانسي عينيها حتى تأكدت من خروج لبنة ولمياء كل إلى مدرستها أو معهدها .. انتظرت حتى أصبحت وحيدة في الغرفة ثم فتحت عينيها وانقلبت على ظهرها .. تحدق في السقف بجمود .. وهي تشعر بالخواء داخلها .. وكانها قد فقدت القدرة على الشعور بأي إحساس .. لم يأت محمود .. وهذا يعني انه بكل بساطة لم يعد يريدها .. وهي كالحمقاء انتظرته طوال الليل وقد نسيت كل ما فعله بها .. أين قوتها .. أين كرامتها ؟ لقد سمعت من قبل عن تأثير هرمونات الحمل على المرأة ولكنها لم تعرف بانها تسبب لها داء الحماقة والوهم
اختفت الأصوات خارج الغرفة فعرفت بان البيت قد خلا الآن إلا من السيدة رجاء .. فنهضت وهي تفكر بأنها يجب أن تتخذ قرارا حاسما حول حياتها المستقبلية .. لا يمكن أن تبقى عبئا على ماهر وعائلته لفترة طويلة مهما رحبوا بها وأحسوا بالمسؤولية اتجاهها
خرجت إلى المطبخ لتجد السيدة رجاء تبدأ بتنظيف المائدة من بقايا إفطار الاولاد .. وعندما راتها تهللت أساريرها وهي تقول :- صباح الخير يا عزيزتي .. أرجو أن تكوني قد نمت جيدا
ابتسمت نانسي مؤكدة على هذه الحقيقة التي تعرف كلتاهما زيفها .. فنانسي لم تخطئ قراءة الشفقة المرتسمة على وجه المرأة المسنة .. لابد أن لمياء ولبنة قد أخبرتاها بأن نانسي قد قضت الليل كله ساهرة في انتظار زوج لم يعد يريدها
عندما رأتها السيدة رجاء تشمر عن ساعديها بهدف تنظيف الأطباق .. أسرعت تمنعها قائلة :- لقد كان الطبيب واضحا .. يجب أن تتجنبي أي جهد قد يتسبب بأذية الطفل
قالت نانسي باحتجاج :- لم أعد أطيق الجلوس بلا عمل أكثر .. أشعر بأنني عالة وعديمة الفائدة .. لن أستطيع البقاء في بيت لا أشعر بأنني عضو فعال بين أفراده .. أرجوك يا خالتي .. أنا أعرض تنظيف الأطباق ليس أكثر
نظرت إليها السيدة رجاء بتردد قبل أن تقول :- حسنا .. لا بأس.. سأسمح لك بغسل الأطباق إن تناولت فطورا كاملا
أشرق وجه نانسي وهي تجلس أمام المائدة وتبدأ بالأكل مع أم ماهر التي شاركتها الطعام وهي تسامرها في محاولة مها لشغل عقلها عن التفكير بمحمود
سمعتا فجأة جرس الباب .. يسبق صليل مفاتيح ماهر الذي اعتاد أن ينبه الموجودين لوصوله قبل الدخول احتراما لخصوصية نانسي
تبادلت نانسي نظرات القلق مع السيدة رجاء .. فلم تمر ساعة على خروج ماهر إلى الجامعة .. نظرت الاثنتان إليه عندما أطل عبر باب المطبخ شاحب الوجه زائغ النظرات .. فوقفتا مذعورتين .. وامه تقول بقلق :- ما الأمر يا ماهر ؟ ما الذي اعادك بهذه السرعة ؟
نظر إلى نانسي الشاحبة .. التي عرفت مسبقا ما سيقوله ماهر .. قال بهدوء :- نانسي .. يجب ان تأتي معي حالا
سألته بتوتر :- إلى أين ؟
:- إلى الدكتور محمود
أسرعت أمه تقول بحدة :- هل جننت يا ماهر ؟ كيف تفكر بأخذها إليه وهو لم يتعب نفسه بالحضور أمس بينما انتظرته المسكينة طوال الليل
بالكاد سمعتها نانسي وهي تحس بقلبها يكاد يتوقف عن الخفقان عندما قال ماهر :- الدكتور محمود لم يحضر مساء الأمس لأنه لم يستطع الحضور .. لقد تعرض لحادث أثناء خروجه من مبنى الشركة .. وهو في المستشفى الآن .. بين الحياة والموت .. مجهول المصير
نظر إلى عيني نانسي التين تحجرت فيهما الدموع قائلا :- أعرف بأنك غاضبة منه يا نانسي .. ولكنه بحاجة إليك في هذه اللحظات .. لن تسامحي نفسك إن أصابه مكروه وانت بعيدة عنه
لن تعرف نانسي كيف بدلت ملابسها وخرجت برفقة ماهر شبه واعية لحديثه إليها في السيارة .. وشرحه لها ما حدث بالضبط .. بدلا من الذهاب إلى الجامعة .. اتجه ماهر إلى شركة محمود بنية لقاءه ومواجهته كي يعرف سبب تخلفه عن الحضور مخالفا كل تحذيرات نانسي .. ليجد المكان في فوضى عارمة .. والكل هناك يتحدث عن حادث إطلاق النار الذي تعرض له محمود فور تجاوزه بوابة الشركة .. لقد توقفت سيارة زرقاء لا لوحة لها وأطلق سائقها رصاصتين نحو محمود أصابتاه على الفور وأسقطتاه على الأرض مضرجا بدمائه قبل ان تبتعد هاربة .. لا احد يعرف شيئا عن حالته بعد نقله إلى المستشفى حيث أجريت له عمليات جراحية عدة استغرقت الليل بطوله .. وماهر لم ينتظر ليعرف ..بل أسرع عائدا ليخبر نانسي وجها لوجه ويأخذها إلى هناك لتكون إلى جواره
نظر إلى نانسي بطرف عينه قائلا :- هل سمعت ما قلته يا نانسي ؟ سيارة زرقاء بلا لوحة أرقام حاولت قتل الدكتور محمود .. هل يبدو لك هذا المشهد مألوفا ؟
كانت نانسي ترتجف وهي تفرك يديها باضطراب .. وعقلها يدور ويدور حول فكرة واحدة لا غير .. محمود يموت .. لقد كانت حياته على المحك طوال الليل بينما كانت هي تلومه على التأخر دون ان تعرف ما اصابه .. محمود يموت الآن وسيتركها وحدها .. سوف تخسره غلى الأبد .. لم يكن عقلها قادرا على التفكير بما يقوله ماهر .. كل ما كان يهمها هو أن تصل إلى هناك .. ان تكون معه في حالته الصعبة .. أن تقف إلى جانبه وتمسك يده مطالبة إياه بألا يموت .. لا يمكن ان يموت حارما ابنهما القادم من أبيه .. لن يجرؤ على هذا
ارتجف فمها واحترقت عيناها بالدموع الحبيسة .. ولكنها لم تسمح لها بالفرار .. لقد تذكرت فجأة الساعات التي قضتها امام غرفة العمليات في انتظار خبر عن والدتها .. هاهي تحس بانها معرضة للتيتم من جديد .. ستفقد الآن زوجها وحبيبها وعائلتها الوحيدة .. لا .. إن كان هناك من لحظة تتطلب منها التسلح بالقوة فإنها هذه .. لن تنفع محمود باستسلامها للبكاء والانهيار .. فهو يحتاج إليها قوية .. وصامدة .. كي تحثه على الكفاح لأجل الحياة .. وصلا إلى المستشفى أخيرا .. سارت نانسي خلف ماهر الذي تكفل هو بالسؤال عن محمود .. فعرف بانه قد خرج من غرفة العمليات قبل ساعات قليلة .. وأنه الآن في غرفة العناية الفائقة .. دون ان يعرف مصيره بعد
أمام جناح العناية الفائقة .. كان هناك جمع من الناس المنتظرة .. كان العم طلال هناك ممتقع الوجه .. واجم الملامح .. والسيدة منار تبكي بمرارة وهي تدعو لمحمود بالشفاء .. ريم كانت منطوية في الزاوية وقد بدت شاحبة بوجهها الخالي من الزينة .. وعينيها القلقتين .. بينما كان فراس يجوب الممر بلا هوادة منتظرا أي أخبار من الطبيب .. بالإضافة إلى بضعة موظفين من الشركة رافقوا سيارة الإسعاف إلى المستشفى
نظر الجميع إلى نانسي فور وصولها برفقة ماهر .. فاختفى الحزن من وجه ريم .. وتوحشت ملامحها وهي تقول بغضب :- ما الذي تفعلينه هنا ؟ لا أحد على الإطلاق يرحب بك هنا
استعادت نانسي صلابتها على الفور وهي تقول بحزم :- أنا هنا لأكون مع زوجي يا ريم .. ولا أحد يستطيع منعي من هذا
قالت ريم بكراهية :- لقد تركته ورحلت بنفسك .. لم تعد لديك عليه حقوق .. بل وتأتين برفقة صاحبك غير عابئة بكلام الناس .. أهو من تركت محمود لأجله ؟
ارتفعت يد نانسي على الفور لتصفع ريم بقوة جعلت تلك تصرخ مذعورة فهبت أمها تصيح غاضبة :- أيتها الحقيرة
أسرع السيد طلال يبعد زوجته وابنته زاجرا بخفوت .. بينما قال فراس بنية التهدئة :- الوقت غير مناسب للشجار .. ما يهمنا جميعا هو مصير محمود
سألته بلهفة وهي تتشبث بذراعه :- كيف هو الآن ؟ أرجوك يا فراس ... أخبرني
قال متوترا :- الطبيب يقول بأن العملية قد تمت بخير .. لقد أخرجت الرصاصات بنجاح .. فقد اخترقا إحداهما كتفه على بعد سنتيمترات من قلبه لحسن الحظ .. والاخرى للأسف اخترقت رئته اليمنى .. لقد تم نقله منذ ساعة تقريبا إلى غرفة العناية الفائقة ولا يسمحون لأي أحد بزيارته
نظر حوله بتوتر قائلا بصوت منخفض :- لقد وصلت الشرطة قبل قليل .. وطرحت الأسئلة على الجميع .. من المتوقع أن يستجوبك أحدهم لاحقا .. لا أصدق بان أحدا قد يفكر بإيذاء محمود
ارتجفت نانسي وهي تفكر لأول مرة بهذه الحقيقة .. أحدهم حاول أذية محمود .. لماذا ؟ لماذا قد يرغب أي أحد بقتل محمود ؟
نظرت حولها إلى عائلته التي لفها القلق و التوتر .. إلى موظفيه اللذين ظهر عليهم الحزن العميق .. وتذكرت محمود .. الرجل القوي الصارم .. لماذا قد يرغب أي أحد بقتله ؟
خرج الطبيب فجأة .. فأحاط به الجميع لسماعه وهو يقول بارتياح :- لقد صحا أخيرا .. مؤشراته الحيوية ممتازة .. إنه ضعيف الآن فحسب .. ويحتاج إلى أكبر قدر من الراحة والعناية
أسرعت السيدة منار تقول بلهفة :- هل نستطيع رؤيته ؟
ظهر التردد على الطبيب وهو يقول :- أنا آسف .. لا يسمح إلا لشخص واحد برؤيته .. شخص يكون الأقرب إليه من عائلته .. ويكون بعيدا عن الشبهات أيضا .. إنها تعليمات الشرطة حتى يتم القبض على الفاعل
أسرع ناهر يتدخل بقوله :- السيدة نانسي زوجته أيها الطبيب .. كما انها تملك دليلا قاطعا على وجودها في مكان آخر وقت وقوع الحادث
اتجهت الأعين نحو نانسي بينما قال العم بامتعاض :- أنا عمه .. وبمثابة والده .. انا من رباه وأنا الأحق برؤيته
قالت ريم بحقد :- كما انها قد تركته طالبة الطلاق .. فعليا هي لم تعد زوجته
نقل الطبيب نظره بين العائلة المتحفزة .. والفتاة الشاحبة التي بدت على حافة الانهيار .. فاتخذ قراره على الفور :- السيدة زوجته على أي حال .. وهي الأقرب إليه في غياب والديه
كادت نانسي تعانق ا لطبيب امتنانا لرده .. إلا أنها في الوقت ذاته كانت ترتجف اضرابا لرؤية محمود الوشيكة .. ارتدت الملابس المعقمة .. وسارت خلف الممرضة إلى حيث يرقد محمود .. حبست أنفاسها وهي تنظر إلى الجسد الممدد أمامها
كان وجهه الذي اختفى نصفه تحت قناع الأكسجين .. شاحبا .. وقد أحاطت الهالات السوداء بعينيه المغمضتين .. بدا كظهره مؤلما بالأسلاك التي وصلت جسده بالأجهزة المتطورة .. وبالضمادات المحيطة بصدره .. اغرورقت عيناها بالدموع وهي تقترب منه .. وتجلس إلى جواره .. لكم يبدو بعيدا في هذه اللحظة عن الرجل الذي عرفته خلال الأشهر الماضية .. مدت يدها نحو يده الملقاة إلى جانبه .. وأمسكت بأصابعه الباردة .. وهي تهمس :- ستكون بخير .. يجب أن تكون بخير
