عيون العرب - ملتقى العالم العربي

عيون العرب - ملتقى العالم العربي (https://www.3rbseyes.com/)
-   روايات طويلة (https://www.3rbseyes.com/forum29/)
-   -   روايٓة : لمٓاذا أرى مٓلاكٓٓا وسط جٓحيمي ، بـ قٓلم الكاتبة عٓذازي (https://www.3rbseyes.com/t511723.html)

رُوفِ 07-08-2016 06:38 AM

روايٓة : لمٓاذا أرى مٓلاكٓٓا وسط جٓحيمي ، بـ قٓلم الكاتبة عٓذازي
 



بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

،



نقدم لكم رواية
لماذا أرى ملاكًا وسَط جحيمي
للكاتبة "عذاري"
،

رُوفِ 07-08-2016 06:39 AM



رابط لتحميل الرواية

http://www.rewity.com/forum/t339343.html#post10932754


بسم الله الرحمن الرحيم ..
السلام عليكم ورحمة الله و بركاته ..

.
.
منذ فترة ليست ببعدية أصبحت شغوفة بالقراءة بشكل لا يصدق , و لم أكتفي بذلك فحسب , بل أصبحت عاشقة للكتابة .. و لذلك أتيت لكم , محملة بما كتبته و متفائلة بحجم السماء أنها ستحوذ على إعجابكم ..

منتديات غرام كانت الأفضل و لازالت , و لذلك اخترتها لتكون المنزل لروايتي , التي لن أضحي بوضعها في مكان غير لائق لها ..

و أتمنى من كل قلبي أن أرى قراء و متابعين و متفاعلين ..

روايتي اسمها : انعكاس مشوّب .. و ستلاحظون بشكل غريب أنها رواية مختلفة جدًا عن الروايات التي تُنشر على الانترنت حاليًا .. إنها نوعًا ما رجالية ..
و أنا لست من عشاق الكتابات العاطفية و الغزلية ..
لذلك روايتي هي لأؤلئك الذين يعشقون الحماس و التشويق بعيدًا عن العواطف ..


و أود التنويه من البداية : أن موعد نزول الأجزاء , سيكون يوم الجمعة .. إما صباحًا أو مساءً ..
حتى نكون على وضوح من البداية


(( و أرجو من أعماق قلبي أن لا تشغلكم الرواية أو الروايات الأخرى عن حياتكم الواقعية و عن عباداتكم .. ))


رُوفِ 07-08-2016 06:40 AM



.
.
.
.
مقدمة
.
.
.
.
.

***
... لن يتجاهل أحدًا حديثك قبل أن تموت , سواء أكان حديثك مهمًا أو تافها ...

***
.
.
.
.

المملكة العربية السعودية – الرياض 1:02 ص .


نظر بكل تردد و إقدام إلى اللوح المعدني الذي أمامه , الذي سرعان ما تحول لونه إلى الأصفر ; نتيجة للتسخين الذي استمر لساعتين متواصلتين .
وضع يداه المتقدمتان في العمر على اللوح , و بدأ بسماع الهسيس المؤلم ليديه اللتان بدأتا بالاحتراق .

نكرة .
أنا لا شيء سوى نكرة .
و النكرة لابد أن يكون بلا بصمات , أليس كذلك ؟

بدأ برفع يديه ببطء شديد بعد أن أخذتا كفايتهما من الاحتراق , و نظر إليهما بألم مصحوب بسعادة متناهية .

هذا رائع , لا شيء سوى جلدي الآن .

وضع يداه تحت الماء البارد تخفيفا للألم الذي قد ألمّ بهما .
مشى ببطء إلى حافة البناية القديمة - التي قد اتخذ لنفسه ملجأ في أعلاها – و ألقى بنظره إلى الليل المرير و الأضواء الخافتة للأحياء و الطرقات العفنة الفقيرة .

ثم همس بسعادة:
" ها قد بدأت رحلتي الملتوية في عالم الخطايا ".

..

رُوفِ 07-08-2016 06:41 AM






الفصل الأول :


استيقظ بدر مفزوعا بعد أن غفي لدقائق على مقعد صغير في قسم الشرطة , وضع يده على عينيه و هو يردد : " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ".

و وقف بسرعة بعد أن تذكر سبب وجوده في القسم; إنه ذلك الاتصال الذي كان قد ورده على هاتفه هذا الصباح , و الصوت الثقيل للشرطي على الطرف الآخر من المكالمة , وكان لازال يتذكر كل حرف من تلك المكالمة المثيرة للغرابة :

" السلام عليكم " , قال الشرطي بصوت هادئ .

" و عليكم السلام " .

" أأنت الأخ بدر عادل سليمان ؟ " .

" نعم , إنه أنا , كيف لي أن أساعدك ؟ " .

" أنا محمد سالم , شرطي من قيادة أمن الطرق في محافظة الخرج ".

" أهلا أخ محمد , ما الأمر ؟! " .

" أنا اتصل بك بشأن والدك - الأستاذ عادل سليمان – و نحن نطلب منك أن تأتي إلى محافظة الخرج بأسرع ما يمكنك , فالأمر طارئ جدا ".

" ما الأمر ؟ هل حصل لوالدي أي مكروه ؟".

" يا أخ بدر , إن الموضوع أعقد بكثير من أن نناقشه على الهاتف ... إن مجيئك هو شيء حتمي ".
" حسنا , أنا .. أنا قادم على الفور " .

و تذكر كيف أستأذن من مشرف الطلبة في جامعة الإمام محمد بن سعود بأن يأذن له بالخروج لأمر طارئ , كان قد خرج من الجامعة و أخذ على الفور أقرب خط رئيسي يمَكنه من الوصول إلى الخرج .

أخذ يقود سيارته و نبضات قلبه تتسارع مع كل دقيقة .

" لقد قال بأن شيء في غاية الغرابة قد حصل , ما عساه أن يكون ؟ "

سمع صوت هاتفه النقال مرة أخرى , و أشاح بنظره عن الطريق لثواني و رد بسرعة خوفا منه أن يكون ذلك الشرطي مرة أخرى :

" ألو ؟ ".

" بدر , السلام عليكم ".

" و عليكم السلام , من معي ؟ ".

" أنا عبدالرحمن , أبو سعود , إنني صاحب والدك " .

تزايدت نبضات بدر مع ذكر والده ...

" أهلا أبو سعود " .

" أهلا بك , اسمع , أنا حقا لا أريد أن أطيل المكالمة عليك ولكن .. لقد كان حفل زفاف ابني سعود ليلة البارحة , في محافظة الخرج , و كنت متأكدا تماما أن والدك سيأتي , لقد تحدثت إليه قبل وصوله إلى الخرج بعدة كيلومترات و قال لي بأنه قريب , ولكنه لم يأت , و أنا قلق عليه , هل هو بخير ؟ ".

يا إلهي , هذا صحيح , لقد كان والدي قد تلقى دعوة لحضور حفل زفاف ليلة البارحة .

" في الواقع , أنا الآن قادم إلى الخرج , لقد خرجت من الجامعة لتوي بعد أن تلقيت مكالمة من شرطي في قيادة أمن الطرق في الخرج , إنه يقول بأنه .. بأنه هناك شيء قد حصل لوالدي , ولكن لم يقل لي ما هو , لقد أقفل الخط بسرعة " .

" يا إلهي .. لقد أحسست بأن هنالك شيء قد حصل , يا رب الطف به ".

" أرجوك يا أبا سعود , أريد منك أن تذهب إلى القسم هناك و تنتظرني , إنني تائه تماما , ولا أعلم ما يجدر بي أن أفعل , أو على من يجب أن أتصل " .

" لا تقلق يا بني , أنا قادم على الفور و سأكون بانتظارك , ولكن تمهل , لا تسرع , لتكن متوكلا على الله , إن والدك سيكون بخير إن شاء الله ".

أغلق بدر هاتفه على الفور , و بينما هو يقترب من الخرج , كان قد رأى حادث سير على جانب الطريق , وقليل من سيارات الشرطة تحوطان بالسيارتان المتضررتان .

أبطئ بدر من سرعته قليلا و مد عنقه لينظر إلى موقع الحادث , كان على ما يبدو أن السيارتان فارغتان وليس في داخلهما أحد .

" عسى لم يصب أحدا بالأذى ". همس بدر بصوت خافت .

عاد بدر إلى واقعه بعدما سمع صوت عبدالرحمن و هو يناديه :

" هيا يا بدر , إن العقيد يطلب رؤيتك ".

مشى بدر مع صديق والده , وهو يتذكر كيف أنه وصل إلى القسم و كان قد وجده بانتظاره , و قد كان رجلا قصيرا في أواخر الاربعين من عمره , ممتلئ البنية بعض الشيء , و ذا عينان يشع منهما النشاط , و شخصية بطابع ودود و ابتسامة تبعث على الراحة ,

كان قد أخذ بذراع بدر و بدأ بتهدئته , طالبا منه أن يستعيذ من الشيطان و يذكر الله , و طلب منه أن يجلس على المقعد و ينتظر أن يستدعيه الشرطي الذي قد اتصل به .



.
.

.. نهاية الفصل ..

.. أريد تفاعلكم و توقعاتكم ..

بحفظ الله ..


رد مع اقتباسرد مع اقتباس

رُوفِ 07-08-2016 06:44 AM






السلام عليكم ورحمة الله .. جمعة مباركة على الجميع

جاء موعدنا لنزول الجزء الثاني , و هذه المرة سأضع الجزء (( الثالث )) أيضًا , لأنه قصير بعض الشيء ..

و بخصوص الرواية ككل , فإني لا أبيح نقلها أو أخذها دون ذكر اسمي عليها ..

و من أراد\ـت نقلها إلى منتدى آخر , و تنزيل الأجزاء معي أول بأول , فأرجو منه\منها تبليغي بخصوص هذا الأمر ..



.
.
.



الفصل الثاني :



دخل بدر باندفاع إلى مكتب العقيد و هو يثبت نظره إلى الرجل الجالس أمامه , رجل في الخمسينات من عمره , ببزته العسكرية و وجهه الصارم الذي يتناسب مع منصبه, ولكن تلك الصرامة لم تخف نظرة الشفقة من عيني العقيد , حيث أنه كان يشعر بالأسى و الشفقة تجاه هذا الشاب .

" السلام عليكم " , قال بدر و هو يتخذ لنفسه مقعدا مواجها للعقيد .

" وعليكم السلام , كيف حالك يا بني ؟ ".

نظر بدر بسرعة باتجاه اللوح الذهبي الصغير المثبت على المكتب , والذي كتب عليه اسم العقيد .

( العقيد : سيف عبدالله ) .

قال بدر بسرعة :" اسمع أيها العقيد سيف , أنا لا أقصد أن أكون فظا أو قليل احترام , ولكن الخوف و التوتر سيقتلانني , لذلك ادخل في صلب الموضوع مباشرة , من فضلك".

" حسنا يا بني , سأفعل , ولكن استهدي بالله ".

نظر عبد الرحمن إلى بدر و كأنه يطلب منه أن يسترخي و يهدأ قليلا .

قال بدر بخفوت :" لا إله إلا الله , المعذرة ".

" لا عليك , اسمع , سأدخل إلى صلب الموضوع كما طلبت , إن والدك - عادل سليمان – كان قد تعرض لحادث ليلة البارحة ". حاول العقيد سيف أن يكون هادئا قدر المستطاع .

اتسعت عينا بدر بمفاجأة , ثم اقترب برأسه قليلا إلى الأمام ; كإشارة للعقيد بأن يكمل كلامه .

" لا نعلم وقت الحادث بالضبط , و أنا أقول ذلك لأنه لم يأتنا بلاغا بحصول حادث سير على الإطلاق , إنما وجد بعض رجال أمن الطرق سيارة والدك مصدومة من قبل سيارة أخرى , وجدوها الساعة 9:47 ليلا ".

قال بدر مقاطعا كلام العقيد بفطنة :" عفوا أيها العقيد , لقد قلت بأنه لم يأتكم بلاغا بالحادث , و هذا يعني بأن كلا الضحيتين لم يتمكنا من الاتصال , هل حدث لوالدي شيء ؟ أرجوك قل لي بسرعة ".

" لقد توقعت منك أن تقول هذا يا بدر , و أظن أنك قد رأيت الحادث في طريقك إلى هنا , أليس كذلك ؟ ".

" نعم , لقد رأيته , ولكنني لم أميز السيارة , ولم يخطر ببالي أبدا أن هذا حادث والدي ! ".

" لقد قلت بأنك رأيته , ولكن هل اقتربت منه , و رأيته عن كثب ؟ ". قال العقيد بنبرة غامضة .

هز بدر رأسه نافيا :" لا , لم أفعل ".

هز العقيد رأسه و هو ينظر إلى الاتجاه الآخر , ثم تنفس بعمق و أعاد نظره إلى بدر, و من ثم إلى عبدالرحمن الذي كان قد جلس بالقرب من بدر , ثم كسر الصمت قائلا :" لو أنك رأيت الحادث عن قرب , فلسوف يكون وقع هذه الكلمات خفيفا عليك ".

قال بدر و قد بدأ يتنفس بصعوبة , و امتلأ جبينه بالعرق :" أرجوك أيها العقيد , توقف عن اللعب بأعصابي , وقل لي , هل توفي والدي ؟! ".

" لا يا بني , والدك لم يتوفى , ولكنه ... , ولكنه مفقود ".

نهض بدر بسرعة و هو يصرخ :" ماذا ؟! ما الذي تعنيه بمفقود ؟! , ربما ... , ربما كان يريد أن يتصل ليقدم بلاغا و لكن لم يجد إشارة اتصال في هاتفه , فذهب ليبحث عن واحدة, أو ربما وجده شخصا آخر و نقله لمشفى قريب , أو ربما ... ".

قاطعه العقيد و هو يقف و يقول :" هدئ من روعك يا بني و اجلس , دعني أكمل ".

أمسك عبدالرحمن ببدر و أجلسه مرة أخرى على كرسيه , ولكن هذه المرة كان واقفا خلفه .

قال العقيد بهدوء :" إن والدك مفقودا يا بني , و أنا أعني ذلك حرفيا , وليس فقط والدك , و إنما أيضا الرجل صاحب السيارة الأخرى , ولكن لا نعلم هويته , فسيارته دون لوحات , ويبدو أنها مسروقة , أما بخصوص كلامك , ربما تكون محقا , ولكن نحن كنا قد باشرنا من قبل بالتحقيقات و البحث المكثف و الموسع عن الرجلين , و قد بدأنا أيضا بالدخول إلى النطاق الصحراوي ".

قال عبدالرحمن بسرعة :" أيها العقيد سيف , أود أن أعلمك بأن عادل سليمان كان قادما إلى الخرج ليحضر حفل زفاف ابني سعود , و كنت قد اتصلت به بالأمس لأعرف أين وصل , حتى أتمكن من استقباله بحفاوة , و قال لي بأنه تبقى له كيلومترات معدودة للوصول ".

قال العقيد بحماس يشوبه قلق :" هذا جيد يا أبا سعود , إن معرفة وقت اتصالك سيساعدنا حتما في إكمال التحقيق , أيمكنك أن تخبرني متى كان الاتصال بالضبط؟".

أخرج عبدالرحمن هاتفه النقال على الفور , و نظر إلى آخر المكالمات الصادرة , بحث بسرعة عن اسم صديقه عادل , ثم هتف عاليا :" ها هو , وجدته , لقد كان الاتصال في تمام الساعة 9:15 ليلا , وقال لي أنه تبقى له تقريبا عشرة كيلومترات للوصول ".

سحب العقيد ورقة صغيرة من المكتب و سجل أقوال عبدالرحمن , ثم قال و هو يحدق في الورقة التي بيده :"تقول أنك اتصلت الساعة 9:15 ليلا و قد تبقى له عشرة كيلومترات " , فكر قليلا و هو ينظر للورقة , ثم استأنف قائلا :" إن المسافة بين الحادث و حدود الخرج هي 7 كيلومترات , أي أنه تعرض للحادث بعد مكالمتك بدقائق معدودة ".

صمت العقيدة لوهلة , ثم حول نظره إلى بدر قائلا :" أنا أعلم يا بدر أنك تحت تأثير الصدمة , ولكن يجب أن تعلم أننا تفاجئنا كثيرا عندما رأينا السيارتان فارغتان , و قمنا بتقديم بلاغ إلى جميع الوحدات ما بين الرياض و الخرج ليقوموا بالبحث عن والدك و الضحية الأخرى , و أنا أكره في الواقع استخدام مصطلح ( ضحية ) ولكن اسأل الله أنهما بخير , لقد بحثنا عنهما و سنستمر بالبحث ".

سأل بدر و هو يهز رأسه و يحدق نحو الأرض:" كم سيستغرقكم الوقت حتى تجدوه؟ ".

" أنا في الواقع لا أعلم , لكن أريد منك أن تعلم أننا نبذل حاليا قصارى جهدنا للبحث عن الرجلين , فهذه أول حادثة مثيرة للغرابة تمر علي خلال سنوات عملي كلها , ولكن لا تقلق , أعدك أننا سنبذل ما في وسعنا لإيجادهما , و أسأل الله العلي العظيم أن يكونا في صحة و عافية ".

قال عبدالرحمن و هو يضع يديه على كتفي بدر لتهدئته :" كان الله في عونكم , هيا يا بدر , انهض ".

" سنوافيك على الفور بآخر المستجدات حول والدك يا بدر , وقد نضطر أيضا للتحقيق معك إن احتاج الأمر لذلك , وانت أيضا يا أبا سعود , اذهبا الآن و اطلبا من الله الفرج من هذه الكربة , فإن الله سميع مجيب للدعاء".

نهض بدر بضعف و ساعده عبدالرحمن في ذلك , و خرجا من القسم متوجهين إلى سيارة عبدالرحمن .



" أما عبدالرحمن فكان يعد الدقائق و الساعات بانتظار المكالمة التي قد طلب منه انتظارها ... "




نهاية الفصل الثاني .. دمتم بحفظ الله


رُوفِ 07-08-2016 06:48 AM

.
.
.

الفصل الثالث :



في مكان ما في جنوب مدينة الرياض – 8:27 ص

حدق غريب الأطوار ذا اليدان المحروقتان إلى الرجل المربوط أمامه .

" عليك أن تعلم فقط , أن لكل فعل ردة فعل . و ما فعلته أنت بي لم يكن بسيطا , لذلك ;أظنك تستطيع تخمين ردة فعلي" .

نظر إليه الرجل المقيد أمامه , و عيناه تحمل كل معاني الصدمة , و كأنه ينتظر أحدا ليصفعه أو أن يسكب عليه ماء مثلجا ليوقظه من أسوأ كوابيسه .

أستغرق الأمر ثواني ليستوعب الرجل من هو غريب الأطوار الذي أمامه , و لكن هذه الثواني كانت دهرا بالنسبة لكليهما .

قال المقيد بتردد و صدمة يشوبها الكثير من اليقين :" أنت , أنت ميت , نعم , من المفترض أن تكون ميتا " .

بدأ يضيق نفسه و هو يحاول أن يتحامل على صدمته و يكمل :" لقد رأيتك ميتا , نعم , لقد كنت مستلقيا بلا حركة , لقد رأيت جسدك عندما كان بلا روح ,, أنت ميت منذ 22 عاما , أنا أحلم , نعم أنا أحلم , لا يمكن لهذا أن يكون حقيقة , أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ". أغمض عيناه و هو يردد استعاذته من الشيطان .

قال الآخر بهدوء :" توقف عن الاستعاذة , لا يهم إن كنت ميتا أم لا , ما يهم هو أنني عدت إلى الحياة ".

" ماذا تريد مني ؟ ,, لم فعلت هذا بي ؟ و لماذا لم تقل لي بأنك حي ؟ " , قال الرجل بصراخ و آلاف الأفكار و الهواجس تعبر دماغه في الثانية الواحدة .

" أنا لم أحضرك إلى هنا لتبدأ بالتحقيق معي , ولا شأن لك بدوافعي , أردت أن أقول لك بأنك تستحق و بكل جدارة كل ما على وشك الوقوع ".

فتح الرجل عينيه بصدمة , و بدأ بالصراخ عاليا :" لماذا , أنا لم يكن لي شأنا بما حدث لك , أنا حتى لم أقل شيئا في تلك الساعة , لقد كنت صامتا , أتحاسبني على صمتي ؟َ! ".

" ومن قال بأن الصمت أمر هين ؟! , ليتك قلت كل ما في وسعك و تركت الصمت , فصمتك أوقع بي و بحياتي وسط حلكة الجحيم ",

أنحنى قليلا و أعاد الشريط اللاصق إلى فم ضحيته و هو يردد بهمس ملأه الخبث :
" ستندم يا عادل , سأجعلك تشرب من نفس الكأس الذي تجرعته أنا , استمع إلى نصيحتي و أستودع كل من تحب , فالأيام المقبلة ستكون الأخيرة بالنسبة لأحدهم , إما أنت أو ابنك العزيز بدر ".

بدأ عادل بإطلاق الصرخات المكتومة , و هو يحاول أن يحرر يديه المربوطتان خلف الكرسي المعدني بإحكام , و استمر في إطلاق الصرخات ,
وبدأ العرق في النزول من كافة أنحاء جسده , فالأمر الآن أصبح متعلقا بفلذة كبده و الشخص الوحيد المتبقي له في الحياة " بدر " .

عاد الرجل إلى ضحيته وأزال الشريط اللاصق من فمه , و همس قائلا :" أتمنى أن تكون هذه كلماتك الأخيرة ".

قال عادل و هو يتنفس بصعوبة بعدما أستنزف الصراخ قواه :" إياك و أن يصاب بدر بشيء , أقسم بالله أني سأحول حياتك إلى رماد , بدر لا شأن له فيما بيننا , دعه و شأنه ".

قال الرجل و هو يعيد الشريط اللاصق:" توقعت أن تكون كلماتك الأخيرة مملوءة بالحكمة و الرزانة , لكنك لم تتغير , لازلت عادل الذي يحاول أن يواجه كل شيء, حتى الأشياء الأكبر بكثير من مقدرته , أما بدر , فعليك أن تعلم بأنه صاحب الشأن كله ".

قال الأخير كلماته و خرج من الغرفة القديمة التي اتخذ الغبار لنفسه مسكنا فيها , و التي تشققت جدرانها , كعجوز امتلأ وجهه بالتجاعيد إثباتا لمرور الزمن عليه .

أما عادل فلا يزال غارقا في تفكيره السوداوي الذي يجر روحه من جميع النواحي , كقطعة خشب في منتصف المحيط , يسحبها الموج من كل الجهات ولم تجد لها مستقر حتى الآن .




.
.
نهاية الفصل الثالث

أبغى توقعاتكم حبايبي ..


ايش هي المكالمة اللي ينتظرها عبدالرحمن ؟


و هل لها علاقة باختطاف عادل ؟ أو أنها لأمر ثاني تمامًا ؟


و ايش ممكن تكون قصة ( غريب الأطوار ) , و اللي مفترض يكون ميت من ( 22 سنة ) ؟؟


و ليش هو متقصد بدر بالتحديد ؟؟

..


لا تحرموني من تعليقاتكم و مروركم ..
و دمتم بحفظ الله



رُوفِ 07-08-2016 06:52 AM



السلام عليكم ..
جمعة مباركة ع الجميع يارب ..

قبل أبدأ بالبارت , لازم أوضح إني قررت أنزل ( فصلين ) كل جمعة بدلًا عن ( فصل ) ..
لأني أطول بين كل تنزيل و الثاني , فأعتقد أنكم تستحقون شوية ( أكشن ) ..

و بخصوص توقعات الفصل اللي قبل .. الوحيدة اللي جاوبت صح نسبيًا هي :
Baraem al Saba ..

مبرووك



و تنبيه : لا أبيح نقل الرواية بدون ذكر اسمي عليها ..



يلا نبدأ ..

قراءة ممتعة

.
.
.
.
.

الفصل 4 :



أخذ عبدالرحمن يحدق كل بضعة دقائق إلى بدر , و يعيد نظره إلى خط السير بينما هو يقود سيارته باتجاه منزله.

بدر ذاك الشاب اليافع في الواحدة والعشرين من عمره , و الذي على الرغم من كرهه الأزلي للتعلم, إلا أنه كان قد نمى جانبا آخرا من الاهتمامات التي تشعره يوميا بأنه على قيد الحياة , و الذي لم يقع تحت سحر النجاح الذي قد حققه والده في حياته المهنية , وكل تلك الإنجازات الذي يعتبر والده حجز الزاوية فيها , وتلك الشهرة الواسعة والسمعة التي قد طرقت باب عادل سليمان لتجعل منه أهم الشخصيات و رجال الأعمال في المملكة العربية السعودية .

وصل عبدالرحمن إلى منزله و طلب من بدر النزول , و سرعان ما أخذ به إلى غرفة الضيوف .

" اسمع يا بني , أريد منك أن تغسل وجهك و تذكر الله تعالى , سأذهب لأطلب من الخدم أن يعدوا لك شيئا لتأكله , و بعد ذلك أريد منك أن تنام قليلا , انظر إلى وجهك , إنك تبدو شاحبا للغاية ".

خرج عبدالرحمن من الغرفة آخذا معه بدر إلى دورة المياه , و تركه هناك وحده ثم خرج مسرعا, و أخذ بصعود الدرج و دخل إلى غرفته لانتظار المكالمة التي قدطلب منه أن ينتظرها .

رن هاتفه النقال بعد بضع دقائق , في تمام الساعة 9:00 صباحا ..

و قد ظهر اسم صديقه العزيز على الشاشة .

( عادل سليمان يتصل بك ).

أجاب على الفور و هو يستمع إلى ذاك الصوت الهادئ لصديق الطفولة .

" مرحبا عبدالرحمن , هل تسمعني ؟ ".

" أهلا , نعم , نعم أسمعك ".

" قل لي , كيف جرت الأمور ؟ ".

" بشكل رائع يا عزيزي , ولا مكان للشك و الريبة على الإطلاق , إلا أن الحادث كان مثيرا للغرابة بشكل لا يصدق ".

" هذا هو المطلوب , كيف سيصل الخبر للجميع إن لم يكن غريبا و مثير للتشويق ؟! , على كل حال , يجب أن تعود للرياض حالا , بصحبة بدر بالطبع , فالأمور على وشك أن تشتعل ". قال جملته الأخيرة وهو يردفها بضحكة خافتة .

" أنا قادم , أعدك بأني لن أخذلك بشيء ".

" أنت لم تخذلني من قبل , و لن تخذلني لاحقا , غدا سينتهي كل شيء , و سيرتاح بالك أنت قبل بالي ".

" أتعلم ؟ لم أعتد يوما على نسيان مبادئي و التصرف بحقارة , ولكن من أجلك سأفعل كل شيء ".

ابتسم المتصل بهدوء و هو يقول :" ما تفعله ليس حقارة , فالغاية تبرر الوسيلة , إلى اللقاء ".

ألقى عبدالرحمن نظره على زوجته النائمة , لقد تهالك جسدها من بعد ليلة عرس ابنها البارحة , مثل كل أم تحتفل بابنها البكر ليلة زواجه .

مشى إلى دورة المياه و خلع ملابسه , وقف تحت الماء البارد , و الذي تجبر برودته أفكار عبدالرحمن و توتره على النزول و التلاشي , أطفأ الماء بعد عشر دقائق من الاستحمام و وقف أمام المرآة و مسح شعره القصير بيديه و هو يفكر :

الرجال أفعال لا كلام ...


لقد انتظرت سنينا طويلة من أجل هذا الموضوع ...


و قد قرر صديق عمري الخوض فيه الآن ...


لن أخذله ...


نعم لن أخذله ...


سأجعله فخورا كما لم يبدو من قبل ...


جفف جسده بسرعة و خرج ليرتدي ملابسه , كان على وشك الخروج , حتى استوقفه صوت زوجته - منى - التي لا زالت مستلقية , قالت و هي لا تزال مغمضة العينين :" إلى أين أنت ذاهب ؟ ".

تنهد عبدالرحمن بضيق ..

أسئلة النساء , هذا ما كان ينقصني ...
" لم السؤال ؟ ".

" يا إلهي , توقف عن إجابة أسئلتي بأسئلة أخرى ".

" حسنا , أنا ذاهب إلى الرياض ". قال كلماته و توجه إلى الباب هربا من اعتراضاتها .

جلست منى بسرعة و هي ترمق عبدالرحمن بنظرات متفاجئة :" عبدالرحمن , أتنوي السفر إلى الرياض و اليوم لديك غداء من أجل ابنك العريس ؟ إن سعود سيسافر قبيل المغرب مع زوجته , لا يمكنك تأجيل الوليمة ".

" اهدئي , أنت لا تعلمين ما حدث , لقد تعرض عادل إلى حادث و هو قادم أمس , و علي الذهاب إلى الرياض الآن لتفقد حالته ".

هدأت منى , ثم قالت :" من عادل هذا ؟ أهو عادل سليمان ؟ ".

" نعم بالضبط , و أنا أعلم بأن الجميع سيتفهم موقفي بخصوص تأجيل الوليمة , سأعود غدا , و سنحدد موعدا آخر ".

توجه إليها و قبل يدها قائلا :" عودي الآن إلى النوم , أعدك بأن لن تشعري بغيابي , فقط أدعي لي بالسلامة ".

تركها و خرج نازلا إلى بدر , أخذ نفسا طويلا ليهدأ قبل أن يطرق الباب و يدخل , تفاجأ بمنظر بدر المصدوم و هو ممسك بهاتفه و عيناه متعلقة بالشاشة .

سأل عبدالرحمن بخوف :" بدر , ما بك ؟ ".

بدر بتوتر و عيناه لا تغادران الشاشة :" إن أبي يتصل ".

" حسنا إذا , أجب , ربما وجده أحد و قرر الاتصال بك ".

ضغط بدر زر الاجابة و قام بتكبير الصوت حتى يتمكن عبدالرحمن من الاستماع , تنفس بصعوبة والرعشة تلعب بيديه, ثم سرعان ما انتقلت إلى جسده كله.

و قد بلغ التوتر أقصاه عندما بدأ الطرف الآخر من المكالمة بالتحدث ...

رُوفِ 07-08-2016 06:55 AM



الفصل 5 :



مستلقي على أريكة خاوية من الحياة و الألوان , عيناه متعلقتان بالسقف و بتلك المصابيح التي تشتعل و تنطفئ بتذبذب , معلنة على اقتراب نهاية خدمتها في هذه الغرفة الأشبه بالقبر و أسوأ .

يستمع إلى الأنفاس المتقطعة لبدر , و هو يتوقع انقطاعها بالكامل بعد الكلام الذي قد خطط لقوله .

بدر بتوتر و تردد :" مرحبا ؟! ... أبي أهذا أنت ؟ , أجب علي أرجوك ".

رد المتصل بسخرية و رغبة بالمراوغة :" في البداية قل لي , ما مدى رغبتك في رؤية والدك ؟! اختر من واحد إلى عشرة ... ! ".

اندهش بدر من الصوت الغريب و المبحوح لهذا الرجل , و كأنما تقطعت حباله الصوتية ثم أعيد ربطها لتسمح لصوته بالخروج ..

و استغرب السؤال الساخر منه ..

لابد من انه يمازحني ! , من هذا بحق الجحيم ؟! ...

رد بدر باندفاع و ثقة مصطنعة :" من أنت , و كيف وصل هاتف والدي إليك ؟ ".

" أجب على سؤالي أولا ... "

" قلت لك من أنت ؟ ". بدر و قد بدأ بالصراخ .

قال الرجل ببرود :" حسنا , لا تريد الإجابة على سؤال , لا بأس , ما رأيك بأن نجعل اليوم الوطني لهذه السنة يوما لا ينسى ؟ ".

بدر و قد بدأت أعصابه بالتلف نتيجة للاستفزاز المستمر من هذا المتصل المعتوه :" حسنا , يبدو بأنك مستغني عن سلامتك , لديك أقل من دقيقة لتخبرني ما أود معرفته و إلا ... ".

" و إلا ماذا يا عزيزي ؟! " , قالها و إحدى حاجبيه ارتفع بعلو .

سكت بدر لبرهة بحثا عن تهديد , ثم نظر إلى عبد الرحمن الذي وقف بالقرب منه و هو يستمع لكل حرف و كل كلمة , ثم أردف بدر قائلا :" وإلا فسوف أجعل الشرطة تتتبع هذا المكالمة , و سيتم القبض عليك في أقل من خمسة عشرة دقيقة ".

قال الآخر بجدية و صوت محفوف بالحزم :" إن حاولت بأي طريقة من الطرق بأن تتتبعني أو تخبر أحدا بهذا الاتصال , فسوف يكون والدك في عداد الموتى , ما رأيك بهذا , أليس أجمل من تهديدك الطفولي يا بدر ؟".

ارتعشت أطراف بدر بقسوة , و كأنما شحنة كهربائية قد سرت عبر جسده لتحفز شعره على الوقوف ...

بدر بهدوء لمحاولة التفاوض بعقلانية :" حسنا , قل لي ماذا تريد بالضبط و سأكون مستعدا , فقط دع والدي و شأنه , إن كنت تريد المال , فسأعطيك كل ما تطلب , فقط أخبرني ... ".

قاطع حديث بدر بضحكة هادئة وهو يقول :" الآن بدأت بالتفكير , إن المال يا عزيزي لم يكن يوما مطلبي في الحياة و لن يكون , فقط أريد أن أعرف إن كنت ذكي بما فيه الكفاية لتنقذ والدك من السقوط في وادي العار ؟".

" ماذا تقصد بالعار ؟ , والدي لم يكن يوما ذا سمعة سيئة و لن يكون " , قاطعه المتصل قائلا :" هذا فقط ما تعتقد أنت و الجميع من حولك , إن خبايا الأمور سيئة , سيئة جدا ".

تنهد بدر قائلا :" أنت لم تقل إلى الآن ماذا تريد , هيا تحدث ".

" اليوم هو اليوم الوطني كما تعلم , و لن يمر على الرياض يوما مكتظا في السنة كهذا اليوم , خذ استعداداتك , لأنك على وشك أن تعبر من خلال شوارع الرياض التي ستمتلأ بالحمقى الذين اللذين يرتدون الأخضر , و هم بالكاد يعرفون نشيدهم الوطني " , قاطعه بدر قائلا :" سأذهب إلى أي مكان في الدنيا لاستلام والدي ".

قال الآخر بخبث :" و من قال بأنك ستستلمه ؟!! , لا يا عزيزي , بدء من الساعة السادسة مساء , سيتم وضع خمس مغلفات , في خمس مواقع مختلفة في الرياض , و مهمتك هي إيجادها قبل أن يتطوع أحد لفعل ذلك ".

بدر بغضب :" مغلفات ؟ , لقد خطفت والدي لأحضر لك مغلفات ؟ ".

" لا , لن تحضرها إلي , بل ستحضرها من أجل نفسك , كن على استعداد , إلى اللقاء ".

قال بدر بسرعة و تهور :" أتحاول استفزازي و ابتزازي ببعض المغلفات , تبا لك ولها و لما تحويه ".

" لازلت متهورا , ليتك ترى ما فيها , بخصوص ما تحتويه , فإنها تحتوي على آخر شيء تتمنى بأن تراه , أما بالنسبة لموقعها , فلست الوحيد الذي سيبحث عنها , بل الرياض كلها ستساعدك في ذلك ... ".

" ماذا تقصد ؟! " قال بدر بتوتر .

أنهى المتصل المكالمة تاركا بدر في أزمة لم يكن يتوقعها في حياته , فوالده رهين لدى غريب مجنون , و قد هدده بشأن شيء مرتبط بعار .

هل من الممكن أن يمتلك والدي أسرار بهذه الخطورة ؟ وقد وقعت بالصدفة في يدي معتوه ؟ ...

هذا مستحيل ...

تبا له , يريد أن يشكك ثقتي بأبي ..

توقف بدر عن التفكير و هو يقول لعبدالرحمن :" لنذهب إلى الرياض حالا , أعدني لمركز الشرطة لآخذ سيارتي".



..

نهاية الفصل الخامس ..
أدري أن البارتات قصيرة جدًا و أعتذر عن هالشيء , لكن ان شاءالله الجايات تكون أطول أكيد ..
و أتوقع بارتات اليوم فيها كثير أحداث مهمة في سير الرواية , بالرغم من أنها البداية فقط ..

..



يلا أبغى توقعاتكم ..

ليش عبدالرحمن موالي لـ ( غريب الأطوار ) و ايش ممكن يكون السبب اللي يخليه يطعن في ظهر عادل ؟؟

و ايش ممكن تكون قصة المغلفات ؟

و ايش ممكن يكون داخلها و مرتبط بالعار ؟؟

و ايش كان يقصد ( غريب الأطوار ) لما قال أن " الرياض كلها ستساعدك بالبحث " ؟؟؟

و ليش ما يكون الموضوع خاص ببدر .. ؟؟

.. انتظر ردودكم يا حلوين .. و انتظروني الجمعة القادمة و ببارتات أطول ان شاءالله ..

دمتم بحفظ الله ..

رُوفِ 07-08-2016 10:48 PM


افتراضي



السلام عليكم ..
جمعة مباركة ع الجميع يارب ..

المرة هذي بتكون البارتات أطول من اللي قبلها .. و يوجد فيها (( شخصية رئيسية جديدة )) لها تأثير كبيير ع الرواية ..

لا تحرموني من ردودكم يا حلوين ..

قراءة ممتعة

.
.
.
.
.
.



الفصل السادس :



في تلك الأثناء , وبينما كان الغريب الكئيب ينهي اتصاله ببدر ..

كان هنالك شخصا قد سمع الحوار كاملا ..

واقفا خلف الباب الحديدي الصدئ .. و المطل على سلالم ضيقة و خالية من أية إنارة ..

مظلمة و كأنها تقود إلى الجحيم مباشرة ...

عدل ياقة ثوبه الطويل , المسدل على جسده الأقرب لجسد فرعوني محنط , و ليس جسد إنسان حي يرزق ..

طرق الباب بثقة و بعدة طرقات متتالية مزعجة .. كجشعه الأعمى تماما ..

فُتِح الباب و نظر الرجل إلى الطارق بنظرات موحشة و دون أن يرمش ..

قال بصوته الأجش :" هل كنت تسترق السمع ؟! "

ارتبك الطارق و قال بتهرب :" لدي بعض المستجدات , ألن تدعوني إلى الداخل ؟ ".

نظر الرجل إليه من أعلى ماسحا جسده بالكامل , و شاقا طريقه إلى الأسفل ..

قال في نفسه :


" ما حجم حظي العسر الذي رماك في وسط طريقي أيها الأبله ؟! ..

و لكنك الأبله الوحيد الذي سيقود الجميع إلى الداخل ..

و الوحيد ذو إمكانية عالية على الولوج إلى ما أريد .. "


ابتسم بتثاقل و فتح الباب على مصراعيه و دخل إلى شقته ..

تبعه الزائر الثقيل و أغلق الباب بقدمه , محدثا صريرا عاليا لطالما كرهه الجيران في الأسفل ..

جلس الرجل – غريب الأطوار - على الأريكة المنفردة في الغرفة و هو ينادي زائره :" سلطان ".

كان سلطان على وشك إشعال سيجارة قد اصبحت على أطراف شفتيه المتشققتين , نظر سلطان إلى الرجل و أرخى سيجارته و أعادها إلى جيبه ..

وتقدم ليجلس على كرسي صغير موضوع أمام الأريكة ..

كان المكان مظلما , وكأن الوقت ليس صباحا ..

و كأن الشمس مسبلة ثوب الظلام ..

و لكن على حائط واحد فقط , توجد نافذة صغيرة يتسلل منها الضوء بشكل خفيف ليسقط على وجه الرجل , جاعلا سلطان يرى ذاك الوجه و كأنها أول مرة , ذاك الوجه الذي يجلد من رآه بحدة ملامحه ...

" ما مستجداتك ؟ , أفعلت ما أمرتك به ؟ " قال الرجل و هو يرفع إحدى حاجبيه بانتظار الرد ..

" خمس مغلفات , و بداخلها نفس المحتوى , جاهزة و مكتملة تماما , كل ما تبقى لنا هو دسها في الأماكن التي تريد ".

هز الرجل رأسه بموافقة و هو ينظر للأسفل , أعاد نظره إلى سلطان و هو يقول :" في الخامسة مساء سأخبرك بأول موقع , و في السادسة تماما أريد المغلف أن يكون في مكانه , و لا أريد أن يلمحك أحدا , أهذا مفهوم ؟"

رد سلطان وهو يتنفس بغيظ و يغمض عينيه :" توقف عن استخدام هذا الأسلوب معي , و كأنك تأمر عاملا كان قد اعتاد خدمتك منذ الصغر ".

توقف الرجل و تبعه سلطان , و كان الرجل يقترب بابتسامة واسعة جعلت جزء من أسنانه المقززة واضحة للملأ ..

قال و هو يضع اذنه بالقرب من فم سلطان :" عفوا ؟ , لم أسمعك بوضوح ".

ارتبك سلطان و هو يلتفت للجهة الأخرى , عالما تماما ما الذي تعنيه كلمات هذا المجنون ..

يا إلهي , لم يجدر بي التحدث معه هكذا , ليتني سكت ...

أمسك الرجل وجه سلطان بيده المحروقة , و هو يشد بقوة و كأنما خلقت يده من معدن استغرق صقله سنين .

رد سلطان محاولا لتهدئة الوضع :" توقف لحظة , أنا... ". ارتبك سلطان بشدة وهو ينظر إلى العينين المشدودتين و اللتان تبدوان بأنها لا تعرف الرحمة ...

قال الرجل و هو ينصب عينيه مباشرة في عيني سلطان - بتركيز و قوة ليس لهما نظير - :" لست مضطرا بأن أذكرك من منا محتاج للآخر , أليس كذلك يا (( أبا حنين )) ؟؟ ".

نظر سلطان إلى الرجل و قال وهو يعض على اسنانه بقوة :" ضع عائلتي خارج الموضوع ".

أفلت الرجل قبضته و عاد إلى أريكته قائلا :" بحق السماء يا سلطان , أنت الذي أدخلتهم إلى الموضوع منذ الأساس , لم أرغمك على شيء ... ".

تنفس سلطان بعمق محاولا تهدئة أعصابه , و رد قائلا :" حسنا أنا آسف , لم أقصد أن اقول ما قلته للتو , ولكنك تعلم بان أسلوبك بالأمر مستفز للغاية , كل ما أردته منك هو أسلوب لبق بعض الشيء .. ".

رفع الرجل يده آمرا :" لنقطع هذا الحديث حالا ".

صمت سلطان بغيظ و هو يعاود الجلوس و لكن بمسافة أبعد بقليل عن هذا المخلوق اللامنطقي ...

فكر الرجل قليلا ثم قال بحزم :" أريدك أن تستخدم بعض المرتزقة ليضعوا المغلفات في أماكنها بدلا عنك ".

" لماذا .. ؟! .. أستطيع فعل ذلك لوحدي ", قال سلطان بحدة .

أغمض الرجل عينيه بتعب , فهو يعلم أسباب سلطان التي تجعله يود أن يقوم بكل شيء لوحده .

قال الرجل بهدوء وبطء يوحيان باقتراب العاصفة :" هل تود أن يراك أحد و أنت تقوم بأفعالك الجالبة للفخر ؟! توقف عن التصرف بتسرع , إن لمحك أحد فستكون أنت في مصيبة , وليس أنا , بجانب أن لا أحد يعلم بوجودي أصلا .. "

" حسنا , مثلما تريد .. " تمتم سلطان وهو يقف استعداد للخروج ..

ارتخى الرجل على أريكته واضعا ذراعه - ذات النتوءات و العلامات الزرقاء - على رأسه ..

أغمض عيناه و هو يعلم تماما بأنها لن تذوقا طعم الراحة بعد اليوم , وجسده لن يتذوق لذة الاسترخاء لثانية واحدة حتى ..

شارف سلطان على الخروج , و لكنه التفت قائلا :" فيصل , هل غفوت .. ؟ ".

فتح فيصل عيناه الهرمتان بشعور غريب مجهول المصدر , لقد مر وقت طويل منذ أن سمع اسمه من شخص غريب نسبيا كـ سلطان ..

رد بهدوء :" ألم ينتهي حديثك ؟ ".

" أين عادل ؟ أود أن أراه ".

وقف فيصل بغضب و كاد أن يحطم كل شيء أمامه , وثب بسرعة و عيناه لا تبشران بخير ..

أمسك به من ياقة ثوبه بعنف و ضربه بقوة على الحائط , قوة جعلت رأس سلطان يرتطم بشدة و يأن بألم و هو يحاول أن يستوعب أحداث الثلاث ثوان الماضية ...

قال فيصل بصوت غاضب و شديد يوشك أن يصم أذان سلطان من حدته :" ليس لك شأن عند عادل , إن سألت مرة أخرى عنه فسأربطك بجانبه و أضرم النيران بكما و أنا أضحك بتشمت , كل ما عليك هو أن تنفذ ما آمرك به , لا تحاول أن تدس أنفك في شيء غير ذلك , أهذا مفهوم ؟! ". قال فيصل كلماته و قد اشتعلت عيناه باحمرار و نضخت عروق وجهه بوضوح .

نظر سلطان إلى فيصل بهدوء يعاكس الشعور القاتل بداخله , و قال ابتسامة عوجاء :" كنت أريده أن يرى ما يقتله وهو حي قبل أن يموت فعليا , ولكن لا يهم , ولست أكترث لشأنه في الواقع , ولكن كل ما أريده هو أن أخرج من مصائبك ممتلئ الجيوب ".

أفلت فيصل سلطان و ذهب إلى باب شقته , فتحه و هو يقول :" سبق لي و أن وعدتك بكل شيء تتمناه , ولكن أنا لا أعطي قبل أن آخذ , هيا أخرج ".

التقط سلطان شماغه الذي سقط بفعلة فيصل , و وضعه خلف رأسه عندما شعر بشيء دافئ يتدفق ببطء - عندما كان فيصل يمسك به - , نظر سلطان إلى شماغه و الدماء التي غطته ..

و أعاد نظره إلى فيصل , الذي قام بدوره بمد يده بمعنى ( اخرج ) ..

خرج سلطان بسرعة و هو يحاول أن يصطبر على انفعالات فيصل القاسية , واعدا نفسه بأن ينتهي كل هذا قريبا ..

أما فيصل فقد نظر إلى المكان الذي ضرب رأس سلطان فيه و قد رأى بقعة دماء صغيرة نسبيا ..

مشى نحوها وهو يخلع قميصه ليمسحها به , ولكنه توقف ..

و عاد أدرجاه إلى الأريكة ..

رُوفِ 07-08-2016 10:52 PM



الفصل السابع :




كان مركز الشرطة يبعد مسافة عشر دقائق فقط عن منزل عبدالرحمن ..

و لكن هذه الدقائق أعادت بدر إلى عدد من السنين المنصرمة , إلى تلك اللحظات التي تشاركها مع والده و التي قضياها لوحدهما ..

و أعادته بقسوة إلى اللحظات التي تمنى فيها وجود أم و طرف حنون في هذه الحياة , حتى كبر و شب ليعي بأن والده قد أجبر نفسه على امتلاك الطرفين – العاطفي الأنثوي و المنطقي الرجولي – ليسد احتياجات ابنه المتمثلة في الأحاسيس المرهفة لأي مراهق , و المتطلبات المتهورة لأي شاب ..

أعادته تلك النقطة إلى ذاك اليوم المأساوي , عندما كان في السابعة عشر من عمره ..

حيث عاد إلى المنزل في وقت متأخر حسب توقيت عادل سليمان , حيث كانت الساعة الواحدة و النصف من بعد منتصف الليل ...

دخل المنزل بهدوء شديد و هو يجمع أكبر قدر من الأعذار الصادقة و التبريرات التي ظن بأنها ستقنع والده و تردعه عن أي عقاب سينفذه ..

توجه مباشرة إلى غرفة الجلوس التي لمح أضوائها المشتعلة و هو يصعد السلالم لمنزلهم الكبير و الفخم الباذخ ..

على الرغم من أنه لا يسكن فيه سوى هو و والده عادل , و خادمة كبيرة بالسن عرضت أن تعمل لديهم بشرط أن يرافقها ابنها البكر , و يعمل لديهم في نفس المنزل ...

وصل بدر إلى غرفة الجلوس الكبيرة , ذات النوافذ العالية التي تصل الى السقف , و هو ينظر إلى ساعته , محاولا استيعاب فداحة الخطأ الذي وقع فيه , و لكن استوقفه منظر والده المثير للرعب و الرهبة ...

فقد كان يجلس على ركبتيه بجانب إحدى الطاولات التي تتوسط الغرفة , و قد كان منحنيا بعض الشيء على نفسه و هو يضع يديه على آذانه و كأنما هناك من صرخ في وجهه و أرعبه ..

وقف بدر مشدوها مرعوبا من منظر والده الذي لم يره من قبل , و الذي بدا و كأنه طفل صغير قد رأى كائنا أسطوريا مرعبا ...

لم يبدو عادل أبدا بهذا الضعف و الانكسار من قبل , اقترب بدر بسرعة و هو يحاول أن يبعد يدا والده عن وجهه و أذنيه و يجعله يرى بأنه قد عاد إلى المنزل ..

و لكن ما ان اقترب بدر منه حتى رآه يرتجف بشكل مثير للقلق , و هو يهمس بكلام نصفه مفهوم , و النصف الآخر ضاع في حنجرة عادل الخائفة ..

لم يتمالك بدر نفسه , و حاول أن يتكلم , و قد اكتساه الخوف من رأسه حتى أخمص قدميه :

" أبي , أبي أرجوك ...ماذا حدث ؟؟ ".

رفع عادل رأسه و لاتزال الرجفة تتخذ من جسد عادل مسكن , وقعت عيناه على ابنه , و ارتعب بدر من عينا والده الحمراء و كأنهما قطع جمر في حلكة الظلام , استمر عادل في الهذيان و قد سقط شماغه من على رأسه و ساءت حالته , حاول بدر قدر المستطاع ان يفهم ما كان والده يحاول قوله :

" أيــ .. أين .. كــ كنت ؟ " قال عادل و الهواء بالكاد كان يخرج من صدره ...

" أبي , اقسم لك أني كنت مع رفاقي , و أنت أعلم بهم أكثر مني , أرجوك قل لي لم هذا الخوف ؟! ". قال بدر محاولا تهدئة والده , الذي قام بدوره برفع رأسه للأعلى و هو يتنفس بعمق , محاولا إزالة آثار الرعب من صدره , ثم أعاد نظره إلى ابنه و هو يقول :

" و ماذا عن هاتفك ؟ " قال عادل بهدوء , ثم اتبع هدوئه هذا بصراخ يكاد أن يساوي الجدران بالأرض :

" لماذا لم تجب على هاتفك عندما اتصلت ؟" ... و نظر إلى ابنه بحدة لا تسبقها حدة , و هو يتنفس بصوت قوي وكأنه فرس جامح سيقتلع كل ما أمامه ...

استغرب بدر خوف والده , الذي رآه من وجهة نظره - غير منطقي - ...

صحيح بأن جميع الآباء يخافون أشد الخوف على أبنائهم و فلذات كبدهم , و لكن ليس بالمستوى الذي وصل إليه والده عادل , و الوضعية المثيرة للريبة التي رآه عليها عندما دخل , فسر بدر ذلك الخوف الذي شعر لجزء بسيط من الثانية بأنه ..." خوف مَرَضي " ...

قال بدر لنفسه : " ربما لأنه لم يبق له على وجه هذه البسيطة من أهل سواي , و قد خاف فقداني كما فقد الجميع من قبلي ... "

توقف بدر عن تفسيراته , وهو يمد يده بهدوء نحو جيب ثوبه , فأخرج هاتفه النقال الذي كان محطما بالكامل , و وضعه بين يدي والده و هو يقول بخفوت :

" لقد تحطم هاتفي بالكامل , حاولت أن أتصل بك لأخبرك عن هذا حتى لا تقلق , و لكنك أنت أيضا لم تجب , لقد أعارني إحدى الشبان هاتفه لأتصل بك , و لكن لا من مجيب !! ".

أمسك عادل بالهاتف و هو ينظر إلى ابنه نظرات استفسار , و قد فهم بدر مغزى النظرات و قال بإقدام :
" لقد سقط مني سهوا عندما كنت راكبا إحدى الدراجات النارية في المخيم مع رفقائي "...

اقترب عادل برأسه من ابنه , حتى لم يبق بينهما سوى مسافة تقاس بالملميترات , و قد ظن بدر بأن والده سيخبره سرا ...

ولكن عادل قام بشم رائحة ابنه , و عاد ليشتم عنقه بقوة , و قد امسك بياقة ثوب بدر بشدة , رفع عادل رأسه بقوة قائلا :
" أهذه رائحة سجائر التي في ملابسك ؟؟"...

ارتبك بدر بشدة , فهو ليس مدخنا ولن يكون , و لم يكن أحدا من أصحابه كذلك , إنما كانت رائحة السجائر بسبب مجموعة من الشباب الذين قدموا إلى بدر و أصحابه ليسألوهم عن أقرب جهة تؤدي إلى الطريق المعبّد , ولكن هؤلاء الفتية , كانوا مدخنين و بشراهة , ولسوء حظ بدر , هو الذي اضطر أن يحدثهم و يدلهم إلى مقصدهم , بعدما تشبعت ملابس بدر و انتشت اثر رائحة سجائرهم و أفواههم ...

طال صمت بدر ...

حتى ظن عادل بأن السجائر كان مصدرها ابنه , وقف بسرعة و هو لايزال ممسكا بابنه بقوة , و لم يعتد بدر أبدا هذه العنف من والده , الذي لم يرى منه سوى الثقة العمياء به منذ مجيئه إلى الدنيا ...

صرخ عادل عاليا مرة أخرى وهو يقول :" لقد سألتك فأجبني , هل السجائر لك ؟؟ "...

" لا ليست لي , أقسم لك يا أبي بأنها ليست لي .. ". رد بدر باندفاع , و كأنما صراخ عادل قد أيقظه من تبلده ...

" لمن هي إذن ؟؟ "...

" إنها لأحد الفتية الذين مروا بجانبنا و تحدثوا إلينا قليلا , لقد وقفت معهم لفترة و أنا أدلهم على الطريق السريع , فعلقت رائحتهم بي , أقسم لك أن هذا ما حدث ! "....

قرر عادل بأن يقتنع , أو ربما يتظاهر بالاقتناع...

" حسنا , لماذا عدت متأخرا !؟ لقد قلت لك أنه يجب أن تكون في المنزل قبل الثانية عشر ... "

وضع بدر يديه فوق يدي والده التي على ياقة ثوبه , و رد قائلا :" أنت تعلم جيدا المسافة بين منزلنا و المخيم , لقد خرجت من المخيم في تمام العاشرة , و لكن الازدحام كان قاتلا , أقسم لك يا أبي " ...

ظل عادل ممسكا بابنه , ولكن يداه قد ارتختا قليلا , و قد أغمض عيناه بتعب , و كأنما هذه الليلة قد زادت من عمره سنين ..

بالرغم من بساطة ما حدث مقارنة بالمصائب التي يفعلها شباب هذه الأيام ... !!

استغرب بدر وجه أبيه , و قد رأى بأن شفتيه قد بدأتا بالارتجاف , و هو يبلع ريقه بصعوبة , ويبدو أن والده لم يعي حتى هذا الوقت بأن ابنه قد أصبح شابا , و ليس عليه خوف بعد الآن ...

قال عادل بابتسامة ذليلة , وصوت خافت برجاء :

" لا تضيع ثقتي فيك , أرجوك يا بدر , إن كنت في يوم من الأيام قد أحببتني و تريد البِرَ بي , فلا تفرط بشبابك أرجوك .. "

و مع استمرار حديث عادل الذي كان ينبع من حرقة قديمة في قلبه , بدأت دموعه بالنزول , تلك الدموع الرجالية التي لا تسقط إلا من سبب لا يفوقه شيء في القسوة .. أكمل عادل حديثه قائلا :

" لقد فقدت أغلى ما أملك عندما كنت بعمرك تماما , في السابعة عشر , فقدت ما لا يستطيع أحدا سوى الله أن يعيده , فلا تجعلني أرى الأمر يتكرر فيك "...

صمت عادل و عيناه تشرحان معاناة قديمة لا يعرف بدر عنها أبدا , و قد شعر بفضول عارم لمعرفة سبب دموعه والده التي طعنت بدر في ذاكرته ...

و لم يشعر بدر بالندم في حياته كهذه اللحظة , و مع أحاسيسه المرهفة و قلبه الشاب الذي حن على والده , كانت دموعه هو أيضا على وشك النزول , و قد امتلأ رأسه بذاك الصداع المؤلم الذي يسبق لحظات البكاء القاسية ...

استيقظ بدر من هذه الذكرى التي لا تثبت سوى شدة محبة والده له , بالرغم أنه لا يستخدم معه ألفاظا حنونة أو لمسات لطيفة , و لكن حب والده له كان على شكل آخر ..

كل على شكل اهتمام صامت و عزم شديد بالأمور , و تعليمه بأن لا شيء يستطيع أن يقف أمام أحلامه و الوصول إلى أهدافه سوى تلك الأعذار الواهية التي قد يضعها هو أمام نفسه ...

زادت رغبة بدر الشديدة في إيجاد والده , و قد أقسم بداخله بأن يجده و يفك أسره من ذاك المعتوه , حتى لو كلفه هذا الأمر حياته ...

التفت بدر ليجد نفسه أمام مركز الشرطة , و كان عبدالرحمن يشير إلى بدر باتجاه سيارته.. نزل بدر بسرعة متجاهلا سيارته و متوجها إلى الداخل ..

و هو يفكر بما سيقوله للعقيد قبل أن يعود للرياض ...

(( متمنيا أن ما سيقوله سيخفف عنه المعاناة قليلا , و يعطيه مجالا و وقتا أكثر في البحث ))


.
.
.

نهاية الفصل السابع ..

.
.
.


و أخيرًا عرفتوا اسم ( غريب الأطوار ) ..

و فيه كثير أشياء أبغاكم تتوقعونها عن فيصل ..

ليش فيصل كان غير مرتاح لسلطان ؟؟

و ليش مع ذلك مازال على علاقة فيه .. ؟؟

و ايش كان يقصد لما قال لسلطان أنه هو اللي دخل عائلته في المشاكل و الأ/ور اللي بينه و بين فيصل ؟؟

و أهم شي .. ليش فيصل ما مسح بقعة الدم اللي في الجدار , اللي هو دم سلطان .. ؟؟



و ننتقل الحين لبطلنا اليافع (( بدر )) ..

ايش ممكن يكون سبب خوف عادل الشديد لابنه بدر ؟؟

و ايش السبب اللي خلاه يبكي بالشكل هذا ؟؟

و أهم شي .. ايش ممكن يكون الشي اللي فقده عادل لما كان بعمر ال 17 , واللي خلاه يخاف على بدر أكثر و أكثر ؟؟

..

منتظرة توقعاتكم يا حلوين .. و لنا لقاء الجمعة القادم ..

و عندي طلب صغيرون مرة (( أبغاكم تجيبون صور لأشخاص تحسون أنهم يشبهون أبطال روايتي )) .. حابة أشوف مدى خيالكم ..

و دمتم بحفظ الله

رُوفِ 07-10-2016 01:21 AM






السلام عليكم ..
جمعة مباركة ع الجميع يارب ..

شكرًا جزيلًا لكل الحلوات اللي يتفاعلون معي و يكتبون لي توقعات جميلة و ذكية و توسع الصدر ..
ما ننحرم منكم يا رب ..

بخصوص الرواية : لا أبيح نقلها أو أخذها دون ذكر اسمي عليها !!

و جميع الشخصيات في الرواية خيالية , و كذلك أسمائهم ..
و إن حصل و كان فيه أشخاص واقعيين بنفس الأسماء فذلك مجرد صدفة ..