أغمضت عينيها .. وسمحت للدموع الغزيرة بالتدفق من بين أجفانها .. وهي تدعو الله في قلبها أن يشفي لها محمود .. حتى لو انه لم يكن لها في النهاية .. المهم ان يكون سعيدا حتى لو كان برفقة امرأة اخرى
لأول مرة تدرك نانسي ماهية الحب الحقيقي .. الحب الحقيقي هو أن تترك الشخص الذي تحبه يعيش سعيدا .. ولو على حساب سعادتها .. وهي تحب محمود .. تحبه ولن تكون لغيره ابدا
فتحت عينيها عندما أحست بضغط مفاجئ على أصابعها .. ثم أجفلت عندما رأت عيني محمود مفتوحتان .. تنظران إليها بثبات .. خفق قلبها بقوة .. وارتجف جسدها كاملا .. وهي تحس بالمشاعر العاصفة تجتاحها
كان ينظر إليها بطريقة جعلتها تعجز عن قول أي شيء .. عيناه العسليتان النصف مغمضتين .. كانتا تنظران إليها بشيء من الانفعال وكأن وجودها إلى جانبه كان آخر ما توقع رؤيته
لم تعرف ماذا تقول .. هل تعتذر لوجودها المزعج إلى جواره .. أم تهنئه بالسلامة .. أم تجهش بالبكاء ؟
عيناه كانتا قد لاحظتا الدموع التي بللت وجنتيها .. فهمهم بشيء من أسفل قناع الأكسجين .. فأسرعت تقول بلهفة :- لا تقل شيئا .. سنتحدث لا حقا بكل شيء .. فور أن تتعافى بإذن الله وتقف على قدميك مجددا
لم تتوهم نانسي رؤية دموع تتلألأ في العينين الذكوريتين .. رؤيتها لضعف محمود الغير مألوف .. جعل قلبها يتمزق .. ودفعها لرفع يده نحو شفتيها لتطبع قبلة قوية على ظهرها .. ثم تضع راحتها على وجنتها مستمتعة بالاتصال الوحيد المتاح بينهما .. نبهها صوت الممرضة الخافت إلى أن دقائق الزيارة المتاحة لها قد انتهت .. وأنها تستطيع رؤيته بعد ساعتين وفقا لجداول الزيارات المفروض على القسم .. تشبثت أصابعه بيدها .. فطمأنته متماسكة :- لن أذهب إلى أي مكان .. سأعود لاحقا لرؤيتك .. أعدك
تركت يده .. وخرجت لتجد ماهر في انتظارها ... فلن تستطع كبح دموعها أكثر .. انهارت باكية كما لم تفعل يوما .. وكأنها قد استنفذت كل قدرة لديها على التماسك .. أمسكها ماهر .. وأجلسها على أحد المقاعد .. وهو يقول :- اهدئي يا نانسي .. ستؤذين نفسك والطفل بهذه الطريقة
ولكنها استمرت بالبكاء فأمسك ماهر بكتفيها وهزها برفق وهو ينظر إلى عينيها قائلا بحزم :- محمود بحاجة إليك يا نانسي .. يجب لأن تتسلحي بالقوة لتقفي إلى جانبه في محنته
كلماته كانت بالضبط ما احتاجت نانسي إلى سماعه كي تستعيد رشدها وتتماسك مجددا .. خاصة مع الأعين الحاقدة التي انصبت عليها كراهية لوجودها هنا
بعد ساعات .. غادر العم طلال متحججا بالأعمال المتراكمة والمسؤوليات الملقاة على عاتقه في غياب محمود .. ثم غادرت ريم برفقة أمها التي أصابها التعب بعد قضائها الساعات في انتظار أخبار عن محمود .. لم يبق هناك سوى ماهر وفراس اللذين ظلا إلى جانب نانسي طوال الوقت .. قال فراس وهو يجلس إلى جانبها :- أنا آسف لما فعلته كل من ريم ووالدتي يا نانسي .. إنهما قلقتان على محمود .. نحن هنا منذ البارحة وقد أرهقت أعصابنا جميعا من شدة القلق
تمتمت :- لست غاضبة منهما
كانت غاضبة .. ولكنها لم ترغب بإزعاج فراس الطيب القلب .. قال لها :- أنا سعيد لأنك هنا يا نانسي .. محمود بحاجة إليك .. وأنا لا أقول هذا بسبب الحادث .. فهو في حالة سيئة منذ تركته ورحلت .. محمود يحبك يا نانسي ولا يستطيع العيش بدونك
تقبلت كلامه صامتة ولم تعلق .. لم تستطع التفكير في هذه اللحظة بمشاكلها مع محمود .. كل ما كان يشغل عقلها هو شفاء محمود وعودته كالسابق .. قال لها ماهر بعد فترة :- نانسي .. أنت متعبة .. دعيني آخذك إلى البيت لترتاحي قليلا وسأعيدك لاحقا
قالت بحزم :- لن أتحرك من هنا حتى أطمئن على استقرار حالة محمود .. فلا تتعب نفسك بالإلحاح علي يا ماهر .. إن كنت متعبا فلتذهب .. لست مضطرا للبقاء
قال غاضبا :- هل تظنين بأنني عديم الرجولة لأتركك في ظرف كهذا يا نانسي .. لن أتركك وحدك حتى لو دفعتني دفعا من هنا
جاء لاحقا ضابط الشرطة لطرح أسئلة على نانسي فأجابت بمساعدة ماهر الذي حكى عن السيارة الزرقاء التي حاولت صدم نانسي أمام الكلية .. وعندما رحل قال ماهر :- أرجو أن يمسكوا بالمجرم الحقير في أسرع وقت .. من قد يرغب بإيذائك أنت ومحمود معا يا نانسي ؟
دخلت نانسي لرؤية محمود عدة مرات .. وفي كل مرة كانت تجده نائما .. فتجلس إلى جانبه تتأمل ملامحه الوسيمة الشاحبة بشوق ولهفة .. حتى تخرجها الممرضة بهدوء ولطف .. تم نقل محمود أخيرا بعد ذلك إلى غرفة خاصة بعد أن اكمئن الأطباء على استقرار حالته .. دخلت نانسي إلى الجناح المرفه المخصص له .. لتجده بين يدي الممرضات الحريصات على راحته .. والطبيب الذي انهمك بفحص مؤشرات محمود الحيوية وجروحه مطمئنا عليه قبل أن يغادر .. دخل معها كل من ماهر وفراس .. وأسرعا يهنئان محمود بالسلامة بينما رد هو عليهما شاكرا بهدوء .. وقد بدا رغم شحوبه وضعفه .. متماسكا وصلبا .. وكأنه يأبى التخلي عن هيبته رغم كل شيء .. نظر إلى نانسي التي وقفت بعيدا دون أن تتفوه بحرف .. وسألها بهدوء :- كيف حالك يا نانسي ؟
ارتجفت بلا سبب وهي تعجز عن الرد .. فاعتذر كل من ماهر وفراس .. وغادرا تاركين نانسي تواجه الموقف وحيدة
قال لها :- اقتربي
مشت بخطوات مرتبكة نحو السرير .. دون أن تجرؤ على النظر إليه .. ووقفت قريبا منه فقال :- ألن تنظري إلي ؟ أيبدو مظهري بشعا إلى هذا الحد بهذه الضمادات ؟
كلماته المداعبة .. كانت كافية لإشعال فتيل مشاعر نانسي المتحفزة للانفجار .. فتدفقت دموعها وهي تبكي بلا تحفظ .. رفعت يدها نحو فمها في محاولة منها لكبت شهقاتها التي تعالت بدون فائدة ... فاضطربت عيناه وهو يمد يده إليها .. فأسرعت تجلس على طرف السرير .. وتنحني نحوه داسة وجهها في تجويف عنقه .... تبكي وتبكي وهي تشم رائحته .. وتحس بدفئه غير مصدقة لأنه هنا .. إلى جانبها .. على قيد الحياة .. لم يكن قادرا على رفع يده نحوها .. وقد رغب بشدة في التخفيف عنها .. في لمسها .. والإحساس بها .. همس بانفعال :- انظري إلي .. أرجوك .. أريد أن أراك
رفعت رأسها .. ونظرت إلى وجهه الحبيب الذي لم يفصله عنها سوى مسافة قصيرة .. نظرت عيناه إلى وجهها تتأملان كل جزء من ملامحه الناعمة .. عينيها الباكيتين .. وفمها المرتجف .. قال بصوت أجش :- أريد أن أقبلك .. أرجوك
رجاءه مس فؤادها في الصميم ... فمالت بلا تردد تضع فمها على فمه بشوق تقبله بحرارة .. ثوان مرت .. دقائق .. لم تعرف .. وكل منهما غائب في شوقه إلى الآخر .. حتى اتكأت دون ان تدري على كتفه المصاب فتأوه مما جعلها تبتعد مذعورة وهي تهتف :- يا إلهي .. انا آسفة .. كم انا غبية
:- لا تعتذري .. إن كان علي ان اموت فأنا أفضل الموت بين يديك
أسرعت تضع يدها على فمه لتمنعه من الكلام قائلة بصوت أجش :- لا تقل هذه الكلمة مجددا .. انت لن تموت .. يجب ان تشفى وتخرج من هنا سليما معافى .. فابننا في حاجة إلى وجودك إلى جانبه
لم تعرف إلى أي حد أثارت كلمة ابننا الدفء في قلبه .. إلا انه نظر إلى وجهها قائلا برقة :- ابننا فقط
ارتبكت .. وقبل ان تجد ردا على استفساره .. ارتفعت طرقات على الباب .. دخلت بعدها كل من السيدة منار وريم التي تجاهلت تماما وجود نانسي .. وأسرعت تطبع قبلة ساخنة على خد محمود وهي تقول بلهفة :- حمدا لله على سلامتك يا محمود .. كيف تشعر الآن ؟ هل تتألم ؟
بينما قالت السيدة منار بصوت مفعم بالمشاعر :- لقد قلقنا عليك للغاية .. لم نتحرك من المستشفى حتى أكد لنا الطبيب بانك بخير .. وأن حياتك ما عادت في خطر
شكرهما محمود بهدوء .. بينما تراجعت نانسي إلى الخلف شاحبة الوجه .. وقد اعاد لها منظر تقبيل ريم له ذكرى ذلك المشهد الذي كان سببا في تركها البيت
قالت منار :- لا أصدق أن أحدا قد يرغب بقتلك .. ليس هناك من يكرهك أو يتمنى لك الأذى .. أتمنى ان يمسكوا بالفاعل في أسرع وقت لينال جزاءه ويتعفن في السجن
ثم نظرت إلى نانسي بطريقة ذات معنى جعلتها تصدم من التلميح الواضح .. هل تتهمها هذه المرأة بمحاولة قتل محمود ؟
ربتت ريم على وجنته وهي تقول بعاطفة جياشة :- لقد كدت اموت من القلق عليك .. الحمد لله أنك بخير الآن
تجاهل ريم وهو ينظر إلى نانسي التي تراجعت حتى وصلت إلى الباب وهو يقول :- نانسي .. إلى أين تذهبين ؟
نظرت إليه وهي ما تزال مذهولة من اتهام منار الضمني .. ومن الحميمية الصريحة التي غلفت معاملة ريم له .. وقالت باضطراب :- أنا .. يجب أن أذهب
كسا الوجوم وجهه وهو يقول :- لست مضطرة للرحيل
أسرعت منار تقول :- دعها تذهب يا محمود .. لقد قضت وقتا طويلا وهي تنتظر خبرا عنك .. لابد انها مرهقة .. لولا وجود صديقها الشاب الذي ساندها بحماس لانهارت من التعب
قالت ريم بلؤم :- هذا صحيح .. لقد نامت على كتفه عدة مرات في غرفة الانتظار .. المسكينة
أخفض محمود عينيه متحاشيا النظر إلى نانسي .. وقد خلا وجهه من أي تعبير .. وكأنه يدينها على وصف منار وريم لطريقة دعم ماهر لها .. ألا يستطيع أن يرى إلى أي حد كانت منهارة ؟ وأنها لولا دعم ماهر وسط رفض عائلته لما تمكنت من الصمود لحظة ؟
استعادت قوة صوتها وهي تقول :- أنت بخير الآن .. ولم تعد بحاجة إلي
تمتم بهدوء :- بالتأكيد
كبتت نانسي الألم العميق الذي أحست به .. لم يحاول محمود تصحيح كلامها .. لم يصر عليها لتبقى .. وكأن وجود عائلته حوله وريم بالأخص الملتصقة به في هذه اللحظات أكثر من كافي بالنسبة إليه
منعت دموعها بصعوبة من خيانتها .. وحافظت على هدوئها .. وما تبقى من كرامتها وهي تقول :- الوداع يا محمود .. وحمدا لله على سلامتك
استمر محمود في تحاشي النظر إليها .. فما كان منها إلا أن فتحت الباب وخرجت .. وأغلقته ورائها بهدوء شديد
إلى الأبد هذه المرة