.
.

يلّا نبدأ .. ؟!

.
.


الفصل الثامن :



في إحدى الطرق المزدحمة ظهرا في الرياض , يمشي سلطان بسيارته متجها بهدوء إلى منزله , بعدما وقف في إحدى المستوصفات طالبا من الممرضين خياطة ذاك الجرح الضئيل في رأسه , ثم عاد إلى ذاك المنزل الذي ينظر إليه سلطان بأنه مكان للنوم و الأكل فقط , و لكن هذه المرة كان قد كسر هذه القاعدة التي اعتادت عليها زوجته - دلال - التي لا تراه سوى في الصباح عند الاستيقاظ , و في آخر الليل عندما يهم بالنوم و هو لا يدري عن أي شيء بخصوص تفاصيل يومها الممل ...

دخل سلطان إلى منزله متحاملا على الصداع المصاحب لظهيرة الرياض و المعروف لدى الكثيرين , و رمى بشماغه الأحمر لونًا و دمًا على الطاولة ..

ثم اتجه إلى غرفته متجاهلا باقي أركان بيته الذي قد بدأ بنسيان مرافقه , أكمل طريقه إلى غرفته و هو يقف عند المطبخ لثواني و هو ينظر إلى دلال التي تطعم ابنتها ذات الثلاث سنوات - حنين - ....

شعرت دلال به عندما دخل و أحسّت بخطواته المتجهة إلى الغرفة , التي تقع بعد المطبخ بعدة خطوات ,
انتبهت بأنه توقف قليلا بجانب الباب , و نظرت إليه نظرة طويلة ,

و قد رأت نظراته المقابلة لها , تلك النظرات التي اعتادتها منه منذ اليوم الأول من زواجهما , و التي لم تكن في الواقع سوى نظرات باردة و كأنها غير موجودة ...

صمتت قليلا ثم قالت بهدوء :" أهلًا "...

أطال النظر بدلال و حنين وهو يفكر بكلام فيصل ..

( هل الممكن أن يؤذيهما !؟ و لكنهما لا تستحقان أدنى ضرر .. )

( يا إلهي , لم وضعتهما في عمق مشاكلي ؟! .. لم أظن يومًا بأني قد أندم على ذلك .. )

اقترب من زوجته و هو يقول بهدوء :" أريدك أن تجهزي أغراضك و أغراض ابنتك , ربما أسافر اليوم و أعود غدًا , و سأوصلك إلى منزل عائلتك "..

استغربت زوجته كلامه ..

( لطالما كان يسافر و يخرج من المنزل و لا يعود لأيام و لم يكن ليهتم بي أو بابنته .. )
( ولن يكترث إن عشنا أو سقط هذا المنزل علينا .. يا للغرابة !! )

تحدثت و هي تشعر بغرابته :" ولكن هذه ليست المرة الأولى التي تسافر فيها , لقد اعتدت أنا على ذلك , لا تقلق يمكن الذهاب و تركنا ".. قالت كلماتها و أعطته ظهرها لتعود و تطعم ابنتها ..

" ولكن هذه المرة مختلفة , أنا .. أنا قلقٌ عليكم بعض الشيء , هيا اذهبي و ضعي لنفسك القليل من الملابس , هيّا لقد اتصلت على أخيك و قلت له بأنك قادمة " ..

" لا أريد الذهاب إلى عائلتي هناك , أنتم يا سلطان عائلتي , أنت و حنين ... "

اقترب منها و هو يمسح على شعرها بهدوء , و يطيل التحديق بها ... ثم همس لها : " أنا لا أشعر بأن الأمور ستكون على ما يرام , و أنا أصدِّق حدسي دومًا .. هيا اتركي ما بيدك و تجهزي "...

تركها سلطان و دخل غرفته خالعا ملابسه و متوجهًا إلى دورة المياه , ليتوضأ و يصلي بسرعة تلك الصلاة التي لا يخشع فيها بركعة و لا يستوعب من سورها آية ...

أنهى صلاته و ارتدى ثوبا و شماغًا جديدين و خرج مرة أخرى وهو يحمل معه ظرف ورقي صغير , و هو يعي تماما بأنه يحمل في يده نهاية أسرة ( آل سليمان ) كاملة ...

ركب سيارته و انتظر زوجته و سرعان ما خرجت له و أوصلها إلى منزل عائلتها ..

همس لها قبيل نزولها :" استودعتكم الله " ..

وقفت أمام الباب و هي تحث ابنتها على رفع يدها و توديع والدها ..

أكمل سلطان طريقه إلى الشركة و مقر عمله , و نزل إلى المواقف الأرضية و ركن سيارته في أقصى زاوية , و نزل بهدوء و هو يمشي بخطوات ذات تناسق ..

رأى أمامه مصعدين , أحدهما يؤدي إلى جميع أدوار الشركة الإحدى عشر .. أما الآخر فلا يؤدي إلا لمكان واحد فقط :


.. ( المكتب الخاص بعادل سليمان ) ...


مشى بثقة نحو المصعد الخاص بعادل , و هو يضع إصبعه في المكان المخصص للبصمة المسئولة عن فتح الباب , و كان جهاز البصمة هذا مبرمج لبصمتان فقط ..

- بصمته هو و عادل - ..

ابتسم برضا عندما شاهد ذاك الوميض الأخضر و الصوت الدال على قبول البصمة , فُتِح له الباب و دخل و هو ينظر إلى المرايا التي على جوانب المصعد , محاولا تعديل شماغه بينما يصعد للأعلى ...

لم يكن يتوقع يوما سلطان – السكرتير الخاص لعادل سليمان – بأنه سيضطر إلى خيانة رئيسه في العمل و طعنه من ظهره و من الأمام أيضا ..

, و لكن كان يعلم أن حال الإنسان قد تتغير رأسا على عقب خلال نصف يوم أو نصف دقيقة حتى , و كان شعور اللامبالاة يكبر في سلطان يوما بعد يوم , و كأنما خلق هذا الكون ليخدمه هو فقط , غير آبه أبدا بما يجول في خواطر الآخرين , و غير مستوعب أبدا للعبارة القائلة :

" احذر مما تتمناه ".

وصل سلطان إلى مكتب عادل , ذاك المكتب الذي ينبض بألوانه الرجولية الأنيقة , و تلك النوافذ الزجاجية العالية التي تطل على أجمل الشوارع و الأحياء في الرياض , و ألقى بنظره إلى تلك الرفوف الواسعة الزاخرة بالكتب , و التي تقع على يمين الغرفة ,

أخرج سلطان الظرف الورقي من جيبه و أخرج منه ( قرصًا مدمجًا ) بتأني شديد خشية إفساده , أخذ من المكتب محارم ورقية و وضعهما أسفل و أعلى القرص , ثم فعل تماما ما أمره عبدالرحمن بفعله قبل عدة أيام مضت , عندما سلمه القرص :

" اسمع يا سلطان , افعل ما أقوله لك بالضبط , و لا أريد نسبة خطأ أبدا "...

" حسنا , ماذا لديك ؟ " قال سلطان بفضول ..

أخرج عبد الرحمن القرص المدمج الذي كان يحمله معه في سيارته , ثم قال :" خذ هذا , لا أريدك أن تفتحه أو ترى ما فيه أبدا , أو أن يعلم أحدا بوجوده , كل ما عليك فعله هو أخذ القرص , و وضعه في مكتب عادل بعد يوم من اختطافنا له ".

" حسنا , أين تريد أن أضعه بالضبط , في الأدراج , الرفوف , حدِد "..

" يا إلهي يا سلطان , لا تستعجلني , أريدك أن تضعه بين بضع محارم ورقية , وتذهب إلى رفوف الكتب , في الرف الثالث من الأعلى , ستجد في يساره كتابان يحملان اسم ( المعاجم اللغوية ) و ( تفسير القرآن الكريم ) , أريدك أن تدس القرص بينهما بالضبط , و بعد ذلك , أريدك أن تنسل إلى خارج المكتب , مثل الشعرة من العجين , أهذا واضح ؟ " ..

نفذ سلطان ما قيل له , و هو يمشي بهدوء بجانب الكتب , متذكرا تلك الصورة التي وجدها قبل عدة أشهر بين الرفوف , تلك الصورة القديمة و المهترئة, و التي وضعت سلطان في هذا الوضع الراهن ...

نزل سلطان إلى مواقف السيارات و هو يتنهد براحة بعدما أنهى إحدى مهامه , لا يعلم ما الذي يحتويه القرص , أو ما الغرض من وراءه , و لكنه كان لا يريد إفساد المفاجأة على نفسه , كان يعلم أن – فيصل و عبد الرحمن – لا يفكران إلا بما هو جهنمي بالفعل .. !

كان على وشك الرحيل عندما استوقفه صوت شخص يبغضه سلطان بالفعل , على الرغم من أنه لم يرى منه شيئا أبدا , ولكن أسلوبه المتودد في الحديث يجعل سلطان يود لو كان معه سلاحا يفرغه في فمه:

" سلطان , لم أر شخصا مكافحا مثلك يا رجل , إن اليوم عطلة للموظفين , ما الذي أتى بك إلى هنا ؟ ".

قال سلطان في نفسه :

( لدي دقيقتان للحوار معه قبل أن تنفلت أعصابي المربوطة بإحكام ...

و أرد هذا البغيض صريعا على الأرض ... )

" أهلا متعب , ما الذي تفعله أنت هنا ؟ " رد سلطان بابتسامة دبلوماسية ..

" لا , أنا سألتك أولا ".. قال متعب و هو يبتسم بمرح ..

كاد سلطان أن يهوي به إلى سابع أرض , فهو ليس بالمزاج الذي يسمح له باستقبال بعض ( خفة الدم ) ..

" لقد وصاني عادل على بعض الإجراءات في مكتبه , قبل أن تبدأ عطلتي , و أنت ؟ "..

قال متعب بـ هم كبير :" لدي الكثير من الملفات و الأوراق الأمنية التي يجب انجازها , يجب أن أعيد النظر في بعض الحصون الأمنية في الشبكة الإلكترونية في الشركة, يبدو أن عطلة عادل للموظفين لن تفيدني , من الغريب أن عادل أعطانا هذه العطلة لليوم الوطني , يبدو أنه كان يعلم بأننا في حاجتها بشدة "..

" كان الله في عونك , سأخبر عادل لاحقا عن هذا , ربما تحصل على ترقية أيها المناضل ".. قال سلطان باستهزاء وهو يتوجه إلى سيارته ..

" أقابلت عادل مؤخرا ؟ " أتى سؤال متعب مباغتا لسلطان , الذي قال في نفسه :

( حسنا , يبدو أنه ينوي أن يكمل أعماله و هو مفقوء العين , مكسور الذراع ... )

" بربك يا متعب , كيف إذنا طلب مني أن أتي إلى هنا , ليس عبر الهاتف بالطبع " .. قال سلطان و هو يركب سيارته و يمشي خارجا من المواقف ..

تاركا متعب يتجه بملل إلى سيارته , برفقة ملفاته و أجهزته ..

" و هو يجهل تماما بأن يوم غد سيكون أكثر الأيام سوء في تاريخ عمله كاملا ... "

.
.

نهاية الفصل الثامن ..



رُوفِ 07-10-2016 01:23 AM




الفصل التاسع :



وقف العقيد سيف مقابلا لبدر , و طمأنه قائلا : " لا تقلق , لن تعرف الصحافة عن أي شيء ما لم نصرح نحن أو أي شخص آخر ".

" نعم أرجوك , أريد منك أن تشدد على من تحت يدك بأن لا يقولوا طرف أحاديث أبدا عما حصل لوالدي ".

" لا تقلق يا بني ,قلت لك أن لن يعلم أحدا بذلك , و أنت تعلم بأن جميع القطاعات الأمنية في العالم تعمل في غاية السرية و التحفظ , و لكن إن مرت 24 ساعة على اختفاء والدك , فسنضطر إلى التصريح بذلك و نشر خبر اختفائه , أنت تعلم هذا النظام جيدًا".

و بينما كان العقيد يتحدث , كان عقل بدر لا يزال بين طيات تلك المكالمة , و هو يفكر إن كان سيقدر على تنفيذ ما طلبه منه ذاك المختل , و إيجاد والده اليوم قبل غد ...

" و لكنك لم تقل لي ؟ لم أنت ذاهب الان إلى الرياض ؟ " سأل العقيد و في عينيه بعض الشك ...

توتر بدر من سؤاله , لم يتوقع منه أن يسأل و لم يجهز إجابة من قبل , كان يود لو يستطيع أن يصرح له بشأن تلك المكالمة , و لكن حياته والده مرهونة بصمته ...

" في الواقع , أنا ... أنا أرى أنه لا جدوى من بقائي هنا أيها العقيد .. أظنك تعلم بأعمال والدي و جميع الأمور التي تحت يده , لذلك لا أريد أن يشعر أحد من موظفيه بفقدانه أو غيابه , لذلك سأكون في الرياض حتى أزيل جميع الشكوك ... " قال بدر و هو يتنفس الصعداء .

" ولكن أظن بأن موظفي والدك معتادين على غيابه عن شركته , سواء أكان ذلك بسبب سفره أو أشغاله الكثيرة ".. قال العقيد بهدوء ..

" نعم أعلم ذلك , و لكن الوقاية واجبة , أنا راحل الآن .. لا شك أنكم ستطلعونني على آخر المستجدات أليس كذلك ؟! ".. قال بدر قبل أن يتوجه إلى الباب ..

قلق العقيد من نبرة بدر المتهربة , و لكن حافظ على هدوئه و هو يقول " نعم بالتأكيد ... ".

خرج بدر مسرعا و ركب سيارته متوجها إلى الرياض و قد تبعه عبد الرحمن دون أن يفارقه لحظة .. و ما أن وصل,

حتى وقف بجانب أحد المحلات التجارية .. استغرب عبدالرحمن تصرفه , و أوقف سيارته خلف سيارة بدر و هو ينزل بسرعة طارقا النافذة ..

نظر إليه بدر لثوان معدودة ثم فتح له قفل الباب الآخر كإشارة له بأن يركب ..

جلس عبدالرحمن بجانب بدر , وقد التزم الاثنان الصمت التام , قال بدر و هو يضع أصابعه على عينيه بتعب :
" ماذا سنفعل الآن ؟ "

" لا أعلم , حقا إني لا أعلم .. فنحن لا نستطيع التبليغ عن هذا المعتوه أو حتى الوصول إليه بأنفسنا " قال عبدالرحمن بتشاؤم ..

تذكر بدر جزء من المكالمة المشؤومة و ذاك الصوت الخشن المتجهم :

--

" بدء من الساعة السادسة مساء , سيتم وضع خمس مغلفات , في خمس مواقع مختلفة في الرياض , و مهمتك هي إيجادها قبل أن يتطوع أحد لفعل ذلك ".

بدر بغضب :" مغلفات ؟ , لقد خطفت والدي لأحضر لك مغلفات ؟ ".

" لا , لن تحضرها إلي , بل ستحضرها من أجل نفسك , كن على استعداد , إلى اللقاء ".

قال بدر بسرعة و تهور :" أتحاول استفزازي و ابتزازي ببعض المغلفات , تبا لك ولها و لما تحويه ".

" لازلت متهورا , ليتك ترى ما فيها , بخصوص ما تحتويه , فإنها تحتوي على آخر شيء تتمنى بأن تراه , أما بالنسبة لموقعها , فلست الوحيد الذي سيبحث عنها , بل الرياض كلها ستساعدك في ذلك ... ".

--

التفت بدر إلى عبدالرحمن و قال بهدوء : " لقد ذكر ذاك شيئا متعلقا بمغلفات , و بدء من الساعة السادسة ستكون إحداها موجودة في مكان داخل الرياض .. ".

" إذن فإن الطريقة الوحيدة للوصول إلى والدك هي مماشاة ذاك المعتوه فيما يريد .. ".

" وكيف لي أن أعلم أين هي , لم يترك لي أي دليل , و أنا لن أنتظر حتى يصلني خبر عن مكروه أعظم قد أصاب والدي " قال بدر بانفعال و قد برزت العروق في جبهته و ظهر ذاك العرق الصغير الأزرق أسفل عينه اليمنى ..

" هدئ من روعك أرجوك , إن الساعة الآن هي الرابعة و النصف عصرا .. إن لدينا ساعة و نصف لمعرفة أين المغلف , لا تقلق .. " قال عبدالرحمن و هو يضع يده اليسرى على كتف بدر و يضغط قليلا ..

" انظر , هنالك مسجد خلفنا , سأنزل لأصلي الظهر و العصر ثم أرى ما نستطيع فعله , لقد فاتتني الصلوات , استغفر الله العظيم .. " قال بدر و هو يشعر بأن الطريقة الوحيدة للخروج من هذا المأزق هي دعوة صادقة يلفظها أثناء سجوده , لعل الله يشرح صدره ..

نزل الاثنان متوجهين إلى المسجد و صليا , أراد عبدالرحمن الخروج و لكنه التفت إلى بدر , الذي كان جالسا في نفس موضع صلاته , و هو يقول أذكار الصلاة بهدوء ليس له مثيل ..

قال عبدالرحمن :
" ألن تأتي معي , إنك لم تأكل شيئا منذ الصباح , لن تستطيع التركيز في أي شيء , هيا انهض , لا شك بأن والدك ينتظرنا في مكان ما .. ! ".

قال بدر دون أن يرفع رأسه : " انتظر حتى أنتهي من أذكاري "...

استغرب عبدالرحمن هدوء بدر الغير منطقي , وكأن والده لم يصبه شيء , تقدم و جلس بجانبه للحظات ,

ثم سمع بدر يقول بهمس :" لن يخيب الله عبدا أحسن ظنه برحمة ربه , سأجده , نعم سأجده " كان يهمس و كأنما يريد أن يؤكد لنفسه و ليس لعبدالرحمن ...

خرج الاثنان للعودة إلى السيارة , وما إن دخل بدر حتى سمع إشارة تنبيه من هاتفه .. قطب حاجبيه و هو ينظر إلى المكتوب على الشاشة

لقد كان بدر مُفعلًا خاصية التنبيه عندما يقوم والده بالتغريد عبر ( تويتر ) .. أطال النظر إلى شاشة هاتفه و هو يقرأ ما كتبه والده :

-

@Adel_H_Suliman : اهنئ هذا الشعب الرائع العظيم باليوم الوطني , أدام الله هذا البلد آمنا و بارك في ملكنا و من تبعه و والاه ...

-

( لابد من ان هذا المعتوه يمازحني ؟! لم قد يكتب تهنئة للشعب من حساب والدي ؟! أترى هو أيضا لا يريد أن يشعر أحدا بالأمر ؟ و لم قد يفعل ذلك حتى ؟؟ ,

لقد كان مسرورا و هو يهدنني بشأن والدي , و الآن يتصرف و كأنه يريد إخفاء الأمر .. )

نظر عبدالرحمن إلى بدر المدهوش و قال له : " ما بك .. ؟ "

" انظر ... " أعطى بدر الهاتف إلى عبدالرحمن و سرعان ما قال الآخر :" إنه حقا معتوه, لا يمكننا التكهن بما سيفعل , و إن لوالدك ملايين المتابعين , ماذا إذا قال شيئا خطيرا باستخدام حساب والدك ؟! " .

كان عبدالرحمن يتحدث فقاطعه بدر قائلا : " كم الساعة الآن ؟! .. بسرعة " .

" إنها الخامسة إلا بضع دقائق , لماذا ؟ "..

" يبدو بأنك مخطئ بشأن هذا المعتوه , يبدو بأنني أستطيع التكهن بما سيفعله ... " قال بدر بابتسامة ضعيفة فيها بعض الأمل ...

" و ماذا سيفعل ؟! " .. قال عبدالرحمن و هو يتظاهر بالاستغراب ...

" لقد قال ذاك في المكالمة عندما سألته عن المواقع : بأن الرياض كلها ستساعدني في البحث .. "

قال بدر و هو ينظر إلى عبدالرحمن بسعادة هذا الاكتشاف ..

" حسنا ؟! ثم ماذا ؟ " سأل عبدالرحمن و هو يتظاهر بالغباء و الجهل , وهو يعلم تماما ما قد خطط له صاحبه (فيصل) منذ أشهر عديدة قد مضت ...

قال بدر و هو يحس بأن هما كبيرا قد انزاح عن صدره :" إن ذاك المعتوه سيعلن عن مواقع المغلفات عبر موقع (تويتر) , ولكن .... ولكن من سيضحي بنفسه في هذه الحشود الكبيرة للبحث عن مغلفات ؟ .. لا أعلم إن كان سيذكر المواقع فقط .. أم أنه سيستخدم حيلة لجذب الجميع للبحث .. " ...

أحس بدر بالضيق مجددا و هو يفتح أزرار ثوبه العلوية , فهذه المغلفات تحتوي على أمور لها علاقة بـ ( العار ) ..

و ما أن تذكر بدر ذلك , حتى دخل مجددا إلى دوامة التفكير المتشائم و الميؤوس منه ...

قال عبدالرحمن بهدوء : " أظنك على حق , إننا نعرف الآن كيف سنصل إليه , و لكن ماذا إن وجد أحدا المغلف قبلك ؟ إن ذاك قد ذكر شيئا بخصوص العار , أتذكر !! "..

قال بدر بتشاؤم :" نعم , هذا ما يقلقني , ما أن أجد مخرج من هذه المصيبة حتى أقع في أخرى .. تبا له , لقد اختار أسوء يوما قد نشهده في السنة , ستزدحم طرق الرياض بشكل لا يطاق , و لا شك أنه سيضع المغلفات في مكان مزدحم .. لماذا قرر هذا المعتوه الظهور الآن في حياتي ... !! "

وضع بدر رأسه في المقود وهو يهمس : " يارب ساعدني "..


.
.
نهاية الفصل التاسع ..

___


مثل ما أنتو شايفين .. بدينا ندخل في الجزء الحماسي من الرواية .. و لا زلنا في نهايات البداية من الرواية ..

يلا أبغى توقعاتكم

ايش ممكن تكون سالفة التويتر اللي قال عنها بدر .؟ أبغى تحليل تفصيلي يا حلوين ..

و كيف ممكن فيصل يستغل تويتر في خطته ؟؟

و ايش موضوع القرص المدمج ( الـ CD ) اللي أخذه سلطان و حطه في مكتب عادل ؟

و ليش سلطان كانت علاقته ضعيفة مع زوجته بهذا الشكل .؟
ومع ذلك ليش كان خايف عليها و على بنته من كلام فيصل ؟
و ليش ما يحاول يوقف فيصل بدل ما يروح و يطلع عائلته من البيت ؟

و الأهم .. ايش من الممكن يصير لمتعب في اليوم التالي من أحداث الرواية ؟ و هل هالشيء شخصي له أو له علاقة بشغله ؟؟

__

هذي الأشياء اللي أبغاكم تتوقعوها .. و اللي عندها تساؤلات ثانية غير اللي كتبتها , عادي تحطها و تجاوب عليها .. رح يسعدني هالشي أكثر و أكثر ..

و بخصوص البارتات السابقة .. محد حط صور للشخصيات * فيس زعلان * ..

إلى اللقاء للجمعة القادمة .. و دمتم بحفظ الله ..

** ادعوا لي بالتوفيق عندي اختبارات **



رُوفِ 07-10-2016 03:07 AM



السلام عليكم ..
مساء الخير يا حلوين

كيكفم ان شاءالله تمام .. ؟

طبعًا بارتات اليوم حماسية بشكل كبييير .. لأنني بدأنا بالدخول إلى الجزء المشّوق من الحبكة ..
و طبعً أرحب بالمتابعين الجدد .. ان شاءالله تكون الرواية عند حسن الظن ..

يلّا نبدأ .. قراءة ممتعة ..


تنبيه : لا أبيح نقل الرواية أو أخذها دون ذكر اسمي عليها ..


.
.
.


الفصل العاشر :


" جسدي بدأ بالارتجاف , عيناي بدأتا بالانغلاق ..

لابد من أنه معدل السكر في دمي , لقد بدأ بالانخفاض ..

و لكن هذا آخر ما سأُفكر فيه في وضعي الراهن , يا له من وضع !!

لقد تحول كل شيء من الأفضل إلى الأسوأ في غضون يوم واحد فقط , كنت في طريقي إلى أقرب الناس إلي – عبدالرحمن - , والان أنا أجهل حتى لون الأرضية التي أنا عليها ..

بدر .. كل ما أستطيع التفكير به حاليًا هو بدر ..

إن حصل له أدنى ضرر فلن أسامح نفسي حتى تنقطع أنفاسي , على الرغم أنه لا علاقة لي بما يحصل – أو هذا ما أظن – إلا ان دخول بدر في وسط هذه الحرب القديمة لن يجلب له سوى الألم ..

حاول عادل رفع رأسه قليلًا و لكن الألم في مفاصله كان موجعًا بِحق ..

جانبًا إلى الغثيان الذي سرعان ما جعله يحاول التقيؤ ..

و لكن لا شيء ..

جوفه فارغ , و فمه مغلق بشريطٍ لاصق , و رأسه بدأ يثقُل ..

أغمض عينيه بنفَس عميق , ثم عاد إلى الظلام مرة أخرى ...


******


واقفًا بجانب الباب , يستمع إلى تأوهات عادل المكتومة , و التي بدأت بالانخفاض تدريجيًا ..

دخل إليه , أشعل النور ثم اتجه إلى النافذة القديمة ذات الزجاج المعتق ..

و ما أن فتحها حتى بدأت أصوات الآذان تصدح في أرجاء الحي و العاصمة كاملة ..

عاد أدراجه و وقف أمام عادل بهدوء , صَفَعَهُ بِخفة , ففتح ذاك عيناه ببطء , و كان الارهاق قد تمكن منه كليًا ..

نظر عادل إلى ذاك الجسد الذي انحنى أمامه و نز ع الشريط اللاصق عنه فمه ...

يا لهذا الــ ( فيصل ) .. غير متوقع .. غير متوقع أبدًا , هذا أقل ما يُقال عنه ..

سَأَل فيصل بصوته الخشن الأجش :" جائع ؟! "

" ماذا .. مــ ــاذا تريد ؟ " قال عادل و قد تصبب عرقًا ..

" لقد سألت سؤالا واضحًا .. أأنت جائع ؟ " ..

" لا تتلاعب معي , ماذا تريد ؟! "..

وقف فيصل مجددًا و هو يهز كتفيه بلامبالاة .. " حسنًا ,كنت أريد صنع معروف فحسب " .. استدار و ذهب للوقوف بجانب النافذة , مع نسمات الصيف الساخنة , و هدوء المغيب المعتاد ..

" لم كل هذا يا فيصل .. ماذا حصل ؟ " .. قال عادل بأنفاس متعبة ..

" لم تكن هذه الطريقة التي أردت أن ألتقيك من خلالها , لقد تمنيت لو كانت أقسى بقليل ".. قال فيصل بهدوء ..

" أنــ ــ ـا , أنا مديون لك , أنا أعلم " قال عادل بتعب و هو يتنفس بصعوبة , ثم أكمل :" و لكنها غلطتك أنت , لم يجدر بــك أن تظهر مجددًا بها الشكل " ..

" صَدَقت , أنت مديونٌ لي , أما بخصوص ظهوري الآن , فعليك أن تعلم بأنه أنسب وقت للظهور .. السنين التي قضيتها تحت مسمى ( ميت ) جعلتني أراك كما لم أرك من قبل , عرفتك و عرفت نواياك .. و عرفت كل من حولك .. لذلك اسمح لي بأن أُريحَك من الديّن الذي تعلق بعنقك , سآخذ حقي بنفسي .. أما أنت فسأجعلك ترتاح هنا , أليس هذا جميلا ؟ ".. قال فيصل و هو ينحي إلى عادل بشكل مثير للغرابة ..

" لقد خدعت الكل , و أولهم نفسك .. و الذي لم تستطع أخذه أمام الكل , لن تستطيع استرداده في الخفاء .. لن أسمح لك بتخريب كل شيء الان , لن اسمح بذلك أبدًا .. " قال عادل و قد ازدادت قوته مع استفزاز فيصل له ..

صمت الاثنان و هم يحدقان إلى بعض , ما أسوأ شعور الغدر الذي يرمي بك إلى المجهول ..

حينما تخلى الكل عن فيصل , لم يستطع عادل التحدث و الدفاع ..

التزامه الصمت كان قد قتل فيصل ..

قتله جزئيًا فقط ..

و أفاق من الموت ليجعله يدفع ثمن صمته ..

و ها هو الان يعيد إغلاق فم عادل مع مقاومة عادل الشديدة و صراخه الذي ألجمه فيصل بقسوة ..

تاركًا ضحيته في مكانها , و خرج متوجها إلى مساحة جلوسه التي لم يتشاركها طوال تلك السنين سوى مع اثنان ..

يا لهذه الحياة المريرة , و لكني سأتركها قبل أن تتخلى هي عني ..

لن تفيدني تهديدات عادل في شيء ..

و عندما أرحل لن أترك شيء خلفي ..

لأنني و ببساطة لا أملك شيء ..

و لن يشتاق لي أحد , و لن يُحدث رحيلي أي تأثير ..

سأجر مأساتي و أسفي على نفسي معي ..

سبعة و أربعون سنة على وجه هذه الأرض و لم أشهد منها أيام سعيدة , سوى تلك التي عشتها في صغري .. و تركتها خلفي عندما قال الجميع بأنني قد جَنَيت على نفسي ..

لن يحدث كلامي أي تغيير الآن , بل أفعالي هي التي ستغير الكثير ...

كل من هم في عمري يملكون كل شيء , و قد حققوا كل شيء ..

و أنا لازلت أمشي في ممرات هذه الغرف التي قد حفظت تشققات جدرانها عن ظهر غيب ..

لن أموت قبل أن أرى كبش الفداء يحترق أمامي , لن أموت قبل أن يعلم الجميع لماذا كنت ( ميتًا ) في الماضي ..

لن تذهب هذه السنين هباءً ..

لقد خططت لكل شيء ..

و استغليت كل شيء ..

و حُرمت من كل شيء ..

كل هذا بسبب لحظة طيش عابرة ..

أودت بحياتي إلى ما لم أحسب حسابه أبدًا ..

كم هي كثيرة تلك الأيام التي كنت أُجبر نفسي على العيش بالرغم من أن كل شيء حولي كان يدفعني إلى الموت أكثر من الحياة ..



- أيقظ فيصل نفسه من هواجسه .. لقد كانت الساعة تشير إلى السادسة إلا ثلث ..

اتصل سريعًا على سلطان , و هو يقف على قدميه و يطرق الأرض بخفة انتظارا للرد ..

رد سلطان على الاتصال بينما كان يوقف سيارته عند أول موقع لوضع المغلفات ..

" سلطان ؟ أتسمعني ؟! " سأل فيصل بسرعة ..

" نعم ما الأمر ؟ "..

" ماذا بشأن المغلف الأول , أوجدت بعض المرتزقة لفعل ما أريده ؟؟ " .. سأل فيصل بتروي ..

" لا , لم أفعل , سأضعهم بنفسي يا فيصل لا تقلق .. فقط أريد أن أعرف لمَ هذا التشكيك في قدرتي ؟ "..

" يا إلهي .. سلطان استمع إلي .. إنه ليس تشكيكًا , بل إنه سبيل لعدم تعريض حياتك و خطتنا للخطر .. كم مرة علي أن أعيد هذا الكلام ؟!! ".. قال فيصل بغضب و قد بدأت عيناه بالاحمرار ..

" قلت لك لا تقلق .. كل شيء سيكون على ما يرام .. ثق بي , لن يشك أحد فيما سأفعله .. لقد توقفت للتو عند أول موقع .. سأضع المغلف و لن يلاحظ أحدًا ذلك , بجانب أن الشارع فارغ تقريبًا , الجميع يغلقون متاجرهم لصلاة المغرب .. " قال سلطان بهدوء و حيلة ..

" حسنًا , أفعلها بحذر .. و إن حصل أدنى مقدار من الخطأ , فيجب أن تعلم بأني سأقلب عالي حياتك سافلها " رد فيصل بغضب و هو يغلق الهاتف ..

ابتسم سلطان في داخله من قدرته على فعل ما يريد , التفت حوله ثم أعاد نظره إلى المغلف بجانبه .. مغلف أبيض صغير .. من يراه سيقول بأنه لا يستحق كل ما يحصل من أجله ..

و لكن ما بداخل المغلف يستحق أن يخسر المرء حياته لعدم تعريض المغلف للخطر ...

نزل بهدوء من سيارته , و متوجها إلى المكان المقصود ..

أخذ بالنظر حوله و لمح ( برج المملكة ) الذي قد تزين باللون الأخضر احتفالا بهذا اليوم , و قد و توهج البرج مع مغيب الشمس ..

كان يقترب بهدوء من الموقع الأول , مرتديا نظارته الطبية للتمويه , و مستغلا هندامه المرتب لإبعاد أدنى الشكوك , و ضع المغلف في المكان المحدد , و هو متأكد أن لم يره أحد ..

عاد مرة أخرى لسيارته , و اتصل على فيصل و هو يقود سيارته مبتعدا عن المكان , رد فيصل و أخبره سلطان عن إنجاز المهمة الأولى ..

" حسنا سلطان , ابتعد الآن عن الموقع , و كن قريبا من الموقع التالي .. في تمام السابعة " ..

أغلق فيصل الهاتف النقال – هاتف عادل – ثم بدأ بتنسيق العبارات التي على وشك أن تجعل اللعبة تبدأ ..

و في تمام الساعة السادسة مساءً , أضاء هاتف بدر .. مشيرا إلى وجود تغريدة جديدة نشرها حساب والده ...



.
.

نهاية الفصل العاشر ..

رُوفِ 07-10-2016 03:16 AM





الفصل الحادي عشر ( 11 ) ..




( قبل عدة أشهر مضت ) ..

يصعد الدرج بهدوء في منتصف الليل , لقد أتى في وقت متأخر خوفًا من أن يشك به أحد , و متلثمًا بعناية قبل أن يغادر سيارته ..

لكنه لا يزال يشعر بأن هنالك أحد يتبعه , و لكنه اكتفى بإقناع نفسه أنها مجرد وسوسة ..

في اللحظة التي وقف فيها أمام الباب , كان الباب قد فُتح له , ابتسم لحدس رفيقه ..

" لقد علِمت بأنني قادم ! " ..

" و من غيرك يأتي إلى هنا ؟! " .. قال فيصل بابتسامة لـ عبدالرحمن .

" كيف حالك ؟ لم أرك منذ فترة .. كيف تسير خططك ؟ " .. سأل عبد الرحمن و هو يدور بعينيه في المكان ..

" بأحسن حال , لا تقلق .. و الآن أخبرني , ما آخر مستجدّاتك أنت ؟ " ..

" لقد أتيتك بما تريده بالضبط " قال عبدالرحمن و هو يجلس مقابل فيصل و عيناه تحكي الكثير ..

" هيّا تكلم " ..

" منذ فترة ليست ببعيدة , قام عدة فتيان من جدة بعمل مشروع بسيط , و لكنه كان محور حديث الجميع .. لقد قاموا بوضع مبالغ مالية لا تتجاوز الـ 500 ريال في مغلفات صغيرة , و خبئوا المغلفات في أماكن مختلفة في مدينتهم , و نشروا ما فعلوه في (( تويتر )) بحملة خاصة بهم و حساب خاص " ..

" حسنًا , و كيف أخبروا الجميع بمواقع المغلفات ؟! "..

" بسيطة , لقد قاموا بتصوير جزء صغير من المكان , و وضعوا الصورة في حسابهم و كتبوا أسماء الشوارع القريبة من مكان المغلف , و تركوا الشباب يقومون بالبحث و الاستكشاف , ومن يجدها يأخذها ".. أنهى عبدالرحمن حديثه و هو يضع قدمًا فوق الأخرى ..

سكت فيصل و هو يفكر و يحكُ ذقنه .. مغلفات , صور , بحث , و الجميع سيشترك في ذلك ...

" يبدو هذا جذابًا جدًا , سنقوم بفعلها , و لكننا بحاجة إلى خطة بديلة , أريد إنهاك بدر , إنهاكه حد النخاع .. "

" لا تقلق , سنجد خططًا أفضل , و لكن الآن سنعمل على هذه فقط , و مع الأيام سنجد ضالّتنا ... "

" أنت محق , لنرى ما أستطيع فعله ... " قال فيصل و هو يغمض عينيه باستغراق ...


********

الساعة 6:00 م , جنوب الرياض ...

يضغط بخفة على هاتف عادل بين يديه , و هو يبلل شفتيه بشعور الانتصار , و لكنها البداية فحسب ..

لقد فعلتها ..

سأضع الجميع أمام الحقيقة ..

سأخرج بدر من حياته الرتيبة ليوم واحد فقط ..

سأُجعله يشعر بقهر الرجال و حرقة الأعصاب ..

كان على عادل ألا ينبذ الماضي خلفه ..

لقد كنّا على وعود كثيرة ..

اتفاقات عديدة ..

و ماضي أكبر من هذا كله ..

و تركني عند أول منعطف خطِر أواجهه , تركني لأواجه هذا كله لوحدي ..

و استطعت فعل ذلك و استطعت المواجهة ..

و لكن يجب عليه أن يلقى جزاءه ..

كان لدي حلم , و لا زال موجودًا في طيات روحي , و سأظل ألاحقه حتى آخر ساعة في حياتي ..


********

واقفًا عند باب سيارته , يحدق في هاتفه تارة , و في عبدالرحمن تارةً أخرى ..

و فجأة , هتف صارخًا و مناديًا عبدالرحمن :" انظر , انظر إلى هذا , لقد أخبرتك , لقد علمت بما سيفعله .. ".

اقترب عبدالرحمن من بدر مسرعًا و هو يسحب الهاتف من يده و ينظر إلى ما كان بدر يحدق فيه ..
" أنت محق , يبدو بأنه الموقع الأول "..

استعاد بدر هاتفه قائلًا :" لا , لا يبدو , بل إنه بالتأكيد الموقع الأول .. "..

فتح باب السائق و هو يشير إلى عبدالرحمن بالدخول :" خذ , تولى القيادة أنت , و أنا سأكون بجانبك , سنذهب في سيارة واحدة .. " .

ركب عبدالرحمن و ركب بدر بجانبه مغلقًا بالباب بحدة , مشى عبدالرحمن بسرعة و هو يطلب من بدر أن يعيد قراءة الموقع له ..

لقد كانت هناك تغريدتان , و تفصل بينهما ربع ساعة ..

عاود بدر القراءة بينما عبدالرحمن كان يتخطى السيارات بسرعة جنونية ..

كان بدر يقرأ بصوت منخفض ما كتبه – فيصل – بكل ثقة ..

...

@Adel_H_Suliman : مكافأة لأبناء هذا الوطن الغالي , و لنكمل سويًة الفرح العارم بذكرى هذا اليوم , سأعلن أنا شخصيًا عن مكافآت مالية موزعة في أرجاء الرياض كاملة .. و موضوعة في مغلفات مغلقة .. ابتداءً من الساعة 6:00 م , سأعلن عن الموقع الأول ..

...

و مع استمرار قراءة بدر , كانت إعادات التغريد في تزايد , و كذلك التفضيلات ..

لقد أصبحت مبادرة رجل الأعمال : عادل سليمان , هي محور حديث الجميع ..

الذي لطالما كان الداعم الأول للشباب في المجتمع ..

و يبدو بأنه الرجل المفضل لديهم ..

و استمرت التعليقات حول هذه المبادرة في حسابه ..

و الجميع يكتبون و يشركون أصحابهم في هذه المبادرة الغريبة ..

و استمر بدر بقراءة تعليقاتهم وهو يقول :" هذا ما كان يقصده ذاك الدنيء عندما قال بأن الرياض كلها ستساعدني بالبحث !! .. الجميع يتحدثون عن هذه اللعبة التافهة , الجميع سيخرج للبحث , الجميع سيشاركوني البحث عن ضالّتي "..

قال عبدالرحمن محاولًا التهدئة :" لا تقلق , ها نحن الآن متوجهون إلى المكان المقصود , صدقني لن يصل أحدًا هناك قبلنا .. "

عاود بدر قراءة التغريدة الثانية , (( تغريدة الموقع الأول )) :

...


@Adel_H_Suliman : الموقع الأول أعزائي .. في مكان ما بالقرب من - شارع العليا العام – و بالقرب من الإشارة الثالثة .. اذهبوا للبحث هناك ..

...


أسرع عبدالرحمن و هو يحاول الوصول بأسرع ما يمكن ..

و قد كانت المسافة طويلة من جنوب الرياض إلى غربها ..

و قد مرت 25 دقيقة تقريبًا قبل أن يكونوا قريبين من الموقع ..

و مع كل دقيقة كانت تعبر , كانت أنفاس بدر تضِيق به ..

و مع كل مرة يعلقون في ازدحام صغير , كان بدر يتمنى لو أنه يستطيع أن يُلغي الجميع من الوجود !!

و بعد مرور عدة دقائق من التوتر و التفكير الزائد ..

كان عبدالرحمن يستطيع رؤية إشارة المرور المذكورة في التغريدة ..

و لاحظ بدر أن أعداد الشبان في هذه المنطقة وهذه الشوارع في ازدياد ..

و شعر بأن الرياض كلها ستتكاتف لتقف ضده و ليس لتبحث معه !!


قال عبدالرحمن بسرعة :" هذا هو المكان .. أهناك تفاصيل أخرى مذكورة ؟! "..

" لا , لم يذكر شيئًا سوى اسم الشارع و رقم الإشارة المرورية "..

.. أبطأ عبدالرحمن من سرعته و توقف بجانب إحدى المقاهي ..

نزلا بسرعة و هو يتلفتون يمينًا و يسارًا ..

" أين سنجد هذا المغلف اللعين الآن .. ؟" صرخ بدر بتوتر و و يديه ترتجفان ..

" اسمع سأذهب أنا من هذا الشارع , و أنت اذهب باتجاه اليمين من بعد الإشارة المرورية .. سنبقى على اتصال .. هيّا اذهب "

اسرع بدر بالمشي و هو يفكر أين من الممكن أن يضع أحدهم مغلفًا .. !!؟

كان يفكر بتوتر وهو يهمس لنفسه :" لن يضعه في منتصف الطريق بالتأكيد , سيضعه في مكان مخفي و آمن .. ولكن أين ؟ ... أين ؟! "

كان يمشي و هو ينظر إلى المحلات و المقاهي على يمينه .. و فجأة طرأت فكرة في رأسه .. و أحس أن نبضات قلبه في تزايد ..


.
.
.

نهاية الفصل الحادي عشر (11) ..

طبعًا أكثر من كذا حماس مافيه ..

و هالمرة ما رح أحط أسئلة للتوقعات .. أبغاكم انتو تحللون الأحداث و الشخصيات على راحتكم .. أحس ان الأسئلة تحصر التفكير ..

يلّا لا تحرموني من ردودكم الجميلة ..

نقطة مهمة : الكل عارف ان الاختبارات النهائية باقي لها أقل من شهر .. تحبون أنزل بارتات أيام الاختبارات ( يوم الجمعة ) .. أو تحبون أوقف شوي ؟؟

رأيكم يهمني كثيييير .. و الله يوفقني يارب وياكم و المسلمين و المسلمات جميع .. و يرفعنا بالعلم و ينفع فينا هالبلد و هالدين ..

دمتوا بحفظ الرحمن .. تصبحوا على خير



رُوفِ 07-11-2016 02:39 AM




12



انتهى دوامه الرسمي من بعد صلاة المغرب ..

غادر القسم بعدما أعطى بعض الأوامر الرسمية بشأن بعض القضايا ..

و انتهى من التدقيق في جميع الأوراق على مكتبه ..

نزع قبعته العسكرية بينما كان يتوجه إلى سيارته الفارهة ..

جلس متأملا المِقوَد لعدة ثواني و هو يُحدث نفسه :

كيف استطعت مغادرة عملي و هناك رجل أعمال مفقود منذ يوم تقريبًا ؟ ..

ألا يقتضي عملي التضحية بعض الشيء براحتي من أجل الآخرين ؟ ..

و لكني لست مطالبًا بذلك .. فأنا لم أرَ أبنائي منذ يومان تقريبًا .. و لكن ..

يبدو بأني سآخذ حمامًا دافئً و أعود لأتواصل مع رجالي عن هذا الأمر ..

فالموضوع ليس بسيطًا على الإطلاق , ستتفهم عائلتي موقفي و منصبي .. لا مزيد من هذه المشاعر عديمة النفع !

توجه إلى منزله و التقى بعائلته التي كانت تتوزع في جميع أرجاء المنزل .. صعد إلى غرفته و بدل ملابسه بعدما أخذ حمّامًا دافئًا .. و نزل إلى الغرفة الجلوس مجددًا ..

و سرعان ما سمع صوتها الدافئ و هي تخرج من المطبخ .. :" سيف , لقد عدت أخيرًا .. ".. توجهت زوجته إليه بابتسامتها التي يعشق و يديْها التي لها القدرة على جعله ينسى لماذا أتى إلى المنزل أساسًا !!

" أهلًا عزيزتي .. متأسف بشأن هذا و لكن كما تعلمين ... " صمت - العقيد سيف - بابتسامة يواسيها بها على غيابه ..

ردت عليه بجملته المعتادة :" نعم أنا أعلم ما ستقوله .. (( بينما نحن مسترخون هنا .. يوجد المئات من الذين ينتظرون إفراجًا , حُكمًا أو إعدامًا )) ..! ".. قالت له و هي تمده بفنجان القهوة ..

"أرأيت ؟ , لقد بدأتِ بتقمص شخصيتي و أخذ مكاني في هذا المنزل ".. قال جملته و أردفها بضحكة ..

" لن يأخذ أحدًا مكانك أبدًا .. " قالت و هي تُقبِل يده ..

" أين هو ؟! "..

تعجبت زوجته من سؤاله قائلة :" من تَقصِد ؟! "...

رد عليها بينما كان يتناول بعض التمر مع قهوته :" أقصد ذاك المخلوق الذي يتغذى على هاتفه " ..

فهمت زوجته المغزى و ذهبت بجانب السلالم و هي تنادي أكبر أبنائها :" وليد , وليد ألن تلقي السلام على والدك ؟؟ "..

انتظرت - سلمى - بضع دقائق قبل أن تسمع بعض الارتطامات في الدور العلوي .. سألت باستغراب :" وليد ماذا تفعل ؟! " ..

" لا شيء يا أمي .. لا شيء " .. و نزل ذاك الشاب ذو 18 عامًا و هو يقول مازحًا :" أين زوجك ؟؟ " ..

" توقف عن الحديث بهذه الطريقة عن والدك ! "..

" أوليس والدي هو زوجك ؟ .. ما بك ؟ .. إنك تجعلينني أشعر و كأنني ابن السائق .. ! "..

وصل إليها و ضربته بخفة على كتفه و هي تشير بعينيها إلى والده ..

" أهلًا أهلًا .. ".. قال وليد و هو يقبل رأسه أبيه بسرعة ثم ينتقل إلى كتفيه و من ثم يديه .. أوقفه والده عمّا يفعل وهو يعلم أنه يفعل ذلك مزاحًا و ليس احترمًا ..

" أتعلم ؟.. إني أخاف على صحة والدتك منك أنت , و ليس من إخوتك الصغار ! .. " قال سيف و هو يحاوط وليد من عنقه ..

رد وليد بهدوء :" حسنًا .. تبدو الحقيقة واضحة الآن .. أنا ابن السائق !! "..

" كف عن الحديث و اخبرني .. كيف تجري دراستك ؟! "..

" بأفضل حال .. دعنا من هذا الحديث السقيم الآن .. أنا .." صمت قليلًا ثم قال :" أبي لقد سئمت من العيش هنا ! "..

" أتقصد المنزل .. ؟! "..

" لا ليس المنزل .. بل المحافظة بأكملها .. لمَ لا ننتقل إلى الرياض , و أكمل دراستي الجامعية هناك ؟! "..

" و ما الذي يوجد في الرياض و لا يوجد هنا ؟؟ "..

" لابد من أنك تمزح أليس كذلك ؟! "..

" قرار النقل ليس بسيطًا حتى ننفذه بهذه السرعة .. سنناقش هذا الحديث لاحقًا "..

" و لماذا لاحقًا .. أين ستذهب ؟! .. لا .. لا تخبرني أين ستذهب لأنني سأذهب معك في كل الأحوال .. "..

" لن أذهب إلى أي مكان .. بل أريد الاسترخاء قليلًا .. "

" لا وقت للاسترخاء , لقد مضى وقت طويل منذ أن تحادثنا آخر مرة " ..

قالت سلمى بسرعة :" وليد .. ! إن والدك مرهق , اهدأ قليلًا .. و إن كنت تريد الذهاب للرياض في نهاية الأسبوع فاذهب .. لن نمنعك .. "

صمتت قليلًا قبل أن تكمل : " منذ أن فعل عادل فعلته لم تبارح عقلك فكرة روعة و حيوية الرياض .. ! "

سأل سيف وهو لا يزال مسترخيًا :" من عادل هذا ؟! "..

أجابا الاثنان :" عادل سليمان " ..

فتح سيف عينيه بسرعة ..

ما الذي تعرفه سلمى و ابنه عن عادل !! لا أحد يعرف بما أصابه .. و لم يخبر هو أحدًا بذلك ..

سألهم و هو ينهض بهدوء مخفيًا صدمته :" و ما به عادل ؟! "..

أخرج وليد هاتفه و فتح له على الصفحة المقصودة .. تاركًا الصدمة في عينا والده تحكي كل شيء !!!



********


بدأ بالدخول من محل إلى آخر .. و هو يدور بعينيه في جميع الزوايا ..

لابد أن تكون في مكان ما .. إنها مخبأة .. حتمًا في مكان مخفي و آمن !!!

أكمل بدر المشي و هو يسرع باتجاه المحلات التي بدأت بالازدحام النسبي ..

لقد بحث عن المغلفات في جميع المحلات و المقاهي بجانب الإشارة المرورية الثالثة .. و لكن لا شيء !!!

فقرر أن يوسع نطاق البحث .. أكمل السير باتجاه المحلات الأخرى البعيدة .. و لكنه كان يبحث بعينيه فقط ..

همس لنفسه :" ماذا إذا كانت المغلفات في مكان يحتاج البحث الشديد ؟ ذاك البحث الذي يجعل الدنيا تنقلب رأسًا على عقب !! "..

أخرج هاتفه و هو يطلب رقم – عبدالرحمن - .. و سرعان ما أتاه صوت ذاك و هو يقول :" أوجدت شيئًا ؟! ".

" لا .. لا شيء .. سأفقد صوابي , لقد اقتربت الساعة السابعة مساءً .. و لم نجد شيئًا حتى الآن .. ".

" ولا أنا حتى .. لا يوجد أثر لها على إطلاق .. ".

" هل يعقل أن وجدها أحد غيرنا ؟؟ " قال بدر و هو يشهق بصدمة ..

" لا أعلم .. أنا حقًا لا أعلم .. "

" لا .. لن أسمح لذلك بالحدوث .. سأجدها .. حتى لو وجدها أحدًا قبلي .. سآخذها منه .. بالقوة أو بالهدوء !! "..

" إنني أرى بعض الشبان بالقرب مني .. يبحثون و يتفرقون .. ثم يعودوا ليجتمعوا .. يبدو بأنهم يبحثون عنها أيضًا !! "..

" لن يجدها غيري .. حتى لو كلفني ذلك حياتي .. " .. قال بدر غضب و هو يغلق الهاتف بقوة ..

و بينما كان يكمل سيره .. لمح مجموعة من الشبان ينهضون عن طاولة إحدى المقاهي التي تضع جلساتها في الخارج و مطلة على الشارع الرئيسي ..

لفتت نظره إحدى الكراسي التي كانوا يجلسون عليها ..

هناك طرف شيء أبيض يظهر من تحت الإسفنج الذي يوضع على الكرسي !!

أسرع بدر باتجاههم .. غير مصدقُ عيناه .. !


**********

ها أنا أجلس بين أخواتي الصغيرات اللاتي لم يتزوجن بعد !! ..

و اللاتي أتمنى من كل قلبي ألّا يفعلن !! ..

سينتهي بهن المطاف مثلي بالضبط .. و مثل الآلاف من قبلي ..

و لكن ما عسانا أن نقول .. !

لطالما كنت أنا المحور الرئيسي في أحاديث نساء هذه العائلة المختلة قبل عدة سنين ..

و بالطبع كانت أحاديثهن بعيدًا عن مسمعي و لكن كانت أعينهن - التي تسقط علي - تحكي كل شيء !!

تهمس إحداهن للأخرى :

- سيفوتها قطار الحياة ..

و سرعان ما تبدأ الباقيات بأكل لحمي حيةً بأحاديثهن :

- لقد أصبحت عانسًا .. !!

- ألا يوجد من يتطوع لأخذها .. ؟!

- لقد بلغت الخامسة و العشرون من العمر .. !

- عندما كنَا بعمرها .. كانوا أولادنا يغلبوننا في الطول !!

- أتراها فعلت شيئًا لا نعلمه .. ؟

- ربما هناك عيب فيها .. لن آخذها لابني مهما حصل .. فلتفعل إحداكن ذلك !!


لابد من أنهن يمزحن أليس كذلك ؟! .. يتحدثن عن الزواج و الارتباط و كأنه الهواء و الماء !!

لقد كانوا يجعلونني أشعر بأنني عارية في الشوارع .. و بحاجة ( رجُل ) ليستر عليّ !!

لم أكن أكترث لقطار الحياة و الزوجية .. لقد كنت أكترث بشأن الوجهة التي سيأخذني إليها هذا القطار المزعوم !!

ماذا إذا كان سيوصلني إلى هلاكي ؟! ..

أهذا هو القطار الوهمي اللاتي يتحدث عنه , و يجبرن بناتهن على وضع مساحيق التجميل و لبس فساتين لا تناسبهن في الأعراس من أجله !؟

يا للوهم .. لقد ابتكروا هلاكهن و تعايشن معه و هن سعيداتٌ به !!

و لكني خرجت من محيط أحاديثهن و العائلة بأكملها ..

إلى محيط رجل لا يعرف حتى يوم ميلادي !!

و لكنّي صببت الأمل كله و حقنت حياتي كلها في هذه الصغيرة التي تلتصق بجانبي منذ وصلنا ..

همست لها قائلة :" حنين .. اذهبي و ألعبي خارجًا مع الفتيات .. هيّا "..

و لكنها زادت من اقترابها مني و هي تجلس في حضني تقريبًا .. اضجعت على جانبي و أنا أحتويها في صدري و أمسح على شعرها الأملس القصير ..

لا يا ابنتي ..

لا تكوني خجولة هكذا ..

فـ والدتك لم يفدها خجلها و عزلتها يومًا ..

لا تكوني مثلي ..

اذهبي و أقبلي على الحياة و امتصي رحيقها كامًلا ما دام فيك قلبًا ينبض و روحًا تسبح في دمك ..

حتى بعد زواجي بالمدعو سلطان - ابن عمي - .. لم أسلم من كلامهن السمْ .. و أوّلهن أمّي !!

منذ اللحظة الأولى التي طرقت فيها الباب و دخلت منزل العائلة .. استقبلني أخي ...

و لكن لم يكن الاستقبال المرجو .. إنما استقبال من نوع آخر ..

لقد بدأت بالسلام و لكنه رد علي قائلًا :" لماذا أتى بك زوجك إلى هنا .. ماذا فعلتي ؟! "..

و كالعادة .. أحب أن أتحلى ببعض القوة أمام هذا التسلط الرجولي الجاهلي ..

رددت قائلة :" و هل يزرن النساء بيوت أهاليهن عندما يختلفون مع أزواجهن فقط ؟؟! "..

صمتُ و أنا أحدق فيه .. ثم أكملت قائلة :" ماذا لو اشتقت لكم ؟ .. أليس هذا عذرًا كافيًا ؟ "..

" لم تجيبي على سؤالي .. ماذا حدث بينكم ؟ "..

يا إلهي سيقودني هذا إلى الجنون ..

إنني حتى لم أخلع نقابي ..

و ها نحن نتحدث عند باب المنزل !!

ألم يستطع الانتظار حتى أدخل !!؟

رددت عليه لأخفف قلقه المرضيّ ..:" لم يحدث شيئًا بيننا .. إنه مسافر فحسب .. و أحضرني هنا حتى لا أشعر بالوحدة في المنزل .. "..

مشيت إلى الداخل قبل أن أسمع رده .. يا لجاهليته !!

و ما أن وصلت إلى الداخل .. حتى سمعت نفس الاسطوانة من الباقين !!

رُوفِ 07-11-2016 02:40 AM





في الطريق , بدأت خيوط الظلام تحيك الليل ..

معلنةً بدأ ليلة لا ضياء قمر فيها ..

و ها هو يشق طريقه مسرعًا نحو العاصمة ..

مؤكدًا لنفسه جميع شكوكه ..

لم يعُد بدر إلى الرياض بلا سبب .. لقد كان يعلم بأن هناك شيء سيحصل !

لماذا لم يطلعني على الأمر ؟!

كان يجب علي أن أُبقيه لديّ .. أن أحقق معه .. و عبدالرحمن كذلك ..

هناك شيء يحصل من خلف الكل .. و ذلك يضع الجميع في دائرة الشك ..

كنت أنوي إعلان اختفاء عادل بعد بضع ساعات ..

لقد قاربت الأربعة و عشرون ساعة على الانقضاء ..

و لكن .. يظهر لي الآن أن عادل حي يزرق !! أو أن ما يحصل أكبر من ذلك بكثير ..

كنّا سنعلم عنه لو أنه بخير .. !!


********


يمشي وسط الحشود .. و يصطدم بالبعض , و لا يزال غير مكترث ..

كل ما يهتم لشأنه هو ذاك الشيء الذي يحمله بيده ..

أخرج هاتفه من جيبه و هو يتجه إلى سيارته في المكان الذي تركها عبدالرحمن فيه ..

يحاول الاتصال به ..

ولكن ما من مجيب !!

و كأنما انشقت الأرض و ابتلعته ! .. أين ذهب ؟ .. و لماذا انقطع فجأة ..؟

لم أعد أثق بشيء .. عدم رده يقلقني ..

منذ أن حصل ما حصل مع والدي و أنا أشك في كل شيء .. و أتخيل سيناريوهات مرعبة لكل من يتأخر في الرد على هاتفه !! ..

على الرغم من أني كنت أستغرب خوف والدي عند تجاهلي لهاتفي .. و لكني اقتنعت بالسبب الآن ..

أعاد هاتفه و هو يسرع في المشي و النبضات في تزايد مخيف .. على الرغم من سعادته المتناهية في إيجاد ( المغلف ) .. إلا أن هذه السعادة كانت مشوّبة ببعض الرعب ..

هو نفسه ذاك الشعور عندما نحصل على ما نريد .. و من فرط السعادة .. نبدأ بالخوف مما أردناه دومًا !!

جلس في سيارته و هو يعتدل استعدادًا لفتح المغلف ..

مزّق الجزء العلوي من المغلف و هو يحاول استراق النظر إلى الموجود بداخلها ..

أدخل يده بخفة في المغلف و هو يتحسس ماهية الشيء الموجود في الداخل ..

بدأ بسحب محتويات المغلف ببطء ..

" يبدو بأنها أوراق , أوراق ماذا يا ترى ؟ ".. همس لنفسه بغرابة ..

أخرجها و هو يشهق بصدمة .. يحدق فيما بين يديه بعينين مفتوحتين على آخرهما ..

عدل من وضع الأوراق و هو يقلّبها و يهمس بضعف : " مستحيل "..

أنار الضوء الداخلي لسيارته ليتمكن من الرؤية .. و هو ينتفض بعنف و رعب ... !

رعب الخيبة ..

رعب السقوط في هاوية المفاجآت ..

و رعب الخداع من أقرب الناس ..!


********

الساعة 6:51 م ...