نسمات عطر 02-10-2017 03:13 PM



أحاول ان أنزل الفصل الأخير لكنه يأبى ذلك

سأحاول حل المشكلة

نسمات عطر 02-19-2017 11:33 PM

الفصل التاسع والعشرون


والأخير





بداية .. أم نهاية ؟؟







خرجت نانسي من قاعة الامتحان متعطشة لاستنشاق الهواء العليل .. وجدت ماهر برفقة مجموعة من زملاءه يتناقشون حول أسئلة الامتحان ويتجادلون حتى لمحها فاعتذر من رفاقه واتجه نحوها .. قالت له على الفور :- لنذهب إلى الخارج
خرجا من مبنى الكلية .. وجلسا على أحد المقاعد فسألها ماهر :- كيف أبليت ؟
نظرت إليه بتأنيب قائلة :- ما كنت لأطرح هذا السؤال لو كنت مكانك
قال بتعاطف :- لن يلومك أحد يا نانسي .. الكل يعرف ظروفك الصعبة مع حالة الدكتور محمود الصحية
قالت ساخرة :- هذا صحيح .. لقد أتاح لي مراقبو القاعة عدة فرص كي أسترق ا لنظر إلى إجابات الشاب الجالس أمامي تعاطفا مع ظروفي دون أن يعلموا بأنني لم أره منذ أسابيع .. بل انا لم أتحدث إليه ولو مرة منذ تركت المستشفى بلا رجعة فور تأكدي من نجاته .. وإلا لكانوا رموني خارج الجامعة غضبا من برودي وجحودي
هز ماهر رأسه قائلا :- لا تقسي على نفسك يا نانسي .. لقد كنت تتصلين بطبيبه يوميا للاطمئنان على حاله .. كما كنت تتواصلين مع إحدى الممرضات لتعرفي أخباره أولا بأول
فكرت بمرارة بأن هذا صحيح .. و يا ليتها لم تفعل .. إذ كانت تسمع باستمرار عن زيارات ريم المتكررة له .. وعن الفتيات الجميلات اللاتي كن يعدنه بين الحين والآخر .. وهي ليست غبية كي لا تخمن بأن نسرين إحداهن
تمتمت :- ولكنه قد خرج قبل عشرة أيام من المستشفى .. ولم تعد أخباره تصلني كالسابق .. أرغب فقط بأن أطمئن عليه .. أن أتأكد بأنه بخير
كان الطلاب يروحون ويجيئون حولهما بلا توقف .. وماهر ينظر إليها بإمعان لفترة طويلة قبل أن يقول بهدوء :- ألم يحن الوقت لإنهاء هذه المهزلة يا نانسي ؟
نظرت إليه بارتباك فقال :- أنت تحبين الرجل بجنون بحق الله .. تحبينه ولا تتوقفين عن التفكير به .. إلى متى ستستمرين بقطع أنفك كناية بوجهك ؟
تمتمت بألم :- أنت لا تعرف شيئا يا ماهر
قال بحزم :- أنا لا أعرف شيئا عما فعله الدكتور محمود .. أو ما دفعك لتركه .. ولكنني أعرف شيئا واحدا .. وهو أنك إن كنت تحبينه بما يكفي .. فستذهبين إليه .. وتتحدثين إليه .. واجهيه وصارحيه .. واسمعي منه .. امنحيه الفرصة ليبرر نفسه لك .. على الأقل حتى توقني بأنك قد استنفذت جميع فرص الصلح بينكما
ظهر العجز في عينيها وهي تتخيل نفسها ذاهبة إليه .. تصارحه بجميع شكوكها وأوهامها .. بخيانته لها وتاريخه المظلم مع النساء .. تخيلته يؤكد لها هذا فارتجفت .. وتمتمت :- لا أستطيع الذهاب إليه هكذا وبكل بساطة
:- بل تستطيعين .. أنت زوجته .. ومن حقك الاطمئنان عليه .. قلقك على صحتك سيمنحك العذر المناسب
عندما لاحظ ترددها ..أمسك يديها .. ونظر إلى عييها قائلا :- أنا وعائلتي سنبقى دائما معك يا نانسي .. ولكنني لا أريدك أن تندمي يوما وتفكري بما كانت ستؤول إليه الأمور لو أنك منحت الرجل الذي تحبين فرصة أخرى
مشاعر ماهر الصادقة جعلت قوة من نوع مختلف تنبثق داخلها .. قوة نابعة عم امرأة عاشقة .. طال شوقها لرؤية من تحب .. لاحظ ماهر التغير فيها .. فابتسم قائلا0:-اذهبي إليه يا نانسي .. وتأكدي بأن مكانك سيظل محفوظا بين أفراد عائلتي لو قررت العودة
منحته ابتسامة امتنان وهي تقف بحسم .. وقد اتخذت قرارها
نزلت من سيارة الأجرة طالبة من السائق أن يعود بعد ساعتين .. نظرت إلى المنزل الكبير وقد عاودها الجبن من جديد .. محمود هناك .. خلف هذه الأسوار .. ولكنه ليس وحيدا .. فهو محاط بأفراد عائلته .. هل ستقوى على مواجهة رفضهم وكراهيتهم لها ؟ .. هل ستحتمل رؤية ريم تحوم حول محمود ملقية عليه ظلال الماضي المخزي بينهما ؟
استجمعت شجاعتها وسارت نحو البوابة ليستقبلها الحارس بحماس مرحبا بها .. وهو يفتح لها الباب على الفور .. استقبلتها نجوى عند باب المنزل بذهول سرعان ما انقلب إلى سرور وهي تضمها بقوة وترحب بها .. وقد أسرعت باقي الخادمات ليرحبن بها بنفس الحفاوة .. قالت نجوى بتأثر :- لقد اشتقنا لك يا عزيزتي .. لا فكرة لديك عن كآبة هذا المنزل بدونك .. جميعنا كنا في انتظار عودتك إلينا
شكرتها نانسي وهي تنظر حولها بتوتر منتظرة أن ترى أحد سكان المنزل قائلة :- كيف حال محمود ؟ أظنه في غرفته .. أليس كذلك ؟
كانت قلقة من رؤية أحد أقارب محمود فيمنعها من الدخول والوصول إليه .. إلا انها لم تتوقع إجابة نجوى التي قادتها إلى غرفة الجلوس قائلة :- الدكتور محمود يثير جنوننا جميعا .. بالكاد التزم الفراش منذ خروجه من المستشفى .. وقد خرج منذ الصباح غير عابئ بتعليمات الطبيب واحتجاجنا جميعا
جلست نانسي كما جلست نجوى قريبة منها وهي تقول بقلق :- كيف استطاع الخروج في حالته تلك ؟ كيف سمحت له العمة منار بإهمال نفسه وصحته هكذا ؟
:- السيدة منار ليست موجودة .. لا أحد في البيت سوى السيدة الكبيرة
عبست نانسي قائلة :- لا احد في المنزل !.. أين هم جميعا .. لا أصدق تركهم لمحمود في هذه الحالة والخروج
:- لقد غادروا المنزل منذ ايام في سفر مفاجئ .. لا أحد يقول شيئا في هذه البيت .. والدكتور محمود صامت على الدوام .. بل هو نادر ما يبقى في البيت
أهذا يعني انها لن تراه هذه المرة ؟ جزء منها شعر بالراحة لان المواجهة قد تأجلت قليلا .. وجزء منها شعر بالحزن لانها لن تراه .. وان الفرصة قد لا تتاح لها مجددا للقدوم إلى هنا
نظرت حولها متمتمة ::- لا أرى حنان .. أين هي ؟
تبادلت نجوى نظرات الخبث مع الخادمات وقالت :- لا احد يرى حنان هذه الأيام .. فهي بالكاد تقوم بعملها مستغلة مكانتها لديك ولدى السيد محمود .. إنها تقضي معظم الوقت برفقة مأمون .. كلما كان موجودا .. وهي في الغالب تتحدث إليه في هذه اللحظة في الحديقة الخلفية
اتسعت عينا نانسي بذهول .. حنان ومأمون !! .. ثم ضحكت وهي تهز رأسها .. يجب ألا يدهشها هذا ... فحنان لن تجد رجلا طيبا ومرحا ومناسبا لها كمأمون
ثم عبست وقد تذكرت شيئا :- مأمون هنا .. هل هذا يعني بان محمود قد قاد سيارته بنفسه ؟
هزت نجوى رأسها قائلة بيأس :- لقد أخبرتك بانه يثير جنوننا
لم يكن امامها الكثير من الوقت قبل عودة سيارة الأجرة .. قررت زيارة الجدة وقد اشتاقت لرؤيتها والاطمئنان عليها .. وقد اخبرتها نجوى بأن الجدة لا تعرف شيئا عن حادث محمود .. لقد اخبروها بانه قد اضطر للسفر فجأة .. فلم تشك بشيء خاصة عندما ذهب إليها محمود فور وصوله من المستشفى مطمئنا إياها قدر المستطاع
طرقت الباب برفق .. ثم فتحته عندما سمعت صوت الجدة .. أدارت المرأة المسنة رأسها قائلة :- أهو انت يا محمود ؟
تمتمت نانسي :- إنها انا يا جدتي
تهللت أسارير الجدة وهي تقول لها بسرور :- حمدا لله على سلامتك يا عزيزتي .. لقد طال غيابك كثيرا ... لن اعاتبك على سفرك دون وداعي لأن محمود قد أخبرني باضطرارك للسفر فجأة إلى فرنسا لأجل شقيقتك
ارتبكت نانسي وهي تجلس إلى جانبها قائلة :- آه 00 أنا آسفة

لم تكن لديها فكرة عن تفسير محمود لجدته سبب رحيلها .. فقررت التزام الاجوبة المختصرة كي لا تخطئ بالكلام .. خاصة وقد لاحظت شحوب وجه الجدة وإرهاقها الواضح .. سألتها برقة :- كيف حالك يا جدتي ؟
تنهدت الجدة قائلة :- بخير .. إلا انني قلقة على محمود .. لا يبدو لي طبيعيا منذ عودته من السفر .. الحمدلله انك قد عدت اخيرا لأنني أظن تعبه عائد إلى غيابك عنه .. هكذا كان محمود دائما .. شديد الحرص والتعلق بما هو له .. وقد لاحظت أنت بالطبع علاقته الوثيقة بأقاربه
تمتمت نانسي :- بالطبع
بحثت الجدة بيدها عن يد نانسي فأسرعت تقدمها لها طائعة .. قالت الجدة برقة :- أعرف بانك تكرهين وجود أشخاص آخرين حولكما ولم يمض على زواجكما أشهر قليلة .. وأخمن بأن سبب سفرك الرئيسي عائد إلى رفضك لوجود ريم ومنار وباقي أفراد العائلة .. أي امرأة كانت لتفعل المثل
لم تعرف نانسي ما تقول أمام بصيرة المرأة الحادة .. من الواضح بان محاولات محمود لإخفاء الوقائع عنها ليست مجدية تماما .. حتى عندما أخفى عنها أمر الحادث الذي تعرض له .. لم ينجح في تجنيب جدته القلق بسبب غريزتها المتيقظة
أكملت الجدة دون أن تنتظر ردا :- لابد أنك قد تفهمت الأمر الآن بما أنك قد عدت .. محمود لا يستطيع إبعاد عائلته عنه بسبب خوفه من تكرار ما حدث مع والديه .. تعرفين طبعا بان الحادث الذي أدى إلى وفاتهما كان مدبرا
لا . لم تكن تعرف .. حبست نانسي انفاسها وهي تستمع إلى وقائع كانت مجهولة لها تماما عن حياة محمود
:- كان من المفترض به أن يرافقها ذلك المساء .. ولكنه فضل البقاء ليدرس فلم يمانع والداه .. توفيا بحادث سير مريع .. انحرفت السيارة عن الطريق لأسباب مجهولة واصطدمت بعمود إنارة ضخم .. توفيا على الفور .. ولم يسامح محمود نفسه أبدا على ماحدث
أسرعت نانسي تقول بحرارة :- ولكن الحادث لم يكن ذنبه هو
:- لم يكن ذنبه .. ولكنهما ماتا .. وبقي هو حيا .. وهذا كان ذنبا كافيا لابن الثامنة عشرة .. انتهت التحقيقات .. واتضح بان الحادث كان مدبرا .. وأن أحدهم قد عبث بسيارة والده ليفقد تحكمه بها ... ولم يعرف الفاعل أبدا رغم وجود الكثير من الاعداء لوالده مرجل اعمال معروف
لم تكن نانسي بقادرة على استيعاب كل هذه المآسي التي عانى منها محمود في حداثته .. احست بالشفقة والعطف اتجاه الفتى الشاب الذي وجد نفسه عاجزا عن الإمساك بقاتل والديه .. تمتمت :- لابد ان الأمر كان صعبا عليه
:- أ:ثر مما يمكنك أن تتخيلي .. عندما انتقل عمه للإقامة معه برفقة زوجته وأولاده .. كانت قد تشكلت لدى محمود نوع من عقدة الحماية اتجاه أحباءه .. وجودهم إلى جانبه وتحت انظاره كان يضمن له أ، يقوم بحمايتهم كما يجب من ان يتعرض احدهم لأي أذى .. لهذا تجدينه متمسكا بهم .. ولهذا يجب أن تفهمي إصراره على بقاءهم حوله .. ليس لأنه يفضلهم عليك .. بل لأنه محمود .. الذي لا يستطيع منع نفسه من حماية غيره والعناية بهم .. إنها جزء من طبيعته .. الإحساس بالمسؤولية اتجاه من يحب .. وعلى الأرجح .. غيابك عنه كل هذه الفترة أرهقه إلى حد كبير .. فهو لن يشعر بالاطمئنان والراحة إلا إذا كنت تحت انظاره
صدقت نانسي كلمات الجدة على الفور .. وتذكرت غضبه عندما أخبره ماهر بالحادث الذي كادت تتعرض له .. ولومه لها لأنها لم تسمح له بحمايتها بطريقته .. تخيلته يهرع خارجا من مكتبه متجها إليها وكله لهفة لاحتضانها .. والعناية بها لولا الحادث الذي تعرض له
أحست بغصة تقف في حلقها فابتلعتها مرغمة .. لن تزعج الجدة بعرض مبتذل للمشاعر الآن .. تحدثت إليها قليلا .. ثم استأذنت لتقول لها الجدة قبل أن تخرج :- لن ترحلي مجددا .. أليس كذلك يا نانسي ؟
لم ترغب نانسي بالكذب عليها .. ولكنها في النهاية تمتمت مرغمة :- لا .. لن أرحل
نزلت الدرج ببطء وهي تفكر بكل كلمة سمعتها من الجدة .. وبالوعد الذي قطعته لها دون أن تنوي تنفيذه .. فلفت نظرها صراخ حنان باسمها وهي تقطع الدرجات نحوها .. فلفت نظرها صراخ حنان باسمها وهي تصعد الدرج نحوها لتضمها بلهفة قائلة :- حمدا لله على سلامتك يا نانسي .. لقد نورك بك المنزل .. قولي بانك قد عدت لتبقي .. فقد اشتقنا لك جميعا
قالت نانسي بخبث :- نعم .. أصدق بأنك لم تنقطعي عن التفكير بي .. أيتها الكاذبة .. ما أن أدير ظهري حتى تعبثين من ورائي مع مأمون
احمر وجه حنان وهي تتمتم :- الثرثارة نجوى
ضحكت نانسي لخجل حنان المفاجئ .. وربتت على كتفها قائلة :- أنت تستحقين السعادة يا حنان .. مبارك لك
برقت عينا حنان وهي تقول :- هناك الكثير لأحكيه لك .. هل تصدقين بأنه قد طلب يدي من....
بترت كلامها عندما لاحظت بان نانسي لا تستمع إليها .. وأن أنظارها المتوترة قد تركزت عند نقطة في الأسفل .. فاستدارت لترى محمود يدخل باب المنزل .. ويعبر البهو راميا سترته عن كتفيه فوق أحد المقاعد بحركة عنيفة .. وقد ظهر الغضب المكتوم على ملامحه وهو يعتلي الدرج .. ليتسمر مكانه فور ملاحظته لنانسي .. تقف على بعد درجات عنه .. جامدة مثله .. وكأنها لم تتوقع رؤيته
اهتزت عيناه حتى الأعماق وهو يلتهمها بعينيه .. كانت ترتدي قميصا أصفر بياقة مثلثة .. وتنورة حريرية بنية اللون هفهفت حول ساقيها بنعومة .. شعرها الذهبي كان حرا حول وجهها وخلف ظهرها مانحا إياها هالة ملائكية .. لم يعكرها سوى التعبير الحذر الذي ارتسم على ملامحها .. وهي تنظر إليه بنفس التصفح
بدا لها أكثر نحولا بقميصه الأبيض .. وسرواله الأسود الأنيق .. كانت يده محمولة بحامل قماشي معلق بعنقه .. وجهه الوسيم كان شاحبا ومرهقا .. شعره الناعم كان أطول من المعتاد وقد تدلت خصلة متمردة على جبينه لتمنحه مظهرا بعيدا عن وقاره المعتاد ... ذقنه كانت نامية وكأنه لم يحلقها منذ يومين .. برغم كل هذا .. لم يبد لها يوما اكثر جاذبية .. أحست بشوقها إليه يخنقها .. وبرغبة عارمة في قطع المسافة الفاصلة بينهما .. وغمره بذراعيها .. والإحساس بقوته ودفئه من جديد .. والتخفيف عنه وقد بدا لها تعيسا للغاية وهو ينظر إليها دون أن يفارقه الذهول بعد لرؤيتها