ينزل من سيارته بهدوء , و هو يتجه إلى إحدى المقاهي على طرف الطريق ..

بقي 10 دقائق تقريبًا لإعلان الموقع الثاني .. و هو وقت كافٍ لأحتسي فيه شيئًا يخفف حرارة جسدي و جوفي ..

أخرج هاتفه و هو ينظر إلى إحدى صور ابنته ..

كيف استطعت فعلها ؟! .. كيف استطعت التضحية ؟! ..

لقد كنت في موقفً لا أحسد عليه .. كنت في كامل حماستي و دهشتي .. و فضولي أيضًا ..

لم أستطع إمساك نفسي عن معرفة الحقيقة .. كان لابد أن أضحي بشيء لأحصل عليها ..

ما الذي دهاني عندما ضحّيت بهذه الصغيرة ؟! ..

و لكنها بأمان الآن مع والدتها .. لن يصيبهما شيء .. و لن يعلم فيصل أنهما غادرتا المنزل ..

و لكنّي أعرفه .. لقد عاشرته لأشهر عديدة .. إنه لا يضع أي شيء رهن الصدفة ..!

إنه يضع احتمالات لكل شيء ..

ماذا إن عرف عنهما ؟! .. لن يثق بي بعدها ..

لقد اشتريت ثقته بثمنٍ غالٍ جدًا .. و لكن سينتهي كل شيء الليلة ..

سيحصل على مراده .. و سأحصل على مبتغاي ..

اتصل على زوجته بسرعة .. و مع كل ثانية تعبر , كانت هواجسه بشأنهما تكبر أكثر ..

ردت على هاتفها باعتيادية :" مرحبًا ؟! "..

" دلال ؟! ".. قال سلطان بهدوء ..

" أهلًا .. "

تردد قليلًا وهو يقول :" أهلًا .. أ .. أأه .. في الواقع .. أردت أن أخبرك بأني سأسافر الآن .. انتبهي إلى نفسك جيدًا .. و حنين أيضًا "..

" نعم , بالطبع .. لا تقلق .. "..

سكتْ الاثنان و هما يستمعان إلى صمتهما المعهود ..

بادرت دلال بالكلام قائلة :" سلطان ؟.. أيمكنني سؤالك عن أمرٍ ما ؟! .. ".

" ماذا ؟ ".. همس سلطان ..

" أنت تعرف المثل القائل : أخدع أصدقائك و سأخدع أصدقائي .. و لكن دعنا لا نخدع بعضنا البعض "..

صمتت قليلًا ثم أكملت :" ماذا يحصل لك ؟! .. لقد أمضيت 3 سنوات معك .. و انت لم تكن أبدًا مثل هذا اليوم .. ما بك ؟! .. قل لي .. أنا زوجتك و سأسمع منك كل شيء .. سأصدقك في كل ما ستقول "...

سكت سلطان لثواني ..

و هو يرتب الكلام في عقله .. لطالما كانت دلال هكذا .. صريحة جدًا بشأن غرائب الأمور .. لا شيء يمر أمامها مرور الكرام ..

" لاشيء يا دلال , لا تقلقي .. "

" توقف عن الإنكار .. هيّا قل لي .. أنا أعلم أننا لسنا معتادون على تبادل الأسرار , و لكن دعنا نحاول قليلًا .. قل لي ما بك .. لا تجعلني قلقة بهذا الشكل "..

" دلال إنك تبالغين بشأن هذا الموقف .. علي الذهاب الآن .."

" لا لن تذهب .. أكره أن أكون مصرّة إلى هذا الحد , و لكن وضعك يقلقني .. أرجوك يا سلطان أخبرني .. إن كنت قد أحببتني يومًا فقل لي بما يجول في صدرك , لن تستطيع الكذب عليّ "..

صمت سلطان للحظات ..

هل أحبها حقًأ ؟ .. هل أستطيع

أن أبوح لها ؟ ..

أين كنت عنها طوال هذه السنين ..؟

لقد كنت مشغولًا جدًا بأحلام يبدو أنها لن تأتي يومًا .. لقد جعلت هاتين الفتاتين تتخذان من الجدران أصدقاء و من الوحدة خليلًا ..

لمَ لا أبوح لها بالقليل فقط ؟! .. القليل جدًا ..

لعلِّ أرتاح مما يشغلني .. لعل هذه العلاقة الهشة تكتسب بعض القوة و الثبات بيننا ..

تنفس سلطان بعمق قائلًا :" أنت محقة .. هناك شيءٌ ما يحصل .. و لكن هل ستصدقينني إن قلت لك أن معرفتك بالأمر ستزيد من ألمك ؟! "..

" ما حجم خطورة الذي يحدث ؟! "..

" لا أعلم .. حقًا لا أعلم .. قد يكون خطيرًا لدرجة أنه يسلب الأرواح .. و يهدر ما تبقى لنا من العمر "..

" هل ستكون بخير يا سلطان ؟! "..

" نعم .. بإذن الله سأكون .. و لكن الأهم من ذلك أنكما بخير عند عائلتك , سينتهي كل شيء عمّا قريب "..

" حتى الذي بيننا ؟! "..

" إن كنت تقصدين الانفصال , فبالطبع لا .. و لكن سينتهي الوضع المزري الذي كنّا نعيش فيه .. حيث لا أعلم شيء عنك سوى رؤوس الأقلام .. سأعوضك عن هذا كله .. أعدك "..

شيءٌ بدأ يكبر داخل دلال .. شيء لم تشعر به أبدًا ..

إنه ذاك الانتماء لمخلوق يكفيها عن العالم بأسره ..

كيف لقليل من الكلمات أن تعيد تلك البشاشة المفقودة من وجهها الفاتن ؟! ..

لطالما شعرت بالأمومة تجاه ذاك النحيل أكثر من شعورها بالهيام كلما لمحته ..

انتابها شوق مفاجئ بأن تعانق يديه و تقبلها و تهمس له بكلمات قد تكون الأخيرة ..

لقد أخبرها للتو أن ما يعانيه قد يهدر ما تبقى لهم من العمر ..

لكنهم لا يزالون في مقتبل العمر .. أرواح يافعة و قلوب عانت الكثير قد يكون خلاصها عمّا قريب ..
لقد بلغت الثلاثين من عمرها و هي لازالت تحلم بما يحصلن عليه النساء في عمر أبكر ..

و زوجها الحاضر الغائب .. يكبرها بثلاث سنين فقط ..

لا يعلمان حقًا كيف مضت بضع سنوات منذ زواجها .. هناك الكثير ليعوّض .. و الكثير ليقال و يُفسر .. المسألة تحتاج لبعض الوقت فقط .. أو الدهر بأكمله .. !

" كن بخير أرجوك .. "

" ان شاءالله , سأعود قريبًا .. "

" إنهم يضايقونني , لا تطل الغياب .. لم أعد أنتمي إلى أحد سواك .. "

" أقلت يضايقونك ؟! "..

" نعم .. كانوا و لازالوا .. لا تتأخر .. لا يكّفون عن سؤالي بشأنك .. "

" إن سألوكِ مرة أخرى عني .. فقولي لهم بأنه يحبني .. يحبني كثيرًا "..

ابتسمت بخجل و هي تنظر حولها .. تريد أن يسمع الكل ذاك .. تريد أن تصرخ بما قاله لها للتو .. لا شيء من الممكن أن يخرجها من ثمالة السعادة التي غرقت فيها ..

" استودعتكم الله .. " أغلق هاتفه بسرعة قبل أن يسمع ردها .. و نهض متجهًا إلى سيارته ..

ملقيًا نظره على المغلفات المتبقية بجانبه ..


********

في إحدى سيارات الأجرة .. جلس بتوتر و هو يعلم بأن دوره في هذه الحرب القديمة قد انتهى ..

متوجهًا نحو أعز من يملك من البشر , ذاك الذي شاركه أكثر من 30 عامًا من الصداقة ..

تلك الصداقة التي تجعله يتنازل عن جميع القيم من أجل الحصول على ابتسامة رضا من الطرف الآخر ..

وصل إلى وجهته و صعد إلى مسكن رفيقه .. و كالعادة .. يُفتح الباب له قبل أن يطرقه ..

ذاك الحدس المشترك بينهما .. هو ما أبقى كل شيء قائم حتى الآن ..

" فيصل , كيف تسير الأمور معك .. ؟"..

" لقد انتهينا من هذا السؤال منذ فترة أليس كذلك ؟! .. لقد بدأنا بتنفيذ ما خططنا من أجله ..عليك أن تسألني .. ماذا سنفعل بعد ذلك .. "

" أنا مرهق .. مرهقٌ جدًا .. " .. قال عبدالرحمن و هو يستلقي على الأريكة في غرفة الجلوس ..

" نم يا عزيزي .. لقد أتممت دورك بأحسن مما توقعت .. "

و لكن عبدالرحمن كان نائمًا بعينيه فقط .. و هناك ذكرى و مشاهد لا تفارق عقله أبدًا ..

تلك الصور و الأًصوات التي تنسج المشهد من جديد في خلايا عقله .. لقد مضى زمن عليها ..

زمن طويل جدًا ..

و لكن لماذا لا تزال تهاجمني حتى الآن ؟! .. يبدو لأن آثار هذه الذكرى بدأت تظهر الآن في واقعي .. و تعذب من ظلَم .. و تأخذ بثأرنا كلنا ..

إنها ذكرى تلك الليلة .. التي قلبت حياتنا جميعًا رأسًا على عقب ..


---


منذ 22 عامًا .. و في مكان شبيه بهذا المكان ..

سقط فيصل ذو الـ 25 عامًا صريعًا على الأرض ..

و قد تآمرت خلايا جسده على إيقاف قلبه .. و تصبب وجهه اليافع عرقًا ..

و ضخت عروقه الدم إلى محاجر عينيه التي أصبحتا كجمرتين ملتهبتين ..

ركض عبدالرحمن الذي كان بنفس عمره نحوه .. ممسكًا وجه رفيقه برعب و هو يصرخ :" فيصل , فيصل ماذا أصابك ؟؟! "..

لم تكن هناك أجوبة صادرة من فيصل سوى تلك الشهقات و الصوت الداخلي لصدره الذي كان على وشك أن يهدأ للأبد ..

حمل رفيقه بين يديه و قد احتبست الدموع في عيناه .. و هو يرى شريك طفولته و حياته على وشك توديع ما تبقى له من عمره ..

لم يكن هناك الكثير من الوقت لاستدعاء الإسعاف .. فقد وضع عبدالرحمن فيصل في المقاعد الخلفية لسيارته و هو يشق طريقه بسرعة جنونية نحو أقرب مشفى ..

و ما أن وصل حتى توافد الممرضون لأخذ فيصل الشاب المودع نحو إحدى غرف الطوارئ ..

و زرع الأجهزة بجسده و زرع جسده وسط الأجهزة .. محاولين بجهد قاتل إعادة إدخال الروح في هذا الجسد المتهالك الضئيل ..

كان عبدالرحمن يشاهد كل شيء ببعض الشلل المؤقت في حركته ..

لم يستطع الحراك من مكانه .. و لا حتى لفظ دعوة لله لتخرج فيصل مما فيه ..

لقد كان عبدالرحمن في أشد لحظات حياته صمتًا و انكسارًا .. و عينيان تحكي سنين المعاناة التي تحملها في داخله من أجل صداقة أرادها أن تصمد مدى الحياة ..

كان يحدق في ذارعي فيصل ذات البقع السوداء و الزرقاء و بعض النتوءات المؤلمة ..

لقد كان سبب نوبته القلبية واضحًا للغاية .. !

و لكن السبب الأول كان غائبًا عن هذا المشهد الأخير من فيصل القديم ..

رُوفِ 07-11-2016 02:42 AM



14



أحيانًا يكون الصمت هو ردة الفعل المناسبة لتلك الأحداث التي تربط ألسنتنا تمامًا ..

تلك الأمور التي توقفنا عن التفكير و تجعل الزمن يتوقف عن المرور علينا ..

عندها لا نمتلك سوى تلك التنهيدة التي تُخرج معها ملايين من ذرات الهواء , و التي كنّا من الممكن أن نخرجها على شكل حروف و عبارات .. و لكننا ببساطة عجزنا عن ذلك ..

يحدق هذا الشاب الفتّي بما بين يديه , و لا يتحرك منه سوى جفنيه .. :

لا أصدق .. حتى و إن رأيت الأمر بأم عيني لن أصدق .. !!

لا يمكن لذلك الوقار أن يكون مجرد تمثيلًا .. !

لقد عرفت والدي أكثر من أي أحد على هذه الأرض ..

كيف يمكن لبعض الصور الموضوعة في مغلف أن تضعني وسط هذا الكم من الشك ؟! ..

و لكنها .. و لكنها تبدو واقعية للغاية ..

لكن ما اذا كانت الصور لا تحتاج إلى كلمة ( تبدو ) ..؟

ماذا إذا كانت واقعيةً فعلًا .. ؟!

4 صور مختلفة ..

4 صور مملوءة بأجساد تبدو و أنها تتلوى طربًا و شهوةً و نشوةً أيضًا ..

4 صور مختلفة و لكن أمرًا واحدًا هو الثابت فيها ..

إنه وجه و جسد أبي القابع بين هذه الأجساد ..

نساءً و رجالًا .. البعض منهم واعٍ و البعض كان قد أنهكته تلك السوائل ذات اللون و الرائحة المميزتين ..

أحدهم ممسكًا بفتاتين .. و تحاوطه الباقيات من كله جهة ..

و أحدهم ساقطًا أرضًا و ينتشل الجميع ماله من كل جيب ..

و البعض يتظاهرون بالشرف و الوقار .. و قد اتخذوا لأنفسهم مكانًا في زاوية الغرفة ..

لقد كان محتوى الصور واضحًا للغاية .. و ليس هنالك داعٍ بأن استرجع ما شاهدته فيها ..

إنها تبعث بالخوف و الرهبة في النفس لمجرد السماع عنها .. أو استراق لمحة منها ..

لكن ماذا إذا كان أعز الناس يتوسطها ؟! ..

أعاد بدر الصور إلى المغلف ببطء .. و قد تلاشت كل الكلمات من صدره ..

كان يفكر بأن عليه أن يتخذ موقفًا تجاه ما رآه للتو ..

و لكن ما الموقف الصحيح تجاه هذا الأمر ؟!

أيصدق حواسه و عيناه و ما لامست يداه ؟! ..

أم يصدق قلبه الواثق من طهارة أبيه الذي عايشه لـ 21 عامًا .. ؟!

كان ذاك أشنع صراع قد يواجهه بدر في حياته بأكملها .. صراع ما بين العقل و القلب ..



**********


يمشي في طرقات العاصمة التي يحفظها عن ظهر غيب .. و التي تلقى تدريباته الأمنية و العسكرية في مختلف أرجائها ..

كان قد وصل من الخرج في أقل من ساعة .. و كأنه يسابق عقارب الساعة معلنًا لنفسه أن لا مجال للتباطؤ أمام ما يحصل ..

وقف عند إحدى الإشارات الحمراء و أخرج هاتفه بسرعة و هو يتذكر الصفحة التي أراه إياها ابنه وليد ..

دخل إلى محرك البحث العالمي و هو يبحث عن اسم ( عادل سليمان ) ..

و سرعان ما ظهرت له ملايين النتائج من مواقع تواصل و صحف إلكترونية و مقالات مختلفة ..

دخل إلى أول رابط ظهر له في الأعلى .. الصفحة الرسمية لعادل على موقع " تويتر " ..

قرأ تلك التغريدة المشيرة للموقع الأول من هذه المتاهة التي يبدو بأنها ستطول ..

قرأها عدة مرات و الحيرة تتلبسه أكثر في كل مرة ..

فطلب رقم أحد رجال المرور الذين يعملون تحت يده في الخرج ..

طالبًا منه بأن يزوده برقم بدر سليمان .. و بسرية تامة ..

حفظ الرقم على هاتفه و قام بطلبه ..




**********



أدخل الصور في المغلف و هو يضع أصابعه على عينه بإرهاق محدثًا نفسه :

لقد خارت قواي بالكامل من أول مغلف .. و تراكمت جبالًا من الهم على صدري ..

لا أعلم ماذا أقول بالضبط .. هل أقول سامحك الله يا أبي على ما أوقعتني فيه ؟! ..

أم أقول حسبي الله على من وجد هذه الثغور في أفعالك ليهلكني أنا ؟! ..



أعاد رأسه إلى الخلف بضيق و هو يخرج هاتفه ليعاود الاتصال بعبدالرحمن .. و لكن سرعان ما قطع فعله ذاك الاتصال من رقم مجهول ..

خمن بدر أنه قد يكون ذاك المعتوه و يريد أن يضغط عليه بالكلام أكثر .. رد على الاتصال بارتباك :
" نعم ؟! "..

و لكن الصوت في الطرف الآخر لم يكن صوت فيصل الخشن الأجش .. لقد كان صوتًا صارمًا واضحًا ..

" بدر ؟! .. ما الذي يحصل ؟! "..

"من أنت ؟! "..

" أنا سيف .. العقيد سيف عبدالله , ما الذي يجري ؟! .. تصلنا يوم أمس أنباء عن اختفاء والدك .. و اليوم هو يقيم بعض المبادرات الشبابية الوطنية عن طريق حسابه ؟! .. ".

ارتبك بدر من صرامة هذا الرجل و جديته .. و قد كان آخر ما يتمناه هو أن تتم ملاحقته قانونيًا وسط هذه الأحداث الغير منطقية ..

لقد كان موقنًا بداخله أن العقيد لن يجعل الأمر يمر من أمامه مرور الكرام .. و قد تذكر نظراته المملوءة بالشكوك عندما غادر القسم مع عبدالرحمن ..

" أيها العقيد .. إن الوضع ليس كما تظن "..

" ما الأمر إذًا ؟! .. لديك بضع دقائق فقط لتعطيني شرحًا وافيًا لهذه المهزلة .. أو سأضطر أن أجعلك تبيت لياليٍ عديدة في القسم .. "

" اسمع .. آخر ما احتاج إليه الآن هو تهديد آخر .. لن أستطيع أن أخبرك بما يحصل و لن أفعل .. كل ما سأقوله هو أن والدي لا يزال مفقودًا .. و أنا أتعرض للابتزاز من أجله .. ليس هناك شيء آخر لأقوله "..

أغلق بدر الهاتف قبل أن يسمع الرد .. و قام بحفظ رقم العقيد على هاتفه حتى يتفادى الرد عليه مرة أخرى ..

قام بمعاودة الاتصال على عبدالرحمن الذي كان في عالمًا آخر تمامًا ..

أما العقيد فقد أدرك للتو أن حادث السير ذاك كان مركبًا من قبل بعض المبتزين .. و أن عادل سليمان ( مخطوفًا ) و ليس ( مفقودًا ) ..

أكمل العقيد سيره باتجاه الموقع الأول و الذي وصل إليه بسرعة .. و هو متأكد من أنه سيجد بدر في مكان ما هنا ..

مشى لمسافة بعيدة بعض الشيء عن الإشارة المذكورة في التغريدة ..

أما بالنسبة لبدر .. فقد لاحظ سيارة كبيرة بيضاء اللون من نوع الدفع الرباعي .. و هي تدور حول المكان باستكشاف .. غطّى وجهه بغترته و هو يحاول استراق النظر إلى تلك السيارة .. و سرعان ما لمح العقيد سيف في داخلها بلباسٍ غير عسكري .. و هو يتلفت في جميع الجهات ..

أسرع بدر لتشغيل سيارته باستخدام نسخة من مفاتيحه بعدما أعطى عبدالرحمن المفاتيح الأصلية .. و قرر الابتعاد عن هذا المكان بقدر المستطاع ..

كانت الساعة قد اقتربت من السابعة مساءً .. و بدر في انتظار الموقع الثاني و هو يهرب مبتعدًا .. !

أما العقيد سيف فقد قرر ملاحقة بدر عن طريق المواقع و التغريدات .. و محاولة مجاراة الذي يحصل بتسلسل منطقي .. و قد لاحظ الارتباك و الخوف على صوت بدر عن حديثه .. و ذِكره بأنه يتعرض للابتزاز .. !!

حدّث العقيد نفسه : " الأمر واضح جلِي .. حساب عادل مخترق و هناك من يحاول استنفار الجميع بالبحث عن شيء ما .. لا يمكن لهذه المبادرة أن تكون شريفة .. سأتتبع هذه المواقع و أرى إلى أين ستأخذني ..! " ..




**********



خرج من المقهى مارًا بسيارته لأخذ المغلف الثاني .. و بدأ بالمشي على الرصيف بمحاذاة بعض محلات الحلويات الشهيرة .. توقف للحظات بجانب أحدها .. و هو يدس المغلف بسرعة و عناية في الموقع المحدد ..

أكمل المشي ليعود إلى سيارته و يسير باتجاه الموقع التالي ..

و لكن قصة قديمة كانت قد حضرت إلى ذهنه في تلك الأثناء .. و كأن هذا اليوم هو يوم الذكريات و القصص التي صنعت حاضر الجميع ..

قصة أخبره بها أخوه عندما كان سلطان في الحادية عشرة من عمره .. قصة وقعت قبل 22 عامًا !! ..

سرد خالد أخو سلطان - و الذي يكبره بـ 12 سنة - ما حصل معه في مكان عمله .. عندما كان يدرس الطب البشري و يطبق في إحدى مستشفيات الرياض .. وهو في 23 من العمر ..

كان الجميع يقوم بعمله و قد عمّ المستشفى جو من الهدوء النسبي .. و لكن كسر ذاك الهدوء صراخ أحدهم و هو يدخل إلى قسم الطوارئ حاملًا بين يديه جثة هامدة ترتعش بشكل غريب ..

كان خالد واقفًا مع زملائه من طلاب الطب بالقرب من طاولات الإستقبال .. حينما التفتوا بخوف إلى ذاك المرعوب و ما يحمله بين يديه .. و الذي يصرخ مرددًا :" ساعدوه أرجوكم .. بسرعة لا تقفوا هكذا !! .. أحضروا بعض المساعدة هيّا .. "

اتجه خالد و أصحابه إليه و قد تبعهم العديد من الممرضين وهو يسحبون سريرًا ليضعوا ذاك المتهالك عليه .. كانت هذه أول مرة يرى فيها خالد شخصًا متعبًا بهذا الشكل على الرغم من مجيئه المتكرر للمستشفى .. وقف بالقرب من باب الغرفة و هو يرى الأطباء يعانون جاهدين لإنعاش هذا الشاب ..

سمع خالد الرجل الذي أتى حاملًا صاحبه وهو يزود عامل الإستقبال بالمعلومات و هو يتحدث بتردد و يرتعش خوفًا :" اسمه فيصل , إنه فــ في الخامسة و الــ و العشرين "..

همس خالد لنفسه عن مدى صغر سن هذا المسكين , في الخامسة و العشرين !! ..

لم ينس خالد ذاك الاسم أبدًا .. فيصل ..

أول حالة طوارئ شديدة يشاهدها على مدى سنوات دراسته كاملة .. !!

ظل ذاك الاسم محفورا في عقله إلى هذا اليوم .. تساءل خالد في نفسه :" ماذا أصابه يا ترا ؟! .. لم يكن ينزف .. لقد كان يرتعش فقط .. !! " ..

دخل خالد في حالة من السكون و هو يشاهد ذاك الشاب الآخر - و الذي يبدو صغيرًا أيضًا - واقفًا بالقرب من صاحبه بحالة من الشلل في الأطراف .. وحدها عينيه كانت تحكي كل شيء ..

يبدو بأنه كان قريبًا جدًا إلى قلبه .. أهو صاحبه أم أخاه ..؟

اقترب خالد من ذاك الواقف بعينين تبكيان خوفًا و انتظارًا للحياة بأن تعود لذاك الجسد .. وضع يده على كتفه بهدوء قائلًا :" تعال معي .. ".

مشى خالد برفقته وهو يُجلسه على إحدى الكراسي .. بينما وضع ذاك رأسه بين يديه و بدأ بالبكاء المكتوم و حرقة تخرج من طيات قلبه على أعز أصحابه ..

" استعذ من الشيطان .. و قل لي ماذا حصل ؟! "..

تحدث ( عبدالرحمن ) بصوت هامس :" لا أعلم , لقد .. لقد سقط فجأة وهو يرجِف .. لا أعلم ماذا حصل !! .. يا إلهي .. اللهم لا تجعلني أتذوّق مرّ فقدانه .. " .. استمر عبدالرحمن بالدعاء وهو يبكي بصوتٍ مؤلم ..

لم يتمالك خالد نفسه .. و قد امتلأت عيناه وهو يرى عبدالرحمن يضع يديه على جبينه و يبكي و يتنفس بصعوبة ..

عاد خالد إلى المنزل بعد انتهاء عمله , ليجد عائلته مجتمعة في غرفة الجلوس .. خلع معطفه الأبيض و هو يجلس بجانب والدته و قد احمرت عيناه من البكاء ..

سأله الجميع عن السبب .. و قد سرد لهم القصة كاملة و هو يتحدث بحماس عمّا حدث ..

أما سلطان فقد كان يستمع بهدوء و هو يجلس بجانبه والده و يرى مدى الحماس الذي يتدفق من عيني أخاه و حديثه عن إنعاش المريض الذي أتاهم اليوم .. و قد رسخت القصة في عقله كأي طفل صغير .. !



**********


يدُور في تلك الغرفة مجيئًا و ذهابًا .. يحدق في يديه المحروقتين تارة .. و في ذاك النائم تارة أخرى ..

غدًا .. غدًا سينتهي كل شيء .. كل شيء بالنسبة لي ..

كم انتظرت هذا الوقت ليأتي و هذا الشعور ليباغتني و يزف إليّ خبر راحتي المنسية .. لم تعد البهجة و السرور حكرًا لعادل و ابنه .. سيكون لي نصيبًا منها ..

توجه فيصل إلى عبدالرحمن الذي بدا بأنه يغط في سبات عميق ; نتيجةً للسفر و الإرهاق الذي عانى منه و هو برفقة بدر منذ الصباح ..

أدخل يده بخفة إلى أحد جيوب عبدالرحمن و سحب مجموعة من المفاتيح المرتبطة ببعضها بواسطة حلقة صغيرة .. بدأ بتقليب المفاتيح بين أصابع بهدوء و هو يتأملها و يصنفها .. مفتاح لسيارة عبدالرحمن , و آخر خاص بالبوابة الإلكترونية , و مفاتيح أخرى ..

و لكن واحدًا منهم كان ذا لون فضيّ مميز و تغلفه بعض طبقات الصدأ الخفيفة .. أخرج فيصل هذا المفتاح بهدوء و هو يتذكره تمامًا و كيف أن يومًا من الأيام كان هذا المفتاح مِلكهُ لفترة من الزمن ..

كان يتمنى لو أنه أخذه من عبدالرحمن منذ فترة و لكن لم تسنح له الفرصة ذلك .. دسّ فيصل المفتاح في جيب بنطاله و عاد ليضع البقية في جيب عبدالرحمن مرة أخرى ..

وضع يده على خد عبدالرحمن وهو يضربه بخفة ليوقظه :" عبدالرحمن , عبدالرحمن استيقظ "..

فتح ذاك عينيه بتعب هامسًا :" ماذا ؟! .. ما الأمر ؟! .. "

" لا شيء .. أريد أن أقول لك بأنّي ذاهب لمكان قريب من هنا .. حسنًا ؟! "..

" نعم بالتأكيد .. انتبه لنفسك "..

خرج فيصل من شقته .. نازلًا تلك السلالم التي حوّلها الصدأ إلى أوراقٍ هشة قابلة للسقوط في أي لحظة !! ...

و ما أن وصل إلى مخرج العمارة .. حتى داعبت وجهه نسمات الصيف الدافئة .. أخذ نفسًا عميقًا و هو يمشي إلى وجهته ..

" لقد مر وقتٌ طويل منذ أن خرجت من تلك الزنزانة الكئيبة ..

هناك وجوه جديدة تعبر الحي .. محلّات حديثة الإنشاء على وشك الافتتاح ..

و لكن لماذا أُحس بأنني غريب عن هذا العالم بأكمله .. !؟

و خجل يباغتني في كل مرة أنوي فيها الخروج و المشي في هذه الطرقات ؟! ..

لا يعقل بأن الروح التي في داخلي بدأت بالانكماش تدريجيًا ! .. أخجل من التعرّف على أحد .. أو مصافحة أحدهم ..

أو حتى الإعتذار عندما يضرب كتفي أحد المارّة ..

مقابل كل ذرّة قسوة توجد في قلبي .. يوجد هناك ضعف متأصل في روحي ..

لم أعد أنتمي إلى مكان ولا لأحد .. ها أنا أمشي و لكن بحسرة قديمة تفتت خلايا ذاكرتي ..

لم أفعل شيئًا صحيحًا واحدًا في حياتي .. و أنا أعترف .. و لكن في المرات التي احتجت فيها أن يعدل أحدهم أخطائي .. كان الجميع يسخرون من عيوبي .. يهمشونني كما لو كنت فيروسًا يخشون على أنفسهم منه ..

و لكن لا ألومهم .. فأنا حقًا سيء .. لم أجد من يدفعني للحسنى و يعدل من خطاي .. أنا سيء و معجبٌ بسوئي .. "

وصل فيصل إلى وجهته محملًا بنواياه الغامضة و حديث النفس الذي يتلاعب بعقله .. كانت وجهته هي محل صغير في زاوية الشارع لـ نسخ المفاتيح و صنع الأقفال ..

دخل إلى المحل و هو يخرج ذاك المفتاح من جيبه .. استغرب الموجودين شكله و كيف أنها أول مرة يرونه فيها .. و ليس لديهم أدنى فكرة بأنه عاش هنا أكثر منهم جميعًا .. !!

طلب منهم صنع نسخة من المفتاح .. و ردّوا قائلين بأنه سيستغرق بعض الوقت .. ترك المفتاح لديهم و خرج ليشتري له بعض الماء البارد ..

فمنذ فترة طويلة وهو لا يشرب سوى من ماء الصنبور .. على الرغم من محاولات عبدالرحمن الكثيرة لردعه عن فعل ذلك .. و شراء بعض الماء البارد له , إلا أنه كان دائم الرفض ..