كان عليها أن تتماسك .. وأن تخفي ضعفها الشديد .. فهو لم يظهر أي ممانعة لرحيلها في لقائهما الأخير .. ولن تظهر له لهفتها عليه مهما كان هذا صعبا عليها .. قالت بهدوء عندما لم يتكلم :- كيف حالك يا محمود ؟
راقبها وهي تنزل الدرج ببطء وهو يقول بجفاف :- ما الذي تفعلينه هنا يا نانسي ؟
توقفت وقد آلمها جفاءه .. إلا انه لم يمنعها من أن تقول :- جئت لأراك .. وأطمئن عليك .. أنت مازلت زوجي في النهاية .. ومن واجبي السؤال عنك
قال ساخرا :- بالتأكيد .. فممرضتك الغالية لم تعد قادرة على إمدادك بالأخبار عني بعد مغادرتي المستشفى .. أليس كذلك ؟ اهتمامك مثير للإعجاب .. وقد يخيل للمرء انك قلقة حقا علي .. ومهتمة لامري
قالت باحتجاج :- أنا اهتم لأمرك ..
قال بغلظة :- لو كنت تهتمين لما غبت طوال هذه الفترة دون أن تزعجي نفسك بزيارتي أو بالاتصال بي
قالت بغضب :- لم تظهر أي اعتراض عندما تركتك آخر مرة بين يدي أقاربك الاعزاء .. لقد أظهرت لي وبكل وضوح تفضيلك لهم علي .. فلم أفرض عليك وجودي وقد انتفت حاجتك إلي
نظر إليها للحظات طويلة .. وقد ظهر تعبير لم تفهمه في عينيها .. ولكنه أخافها .. قال بهدوء :- من الأفضل ان نذهب إلى غرفة المكتب ونتحدث على انفراد ..
لاحظت حنان الواقفة قريبا منهما وتستمع إليهما باهتمام وقلق .. وأعين الخدم التي تلصصت من وراء الأبواب فضولا لسماع شجارهما .. فقالت بتوتر :- ليس هناك ما نقوله يا محمود .. ستصل سيارة الاجرة خلال دقائق .. لقد جئت لأراك .. وأطمئن عليك .. وتبدو لي بخير تماما
فتح ذراعيه امامها قائلا بحدة :- حقا .. أيكفيك النظر إلي كي تشبعي فضولك يا نانسي ؟ الن تسأليني عن جراحي ؟ وإن كانت في طور الشفاء ام لا ؟ ألن تسأليني عما استجد في تحريات الشرطة حول الرجل الذي حاول قتلي أم ان اهتمامك بي لم يصل إلى هذا الحد ؟
احمر وجهها غيظا وحرجا .. ولوعة عندما ذكرها بالحادث .. أحست بانها مجبرة على الدفاع عن نفسها فقالت :- أرغب بان اعرف كل شيء بالتأكيد
:- هذا يعني انك سترافقينني إلى غرفة المكتب لنتحدث بهدوء حتى وصول سيارة الأجرة
تراجع مفسحا لها الطريق لتسير امامه إلى داخل الغرفة متحاشية الاقتراب منه خشية لأن تتأثر بجاذبيته ... فدخل خلفها وأغلق الباب خلفهما
نظرت حولها بامتعاض وقد تذكرت فور وقوع بصرها على المكتب الكبير .. والمقعد الجلدي الوثير ذلك المشهد الذي جاهدت طويلا لتنساه .. توترت كل عضلة في جسدها وهي تشيح ببصرها بعيدا وقد ظهر الألم واضحا على ملامحها .. سألها محمود :- هل انت بخير ؟ هل تتألمين ؟
أدركت بأنه ينظر إليها .. وأنه قد أساء فهم تشنجها فتمتمت :- أنا بخير
اقترب قائلا :- ما الذي قاله الطبيب صباح الأمس ؟
نظرت إليه بدهشة فقال :- أنا اتحدث مع ماهر بشكل يومي تقريبا لسؤاله عنك .. ظننته قد اخبرك بهذا
تمتمت :- لا .. لم يخبرني .. أظنه لم يرغب بأن يسبب لي الازعاج
توتر فمه .. وبدا وكأنه سيقول شيئا قبل أن يغير رأيه .. ويتجه نحو المكتب .. ويعبث بيده الحرة ببعض الأوراق قائلا بجفاف :- حسنا .. ما الذي قاله الطبيب ؟
:- الطفل بخير .. من المفترض أن تتم الولادة في بداية شهر أكتوبر
التفت فجأة ليحدق في بطنها قائلا :- هل أنت متأكدة بأن الطفل بخير ؟ ألم يطلب منك الطبيب الاهتمام بغذائك .. فأنت نحيلة للغاية .. ولا يبدو عليك الحمل على الإطلاق
وضعت يدها على بطنها غريزيا وهي تقول بانزعاج :- صحتي جيدة تماما .. والتحاليل التي أجريتها بناءا على اوامر الطبيب تثبت هذا .. إنما الملابس هي ما يخفي آثار الحمل عن العيون
رقت نظرته وهو ينظر إليها بطريقة جعلتها تدرك بانه يفكر حتما بما تخفيه ملابسها .. فاجتاحتها ذكريات علاقتهما الحميمة على الفور .. واحمر وجهها وهي تحيط نفسها بذراعيها وتتراجع إلى الخلف قائلة باضطراب :- أما انت فمن الواضح انك لا تهتم أبدا بنفسك .. آخر ما توقعته هو ان أحضر لأجدك قد غادرت البيت .. بل وتقود السيارة بنفسك مخاطرا بحياتك
قست عيناه وهو يقول بجفاف :- كان علي الذهاب إلى مكان ما .. بدون رفقة
هزت رأسها قائلة بتوتر :- هذا ليس عذرا .. ما كان على العمة منار أن تسمح لك بالخروج .. أين هم أقاربك على أي حال ؟ لا أصدق بأنهم قد تركوك وحدك في ظروف كهذه .. لقد توقعت ان أرى ريم تحوم حولك على الأقل لاعبة دور الممرضة المخلصة على اكمل وجه
قالت عبارتها الأخيرة بتهكم .. فلم يغضب محمود كما توقعت منه .. ولم يلمها هذه المرة على سخريته .. بل نظر إليها ببرود شديد قبل أن يقول بصوت أثار داخلها رجفة غريبة :- العمة منار وريم .. وباقي أفراد العائلة .. ما عادو يقيمون هنا بعد الآن
صمتت للحظات طويلة وقد فاجأها بكلامه .. ثم سألته بارتباك :- ماذا ؟ .. ولكن لماذا ؟
لاحظت بان وجهه رغم صرامة ملامحه قد شحب قليلا وهو يغير الموضوع قائلا :- ألا ترغبين بآخر نتائج تحريات الشرطة ؟
خفق قلبها وقد أحست بالخوف مما ستسمعه .. قالت بقلق :- هل امسكوا بالفاعل ؟
:- لقد فعلوا .. الفاعل كان مجرد مجرم صاحب سجل حافل بالجرائم المختلفة .. وقد سبق له أن قضى سنوات طويلة في السجن .. وقد تلقى مبلغا كبيرا من المال ليقوم بإطلاق النار علي ذلك المساء
كان يتحدث ببرود شديد .. كأن الامر لا يخصه هو .. ولكنها احست بخطورة الامر .. أسندت نفسها إلى ظهر الأريكة وهي تقول بصعوبة :- من هو الشخص الذي دفع له ليقتلك يا محمود ؟ .. من هو ؟
رفع رأسه إليها .. فأطلقت شهقة عنيفة وهي ترى العذاب والمرارة في العينين العسليتين وهو يقول :- خمني
هزت رأسها وقد عرفت .. عرفت بغريزتها التي نبهتها إلى الخطر قبل أشهر دون أن تدري
همست مذعورة :- لا .. لا يمكن
قال بمرارة وهو يرمي نفسه على احد المقاعد :- بل هو ممكن .. الشخص الذي أراد قتلي .. ودفع مبلغا كبيرا لذلك الرجل كي يقوم بالمهمة .. هو أقرب الناس إلي .. إنه الرجل الذي رباني .. واهتم بي لسنوات طويلة وكأنه والد لي .. إنه عمي يا نانسي .. عمي هو من أراد قتلي
لم تستطع تخيل صدمته وألمه الكبير في هذه اللحظات .. فتدفقت دموعها .. عاجزة عن قول أي شيء لمواساة الرجل الذي تحب منهارا .. أن يعرف بأن عمه يرغب بموته .. قد طعنه في الصميم .. دمره وحطم جزءا منه .. راقبته وهو يحاول تمالك نفسه .. فلم تستطع إلا أن تسأله بانفعال :- لماذا ؟ لماذا قد يرغل العم طلال بإيذائك ؟
قال بسخرية مريرة :- لنفس السبب الذي دفعه لقتل والدي قبل خمس عشرة سنة .. المال .. والمال وحده يا عزيزتي
كتمت صيحة الذعر التي كادت تفلت من فمها بيدها .. ووجدت نفسها تجلس على طرف الأريكة قبل أن تخذلها ساقاها .. بينما قال هو بألم شديد :- لقد أمسكوا بالمجرم منذ يومين .. واعترف هو بتحريض عمي له على قتلي كما فعل قبل سنوات عندما دفع له ليعطل سيارة شقيقه الأكبر ويتسبب بموته .. أمسكوا به صباح الأمس أثناء محاولته مغادرة البلاد .. فاعترف بكل شيء تحت ضغط استجواب الشرطة له .. كل شيء
أخذ نفسا عميقا وهو يقول :- لقد بدأ الامر قبل سنوات طويلة .. عندما توفي جدي تاركا ثروته لابنيه الوحيدين مناصفة .. بينما ضيع الأخ الأصغر امواله بسبب إسرافه وتهوره .. استطاع والدي أن يضخم ثروته بالعمل الشاق والمخلص .. فما كان امام عمي إلا ان يلجأ إلى شقيقه الذي جعل منه يدا يمنى له دون أن يدرك بأن طمع أخيه لن يتقبل لفترة طويلة أن يكون موظفا مأجورا لا يملك سوى راتبه .. ففكر بان حادثا يودي بحياة أخيه وعائلته .. هي أسهل طريقة للحصول على كل تلك الاموال والشركات الناجحة .. دون أن يحسب حسابا لنجاة الابن المراهق وبقائه شوكة في حلقه .. وحائلا يقف بينه وبين الثروة .. لم يجرؤ على إيذائي كي لا يلفت الأنظار إليه ويثير الشبهات حوله .. وفجأة .. تحول على الفور إلى العم الحنون المخلص .. وانتقل مع عائلته للإقامة معي كي لا أبقى وحيدا .. وأنا كالأحمق ظننت لسنوات طويلة بأن بقائهم إلى جانبي سيحميهم من كل أذى خاصة وأن قاتل والدي لم يعرف أبدا .. كانت خطته واضحة .. سيضع يده على ميراثي .. ويتصرف به كما يشاء بينما أنشغل انا بشغفي بالدراسة .. دون ان يعرف بانني ما كنت أبدا لأفرط بما تركه لي أبي .. لطالما اعدني لهذا اليوم .. أخذني معه دائما إلى العمل .. وعلمني مبادئه وتفاصيله .. فلم أستطع أن أتخلى عن رغبته في إدارة العمل الذي بناه بنفسه وبتعبه مهما كان حبي وثقتي بعمي كبيرة في ذلك الوقت .. لطالما أحببته واحترمته .. تجاهلت متعمدا اختلاساته المتكررة .. وتجاوزاته لانه في النهاية عمي .. حاول دفعي للزواج من ريم أكثر من مرة كي يضمن بقاء المال ضمن العائلة .. والله يعلم بأنني حاولت مرارا بان أفكر بريم كزوجة محتملة .. ولكنني لم أستطع .. لطالما كانت هي وفراس كأخوة لي ..
أغمضت عينيها محاولة منع نفسها من القفز في وجهه ومواجهته بعدم صحة أقواله .. فقد كان ألمها لأجله في هذه اللحظة أكبر بكثير من غضبها منه .. أرادت أن تذهب إليه وتخفف عنه .. ولكنها لم تجرؤ .. نظرت إليه فوجدته يحدق بالأرض وكأنه يستعيد أحداث السنوات السابقة وكانها تحصل امامه .. أكمل كمن يحدث نفسه :- زواجي منك كان القشة التي قصمت ظهر البعير .. لقد خسرني صهرا .. وأنا حظيت بزوجة وأكاد أبني عائلة .. كانت مسألة وقت قبل أن أطلب منه مغادرة منزلي .. وربما اكتشفت فيما بعد تجاوزاته في العمل وأعمال الغير قانونية التي مان يمررها دون ان اعلم .. وجد الزمن يكرر نفسه .. فقد سبق وكاد أبي يطرده من عمله بسبب تهوره .. وهو ما عرفته مؤخرا من أحد الموظفين القدامى الذين كانوا مقربين من أبي .. لم يعد أمامه خيار آخر .. كان عليه في النهاية أن يتخلص مني .. فاتصل بنفس الرجل الذي استأجره قبل سنوات لقتل أخيه .. وكلفه بقتل ابن أخيه هذه المرة
تهدج صوته في النهاية فلم تتمالك نفسها .. أسرعت نحوه .. وجثت إلى جانبه وهي تمسك يد قائلة بصوت أجش :- انا آسفة يا محمود .. آسفة لأنك تعاني من كل هذا .. أعرف بأنك كنت تحبه كوالدك .. أعرف معنى أن تصدم برجل كان يعني لك الكثير .. لقد كان إيقاف أبي واتهامه .. ثم موته في السجن صدمة كبيرة لي .. لإلا أنني على الأقل كنت متأكدة دائما بأنه ما كان ليؤذيني.. أو ليؤذي أحدا من أسرته
نظر إليها .. فالتقت عيناهما .. رأت توسلا وضعفا شديدا في نظراته .. فنهضت ببطء لتقف إلى جانبه .. وتضم رأسه إلى صدرها .. فأحاط خصرها بذراعه وشدها إليه .. ملتمسا العزاء والسلوى بين أحضانها التي طال شوقه إليها .. أحست به يأخذ نفسا عميقا وكانه يستنشق رائحتها فارتجفت .. وسرت في جسدها موجة شوق عاتية كادت تحني ركبتيها ضعفا .. ابتعدت عنه وهي تقول باضطراب :- ألهذا السبب تركت العمو منار البيت ؟
وقف وهو ينظر إليها قائلا :- فور إلقاء القبض على عمي ومواجهته بالاتهامات .. جمعت العمة أغراضها .. ورحلت مع اولادها إلى منزل شقيقها .. لا ذنب لها أو لهم بما فعله والدهم .. وأنا اعرف بانها قد احبتني دائما كابن لها .. ولكنها تعرف أيضا بانهم لن يتمكنوا من البقاء يعد معرفتهم بما فعله عمي بي .. وبوالدي .. وأنا ما كنت أستطيع احتمال وجودهم حولي لأتذكر صدمتي بوالدهم .. كان من الممكن ان أسامحه .. وأتنازل عن حقي لأجل عائلته وإكراما للقاربة بيننا وما فعله لأجلي لسنوات .. إلا أنني ما كنت أبدا لأسامحه على محاولته الحقيرة لإيذائك وإيذاء طفلي
نطق بالجملة الأخيرة بوحشية بينما ارتعدت قائلة :- أتعني بأن تلك السيارة ....
:- هذا صحيح .. لقد كانت السيارة نفسها .. لقد أرسله عمي ليصدمك أولا عند خروجك من الجامعة قبل أن يستقصدني .. فإن لم يقتلك .. فإنه سيجهض الطفل الذي كان ليشكل عائقا امام حصوله على ميراثه .. وهو ما كان ليسمح للزمن بأن يتكرر مرة أخرى .. لقد عرفت الآن لماذا تركتك تذهبين عندما غادرت المستشفى .. لقد عرفت بأنك في خطر .. وأن من حاول قتلي يرغب بإيذائك أيضا .. أردت إبعادك عني حتى الامساك بالقاتل على الأقل كي أحميك من الأذى
صمتت لفترة طويلة وهي تتذكر الألم الذي احست به ذلك اليوم عندما صرفها محمود .. لقد أحست بالغضب عندما اضطرت لتركه بين يدي ريم .. ريم التي خرجت من حياته اخيرا .. المدهش هو انها في هذه اللحظة كانت تحس بالتعاطف مع ريم وفراس .. وهي تتذكر خزيها الشديد لما فعله والدها .. أحست بالشفقة اتجاه السيدة منار وولديها .. فقد عرفوا الآن ما الذي يعنيه ان يشار إليهم بالبنان نتيجة خطأ شخص آخر
:- نانسي
رفعت عينيها إلى محمود بقلق .. كانت تعرف إلى أين سيؤدي بهما هذا الحديث .. كان ينظر إليها بإصرار ويقول :- لم يعد هناك ما يمنعك من العودة إلى بيتك الآن
أحست بالذعر وهي تتراجع وقد أدركت بانها قد وقعت في الفخ .. تصميم محمود كان واضحا .. لن يسمح لها بالتحرك من هنا حتى تبسط جميع الاوراق على المائدة .. ارتفعت طرقات نجوى على الباب وهي تقول :- سيدة نانسي .. لقد وصلت سيارة الاجرة
هتف محمود بصرامة :- اصرفيه
هتفت نانسي بذعر :- لا .. انتظري
اسرعت نحو الباب فاعترض طريقها واضعا راحته وثقل جسده عليه مانعا إياها من فتحه قائلا بحزم :- لن تتحركي من هنا ولن ترحلي يا نانسي حتى نتحدث .. اتفهمين ؟
هتفت بعنف :- ليس هناك ما يقوله أحدنا للآخر يا محمود .. لا تستطيع احتجازي هنا ومنعي من الرحيل إن أردت .. هذا يسمى اختطافا
قال :- لن يلوم أحدا رجلا على محاربته لأجل استعادة زوجته .. لقد سبق واشترطت علي رحيل عائلتي لتعودي إلى بيتي يا نانسي .. إياك ان تنكري هذا .. وها قد تم ما أردته .. وأصبح المنزل وصاحبه تحت تصرفك .. ليس لديك أي عذر يمنعك من العودة
تراجعت إلى الخلف وقد تلاشى كل تعاطفها دفعة واحدة .. نظرت إليه بغضب قائلة :- هل تظن ما دفعني لتركك هو وجود عائلتك يا محمود ؟ حتى لو كنت استجبت لطلبي ذلك اليوم ما كنت لأعود إليك .. كما لن أعود إليك الآن .. انا لن أعود لأذل نفسي بين يديك مجددا .. لم أسمح لك على الإطلاق باحتقاري وإهانتي من جديد يا محمود .. اذهب وابحث عن ضحية اخرى تذلها وتذكرها دائما بنواقصها .. أظن ريم قد أصبحت الآن مناسبة لذوقك تماما .. يمكنك الزواج بها وتذكيرها كلما تشاجرتما بخزي والدها لتخر تحت قدميك ساجدة وممتنة لانك أويتها في منزلك .. ولكنني أبدا لن أفعل هذا