و لكن اليوم كان مختلفًا بالنسبة له .. و بشعور جديد يملأ قلبه .. قرر الخروج و المشي و شراء الماء و الحديث مع البعض لثواني !! ..

عاد لمحل المفاتيح و استلم نسخته وهو يضع المال على الطاولة دون أن يكلف على نفسه النطق بـ شكرًا ! ..

كان يمشي عائدًا إلى شقته عندما شعر بشيء يضرب ظهره بخفة .. توقف للحظات و هو يغمض عينيه محاولًا كبح غضبه السريع ..

استدار ليرى طفلة صغيرة واقفةً بجانب أخًا لها و هما يحدقان فيه بخجل ..

تقدمت تلك الصغيرة منه بهدوء هامسةً :" عذرًا .. لم أقصد أن أرمي الكرة عليك .. "

أطال التحديق فيها بابتسامة جانبية لا تكاد تُرى .. معترفًا لنفسه بأن اليوم هو غريبٌ حقًا .. فالابتسامة لم تكن لتعبر شفتاه سوى مرة واحدة في السنة ..

أكمل مشيه و صعد إلى شقته و هو يدعي الله سرًا أن يكون عبدالرحمن لا يزال نائمًا !! ..

دخل ليرى ذاك لا يزال مستلقيًا بإرهاق .. فرِح لذلك وهو يتقدم منه بهدوء و يعيد ذاك المفتاح الفضيّ إلى إخوته في تلك الحلقة الصغيرة ..

توجهت عيناه إلى الغرفة التي وضع عادل فيها .. اتجه إليها و هو يحمل قارورة الماء التي اشتراها منذ دقائق ..

دخل متجهًا إلى عادل .. وأمسك بفكيه و هو يدخل طرف القارورة في فمه و يسكب بعض الماء بخفة .. استيقظ عادل على تلك البرودة التي سرت في جوفه .. لتلتقي عيناه بفيصل ..

تحدث فيصل بهدوء :" أرأيت ؟! .. أنا لست سيئًا إلى ذاك الحد .. " أخذ القارورة مجددًا و سكب القليل على رأس عادل و هو يقول :" يبدو بأنك مصابٌ بالسكر .. أليس كذلك ؟! "..

لم يستطع عادل الرد .. فقد كانت قواه معدومة تمامًا ..

نطق فيصل بسخرية :" غريب ! .. إننا في نفس العمر ولم أُصب أنا بأية مرض ..! "..

" لم تصب بمرض .. و لكنك جلبته لنفسك و بمالك .. " قال عادل بصعوبة و بصوت متعب وهو يحدق في ذراعيّ فيصل ذات الخدوش و البقع السوداء المزرقّة ..

نهض فيصل و هو يخرج من تلك الغرفة .. تاركًا عادل غريقًا فيها مرة أخرى ..

و توجه نحو خزانة في غرفة مجاورة .. خزانة لا تحمل سوى بضع الملابس المكوّمة بإهمال و بعض أشباك العناكب المنتشرة بداخلها ..

أدخل يده تحت الملابس ليخرج صندوقًا صغيرًا كان قد احتفظ فيه لأجَلٍ غير مسمى .. نفض الغبار عنه و هو يفتحه بخفة ملقيًا نظره على محتواه ..

أخرج ما بداخله و هو يتأمله بتفحص ..

( سكين صغيرة مصقولة و مسنونة بعناية .. )

لم يستخدمها قط من قبل .. منذ أن حصل عليها وهو يضعها في ذاك الصندوق بنيّة غير محددة .. و لكن الآن و قد اتضح ما ينوي فعله .. أخذها و هو يدسّها في يده ..

رمى بالصندوق داخل الخزانة و أغلقها .. و اتجه نحو غرفة الجلوس ..

جلس على ذاك الكرسي المفرد الصغير و عيناه تعبران جسد عبدالرحمن من الأعلى و نحو الأسفل باستغراق!! ..

" قرر ما سوف يفعله , فنهض متوجهًا نحو عبدالرحمن و هو يمشي بهدوء و سكون ليس لهما مثيل !! .. "




... نهاية الفصل 14 ...

رُوفِ 07-11-2016 02:43 AM




15

6:56 م – جنوب الرياض


يتراجع إلى الخلف ببطء آخذًا السكين معه مجددًا و واضعًا إياها في جيبه , لاحظ تقلُّب عبدالرحمن بانزعاج ..

عاود الجلوس على الكرسي محدّثًا نفسه بأن انزعاج عبدالرحمن لم يكن سوى قطرة من بحر !! ..

قام بتمرير سبابته على باطن ذراعه اليسرى , محدقًا إلى تلك البقع التي بدأ لونها الداكن يخف تدريجيًا .. تذكر تلك الإبر الصغيرة النحيلة , و كيف أن مفعولها يعاكس حجمها تمامًا .. تلك الإبر التي تجعله يدخل في حالة من النشوة و الخمول القاتلين ! ..

لم يتوقع يومًا بأن ينتهي به المطاف معزولًا و منسيًا بجانب إدمانه للمخدرات بشكلٍ لا محدود , و أن تصبح هذه المساحيق البيضاء و الإبر الرفيعة جزءً من ممارساته اليومية الأساسية , كالأكل و الشرب تمامًا ! ..

لم يستطع نسيان تلك الليالي القديمة البعيدة .. تلك التي أوصلته إلى ما هو عليه .. قبل 30 عامًا , و عندما كان في السابعة عشرة فقط , قرر بتصرفات متهورة أن يجعل حياته تأخذ منعطفًا خطيرًا و أبديًا ..

كان شابًا ناضجًا بقامةٍ طويلة و جسدٍ حيوي للغاية , جانبًا إلى بشرته الحنطيّة و ملامحه الوسيمة التي ورثها من والدته المتوفاة .. و بعينين حادتيّن للغاية بلونها الفاتح الذي يُجبِر الجميع على التحديق إليها لوهلة من الزمن ..

في إحدى الليالي - والتي تشابه التي قبلها - خرج من المنزل لوقتٍ متأخر دون علم والده الصارم قاسي الطباع .. شعر بالسعادة و هو يكرر اختراق إحدى أهم القواعد التي وضعها والده : لا خروج من المنزل بعد الساعة التاسعة مساءً ! ..

كان كثير التساؤل حول تصرفات والده القاسية , و مع كل مرة يتواجه فيها معه و يحتدّ النقاش , كان يدعو لوالدته بالرحمة سرًا .. فمنذ رحيلها عن الدنيا و والده لا يتعامل معه و مع إخوته سوى بالصرامة و الحزم , ظنًا منه بأن المنزل سينضبط بهذا الأسلوب و أنه سيتمكن من أخذ دور الأب و الأم في آن واحد ! , بعدما كان شديد الاتكال على زوجته اللطيفة , قررت هي تركهم و التحليق عاليًا بروحها الطاهرة ..

مشى فيصل الشاب نحو إحدى الاستراحات التي كان يتردد إليها مؤخرًا , بعدما تسلل من المنزل بنجاح , جلس مع أصحابه و قضوا الليل كاملًا بلعب الأوراق و التدخين , بينما البعض منهم كان يشاهد المباريات الدورية بصحبة شيشة طويلة يملأ دخّانها المكان بأكمله ..

و مع اقتراب وقت الفجر كل يوم , يكون فيصل قد استلقى بخمول و كسل شديدين بعدما امتلأ أنفه و فمه بمسحوقٍ أبيض كان يزوده به أحد أصحابه ..

و في كل مرة كان يدفع نفسه للنهوض بصعوبة متوجهًا لصلاة الفجر قبل حضور والده .. و في كل مرة كان ينجو من كشف أمره , و يعيد الكرّة في اليوم التالي ..!

أيقظ فيصل نفسه من ذكريات المراهقة السيئة .. هامسًا لنفسه :" كم كان الطيش يملأني ! .. و ذاك الشعور بعد التعاطي .. لم يكن يعادله شعور أبدًا .. و لكن المشاعر التي كانت تُسعِدُني قتلتني .. يا للسخرية! .. "

نظر إلى الساعة المشيرة للسابعة مساءً .. أخذ هاتف عادل و أعلن عن الموقع الثاني من هذه السلسلة المنهكة لبدر ...



**********



أمسك بهاتفه الذي أصدر تنبيهًا على وجود تغريدة جديدة بينما كان يتخطى السيارات بسرعة , كان الآلام في رأسه تزداد كل ثانية , و هو يجهل إن كان سيقدر على إكمال مسيرة البحث أم أنه سيفقد قِواه أمام كل هذه الفوضى .. !

قرأ التغريدة المشيرة للموقع الثاني مرارًا و هو يبحث في لوحات الطرق عن أقرب طريق يوصله إلى الموقع , و مع مرور الوقت كان بدر يفكر بجديّة حول أمر العقيد سيف , هل يخبره عن الأمر ليكسبه في صفّه ؟! .. أم يستمر في البحث لوحده و يتخلص من المغلفات ثم يُطلِعهُ على الأمر ؟! ..

كان بدر في أوّج حيرته و هو يفكر في ذلك :" العقيد إن علِم عن حقيقة الأمر فستكون مساعدته كبيرة جدًا , و لكن ماذا إذا استعان بأفراد الشرطة ؟! و نفّذ ذاك المعتوه تهديده بشأن قتل والدي ؟! .. لا يمكن التكهن بما سيفعله أو ما يخفيه .. يبدو بأنني سأمضي في الصمت و أتجاهل أمر العقيد و آخذ حذري , و عندما ينتهي كل هذا و يتحرر والدي سأخبرهم عن كل شيء , و لكن ليس الآن .. "

كانت الطرقات تزداد ازدحامًا مع مرور الوقت , حيث تزيّنت الكثير من الشوارع و المركبات بالأعلام الخضراء و العبارات الوطنية , فيما توقف بعض الشبّان في وسط الطريق مسببين إعاقة كبيرة في السير , وذلك لينزلوا و يبدؤا بالرقص على أنغام تلك الأغاني الوطنية التي تصدح من سياراتهم , متفاخرين بكمية الاستهتار الهائلة التي يمتلكونها و يجعلون الجميع يتوقف بسببها !! .

ظل بدر عالقًا في السير لمدّة 15 دقيقة تقريبًا و وهو على وشك أن ينفجر غيظًا من تلك الممارسات الحمقاء , و لكنه يلوم في المقام الأول فيصل , الذي اختار هذا اليوم الغير اعتياديّ ليمارس فيه حماقاته و تهديده ! ..

كاد بدر أن ينزل و يكمل سيره مشيًا على الأقدام , و لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة عندما بدأت تمشي السيارات بشكل عمليّ .. اقترب بدر من المخرج الذي سيوصله للموقع و سرعان ما اجتازه بسهولة و هو يشق طريقه بسرعة .. فهو قد استوعب تمامًا أنه من اللحظة التي يُعلن فيها فيصل عن الموقع , سيكون المغلف في خطر حتى يجده , أو أنه سيقع في الأيدي الخاطئة و يحصل ما لا يُحمد عقباه ! . أزال بدر شماغه عن وجهه وهو يضعه على كتفه بعدما بدأ يتعرق بكثرة , كان يقترب أكثر من الموقع الثاني , و قد تمكن أخيرًا من الوصول خلال ثلث ساعة , ركن سيارته بالقرب من الموقع المذكور و غطى فمه و أنفه مرة أخرى بشماغه و هو ينزل و يكمل المشي على الأقدام . كان يتلفّت في جميع الجهات و يبحث بعينيه عن أي شيء مثير للغرابة .. و فجأة و دون سابق إنذار , لمح شابّان يمشيان نحو بعضها فيما كان أحدهم يحمل مغلفًا أبيضًا بين يديه و قد علَت على وجهه ابتسامة انتصار !! .

ظل بدر يحدق في ذاك المغلف غير مصدقًا عيناه , لقد حصل بالضبط ما كان يخشاه , و هو وقوع المغلف في أيدي صغار طائشين ..

علِم أنه يمتلك أقل من دقيقة فقط ليستعيد المغلف منهم بأكبر قدر من السرعة و الدهاء ! .. و إلا ستضيع تلك السمعة الثمينة , و ثقة الجميع و احترامهم ..



**********



اقتربت سيارته البيضاء من الموقع فركنها و نزل وهو يدور بعينيه على أرجاء المكان ..


(( حي الروضة , تقاطع شارع عبادة بن الصامت و شارع الأمير فهد بن جلوي .. ))


كان العقيد راكنًا سيارته عند محل حلوى شهير , بينما بدر كانت سيارته مركونة في الجهة الأخرى للمحل , مشى العقيد مسافة قصيرة عندما لفت نظره ثلاث شبّان يبدو أنهم على خلاف , وقف وهو ينظر إليهم و قد استغرب أن أحدهم كان يغطي وجهه بشماغ أحمر و يبدو منفعلًا للغاية ..!

بدأ العقيد يقترب منهم بهدوء حين اشتبكوا في شجار بينهم فجأة .. كانا شابيّن مقابل واحد .. بدأوا بتوجيه الركلات إلى بعضهم و اللكمات أيضًا .. و كان الشاب ذو الوجه المغطى يبدو و كأنه يريد انتزاع شيء منهم .. قال أحدهم للآخر :" خذ المغلف و توجه إلى السيارة , سأتدبر أمر هذا السافل لوحدي ". و ما أن همّ الآخر بالرحيل و تنفيذ ما طُلِب منه , حتى قام الشاب مغطى الوجه بالركض خلفه و إسقاطه أرضًا , داس على يده التي تحمل المغلف بقوة و انتزعه بسرعة , و لكن الشاب الذي خلفه هاجمه و قام بنزع الشماغ عن وجهه بقوة و كشف هويته .. و ضربه على فمه ثم دفعه أرضًا بشدّة ..

فتح العقيد عيناه بصدمة و هو يحدق في وجه بدر و قد نزفت شفته السفلية بغزارة .. ركض العقيد نحوهم صارخًا :" بدر , توقف مكانك , بدر "..

التفت الشابان إلى العقيد سيف , فاستغل بدر انشغالهما و أخذ المغلف من الأرض و فر هاربًا بسرعة .. أمر العقيد الشابان بغضب :" أوقفوه حالًا , هيّا , لا تدعوه يهرب .. "

نظر الشابان خلفهما فلم يجدا أحد , فقد كان بدر يحاول عبور الشارع و قد استاء السائقون و الركّاب بشدة منه و قد كادوا يدهسونه بسياراتهم .. عَبَر الشارع الأول و ذهب إلى الثاني , توقف أمام سيارة أجرة يقودها رجل آسيوي كبير بالسن , فتح بدر باب السائق بعنف و سحبه إلى الخارج دافعًا إياه على الأرض .. و ركب تلك السيارة و لاذ بالفرار بأقصى سرعته , كان العقيد يلاحقه بسيارته هو الآخر , و لكن بدر أخذ منعطفًا مفاجئً و قد اختفى فجأة داخل أحد الأحياء السكنية المظلمة و الهادئة ..

ظل العقيد يمشي في أنحاء الحي بحثًا عن بدر و لكن لا أثر له , بينما خرج بدر من ذاك الحي بعد دقائق و قد غطّى وجهه بإحكام و توقف بجانب إحدى محطات تعبئة الوقود .

أمر العامل بتعبئة خزّان الوقود بالكامل , و نزل هو متوجهًا إلى قسم تصليح السيارات , خفف من تغطية وجهه و توجه نحو حقيبة موضوعة على جانب أحد السيارات المعطلة , كانت الحقيبة مفتوحة و مملوءة بأدوات و معدّات التصليح , قام بأخذ مفتاح صغير للمسامير دون أن يلاحظه أحد , و عاد باتجاه سيارة الأجرة و مشى بعدما أعطى العامل مبلغًا كبيرًا من المال و طالبًا منه أن يحتفظ بالباقي .

مشى نحو إحدى الأحياء السكنية البعيدة بعض الشيء و هو يمشي بهدوء و يتوقف بجانب أحد المنازل المظلمة , نزل متوجهًا إلى خلفية السيارة و قد حمل معه مفتاح المسامير , نظر إلى لوحة السيارة بسرعة و قام بفك مساميرها و التخلص من اللوحات الأمامية كذلك , كان يعي تمامًا أنه سيكون ملاحقًا من قِبَل الشرطة لسرقته السيارة , و لكنه كان يردد في نفسه :" الغاية تبرر الوسيلة "..

ركب السيارة بعدما رمى باللوحات في القمامة , و جلس و هو يُخرج المغلف الثاني من جيبه الأيمن , فتحه بسرعة و سحب الصور التي بالداخل ..

كانت عبارة عن نُسَخ طِبق الأصل من تلك التي في المغلف الأول , أربعة صور مختلفة و وضيعة و الثابت فيها هو والده .

تذكر اللحظة التي لمح فيها الشابّان الصغيران - و قد كانا في الثامنة عشر تقريبًا - و هما ينظران إلى المغلف بتفحّص , لقد كادا أن يفتحاه عندما أتى بدر إليهم مسرعًا و قال :" عذرًا و لكن .. هذا المغلف لي "

قال الشاب الأول :" لا , إنه لنا .. لقد أعلن عادل سليمان عن وجود مغلف في هذه المنطقة .. و قد حصلنا عليه , هيّا اذهب من هنا "

بدأ بدر بمحاولة اختلاق كذبة مُقنعة , و قد قال بصوت واثق يشوبه بعض الغضب :" في الواقع هذا المغلف لي , لقد طار مع الهواء عندما كنت أضعه على مقدمة سيارتي .. المغلف الذي أعلن عنه عادل كان قد وجده بعض الأشخاص , لقد قال عادل ذلك على صفحته في ( تويتر ) .. يمكنكما التأكد من ذلك , و الآن هل بإمكاني استعادة مغلفي "..

نظر الشاب إلى صاحبه بإحراج , ثم أعطى بدر المغلف قائلًا :" نحن آسفان بشأن هذا , عذرًا .. "

ابتسم بدر بانتصار و هو يأخذه و يمشي عائدًا إلى سيارته و يلتفت إليهما بتوتر .. و لكن الشاب الآخر قال مستغربًا :" عذرًا و لكن .. لماذا تغطي وجهك بهذا الشكل ؟! "..

سمع بدر ما قاله و هو يسرع بالمشي , انتاب الشابان الشك بأنه كاذب , فلحقاه بسرعة و هما يسحبان المغلف منه بعنف .. أدرك بدر أن الكذب لن ينفع في هذا الموقف , و أنه لا مفر منهما سوى بالقوة .. فقرر استخدام العنف و الشجار للمرة الأولى في حياته على الرغم من طِباعه المسالمة ..

رنّ هاتفه فجأة و قد شق الصمت الذي غرق به , رفع هاتفه و كان العقيد هو المتصل , تردد كثيرًا في الرد و لكنه ترك الهاتف جانبًا و تجاهل الاتصال ..

كان عقله مشغولًا بعبدالرحمن بشكل لا يُصدق , حاول الاتصال عليه و لكن .. لا رد !!

رن هاتفه مرة أخرى و كان العقيد , سحب بدر نفسًا عميقًا و هو يرفع كتفيه و يخفضهما ليزيل توتره .. و قرر بذلك الرد على العقيد لعله يتفهّم الموقف ..

أتى صوت العقيد سيف غاضبًا و متجهمًا إثر تصرفات بدر :" ما الذي تحاول فعله ؟! .. إن هروبك و اختلاقك للمشاكل بهذا الشكل يجعلك المشتبه به الأول فيما يحصل لوالدك .. أتعلم ذلك ؟! .. "

" عقيد سيف , إن سلامة والدي مرهونة بصمتي , أتعرف ما يعنيه ذلك ؟! .. أية حرف أو كلمة سأقولها لك ستعرض حياة والدي للخطر .. إن مُختَطِفُه جاد جدًا , جاد بشأن كل ما يفعله .. اعذرني على ما سأضطر لفعله في الساعات القادمة , فإن الغاية تبرر الوسيلة .. عندما ينتهي كل شيء أعدك بأن أعطيك شرحًا وافيًا لهذه المهزلة .. و لكن ليس في الوقت الراهن .. في الواقع أريد منك أن تسدي خدمة إلي "..

" و ما الذي سيدفعني لتقديم أي خدمات إليك ؟! .. "

" لأن هذه الخدمة هي ما ستبقي والدي على قيد الحياة .. أريد منك عدم إبلاغ أي وحدات أمنية عمّا يحصل .. أو اللجوء لأفراد الشرطة لملاحقتي .. أيمكنك فعل ذلك ؟! "..

" أستطيع تتبع هذه المكالمة و معرفة موقعك .. و لكنني لن أفعل .. فأنا أصدقك جزئيًا .. لقد رأيت عيناك عندما أخبرتك بشأن فقدان والدك .. و تلك النظرات التائهة التي اكتست عيناك لا يمكن أن تكون تمثيلًا .. لقد قضيت كل سنوات عمري في هذا العمل .. و أستطيع تمييز الصادق مِنَ الكاذب .. لذلك أنا اختار أن أُصدقك و أعرض عليك إخباري بما يحصل يا بدر .. إن أنا صدّقتك فغيري لن يفعل ذلك .. "

" أنا آسف , حقًا آسف .. أتمنى لو أستطيع أن أكون عند حسن ظنك و لكن لن أستطيع إخبارك عن أي شيء .. سأفعل كل ما في وِسعي في هذه الساعات و أرى كيف سينتهي الأمر , بعد ذلك سأعطيك زمام الأمور بالكامل .. و لكن ليس الآن و ليس في هذه اللحظة .. "

أغلق بدر هاتفه بسرعة دون سماع الرد , و نظر إلى الساعة المشيرة إلى السابعة و أربعون دقيقة .. لقد استغرق وقتًا طويلًا ليتمكن من الفرار من العقيد و جعله يضيع في وسط الأحياء .. أعاد ظهره بإرهاق شديد وهو يتأوه بتعب .. يتمنى لو يستطيع أن يشتكي و يخبر أحدًا عمّا يحصل .. كم يتمنى لو بإمكانه إخبار الشرطة عن كل هذا و إنقاذ والده خلال دقائق , كان يفكر كثيرًا بتجاهل تهديد فيصل و اللجوء إلى الشرطة و لكنه لا يستطيع التنبؤ بما سيفعله فيصل عندما يعلم .. لن يضحي بوالده و يستدعي الشرطة بسبب لحظات عابرة من الإرهاق و الألم المفرطان .

قرر الاستمرار لوحده في كل هذا , و لا يزال عقله غير قادر على استيعاب كل هذه الأحداث التي حصلت خلال يوم واحد فقط , لقد فقد والده يوم أمس و ذهب إلى الخرج صباح هذا اليوم , التقى بعبدالرحمن و عاد بصحبته إلى الرياض و سرعان ما بدأ الإعلان عن تلك المواقع التي كانت تحمل له أسوأ الأسرار على الإطلاق ..

أخذه تفكيره إلى عبدالرحمن و قرر الاتصال به للمرة الألف ! .. و قد كان الأمل في قلبه يتلاشى مع كل مرة لا يجيب فيها ذاك ..

و لكن بدر تفاجأ عندما رُفع هاتف عبدالرحمن .. قال بدر بتردد :" عبدالرحمن , أتسمعني ؟! أين كنت يا رجل ؟! .. لقد قلقت جدًا بشأنك , كيف لك أن تختفي فجأة هكذا ؟ .. أأنت بخير ؟! .. "

لم يكن في الطرف الآخر سوى صوت أنفاس منتظمة .. و هدوء تام , كما لو أنه في مكان معزول تمامًا ..

استغرب بدر تجاهل عبدالرحمن له :" عبدالرحمن ما بِك أجِبني ؟! "..

" لِمَ أنت قلِقٌ إلى هذا الحد على عبدالرحمن ؟! "..

لم يكن ذاك صوت عبدالرحمن , و لكن بدر استطاع تمييزه على الفور ! ..

" أنت ؟! .. كيف وصل هاتف عبدالرحمن إليك ؟! "..

" أنا لا أمتلك هاتفه فقط , بل عبدالرحمن بأكمله في ضيافتي الآن .. "

تلفت أعصاب بدر تمامًا من تصرفات هذا المعتوه , صرخ بدر قائلًا :" أيها المريض الحقير , ماذا فعلت به ؟! .. أختطفته هو الآخر ؟! .. إن ما بيننا متعلق بوالدي فقط , ليس لعبدالرحمن شأن فيه .. إياك و أن تلمس شعرة منه أهذا واضح ؟! .. "

قال فيصل بهدوء :" أنا لست مريضًا حقيرًا , أنا فيصل , أما بشأن عبدالرحمن , فأنا لم اختطفه أبدًا , و إياك أن تدافع عنه و تهددني من أجله .. لأنك ستشكرني على ذلك يومًا ما ! .. "

" أشكرك ؟! .. لا علاقة لعبدالرحمن فيما بيننا , ضعه خارج الموضوع .. "

" انس أمر هذا البدين و أخبرني ؟ كيف تسير الأمور مع المغلفات ؟! "..

" إنها مزيّفة , أنا متأكد .. لم يكن والدي ماجنًا يومًا "..

" و لم هذه الثقة العمياء ؟ .. هذه الثقة ستوقعك في المصائب صدقني .. "

" مصيبتي الوحيدة هي أنت ! .. ماذا تريد ؟! .. لنفترض أنني وجدت جميع المغلفات , ماذا سيحدث بعدها ؟! لنفترض أنك استطعت اقناعي أن الصور حقيقة و أن والدي ماجنًا فعلًا .. ما شأن الجميع ليعرفوا هذا أيضًا ؟! .. لا أكترث إن فقد الجميع ثقتهم بوالدي و لم يعودوا ليحترموه , لا أكترث بشأن هذا أبدًا .. كل ما أكترث له هو استعادة والدي " ..

" و لم أنت غاضب لهذا الحد ؟! .. إن هذا اليوم الحافل فوائده عائدة إليك .. انظر للأمر من هذا المنظور , ستفقد بعض الكيلوجرامات إثر البحث و المشي الطويل " ضحك فيصل بشكل مُستفِز للغاية ..

صمت بدر لعدة ثواني ثم قال :" ماذا فعَل ؟! "

استغرب فيصل السؤال :" مَن تقصد ؟! "..

" أقصد والدي , ماذا فعل لك لتقوم بهذا كله ؟! "..

" عندما تستعيده بسلام , يمكنك سؤاله عن ذلك .. " أغلق فيصل الهاتف و أعاده إلى عبدالرحمن الذي نهض من نومه عند انتهاء الاتصال ..

" من كان ذا ؟! "..

" إنه بدر , لا عليك لقد تخلصت منه .. "

" شكرًا , لقد كنت أفكر في عُذر مُقنِع لغيابي .. كما أنني لن أتمكن من الاستمرار بالتظاهر معه و كأنني أكترث لشأنه "..

" و لكنك تظاهرت كثيرًا مع عادل أليس كذلك ؟! .. لأكثر من 28 عامًا و أنت تتظاهر "..

" أنا أفعل ذلك من أجلك , لقد أخبرتك مسبقًا بأنني سأفعل كل ما في وِسعي لأجلك "..

ابتسم فيصل وهو يحدق في عيني عبدالرحمن باستغراق , قال هامسًا :" لقد فعلت كل شيء لأجلي , لا أعرف كيف أشكرك حق الشكر .. أنت أعز من الأخ بالنسبة لي أتعلم هذا ؟! "..

" لا داعي لهذه الرسميات أرجوك , إن كنت تريد شكري حقًا, فعليك أن تُحسن التصرف بكل شيء أعطيتك إياه , أريد منك تحقيق ما كنت تنويه لعادل , و كل ما خططنا لسنين من أجله .. اتفقنا ؟ "

هز فيصل رأسه بالإيجاب , كان يتنفس بعمق و هو يرفع رأسه لأعلى قائلًا :" دعني أسألك عن أمر ما ! .. "

نهض فيصل و هو يشعل سيجارة و يضمها بين شفتيه , و أكمل قائلًا :" لا أريدك أن تغضب من سؤالي و لكن .. لماذا تقف معي ضد عادل و ابنه ؟! .. أعني بأنني أنا الذي عانيّت منه و كانت المشكلة بيننا نحن الاثنان .. لماذا اخترت الوقوف بصفي ضده ؟! "..

عاد عبدالرحمن للاستلقاء مرة أخرى على الأريكة , واضعًا ذراعه على رأسه , ثم قال :" دعنّي أخبرك شيئًا , على الرغم من أنك كنت مدمن في صغرك , و كنت في مشاكل عويصة فعلًا , إلا أنني لم أقدر على تركك تخوض في هذا الجحيم لوحدك .. أنت لم تكن أنت على حق دومًا , ولنكن صريحين بعض الشيء , لقد أخطأت كثيرًا في حياتك يا فيصل , لقد أوشكت على الموت بسبب ما كنت تتعاطاه , و لكن بالرغم من ذلك , لم أستطع أن أدير لك ظهري و أرحل , لم أستطع رؤية الجميع ينفضّون من حولك لتبقى وحيدًا , أنا معك بالرغم من عيوبك , و أنا لا أكترث بشأن العيوب لأنني لم أعد أراها .. أما عادل فخطيئته الوحيدة هي الجحود , إنها خطيئة لا تغتفر أبدًا "..

استند فيصل إلى الجدار و أكمل التدخين و كلام عبدالرحمن يدور في ذهنه , لاحظ عبدالرحمن أن فيصل قد بدأت تضيق ملامحه و كأنه مستاء من أمر ما ..

نهض عبدالرحمن و توجه إليه وهو يحاول تلطيف الجو :" لماذا لا أبحث لك عن زوجة ؟! "..

اتسعت ابتسامة فيصل و رد قائلًا :" لماذا لا تعود إلى النوم أرجوك ؟! "..

" أنا محق , لماذا لا تتزوج ؟! .. إنك لازلت تتمتع بالصحة و اللياقة , كما أن وجهك القاسي و ملامحك المتجهمة دومًا هي مطالب الفتيات في هذا الزمن "..

" حقًا ؟! .. و لِمَ قد ترغب الفتيات برجلٍ قاسٍ ؟! يا للحماقة !! "..