امتقع وجهه .. واعترض طريقها مجددا عندما حاولت أن تفتح الباب .. أمسك بها وأدارها إليه وهو يقول بعنف :- اهدئي يا نانسي و استمعي إلي ..أنا لم أنظر إليك يوما على انك أقل مني قدرا .. نعم لقد أهنتك مرارا.. ووجهت نحوك كلمات جارحة .. إلا انني أبدا لم أقصد أي منها .. في كل مرة كنت تهاجمينني بها .. وترمينني بكراهيتك في وجهي كنت أثور مرغما وأجد نفسي اخطئ في حقك رغبة مني في إسكاتك فقط .. لقد كنت تتطاولين علي وعلى عائلتي .. وأنت كنت تعلمين إلى أي حد كنت اهتم لأمرهم .. طبعا في النهاية أثبت بانك كنت محقة .. وانم ما كنت تقولينه عن عمي ومخاوفك اتجاهه كانت محقة
أفلتت ذراعها من بين أصابعه .. وابتعدت وهي تكبت ألما كبيرا داخلها وتجبر نفسها على عدم التعاطف مع مرارته .. تمتمت بألم :- الامر لا يتعلق فقط بعائلتك يا محمود .. مهما فعلت .. فانا سأظل دائما ابنة رجل مجرم في نظرك .. سأكون الفتاة التي أنقذتها وأنقذت عائلتها من الضياع .. سأظل مدينة لك .. وأنت لن تترك فرصة تمر دون أن تذكرني بهذا
قال بصوت أجش :- انظر إلي يا نانسي .. أنا أحبك .. هل تعلمين ما تعنيه هذه الكلمة .. أحبك .. مستعد لفعل المستحيل لأحتفظ بك
نظرت إليه مصدومة لعمق المشاعر التي فاض بها صوته .. رات عيناه الداكنتان تعصفان بالعاطفة .. فمه الجميل كان متوترا .. وصدره العريض كان يعلو ويهبط باستمرار مع عنف أنفاسه .. قال لها :- لم تمنحيني ولو لمرة أي إشارة عن حبك لي .. منذ زواجنا .. بل منذ لقاءنا الأول .. كان نفورك مني واضحا .. كنت لا تدخرين جهدا في إظهار كراهيتك لي .. كان علي فعل المستحيل للاحتفاظ بك .. جربت الصبر والحلم .. جربت كل شيء دون فائدة .. انت كنت تتسربين من بين أصابعي كالزئبق .. تزهين ببغضك لي .. وتتبجحين بعلاقتك بماهر أمام الجميع .. حتى عندما بدأت تلينين .. وخلال الأيام التي قضيناها معا في المنزل الجبلي .. لم أر أي دليل منك على مبادلتك لي المشاعر .. وفجأة .. انقلبت دفعة واحدة .. وأصبحت كراهيتك لي مضاعفة .. وجدت نفسي أخسرك .. فلم يكن أمامي من سبيل سوى الضغط عليك وتذكيرك بحاجتك إلي
سالت دموعها وهي تهز رأسها هامسة :- توقف .. أرجوك .. لا أريد سماع المزيد
قال بخشونة :- ما الذي تريدينه إذن ؟ أن أقف جانبا .. وأراقبك ترحلين .. لا والله لن أسمح لك بالرحيل .. ليس بعد أن أخبرتني في زلة غضب بأنك قد أحببتني يوما .. كنت أكاد اموت خوفا عليك بعد ان اخبرني ماهر عن السيارة التي حاولت صدمك .. إلا أنني بعد أن أسمعتني بعد عناء طويل الكلمة التي انتظرتها طويلا .. لم أفكر إلا بالوصول إليك .. وقد عرفت باننا سنجد في النهاية حلا لكل مشاكلنا ما دام الحب موجودا بيننا .. وها اننا قد تعادلنا الآن إذ أنني انا الآخر قد أصبحت ابن اخ مجرم وقاتل في نظر القانون والناس .. لم تعد هناك لي أي أفضلية عليك .. لقد أحببتني يوما يا نانسي .. وأنا قادر على استعادة ذلك الحب إن سمحت لي بالمحاولة فقط
اقترب منها فابتعدت وه يتقول بانفعال :- لا يا محمود .. لا أستطيع ان احبك .. لا أريد أن احبك فأتألم أكثر.. لا أريد أن أكون واحدة من كثيرات في حياتك .. هذا ليس كافيا بالنسبة إلي .. أنت لا تعرف أبدا كيف تكون مخلصا .. وانا لن أحتمل المزيد من خياناتك لي
تجمد مكانه وهو يقول بتوتر :- ما الذي تتحدثين عنه يا نانسي ؟ أنا لم أخنك يوما
قالت بوحشية :- لا تكذب يا محمود .. أعرف تماما تاريخك الحافل مع النساء .. وأعرف أيضا بأنك لا تستطيع الاستغناء عن حاجتك للتنويع .. وتنقلك من زهرة إلى اخرى ذات نكهة مختلفة
برقت عيناه بغضب وهو يقول:- أنت تهذين .. لا أنكر بانني عرفت عددا من النساء قبلك .. فأنا لست شابا صغيرا .. كلها كانت علاقات عابرة لم تعن لي شيئا .. وقد توقفت تماما فور ان عرفت بمشاعري نحوك .. ورغبت بالزواج بك
هتفت بعنف :- علاقات عابرة !.. هل تسمي إشرافك على الزواج من نسرين علاقة عابرة ..؟ حتى أنك تركتها دون أي إنذار وتزوجتني دون حتى ان تفسخ خطبتك اولا
قال مذهولا :- من أين جئت بهذا الكلام ؟ انا ونسرين لم نكن يوما خطيبين .. كانت تربطنا علاقة سطحية لا أكثر .. أحبت هي أن توهم أصدقائها بان الامر جدي وأن مشروع زواج سيجمعنا قريبا فلم أبالي .. نسرين كانت دائما فتاة مدللة وسريعة الملل .. عرف كل منا بان علاقتنا لن تنتهي إلى أي شيء .. أي مشاعر كنت احملها اتجاه نسرين انتهت منذ فترة طويلة
هتفت به بثورة :- انت تكذب .. انت حتى لم تنفي رغبتك بها في تلك الحفلة .. لقد أردتها .. اشتهيتها ثم جئت إلي راغبا في معاشرتها من خلالي
بشاعة كلماتها جعلته يشحب من جديد .. جلس على الأريكة .. وأخفى رأسه بين يديه .. وبدا وكان حملا ثقيلا يجثم فوق ظهره .. مما جعلها تفقد شيئا من حدتها وتنظر إليه بقلق .. وقد تذكرت جراحه .. وقبل ان تسأله عن حاله تمتم :- لقد كذبت عليك تلك الليلة يا نانسي .. الرغبة التي وجدتها في عيني أثناء حديثي مع نسرين لم تكن موجهة نحوها .. لقد كانت تسألني عنك .. إن كنت أحبك ... وإن كنت ترضينني بما يكفي .. وإن كنت أشعر نحوك كما كنت أشعر نحوها .. كانت تعاتبني وتحاول تذكيري بعلاقتنا القديمة .. ونعم كانت تلفت نظري إلى ما تمتلكه وكان يفتنني يوما .. إلا انني في تلك اللحظة .. كل ما كنت أفكر به هو انت .. رغم جمود علاقتنا في ذلك الوقت وبعدها عن الحميمية .. تذكرت الساعات التي كنت أقضيها ليلا في النظر إليك أثناء نومك .. تذكرت المتعة التي كنت أجدها حتى في لمس يدك والنظر إلى عينيك .. لقد كنت أراك امام عيني وانا اكلمها وأقارنها بك .. فسقطت على الفور في المقارنة .. أدركت بأن امرأة أخرى لن ترضي قلبي وروحي وجسدي .. عرفت بانني ساعود تلك الليلة وأسعى إلى حبك من جديد .. أجبتها في تلك اللحظة بأنني لم أشعر اتجاه امرأة كما أشعر اتجاهك .. وانك ترضينني بكل طريقة ترضي بها المرأة الرجل
هزتها كلماته .. وصدمتها .. وجعلتها تساله باضطراب :- لماذا كذبت علي إذن ؟ لماذا جرحتني بتلك الطريقة تلك الليلة ؟
رفع رأسه وهو يقول متهكما :- ماذا تظنين ؟ لقد كنت احاول إثارة غيرتك .. كنت قد يئست حتى من النجاح في تحريك مشاعرك .. تلك الليلة رفضتني بعنف جعل إحباطي وغضبي يدفعانني لاستعمال سلاح آخر أعرف بأنه من أشد الأسلحة فتكا بالمرأة .. وهو سلاح الغيرة .. هل رأيت إلى أي حد كنت يائسا ؟ نسرين لم تكن تعني لي شيئا إلا أنني استعملتها بلا ضمير مي احصل عليها
قالت بمرارة :- وقد نجحت .. أليس كذلك ؟ أنا كالبلهاء قدمت لك نفسي على طبق من ذهب .. وتركتك تأخذني إلى عش الغرام الذي اعتدت أخذ عشيقاتك إليه .. ذلك المكان الذي شهد علاقتك الفاضحة والمخزية بريم
نهض قائلا بانزعاج :- ما الذي تقولينه بحق الله ؟ أما زلت تشيرين إلى علاقتي الوهمية بريم ؟ لقد سبق وأخبرتك بأن ريم لم تعني لي شيئا سوى كونها ابنة عمي والاخت التي لم أحظ بها .. نعم .. فكرت يوما في الزواج بها ولكنني لم أستطع لانني لم أحبها يوما
هتفت بانفعال :- لقد أخبرتني بنفسها يا محمود .. أخبرتني عن استغلالك لها .. ولقائك بها بعيدا عن اعين والديها ثم تخليك عنها فور أخذك ما أردته منها .. لماذا قد تكذب أي فتاة وتهين نفسها وتسيء إلى شرفها إن لم يكن ما تقوله صحيح .. بحق الله لقد عرفت تفاصيل كل ما حدث بيننا هناك .. عرفت كل شيء عن العشاء والشموع والازهار .. عرفت لأنك كنت تفعل لها المثل عندما كنت تأخذها إلى هناك .. انت كنت حبيبها ومازلت حتى الآن .. فانت لم تنكر حتى بانك قد أخذتها إلى البيت الجبلي بعد شجارنا .. بعد ليلتنا الأولى .. كيف استطعت فعل هذا . كيف ؟
خنقتها الدموع مما جعل عبارتها الاخيرة ترتجف .. أمسك محمود بذراعيها .. وهزها بقوة وهو ينظر إلى وجهها صائحا بغضب :- ريم كاذبة يا نانسي .. كاذبة .. لقد كنت وحدي في البيت الجبلي حتى جاءت برفقة فراس وقد خمنا وجودي هناك وعرفا بشجارنا بطريقة ما .. قضيا بعض الوقت قبل أن أطلب منهما المغادرة بعد أن حذرتهما من البوح بمكان وجودي لأحد .. لا اعرف كيف عرفت ريم بتفاصيل ما حدث بيننا .. ربما كان تخمينا صائبا منها .. أو ربما سألت العائلة التي طلبت منها تجهيز الكوخ لنا .. إلا انها كاذبة لعينة وانا لم ألمسها يوما
صرخت به بجنون :- لقد رأيتك يا محمود .. رأيتك تقبلها ذلك الصباح .. هنا .. في هذه الغرفة وعلى ذلك المقعد .. فتوقف عن الكذب علي لأنني لا أستطيع احتمال المزيد .. لن أحتمل المزيد أرجوك
انهارت باكية بعنف وقوة هزت كيانه .. فسحبها إليه يضمها إلى صدره ..ويرفع رأسها لتنظر إلى وجهه وهو يقول لها بحزم :- ذلك الصباح .. انا لم أقبلها يا نانسي .. لقد دخلت المكتب أثناء وجودي فيه .. وتظاهرت بالرغبة في سؤالي عن شيء ما .. وتعثرت فجأة وسقطت فوقي .. ثم قبلتني دون إنذار .. لو كنت انتظرت للحظات فقط قبل أن تهرعي إلى غرفتك وتبدأي بتوضيب حاجياتك لرأيتني أدفعها عني وأصفعها معنفا وموجها لها الكلمات القاسية .. ثم صعدت إلى غرفتنا وقلبي موقن بان المرأة الوحيدة التي أرغب بتقبيلها نائمة هناك .. كنت اهم بمصالحتك .. وإيقاظك بنفسي عارضا عليك بداية جديدة لحياتنا لأجدك في تلك اللحظة ترمين أغراضك في الحقيبة الكبيرة بنية الرحيل .. لقد انتابني الجنون وأنا أفكر بتركك لي .. فحاولت منعك .. أعرف بانني قد وجهت إليك الكثير من الكلمات البشعة .. إلا انني كنت يائسا عندما وجدتك تضيعين مني .. عرفت بأنك وبسبب معاملتي السيئة لك قد ترحلين إلى الأبد .. وعندما فقدت الوعي بين ذراعي.. وأشار الطبيب إلى امكانية الحمل .. تجدد الأمل داخلي وعرفت بأن هذا الطفل هو فرصتنا لنصحح جميع أخطائنا ونبدأ من جديد .. لأجدك قد رحلت فجأة دون أي كلمة عن مكانك
ارتسمت التعاسة التامة في عينيه وهو ينظر إلى عينيها الدامعتين الشاخصتين إليه بعدم تصديق .. فأحاط وجهها بيديه وقال بصوت أجش :- قولي بأنك تصدقينني يا نانسي .. وأنك ترفضين تصديق أكاذيب ريم .. قولي بانك لا تصدقين بانني ذلك السافل المستعد لاستباحة عرض ابنة عمه .. وخيانة زوجته تحت سقف بيتها .. أخبريني بأنك لا ترينني حقيرا إلى ذلك الحد
احتاجت نانسي إلى لحظات قليلة كي تدرك الحقيقة .. كي تدرك بان محمود الذي عرفته لأشهر .. محمود الذي جماها وحمى عائلتها .. والذي اعتنى بأمها وشقيقتها .. الذي منحها حبه وحنانه وصبره .. لا يمكن أن يكون كما وصفته ريم .. عرفت بانها قد أساءت الظن به .. وأنها لم تمنحه أي شيء من الثقة في الوقت الذي منحها الكثير .. عرفت بانها تحبه إلى حد يدفعها لمسامحته على كل أخطاءه معها ومنحه فرصة جديدة لبناء ثقتها به من جديد .. عرفت بانها لو تجرأت منذ البداية على البوح له بشكوكها ومخاوفها .. لوفرت على كليهما كل هذا العذاب والالم ..والشعور بالوحدة .. عرفت بأنها قد فضلت تصديق فتاة مريضة وغير متزنة كريم على تصديق الرجل الذي تحب وتحتاج .. فلم تحتمل كل هذه الحقائق .. سالت دموعها بغزارة سرعان ما تبعها نشيج عنيف .. بكت هذه المرة حزنا على ما سببه كل منهما للآخر من ألم دون أن يدرك .. سحبها إلى الأريكة الجلدية ..وأجلسها عليها وهو يضمها بقوة تاركا إياها تذرف الدموع على صدره .. ربت على شعرها وهو يهمس :- لماذا لم تخبرينني بكل هذه الشكوك والوساوس التي كانت تثقل قلبك يا حبيبتي .. لماذا لم تواجهيني بالحقيقة ولو لمرة وتسأليني عنها .. لماذا تركت نفسك تتألمين بصمت بسبب أكاذيب ريم ؟
قالت دون أن ترفع رأسها .. ودون ان تتوقف عن البكاء :- لقد خفت .. خفت ان تؤكد لي كلامها وأنا ما كنت لأحتما هذا .. لم أستطع أن اصدق بأنك تحبني حقا وقد أظهرت لي مرارا امتعاضك مني واحتقارك للشخص الذي كنته لسنوات طويلة
أجبرها على النظر إليه .. وقال لها مجددا بصوت حازم :- أنا أحبك .. أحبك يا نانسي .. أحبك بكل عيوبك ومزاياك .. لا .. أظنني احبك لعيوبك فقط .. فما كنت لأجد على الإطلاق فتاة تجتمع فيها وفي آن واحد صفات رائعة كالقوة والصلابة والانوثة والضعف .. أحبك بكبريائك وتكبرك .. بغرورك وغيرتك .. بعنادك وتطرفك .. احبك .. ولا أريد أن اغير شعرة واحدة منك .. لأنني أدركت بانني لا يمكن أن أعيش لحظة واحدة بدونك
تغلغلت كلماته القوية إلى داخل كيانها وهزتها حتى الاعماق .. نظرت إلى وجهه الوسيم الحبيب .. إلى عينيه الصادقتين .. وعرفت بانه يقول الحقيقة .. فتجرأت أخيرا على ان تنطق بالكلمة السحرية التي طال شوقه إليها .. وهمست :- أحبك
ترقرقت الدموع في عينيه هذه المرة وهو يسحبها .. ويقبلها بحرارة ولهفة أنستها تماما واقعهما .. لفترة طويلة .. لم يستطع احدهما ترك الآخر .. حتى همس لها بصوت محموم :- لنصعد إلى غرفتنا
نظرت إليه وقد أعماها شوقها إليه .. وتلهفها الذي فاق تلهفه .. إلا انها تذكرت شيئا جعلها تغمغم بقلق :- ماذا عن جراحك ؟
ارتسمت على شفتيه ابتسامة لعوب وهو يقول :- لن يوقفني شيء وقد احتويت بين ذراعي أغلى ما اتمنى
تورد وجهها عندما عاد يقبل وجنتها الناعمة وعنقها الغض فتمتمت :- ربما .. ربما علينا المرور على جدتك اولا .. إن رأتنا معا فستطمئن إلى اننا قد تصالحنا أخيرا .. أنت لم تظن حقا بانها قد صدقت قصصك الملفقة بغريزتها المتيقظة
أطل التقدير من عينيه لاهتمامها بمشاعر جدته وقال :- عرفت بانني لم أخدعها
عندما فتح الباب فجأة .. سقطت عند أقدامهما كل من نجوى وحنان اللتين كانتا تحاولان استراق السمع .. ومن خلفهما ظهر باقي الخدم وقد بدوا كمن ضبط متلبسا .. لوى محمود فمه بامتعاض وهو يغمغم :- أحيانا أفكر بان المستخدمين لدي بحاجة إلى التأديب من حين إلى آخر
ثم رفع صوته قائلا بصرامة :- الكل مفصول من العمل لمدة ثلاثة ايام
تراجع الجميع وقد علت ابتسامة هي مزيج من الرضا والخبث وجوههم .. وقد عرفوا بأن رئيسهم لم يقصد طردهم حقا .. إنما هو يرغب فقط بأن ينفرد بزوجته الصغيرة والجميلة لأكبر وقت ممكن .. زوجته التي يحبها بجنون







النــــهايــــة





نسمات عطر 02-19-2017 11:41 PM

تم نقل الرواية كاملة أرجو نقلها للقسم الخاص بالمنقول أو المكتمل









الساعة الآن 04:19 PM.

Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.

شات الشلة
Powered by: vBulletin Copyright ©2000 - 2006, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لعيون العرب
2003 - 2011