" لا أعلم , إن الفتيات مخلوقات بعقليات غريبة فعلًا "..

" دعنا لا نخوض في هذا الحديث الآن , فأنا لم أتحدث مع أنثى منذ عقود "..



**********



7:45 م



جالسًا في سيارته أمام أحد المحلّات التجارية و بالقرب من الموقع الثالث , و هو يستعيد تمامًا كيف دخل إلى هذا المنعطف الخطير في حياته ..

" لقد بدأ الأمر بأكمله قبل عدة أشهر , 9 أشهر على ما يبدو , لا أتذكر جيدًا , كنت أمارس عملي باعتيادية تامّة , أجلس على مكتبي بالقرب من باب مكتب عادل , أكتب له جداول أعماله الأسبوعية , أراجع بعض الأوراق معه , و أستقبل ضيوفه كل يوم و أطلب منهم الانتظار حتى ينهي عادل اجتماعه , كانت هذه أعمالي كسكرتير خاص و بعض الأعمال الجانبية الأخرى , أُغادر المكتب في العاشرة مساءً كل يوم و قد أنهكني العمل تمامًا , و لكن عِوضًا عن الذهاب إلى المنزل للنوم , كنت أتجه لأصحابي في إحدى الاستراحات القريبة من جنوب الرياض ..

كنّا قد اتفقنا على استأجارها لسنة كاملة و المجيء إليها بعدما يخرج كل منا من عمله , ذهبت إليهم و قد ملأ النوم عيناي ولكنني استطعت المقاومة , جلسنا سوية لبضع ساعات .. و عندما قاربت الساعة من الواحدة صباحًا كنا قد انهينا لعب الورق و اتفقت مع أحد الشباب المتواجدين للخروج و البحث عن مطعم مفتوح إلى هذا الوقت المتأخر .. توقف صاحبي بالقرب من أحد المطاعم المجاور لعمارة سكنية قديمة , نزل هو لطلب الطعام و أنا بقيت لانتظاره .

ولكن استوقفني أمر غريب بعض الشيء , كان أمام تلك العمارة سيارة مركونة أعرفها جيدًا , و عرفت لوحاتها و استطعت تذكر صاحبها على الفور , كانت تلك سيارة عبدالرحمن صاحب عادل منذ الطفولة , لقد كان في زيارة لمدة 3 أيام في الرياض , كان قد زارنا في المكتب مغرب اليوم السابق و قد جلس مع عادل يحتسي القهوة العربية و يتناقل أطراف الأحاديث معه , كان دائم الزيارة لنا , مرة كل شهر تقريبًا .. و كنت على علاقة جيدة و سطحية معه .. و لكن أثار فضولي حقًا وجود سيارته في هذا المكان و هذا الوقت , فهو لا يسكن هنا بل في منزل صغير يملكه هنا في الرياض , يبات فيه حتى وقت رجوعه للخرج .

حاولت تجاهل الأمر حتى رأيته خارجًا من تلك العمارة بهيئة غريبة فعلًا , فقد كان يغطي وجهه بشماغه , و لكني عرفته على الفور من عيناه و بنية جسده , و قد تزامن خروجه مع خروج صاحبي من المطعم و الجلوس بجانبي , كان صاحبي دائم المجيء إلى هذه المنطقة و هو يعرفها و يعرف معظم سكان هذا الحي , سألته و أنا أشير نحو سيارة عبدالرحمن :" غانم , هل تعرف هذا الرجل ؟! "..

نظر غانم إلى السيارة و أجابني على الفور و هو يعود بالسيارة إلى الوراء :" نعم , أنا لا أعرفه شخصيًا و لكنّي أراه معظم الوقت هنا .. "

" معظم الوقت , ماذا تعني ؟! .. أنا أعرف هذا الرجل إنه يدعى عبدالرحمن و هو من سكان الخرج , إنه لا يأتي إلى هنا سوى مرة في الشهر , يمكث لـ 3 أيام ثم يعود , و ليس لمعظم الوقت كما تقول ! "..

" لا أعلم يا سلطان , و لكني أرى هذه السيارة و هذا الرجل نفسه كثيرًا , كل يومان تقريبًا "..

هززت رأسي و أنا شارد تمامًا في الوضع , لِمَ قد يأتي عبدالرحمن إلى هذه العمارة المتهالكة ؟! و ماذا يفعل في هذا الوقت ؟! .. لقد كان الفضول يكبر في داخلي يومًا بعد يوم إلى أن عرفت ما يحصل بالضبط ! ..

لقد قررت الصبر و الانتظار حتى يتضح الأمر لوحده و لكن لم يظهر شيء , و أنا لم أستطع الصبر أكثر , كنت أتصل على غانم كل يوم تقريبًا و أسأله إن كان لا يزال يرى تلك السيارة و ذاك الرجل نفسه , و كان جوابه دائمًا : نعم , إنه هناك ! ..

أخبرني غانم أنه يراه في وقت الليل فقط , ربما بين الساعة الحادية عشر مساءً و الثانية صباحًا . كان يسألني كثيرًا لِمَ أنا مهتم جدًا بشأنه فأجبته قائلًا :" لأن عادل كان دائم السؤال عنه و عن الوقت الذي سيأتي فيه إلى الرياض , و لكن ذاك كان يرد دائمًا بأنه سيأتي الشهر المقبل , فجدوله مليء بالأعمال ولا يمكنه تأجيلها !! .."

" و لِمَ أنت قلق إلى هذا الحد ؟! .. ربما كان أحد أقاربه يسكن هناك أو ربما صديق له ؟! "..

" و لكن في المرة التي رأيته فيها كان مغطيًا وجهه , لم قد يفعل ذلك إن كان في زيارة عادية ؟! "..

" إنه يغطي وجهه دائمًا وليس تلك المرة فقط "..

" أرأيت ؟! .. إن الوضع مثير للغرابة , شيء غير طبيعي يحصل هناك أنا متأكد ! .. "


و بعد الذي عرفته عن عبدالرحمن و زياراته السريّة إلى جنوب الرياض , قررت اللحاق به و رؤية ما يحصل بالضبط !! ..

أخبرت أصحابي في تلك الليلة أنني لن أستطيع الذهاب إليهم بسبب مرض ابنتي الصغيرة , يا للحماقة ! .. لقد ادعيّت مرض تلك الصغيرة المسكينة حنين , كنت أستحق لقب أسوأ والد على الإطلاق !! ..

قررت الذهاب إلى تلك العمارة السكنية و ركن سيارتي بعيدًا عنها لإبعاد أي شبهات عني , و انتظرت و أنا أراقب مجيء عبدالرحمن , أتى بعد 10 دقائق و دخل إلى هناك وهو مغطى الوجه كالعادة ! ..

نزلت خلفه و أنا أغطي وجهي بشماغي أيضًا و ألحق به بهدوء, سمعت صوت حذائه و هو يصعد الكثير من السلالم و يبدو بأنه سيصل إلى سطح العمارة ! , فلحقته و أنا أمشي على أطراف قدماي , وصلت إلى السلالم العلوية التي تخلو فيها الجدران من أي إنارة , كان منظرها مخيفًا بالفعل , رفعت طرف ثوبي خوفًا من السقوط و تفاجأت بانتهاء السلالم أمام بابٍ حديدي مغلق ! ..

اقتربت من الباب و أنا أنظر خلفي خوفًا من وجود أحد , التصقت بالباب و أنا أضع أذني و أحاول استراق السمع , و بعد فترة من التركيز و الانصات الحادّين , تمكنت من الاستماع إلى جزء من حديث عبدالرحمن و شخص آخر , كان حديثهم مثير للريبة فعلًا ويدور كله حول عادل سليمان , رئيسي في العمل !! ..

كان الشخص الذي مع عبدالرحمن يمتلك صوتًا واضحًا , خشنًا و قويًا , و منذ اللحظة الأولى التي بدأ بالتحدث فيها و أنا أشعر بأنه شخص خطير بالفعل , كقاتلٍ مأجور مثلًا , كنت ألتصق إلى الباب أكثر حتى توقف شعر يداي من الرعب بسبب ذاك الصوت الذي سمعته ! ..

كان الباب قد فُتِح بسبب استنادي عليه و قد كان غير مغلق تمامًا , أصدر الباب صوت صرير قوي و مزعج و هو يُفتَح ببطء و يتضح الرجلان الجالسان أمام بعضها , كان الأول هو عبدالرحمن , أمّا الآخر , فقد تجمدت حواسي تمامًا و توقف شعري عندما رأيته ! .. لقد كان آخر شخص أتوقع وجوده في الحياة ! ..

رُوفِ 07-12-2016 04:43 AM




16


اقتربت من الباب و أنا أنظر خلفي خوفًا من وجود أحد , التصقت بالباب واضعًا إذني و محاولًا استراق السمع , و بعد فترة من التركيز و الانصات الحادّين , تمكنت من الاستماع إلى جزء من حديث عبدالرحمن و الشخص الآخر , كان حديثهم مثير للريبة فعلًا ويدور كله حول عادل سليمان , رئيسي في العمل !! ..

كان الشخص الذي مع عبدالرحمن يمتلك صوتًا واضحًا , خشنًا و قويًا , و منذ اللحظة الأولى التي بدأ بالتحدث فيها و أنا أشعر بأنه شخص خطير بالفعل , كقاتلٍ مأجور مثلًا , كنت ألتصق إلى الباب أكثر حتى توقف شعر يداي من الرعب بسبب ذاك الصوت الذي سمعته ! ..

كان ذاك صوت الباب و قد فُتِح بسبب استنادي عليه و قد كان غير مغلق تمامًا , أصدر الباب صوت صرير قوي و مزعج و هو يُفتَح ببطء و يتضح الرجلان الجالسان أمام بعضها , كان الأول هو عبدالرحمن , أمّا الآخر , فقد تجمدت حواسي تمامًا و توقف شعر جسدي عندما رأيته ! .. لقد كان آخر شخص أتوقع وجوده في الحياة ! .. "


خرج سلطان من هذه الذكرى على صوت هاتفه , و كان المتصل فيصل :" سلطان , أين أنت ؟! "

" بالقرب من الموقع الثالث , لماذا ؟! هل طرأ أمر ما ؟! "..

" لا , لم يحصل شيء , كنت أريد منك القدوم إلي بعد انتهاءك من المغلف الرابع مباشرة , عند التاسعة مساءً , تضع المغلف في مكانه ثم تأتي إلي "..

" حسنًا , هل هناك شيء آخر ؟! "..

" لا , كن حذِرًا "..

أغلق سلطان هاتفه و توّجه إلى الموقع الثالث , و سرعان ما نزل إلى أحد المحلات في مجمع تجاري صغير و دخل و هو يبحث بعينيه عن المكان المناسب لوضع المغلف , أسرع باتجاه إحدى أقسام المحل و وضع المغلف فيه ثم خرج بهدوء مثلما دخل , دون أن يلفت النظر إلى نفسه أبدًا ..



**********


8:00 م


يحدق كلًّا من بدر و العقيد سيف في هواتفهم بانتظار الإعلان عن الموقع الثالث , و قد دخلوا في حالة من التوتر و الترقب .. و بعد ثواني من الانتظار ظهر الإعلان الثالث , و ما أن ظهر حتّى بدأ بدر بالبحث عن أقرب مخرج ليوصله إلى الموقع .. و كذلك فعل العقيد سيف ..

كان الموقع الثالث بعيدًا بعض الشيء , حيث حددت التغريدة أن الموقع يقع عند ( تقاطع شارع أبوبكر الصديق - رضي الله عنه - و طريق الثمامة ) ..

تذكّر بدر أن هذا المكان قريب من الجامعة التي يدرس فيها ( جامعة الامام محمد بن سعود ) .

و يقع عند التقاطع المذكور مجمع تجاري صغير , لذا خمّن بدر أن المغلف قد يكون مخبأ داخل أحد المحلّات الخارجية بلا شك ! .

كان بدر يحاول الإسراع قدر المستطاع , و لكن هذه السيارة الصغيرة التي سرقها تأبى المشي و لو بسرعة متوسطة , و مع الوقت كان الشوارع تزداد ازدحامًا و ضجيجًا , و مع اقتراب آذان العشاء , ظن بدر أن الازدحام سيقل , و لكن العكس هو ما حصل .. !

و بينما كان ينصُب عينيه على الطريق , كان يتحكم بالسيارة باستخدام يده اليسرى , و يحاول بيده الأخرى أن يثني المغلف الثاني و الصور , و قام بوضعهم في جيبه , فهو لن يستطيع البقاء طويلًا داخل هذه الخردة المتحركة .. لذلك قرر أن يوقفها في داخل أحد الأحياء المظلمة القريبة من الموقع , بعدما أمضى قرابة 20 دقيقة في الوصول ..

أوقف السيارة و نزل بهدوء و هو يمسك بشماغه في يده , كان يحاول أن يجد بعض الماء ليتمكن من مسح آثار بصماته من المقوَد , كان يتحرك بتوتر مجيئًا و ذهابًا , و بعد دقائق نظر إلى أحد المنازل القريبة منه , حيث خرج منها رجل آسيوي و هو يمسك بخرطوم المياه ليسقي الشجر في الخارج ..

توجه بدر نحوه بسرعة , و هو ينفض شماغه و يحمله مرة أخرى , التفت الرجل إلى بدر و قد شعر ببعض الخوف من مشيته السريعة و عيناه المثبتة عليه ! ..

تراجع إلى الخلف ببطء و هو ينوي الرجوع إلى الداخل , و لكن بدر قام بأخذ خرطوم الماء منه بسرعة و هو يقول :" لا تخف , لن أفعل شيء "..

هز الرجل رأسه باستغراب و لم يفهم ما قاله بدر , تنهد بدر وهو يبلل شماغه و يعود لإعطاء الرجل الخرطوم , بينما وقف ذاك بتبلد و هو يرى تصرفات هذا الشاب الغريبة ! ..

عاد بدر إلى السيارة و بدأ بمسح البصمات و جميع الأماكن التي لامستها يداه , و من ثم خرج من الحي السكني مشيًا على الأقدام و هو يتوجه إلى ذاك المجمع التجاري الذي يعرفه جيدًا .. و بدأ بالركض مع اقترابه أكثر و هو يراهن على نفسه بأنه سيسقط في أي لحظة من شدة الإرهاق و الجوع ..

و عندما بلغت الساعة الثامنة و النصف كان بدر يستطيع رؤية المجمع من على بُعد شارعين , قام بالمشي نحوه و هو يدعو الله ألا يقع المغلف في أيدي بعض المغفلين كما في المرة السابقة .. كان يرى هناك بعض الشبان الذين يمشون في أرجاء المكان و يدخلون المحلات على عجل و يخرجون مرة أخرى , خمّن بدر أنهم يقومون بالبحث عن المغلف أيضًا , و قد ازداد قلقه بشدة حول هذا الأمر ..

و صل إلى المجمع و هو يدخل إلى المحلاّت التجارية ابتداءً من اليمين و انتهاءً بالجهة اليسرى .. و مع استمراره بالبحث , لم يلحظ شيئًا و لم يلمح طرف المغلف حتّى , قام مرة أخرى بالدخول إلى المحلّات و البحث للمرة الثانية و بشكل أعمق , كان يقوم بتقليب الملابس المعروضة على الطاولات تحت غضب و اعتراضات البائعين , و لكنه كان كالأصم و قد بلغ قلقه أقصى المراحل , و كذلك قام بدخول إلى القسم الغذائي و هو يزيح بيديه العلب عن مكانها و صناديق الأطعمة ..
و قام بفعل التصرفات نفسها مع باقي المحلّات , و لكنه لم يجد شيئًا ..

خرج إلى مواقف السيارات و جلس على إحدى المجسمات الحجرية و قد وضع رأسه بين يديه :" هذا لا يعقل , لابد أن أحدًا قد وجده قبلي و أخذه , لقد انتهى كل شيء , لقد فشلت بالفعل .. "

عبرت أمام عيناه كل تلك الأجساد التي رآها في الصور و كل تلك الذكريات القديمة لوالده الذي كان له القدوة , الأب , الأم , الأخ , و كل ما قد تمناه يومًا .. و الآن ينتهي الأمر بهذه السرعة و البساطة في ليلة و ضحاها و قد تلوثت تلك السمعة التي استغرق بنائها سنوات , تلوثت خلال دقائق فقط .. !

رفع رأسه و نظر إلى محل للمشروبات الباردة و المعجنات أمامه, وقف بيأس و توجه نحوه ليشتري شيئًا يبلل به جوفه المنقبض و الجاف ..

أخذ عصيرًا باردًا و شربه دفعة واحدة , و لكن سرعان ما شعر بغثيان شديد , و قام بالركض إلى الخارج و توجه إلى سلة القمامة و أخرج كل ما في جوفه بحدة و ألم , و قد نظر الجميع إليه باشمئزاز و شفقة , و لكنه لم يكترث بشأنهم و قام بمسح فمه بإهمال ..

وقف في منتصف مواقف السيارات و هو يجهل تمامًا ما سيفعله , لم يكن يريد الجلوس و لا يعلم ماذا يفعل في المقابل ..

و لكن في تلك اللحظة , كانت هنالك سيارة بيضاء كبيرة مركونة بعيدًا و قد ظل سائقها يحدق إلى بدر منذ أن وصل و حتى الآن .. !


**********


يقف بيأس واحباط و قد رفع رأسه إلى الأعلى هامسًا بضعف :" يالله , كن بعوني "..

ولكن شق عليه صمته ذاك الصوت الذي تحدث معه منذ ساعات و قد تسلل من خلفه بهدوء :" لم تجد المغلف أليس كذلك ؟ ".

ظا بدر على حاله و قد عرف صوت العقيد و نبرة العطف في حنجرته , التفت ببطء قائلًا :" لا , لقد وجده أحدهم , لقد ضاع كل شيء مني "..

" كان الوضع ليكون أسهل بكثير لو أنك طلبت معونتي "..

تجاهل بدر حديث العقيد و توجه إلى أحد الكراسي و جلس و هو يضع رأسه بين يديه و يتنهد بانكسار تام .. تبعه العقيد سيف و هو يجلس بجانبه , ظل يحدق في بدر بابتسامة مواساة و أدخل يده في جيبه و أخرج منه مغلفًا أبيضًا وهو يقول :" كنت سأفتحه و أرى ما في داخله بنفسي , و لكنّي أحترم رغبتك في التحفظ على ذلك "..

رفع بدر رأسه باستفهام , و لكن سقطت عيناه على المغلف الذي بيد العقيد و قد اقشعر جسده بالكامل عند رؤيته له .. همس بخفوت :" لقد وجدته ؟ أهذا يعني أنه .. أنه لم يقع في يدي أحد ؟! " ظل بدر يسأل و ابتسامة الصدمة ترتسم على وجهه الوسيم اليافع , وقفا الاثنان و قد ابتسم العقيد بمراوغة :" و الآن , هل ستخبرني عن الأمر أم أجعل الوحدات الأمنية تتدخل في الأمر ؟ ".

" لا , لا عليك سأخبرك , و لكن .. "

" لا يوجد كلمة و لكن , أريدك أن تفتح المغلف بنفسك حالًا و تخبرني عمّا حصل من البداية أهذا واضح ؟ "

" لا تصعب الأمر أرجوك , صدقني أنت لا تريد رؤية ما في الداخل , إنه .. إنه مهين للغاية "

" أنت لا تترك لي خيار آخر , يبدو بأني سأستدعي بعض المساعدة " قال العقيد و هو يتراجع إلى الخلف و يخرج هاتفه ..

تقدم بدر منه برعب قائلًا :" لا أرجوك لا تفعل , أرجوك " .. تمساك بدر وهو يردد رجاءه و أكمل قائلًا :" حسنًا سأخبرك , تعال معي "

جلسا الاثنان على الكراسي أمام أحد المحلات و قد قام بدر بتمزيق المغلف و إخراج محتوياته ببطء و أعطاها للعقيد قائلًا :" مهما كان الذي سيتبادر إلى ذهنك بشأن هذه الصور , فعليك أن تعلم بأن جميعنا لنا جانب مظلم " ..

أخذ العقيد الصور و قد بدأ بتقليبها بين يديه بصمت و هدوء , قال بدر :" أنا لا أصدق هذه الصور , صحيح أنها تبدو واقعية و لكني لا أصدقها "

" إذا تظن بانها مركبة ؟ " سأل العقيد وهو يستمر بتقليب الصور ..

" لا , لا يبدو بأنها مركبة , و لكن أنا أعرف والدي , أتعرف ما الذي يعنيه ذلك ؟ .. أنا أعرف والدي أكثر من نفسه , لم يكن ليفعل هذا ابدًا , إنه متدين و وقور , هذه الصور ستفقدني عقلي ".

تنهد العقيد بهدوء ثم قال بنبرة أخوية :" دعني أخبرك شيئًا , في هذه الحياة ستواجه الكثير من الصدمات , و قد تنصدم من نفسك حتى ! .. كل شيء ممكن و كل شيء قابل للحدوث , عليك أن تتحلى ببعض المرونة يا بدر , إن من أخذ هذه الصور لا يكترث إن أنت صدقتها أم لا , كل ما سيكترث من أجله هو أن تنتشر بسرعة و يصبح اسم والدك على كل لسان و في كل مجلس , أهذا واضح ؟ "

" أتقصد بأن الصور حقيقية ؟! "

" في الواقع لا أريدك أن تفقد ثقتك بوالدك يومًا أو تقلل من شأنه و لكن ..كل شيء ممكن .. ! إن والدك ليس نبيًا يا بدر , لا أقصد الإهانة و لكنه غير محصن من الخطأ , و قد استغل أحدهم هذا ليجعل من حياته جحيمًا "..

بدا كلام العقيد منطقيًا للغاية بالنسبة لبدر , فهو قد ظن ذلك أيضًا عندما رأى الصور لأول مرة و لكنه كان يستمر في الإنكار , كان يستمر في التهرب من الحقيقية .. و هذا ما يفعله أغلبنا, عندما تأبى حواسنا التصديق و لكن عقولنا تستمر في سحبنا نحو الحقيقة و لكن نستمر في النضال من أجل الإنكار , من أجل أن يظل الهدوء في حياتنا مستمر و تظل أيامنا رتيبة و آمنة دون أن تتسبب الحقائق بزعزعة ذاك الهدوء ..

صمت بدر لدقائق و هو يعود لأخذ الصور من العقيد ثم قال :" إذًا ماذا سنفعل الآن ؟! "..

" سنفعل ما سيفعله الجميع , سنستمر في البحث إن كانت هناك مغلفات أخرى "..

" لقد تبقى اثنان "

" و كيف عرفت "..

" لقد اتصل بي من فعل هذه اللعبة بأكملها , بعدما خرجت من القسم في المرة الأولى مع عبدالرحمن , توجهنا سوية إلى منزله و هناك تلقيت اتصالًا من هاتف والدي "

" ثم ماذا ؟ "

" ظننت أنه والدي في البداية و قد وجده أحدهم , و لكن المتحدث كان المُختَطِف , يا إلهي لقد كان مستفزًا للغاية , في الواقع أراهن بأنه فاقد عقله تمامًا "..

" و قد هددك بشأن الشرطة أليس كذلك ؟ "

" نعم , لقد طلبت منه أن يخبرني من هو أو سأضطر إلى جعلكم تتبعون المكالمة , و لكنه هدد بقتل والدي إن فعلت ذلك "..

" حسنًا , والمغلفات , أخبرك بأنها 5 مغلفات ؟!".

" نعم , قال بأن هنالك 5 مغلفات سيتم وضعها في أماكن مختلفة ابتداءً من الساعة السادسة "..

" و عبدالرحمن ؟ أين هو ؟ ألم يأتي معك ؟ "

" في الواقع هذا ما يشغل بالي كثيرًا .. لقد أتى معي إلى هنا, و قد كان برفقتي عندما كنّا نبحث عن المغلف الأول و لكنه اختفى فجأة , حاولت الاتصال به كثيرًا , و لكن في النهاية أجاب على هاتفه ذاك المعتوه "

" أتقصد بأن عبدالرحمن مختطَف أيضًا ؟ " ..

" نعم , على ما يبدو .. إن ذاك المعتوه يقوم بقطع جميع الوسائل التي بإمكانها مساعدتي , لذلك لا أريد منه أن يعرف بأنك معي , ربما يؤذيك و يقتل والدي و يتفاقم الوضع إلى أن نفقد السيطرة عليه تمامًا "..

" كم الساعة الآن ؟ "

نسي بدر أمر الوقت و قد قاربت الساعة التاسعة مساءً و حان موعد المغلف الرابع ..

" إنها التاسعة إلا بضع دقائق "

" إذا تعال معي , سنذهب سوية لإيجاد المغلفات المتبقية .. هيّا قم بسرعة " ..

ذهب الاثنان إلى سيارة العقيد و بدآ بانتظار الإعلان عن الموقع الرابع ..


**********


( حي الملز , بالقرب من أحد المراكز التجارية المشابهة للموقع الثالث ..)


وضع سلطان المغلف الرابع في المكان المقصود ثم نفذ ما طلبه فيصل منه , لقد توجه نحو جنوب الرياض إلى المكان الذي بدأ فيه كل شيء , شقة فيصل الكئيبة ..

صعد السلالم بخفية كالمعتاد و دخل إلى الشقة التي كان بابها مفتوحًا بعض الشيء , كان عبدالرحمن يجلس على الأريكة بشرود عندما ناداه سلطان :" عبدالرحمن , أين فيصل ؟ "..

" إنه بالداخل , مع عادل .. اذهب إليه انه بانتظارك .. "

ذهب سلطان إلى الغرفة المجاورة التي كانت كالكابوس الأسود بالنسبة لعادل الذي فقد وعيه فيها منذ 3 ساعات تقريبًا ..

قال فيصل بصوت منخفض :" ادخل و أغلق الباب خلفك "..

تقدم سلطان نحوه و هو ينتظر الأوامر القادمة .. استدار فيصل و اتجه إليه و هو يخرج من جيب بنطاله المفتاح الذي قام بنسخه , أعطاه إلى سلطان قائلًا :" خذ هذا المفتاح , إنه مفتاح لمنزل ما هنا , أريدك أن تأخذ عادل و تتركه هناك " .. انهى فيصل حديثه و أخرج ورقة صغيرة قد كتب فيها عنوان المنزل المقصود و أعطاها لسلطان ..

" لماذا ؟ أليس من المفترض أن يكون أمام أعيننا طوال الوقت ؟ " تساءل سلطان ..

" لا , إنه سيكون في أمان أكبر هناك , و نحن أيضًا سنكون بأمان .. إن آخر ما أحتاج إليه هو أحمق فاقد للوعي و مستلقٍ في أحد غرف شقتي , هيّا ساعدني لنرفعه "..

انحنا كلاهما على عادل و قاما برفعه و إخراجه , توجه عبدالرحمن إليهما قائلًا باستغراب :" إلى أين ستأخذونه ؟ "

أجاب فيصل :" أنت تعلم بشأن بدر , إنه من المحتمل أن يستعين بالوحدات الأمنية من أجل إيجاد والده , لذلك لا أريد أن يكون عادل في ضيافتي هنا .. سأضعه في مكان آخر لإبعاد الشبهة عنّا "..

قام الثلاثة بإنزال عادل إلى أسفل المبنى , و وضعوه في المقاعد الخلفية لسيارة سلطان دون أن يلاحظهم أحد .. مشى سلطان بعيدًا و عينا فيصل معلقتان على خلفية السيارة , لقد اقترب كل شيء من النهاية .. كل شيء حرفيًا

صعد مجددًا إلى شقته التي يدفع عبدالرحمن إيجارها بكل سرور منذ سنوات .. و توجه نحو صديقه الوحيد المتبقي و أعطاه مفتاحان صغيران , ثم قال :" لقد طلبتها من سلطان .. المفتاح الصغير هو لمصعد عادل في شركته , أما الآخر فهو لمكتبه الخاص , و أنت تعلم ماذا تفعل بها أليس كذلك ؟ "

" نعم بالتأكيد , سيكون كل شيء كما أردناه "..

غادر عبدالرحمن الشقة محملًا بالكثير من الأمل بأن يوم غد سيكون الأخير و الأفضل , استدعى سيارة أجرة و ذهب نحو المكان الذي ترك سيارته فيه عندما اتى مع بدر عصر اليوم من الخرج ..

ركب سيارته و اتجه نحو مبنى للشقق المفروشة .. اشترى لنفسه عشاءً خفيفًا و لكنه لم يأكل سوى القليل , فعقله كان مشغولًا جدًا بشأن الذي سيفعله يوم غد في مكتب عادل , كان قد جلس بشرود على الأريكة و هو يرسم في ذهنه مخططًا تفصيليًا لما سيحصل ..


**********


مع إعلان الموقع الرابع لهذه السلسلة , كان العقيد و بدر يسابقان الوقت للوصول للموقع المذكور , لقد كان مركزًا تجاريًا صغيرًا في حي الملز .. و قد تمكنا من الوصول خلال نصف ساعة من إعلان الموقع .. كانا في أعلى مستويات التوتر و الخوف من أن أحد سيجد ذاك المغلف قبلهما .. وصلا إلى وجهتهما و نزلا بسرعة , قال العقيد بحزم :" بدر , اذهب أنت و ابحث في المحلات على جهة اليمين , و أنا سأبحث في جهة اليسار .. اتصل بي عندما تجد شيئًا .. "

أومأ بدر رأسه بالإيجاب و هو بالكاد يستوعب ما قاله العقيد , فطاقته و تركيزه بدآ بالتلاشي , و لا يمكنه فعل شيء حيال ذلك , و لا يستطيع أن يأكل شيئًا لاستعادة نشاطه , فقد كان جوفه منقبضًا بشدة و الغثيان في تزايد , أما رأسه فقد كان يعلن بدأ ذاك الدوار الذي ليس له نهاية سوى فقدان الوعي ! ..

بدأ بدر بدخول المحلّات التجارية , و تقليب البضائع رأسًا على عقب مع استغراب الزبائن و نظراتهم الاستفهامية , أما هو فقد كان متجاهلًا لما حوله تمامًا و لا يكترث إن غضب أصحاب المحلّات أو اعترضوا .. أكمل مسيرة بحثه وهو يفتش في أكثر الأماكن غرابة في المركز , فقد كان يبحث في أحواض الزرع و عند جذوع النخل , و أسفل السيارات المركونة , و لكن لا أثر للمغلف ! ..

اتصل على العقيد ليسأله إن كان قد وجد شيئًا و لكن يبدو بأن العقيد قد دخل في حيرة من أمره أيضًا .. استغرق بدر عشر دقائق في البحث و قد قرر في النهاية أن يسأل المارّة عن ذاك المغلف ! ..

كان يسأل كل من يمر أمامه إن كان قد رأى مغلفًا صغيرًا في الجوار , و لكن بعض الأشخاص كانوا يتجاوزونه دون أن ينظروا إليه أو يجيبوا على سؤاله حتى ! .. و استمر في سؤال المارّة و لكن لا يبدو بأن أصحاب هذه المنطقة يودون المساعدة على الإطلاق ..

في النهاية , و عند ذهابه للجلوس و بعد 15 دقيقة من البحث المكثف , لفت انتباهه فتاتان شابتان تحملان المغلف و تبدوان في غاية السعادة .. كاد بدر أن يفقد عقله و يبدأ بضربهن حتى الموت , و لكنه تمالك نفسه قدر المستطاع و اتجه نحوهن بهدوء , توقفت الفتاتان عند رؤيته , و قد اتسعت ابتسامتهما عند رؤيتهن لهذا الشاب الوسيم و هو يمشي نحوهن بهدوء و بشبه ابتسامة على أطراف شفتيه ..

توقف أمامهن قائلًا :" مساء الخير "..

ردت إحداهما :" أهلًا , مساء الخير "..

" عذرًا على الإزعاج و لكن .. هل هذا هو المغلف الذي أعلن عنه عادل سليمان في حسابه ؟ "..

أجابت احداهما بسعادة :" نعم , يبدو بأنه هو , إن هذا المركز هو الموقع المذكور أليس كذلك ؟ "

" نعم هذا صحيح , يبدو بأنه هو , و لكن هل تسمحين لي بالسؤال : أين وجدتيه ؟ ".

ضحكت الفتاة بخفوت قائلة :" لن تصدق ذلك , لقد كان أسفل الكرسي الذي كنت أجلس عليه في المقهى , لقد كنت أجلس على هذا الكنز طوال الوقت , بينما يبدو بأن الجميع يبحث عنه "..

ضحكت الاثنتان ثم أردفت الفتاة قائلة :" إنه يوم سعدي أليس كذلك ؟ "..

ابتسم بدر وهو يحاول أن يجد طريقة ليطلب المغلف منها :" في الواقع , كنت أريد أن أقول بأن مبادرة عادل سليمان كلها عبارة عن خدعة "..

" ماذا تقصد ؟ "

" لا يوجد أي مبالغ مالية داخل هذا المغلف , يمكنك فتح طرفه و استراق النظر "..

قالت الأخرى :" عذرًا , و لكن إن كنت تحاول قول هذا الهراء حتى نعطيك المغلف , فأنت مخطئ , لقد وجدناه و نحن أحق به , هيّا ليلى لنذهب ".. مشت الفتاتان بسرعة تاركين بدر خلفهما في دهشة .. و لكنه لحق بهن بسرعة و توقف أمامهن قائلًا :" حسنًا دعوني أخبركن بشيء ما , إن كان داخل هذا المغلف أي مبلغ مالي فسأعطيكم ثلاثة أضعافه مقابل إعطائي المغلف , ما رأيكن بهذا العرض ؟ "..

كانت إحدى الفتيات على وشك الرد و لكن هناك شخصان قاما بسحب بدر للوراء بعنف .. شهقت الفتاة برعب وهي ترى اثنان من رجال الأمن يمسكون ببدر بقوة و كان ورائهما رجلان من رجال هيئة الأمر بالمعروف .. التفت بدر إلى الوراء وهو يسمع توبيخ أحد رجال الهيئة قائلًا :" ما الذي تحاول فعله ؟ لقد رفضت الفتاتان الحديث معك و قد استمريت في ملاحقتهما ! .. يبدو بأنك لم تتلقى التربية الكافية من والديك , و لكنك ستتلقى عقابًا شديدًا أيها الصغير , هيّا خذوه إلى السيارة "..

كان بدر يصرخ وهو يحاول تبرير فعله للتو ! , و لكن لا حياة لمن تنادي .. فقد اجتمع الناس حوله و أخرج البعض هواتفهم لتصوير هذا المشهد المألوف ..

تراجعت الفتاتان إلى الخلف بخوف من أن يتم أخذهن أيضًا مع بدر إلى مكتب الهيئة , فتلك ستكون الذكرى الأسوأ في حياتهن ..

و بينما كان العقيد سيف منهمك في البحث في أحد المحلاّت , استدار إلى الخلف و نظر عبر الزجاج إلى ذاك التجمع الكبير من الناس .. و قد أخبره حدسه أن لبدر علاقة في ذلك .. خرج مسرعًا و اتجه نحو التجمع .. و كما أحس , كان بدر يتوسط الحشود و هو يقاوم رجال الأمن بشدة و يصرخ قائلًا بأنه لم يفعل شيء! .. و لكن ما أن رأى بدر وجه العقيد بين الحشود حتى صرخ قائلًأ :" سيف , المغلف , إن المغلف مع الفتاتان اللتان تقفان خلفك ".. و بعد أن قال بدر ذلك كانت قواه قد خارت بالكامل وقد تمكن رجال الأمن من إدخاله إلى السيارة بسهولة بعدما ارتخى جسده و نفذت طاقته ! ..

بدأت الحشود في التراجع بعدما رحل بدر و انتهى ذاك المشهد الصاخب , و ظل العقيد يحدق في الفراغ لوهلة من الزمن , و كانت الفتاتان خلفه واقفتان أيضًا , استدار العقيد إليهن و قال بنبرة غاضبة :" ماذا فعلتن ؟ "..

تسلل الخوف إلى الفتاتين و هن يرين هذا الرجل الضخم ذي البنية القوية و العينين التي يملأها الغضب و الإرهاق .. أجابت إحداهما بخفوت و تردد :" لم .. لم نفعل شيء "..

و لكن الأخرى أجابت ببعض الشجاعة :" و ما علاقتك أنت بما حصل ؟ .. لقد تعرض ذاك الشاب لنا , و استحق عقابه .. يا للتطفل ! "

رُوفِ 07-12-2016 04:44 AM




يجلس داخل زنزانة صغيرة و قد استلقى بجانبه بعض الشبّان .. لقد قاموا رجال الهيئة بالتحقيق معه حول ما حصل و لكنه ظل يقول لهم بأن الفتاتان أخذتا شيئًا يخصه , و أن ذاك المغلف الذي في حوزتهما هو له .. و لكن ذاك لم يقنع فريق التحقيق .. و بدا لبدر بأنه سيمضي الليل بأكمله في هذه الزنزانة الضيقة ..

" يا للحماقة , لِمَ يرفض الجميع تصديق براءتي ؟! , إن آخر ما أردت الوقوع فيه هو أن يشكك أحدهم في أخلاقياتي , و انتشار بعض المقاطع المهينة لسمعتي , لقد أمضيت اليوم كاملًا في البحث عن المغلفات للحفاظ على سمعة هذه العائلة الصغيرة .. و الآن و بسبب هاتين الفتاتين يبدو بأن تعبي و إرهاقي قد ذهب هباءً منثورًا .. و لكن العقيد لن يجعل الأمر يمشي على هذا النحو بكل بساطة , فأنا أثق به , و هو يثق بي وقد وعدني بالمساعدة .. فهو لديه صلاحيات عظيمة تمكّن من في منصبه من التصرف في الكثير من المواقف .. أرجو أن يستخدم اليوم أدنى صلاحياته لينقذني مما وقعت فيه .. يا إلهي أعنّي "..

اسند بدر رأسه إلى الحائط و قد أخذه شروده إلى والده , ظل يفكر فيه باستغراق و قلق لا يعادله شيء .. أهو بخير أم أنه متعب مثلي تمامًا ؟! .. تُرى هل يعلم بالذي يحصل والذي تحمله هذه المغلفات ؟ أم أنه محبوس في مكان ما في انعزال عن هذا العالم ؟! .. كم تبدو هذا الحياة قاسية .. فالسمعة و الشرف قد استغرق والدي سنوات عمره لبنائهما .. و الآن هما على وشك الانهيار عندما يفتح أحدهم طرف مغلفًا صغيرًا و وضيع ! .. سينهاران تمامًا خلال ثواني ! .. ليتني أعرف لما كل هذا ؟! لماذا يصر ذاك المدعو - فيصل – بتدمير ما تبقى لي من عائلتي ؟ لماذا يصر على فضح ما فعله والدي بهذا الشكل ؟! ..

و لكن فيصل لا يريد منّا مالًا و لا شيئًا مقابل صمته !! .. إنه يقوم بأفعاله دون أدنى مبرر , و لا أعرف شيئًا أبدًا عن الذي يحفزه للقيام بذلك .. إن كان لا يريد المال ليصمت ؟! فلماذا يفعل كل هذا بنا ؟! .. ماذا يريد ؟! ..

استمر بدر في تساؤلاته المنطقية حتى سرقه النوم إلى عالم آخر .. و على الرغم من جوعه الشديد , إلا أن الإرهاق كان أشد .. و قد غفا لبضع دقائق قبل أن ينزلق رأسه عن الحائط و يضرب تلك القضبان التي بجانبه بقوة .. استيقظ بضيق و هو يمرر يده على مكان الضربة بألم , و بينما كان هناك صوت ضحكات خافتة صادرة من الشبان بجانبه , أسند رأسه مرة أخرى إلى الحائط و لكن سرعان ما دخل حارس الباب قائلًا :" بدر سليمان ؟ "..

نهض بدر بخوف مصحوب بأمل في الخروج و هو يقول :" نعم , إنه أنا .. "

" ستخرج الآن , هيّا تعال ".. توجه الحارس نحو الزنزانة و فتحها و سحب بدر معه إلى الخارج.. كان بدر على يقين و ثقة بأن العقيد قد أنقذ الموقف .. و لكنه لا يعرف كيف حصل ذلك ! ..

و كما صدق يقينه , كان العقيد في مكتب أحد الموظفين بانتظاره .. مشى بدر نحوه ببطء و هو يترنح بخفة .. أمسك العقيد بذراعه بسرعة قائلًا :" بدر , أأنت على ما يرام .؟! "

كان بدر أنفاس بدر متقطعة ولكنه قاوم الضيق و الإرهاق و رد قائلًا :" نــ نعم , أنــ أنا بخيـ ــر , و لكن كيف اقنعتهم بــ بإخراجي ؟ "

أمسك العقيد بكتفي بدر و قاده معه إلى الخارج بهدوء و هو يحكي له ما حصل :


بدأت الحشود في التراجع بعدما رحل بدر و انتهى ذاك المشهد الصاخب , و ظل العقيد يحدق في الفراغ لوهلة من الزمن , و كانت الفتاتان خلفه واقفتان أيضًا , استدار العقيد إليهن و قال بنبرة غاضبة :" ماذا فعلتن ؟ "..

تسلل الخوف إلى الفتاتين و هن يرين هذا الرجل الضخم ذي البنية القوية و العينين التي يملأها الغضب و الإرهاق .. أجابت إحداهما بخفوت و تردد :" لم .. لم نفعل شيء "..

و لكن الأخرى أجابت ببعض الشجاعة :" و ما علاقتك أنت بما حصل ؟ .. لقد تعرض ذاك الشاب لنا , و استحق عقابه .. يا للتطفل ! "

توجه العقيد نحوهن و هو يخرج بطاقة عمله العسكرية و قد أشهرها في أوجههن قائلًا :" أنا عقيد أدعى سيف عبدالله , و المغلف الذي تحملانه ليس له شأن في ما أعلن عنه عادل سليمان , لذلك سأطلب منكن لمرة واحدة فقط أن تعطيانني إياه "..

ردت إحداهما بتهور :" و ماذا إن لم نفعل ؟! "..

ابتسم العقيد بمراوغة قائلا :"" إذًا , سيتم القبض عليكما بتهمة إعاقة سير الأمن في يوم حافلٍ كهذا ! "..

نظرت الفتاتان إلى بعضهما و قامت الفتاة الأولى بتسليم المغلف بتهذيب قائلة :" نحن آسفتان , لم نعلم أن المغلف يخصك .. "

" في الواقع إنه لا يخصني , إنه يخص ذاك الفتى الذي جعلتم هيئة المعروف تقتاده معهم بكل ذل ! ,, كما أنه من الممكن أن يبيت هذه الليلة في القسم بسببكن , ذاك الفتى لم يتعرض إليكن بأي أذى , أهذا صحيح ؟! "

ردت الأولى :" لا لم يفعل .. "

" إذًا أريد منك أن تقولي ذلك للموجودين في مكتب الهيئة عندما تذهبان معي إلى هناك "..

قالت الأخرى :" نذهب معك ؟! , لن نركب مع أحدٍ غريب .. حتّى لو كان عقيدًا ! "

كان العقيد قد بدأت يستاء من هذه الفتاة الوقحة التي تقف أمامه , بينما كانت صديقتها في غاية التهذيب و اللباقة .. تنهد العقيد قائلًا :" إذًا سأطلب لكنّ سيارة أجرة و ستتبعانني إلى مكتب الهيئة , و أريد منكن أن تقولا ما حصل بالضبط , و أن ذاك الفتى لم يؤذيكن "..

ذهب العقيد برفقة الفتاتين إلى المكتب و عند حضورهن و تدوين شهادتهن , سقطت تهمة التحرش عن بدر فورًا .. و خرجت الفتاتين بسرعة , بينما ظلّ العقيد في انتظار بدر ..


**********

خرج العقيد مع بدر وهو لايزال يمسك بكتفيه و يساعده على المشي :" بدر , أأنت متأكد أنك بخير ؟ تبدو مرهقًا جدًا "..

توقف بدر عن المشي و بدأ بإغماض عينيه ببطء و هو يترنح إلى الخلف , و لكن العقيد شد على كتفيه بشكل أقوى و لكن ذلك لم يمنع بدر من السقوط على ركبتيه و قد تمكن الإرهاق و الضغط منه تمامًا ..!

وضع يديه على الأرض و قد بدأ أنفه بالنزيف الحاد , و بدأ يرتجف بشكل مريب .. وقد وجهه و ضاق نفسه حتى سقط أرضًا وهو فاقد لوعيه تمامًا ..

رفعه العقيد عن الأرض و بدأ بمسح وجه بدر بشماغه و تنظيف الدماء من أنفه و هو يصرخ به :" بدر , بدر ما بك ؟! .. بدر أتسمعني ؟! "..

كان بدر يفتح عينيه و يغلقها دون وعي .. و قد كان يحرك شفتيه في محاولة لقول شيء ما و لكنه عجز عن ذلك .. قام العقيد بحمله بين يديه و وضعه في المقاعد الخلفية لسيارته .. و ذهب مسرعًا إلى أقرب مشفى في الحي .. حمله إلى مدخل الطوارئ و سرعان ما وضعه الممرضون على أحد الأسرّة و هم يفحصونه .. قال أحدهم للعقيد :" لا تقلق , إنه فاقد للوعي بسبب ارتفاع حاد في ضغط الدم , سنعيد ضغطه إلى المعدل الطبيعي و سيستيقظ خلال 15 دقيقة تقريبًا "..

بدأ الممرضون في توصيل الأجهزة بجسد بدر و وضع مغذي و جهاز للتنفس , بينما قام أحدهم بتنظيف الدماء التي ملأت وجهه ..

جلس العقيد بجانبه في قلق عميق .. و هو يهز جسده إلى الأمام و الخلف بتوتر واضح .. و بعد مرور عدة دقائق بدأ اللون يعود إلى وجه بدر و بدأت نبضات قلبه في الانتظام و كذلك تنفسه ..

و بعدما نفذ المغذي .. و بعد 15 دقيقة فتح بدر عيناه ببطء و هو يقطب حاجبيه بضيق .. حاول النهوض و لكن العقيد أوقفه عن فعل ذلك و أعاده إلى السرير ..

بدأ بدر بتحريك أطرافه , و سرعان ما أزال جهاز التنفس عن وجهه و هو يقول :" أريد الخروج من هنا , حالًا "..

" بدر توقف , انظر إلى ماذا اقتادتك أفعالك المتهورة ؟! .. لقد كنت على وشك أن تفقد حياتك .. لن تخرج من هنا .. فضغط دمك مرتفع بشكل حاد .. لقد تلفت أعصابك بما فيه الكفاية ! "..

" لا أكترث , سأخرج من هنا بكامل مسؤوليتي .. "

نظر بدر إلى الساعة المعلقة على الحائط المقابل و قد أشارت الى العاشرة و خمس دقائق ..

" لقد تبقى لنا مغلف أخير لإيجاده , و أنا لن أجلس هنا و أتأوه كالنساء .. " قال بدر و هو يضغط على زر استدعاء الممرض بجانب سريره .. و ما أن أتى ذاك حتى أخبره بدر برغبته بالخروج .. و على الرغم من اعتراضات الممرض و العقيد .. إلا أن بدر قد تمكن من الخروج بعدما قام بتوقيع ورقة خروجه على مسؤوليته الكاملة ..

خرجا الاثنان من المشفى متوجهان إلى سيارة العقيد .. و قد فتح بدر هاتفه و هو يجلس بتعب .. و لكنه لم يرى أي وجود لتغريدة عن الموقع الخامس .. أعاد تحديث التنبيهات على هاتفه و لكن لا شيء ! ..

" هذا غريب ! ".. تساءل بدر

" ماذا ؟ "

" لا يوجد إعلان عن الموقع الخامس , لقد مرت 5 دقائق ! "..

" علينا الانتظار إذًا "..

توجه العقيد نحو أحد الشقق المفروشة و ساعد بدر على النزول .. سأله بدر :" هل سنمكث هنا ؟ "

" لا , سأضعك في مكان لترتاح فيه .. و عند إعلان الموقع الأخير سنذهب سوية للبحث .. هيّا تعال معي "..

دخل الاثنان و سرعان ما استلقى بدر على الأريكة و خرج العقيد ليشتري لهذا الفتى العنيد بعض الطعام ليستعيد به نشاطه ..

و عند عودته إلى الشقة كان بدر قد غرق في النوم وهو ممسك بهاتفه في يده .. قام العقيد أيضًا بالدخول إلى حساب عادل سليمان و لكنه لم يجد شيء حول الموقع الأخير و قد قاربت الساعة من العاشرة و النصف ليلًا .. !


( نهاية الفصل 16 ) ..

نقدر نقول أننا وصلنا تقريبًا إلى ما قبل النهاية بشوي .. و مثل ما انتو شايفين , البارت مليان أحداث مشوّقة .. عشان كذا أبغى منكم تحليلات حلوة و عميقة للأشياء اللي صارت و اللي رح تصير ..

تصبحوا على خير , و دمتوا بحفظ الله و رعايته ..

رُوفِ 07-12-2016 04:47 AM




01302798240 رد: روايتي الأولى : لماذا أرى ملاكًا وسَط جحيمي

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته ..

صباح الخير يا أحلى غراميين .. كيفكم ان شاءالله تمام ؟!

اليوم أنا سعيدة جدًا جدًا , مشاهدات الرواية بلغت 10 الاف مشاهدة .. صحيح أنه رقم صغير مقارنة بمشاهدات الروايات الثانية , و لكن كل شي يجي بشويش .. و جدًا مبسوطة على هذا العدد , و ان شاءالله تكون الرواية عند حسن الظن ..

مارح أطول عليكم , نبدأ بالبارت يلّا ؟! .. عاد بارت اليوم سبيشل من قلب :) .. بارت أقدر أقول أنه يحبس الأنفاس << مادح نفسه كذاب ههههههههههههههه ..

يلّا نبدأ ؟! ..

.
.

الفصل السابع عشر 17 :



يمشي في طريقه باتجاه شقة فيصل بعدما وضع عادل في المنزل المطلوب و قد قيّد يداه و رجلاه تمامًا ..

ذهب إلى فيصل كي يستلم المال الذي اتفقا عليه مقابل الخدمات التي سيسديها إليه , و المغلفات التي سيقوم بوضعها في أماكن متفرقة , و كل تلك الساعات الطويلة من الإرهاق الناتج عن القيادة المستمرة .. لذلك اتفق مع فيصل على ألا تكون هذه الخدمات مجانية ! ..

و ما أن وصل إلى العمارة التي يسكنها فيصل , حتى عادت به الذكرى و بشدة إلى المرة الأولى التي خطت قدماه على هذا المكان .. و كيف أنه كان يلحق بعبدالرحمن للأعلى بهدوء , و الآن كان المشهد يتكرر معه بالضبط .. حيث داخلية المكان تبدو نفسها , و حتى الإضاءة لازالت خافتة و متقطعة كما رآها أول مرة , و كل تلك الأبواب للشقق التي لا يعلم أدنى شيء عن ساكنيها و لم يرى أحد الأبواب قد فُتِح يومًا ! ..

استمر بالصعود و استمرت الذكرى بالرجوع و قد وصل إلى باب شقة فيصل , حيث كان يستند عليه في المرة الأولى و يستمع لحديث فيصل مع عبدالرحمن حول انتقامٍ ما .. !

تذكر كيف أن الباب قد فُتِح و قد ارعبه ذلك بشدة , و صوت صرير الباب لايزال في اذنه حتى اليوم .. و لكن أكثر ما أرعبه بحق في المرة الأولى , هو ( فيصل ) بحد ذاته ..

فلقد كان آخر شخص يتوقع وجوده على الأرض يومًا ! .. لقد كان فيصل عبارة عن نسخة طبق الأًصل من ( عادل ) ! ..

و كأن عادل كان جالسًا مع عبدالرحمن ! .. و أول ما تبادر لذهن سلطان هو أنه : كيف لعادل أن يأتي لهذا المكان و يتحدث مع عبدالرحمن حول الانتقام من ( عادل نفسه ) !!؟

لقد كان سلطان على وشك الجنون من هذا الشبه الضخم بينهما ! ..

و لكن فيصل كان ببساطة : النسخة الشيطانية من عادل , فلقد كانت عيناه أكثر حدة و حاجباه أكثر سوادًا , أما جسده فقد كان طويلًا و بمنكبين عريضين , لم يكن يشبه عادل في ببشاشته المعهودة و لطفه , فقد امتلك فيصل نظرات غاضبة طوال الوقت و حاجبان مقطبان دون سبب وجيه ! .. أما شفتاه فلم ير سلطان الابتسامة عليهما يومًا .. !

لقد كان فيصل ( التوأم السيء ) لعادل ! .. و الآن وقد دخل سلطان إلى الشقة , وجد فيصل يجلس في نفس المكان الذي رآه فيه في المرة الأولى , و لكن بملامح أكثر استرخاء و عينان أقل غضبًا ..

تقدم نحوه و جلس أمامه قائلًا :" هل انتهى دوري الآن في كل هذا ؟ "..

عاد فيصل بظهره إلى الوراء و هو يضع يديه خلف رأسه باسترخاء قائلًا :" نعم , لقد انتهى دورك , و بالنسبة لمكافأتك , إنها في الغرفة التي كان عادل فيها , ستجد المال داخل حقيبة صغيرة "

نهض سلطان متوجهًا نحو الغرفة و هو يبحث بعيناه عن الحقيبة .. و لكن ما أن وقف في منتصف الغرفة حتى خرج الهواء من صدره تمامًا ! .. و قد شعر بنيران تشعل ظهره بالكامل ..

لقد رأى خيال ابنته و زوجته الجميلة يتمايل أمام عيناه , و حياته تعبر أمامه بالتسلسل و كأنه لم يلبث سوى " عشيةً و ضحاها " .. !

كان فيصل يقف خلفه و هو يلتصق به أكثر , و قد أمسك به بذراع واحدة , و أما الأخرى فقد كانت تطعن سلطان في ظهره .. طعنه مجازيّة و فعلية ! ..

كانت الدماء تنساب على يد فيصل بغزارة و قد وضع فمه عند أذن سلطان قائلًا :" نعم , أنا هو الصديق السيء الذي يطعن في الظهر "..

كان سلطان يغمض عيناه و يفتحها ببطء و قد أصبح بينه و بين الموت قاب قوسين أو أدنى .. وقد انقطع نفسه و ارتخت أطرافه بالكامل , و لكن فيصل زاد من ادخال السكين في سلطان وهو يكمل :

" و لكنك شخص جيد في الواقع , لقد كنت تخدم أخوين توأمين في نفس الوقت , لقد كنت تمطر عليهم بفضلك , و لكن يبدو بأن عادل لم يعرف كيف يكافئك , لذلك فعلت ذلك بنفسي .. هذا هو الجزاء الذي تستحقه "..

قال فيصل كلماته و قد أخرج تلك السكين الحادة من ظهر سلطان ثم دفعه بقوة على الأرضية , حيث بدأت دماءه تنساب بغزارة , و تلك البقعة الحمراء في ظهر ثوبه تكبر شيئًا فشيء .. !

نظر فيصل إلى السكين الصغيرة في يده و التي أخرجها من خزانته مساء هذا اليوم , و توجه نحو نافذة الغرفة و قام بفتحها و هو ينظر إلى الأسفل , كانت هناك حاوية قمامة كبيرة صفراء اللون أسفل النافذة تمامًا , فقام فيصل برمي السكين فيها و أغلق النافذة و خرج من الغرفة ..

لم يكن قلق حول الإمساك به في جريمة قتل , فقد كانت يداه محروقتان و عديمتا البصمات بالكامل ! .. لذلك فقد استمتع بقتل سلطان بيديه العاريتان دون قفاز أو أي شيء يخفيهما ..

نظر إلى المكان من حوله , هذا المكان الصغير المظلم الذي احتوى ظلمات قلبه لسنين , و الذي بقي فيه نكرة و معدوم من الوجود , حيث لم يكن يعرفه أحد سوى اثنان , و الآن قد قتل واحد منهما ..

تذكر كل تلك الأيام التي قضاها هنا من دون أن يفرّق بين الليل و النهار , و دون أدنى معرفة بالعالم الخارجي و الذي يدور من حوله , كان مكتفيًا بالذكريات المريرة لمراهقته , و التي كانت صاحبته الوحيدة في هذا المكان ..

في هذه الشقة كبر انتقامه , و في هذه الشقة خطط للانتقام , و فيها أيضًا انتهى كل ما خطط له ..

خرج منها نازلًا السلالم و تاركًا خلفه شقة صغيرة لن يعلم أحد يومًا مَن كان يسكنها ! .. لم يترك بصمة أو أثرًا يقود إلى معرفته , بل خرج من العمارة بأكملها للمرة الأخيرة في حياته ..

أوقف سيارة أجرة و توجه مباشرة إلى الوحيد الذي يربط بينهما الكثير , توجه إلى شقيقه عادل الذي يربط بينهما الدماء و الذكرى ... !



**********


قبل 30 سنة ..


يتسلل فيصل المراهق المتمرد إلى غرفة أخيه التوأم بعد منتصف الليل , متوجهًا إلى سريره و هو يوقظه بهدوء :

" عادل , عادل أيها الطفل استيقظ , لا أصدق أنك تنام في مثل هذا الوقت ! "..

فتح عادل الوسيم عيناه قائلًا :" ما الذي يفعله الناس في هذا الوقت سوى النوم ؟! .. أنت حقًا لامبالي بشكل فظيع , اخرج من هنا "..

" عادل , إن أسامة و بقية الشباب مجتمعون في استراحته من بعد مباراة اليوم , ألن تذهب معي ؟ "

نهض عادل بسرعة قائلًا :" أفقدت عقلك ؟! .. إن الساعة الآن الثانية صباحًا , المكان الوحيد المسموح لنا الذهاب إليه هو : المطبخ , أو قسم الطوارئ في حال موت أحدنا , سيشرب والدي من دمك إن علم عن مخططاتك البلهاء , لن تذهب يا فيصل "..

" أتعلم ؟! .. أنا أحمق , ليتني لم أخبرك , سأذهب الآن و أنت عد إلى النوم أيها الديك "..

" و ماذا عن والدي إذا استيقظ و لم يجدك ؟! "..

" لا تقلق , لن يستيقظ قبل ساعتين من الآن .. "

عاد عادل إلى النوم و هو يغطي نفسه جيدًا قائلًا :" و كيف لك أن تعلم ؟! .. يمكنه الاستيقاظ في أي وقت "..

" لا لن يفعل , لقد وضعت له منوّمًا في عصيره قبل أن يتعشى معنا "..

قفز عادل من سريره و هو يتوجه إلى الباب قائلًا بصراخ :

" أيها المجنون , هل قمت بتخدير والدنا ؟! .. لقد تماديت كثيرًا يا فيصل , كثيرًا "..

توجه عادل إلى غرفة أبيه بينما نزل فيصل من سلالم منزلهم الكبير وهو يعبث بمفتاح سيارة والده قائلًا :

" قم بإضاعة الليل كله في محاولة إيقاظه , فأما أنا فسأقضيه بمتعة كاملة "..

خرج فيصل من المنزل بينما دخل عادل على أبيه وهو يضرب خدّه بخفه محاولًا إيقاظه :

" أبي , أبي هل تسمعني ؟! .. أبي ! " .. استمر في هز جسد والده و لكن يبدو بأن المنوّم كان قويًا بالفعل .. !

قام عادل بتغطية والده جيدًا ثم خرج بهدوء وهو يفكر بأخيه المتهور ..

" إنه معتوه بالكامل , يقوم بتنويم والده من أجل جلسة تافهة مع أصدقاء لا نرجو خيرًا من ورائهم , منذ اللحظة التي رأيتهم فيها قبل عدة أسابيع و أنا شديد القلق على أخي , إنه عنيد بشدة و لن يستمع إلى ما أقوله عنهم , سيتسببون في إيقاعه في المشاكل العويصة فعلًا ! .. و إن أخبرت والدي فسيستاء فيصل مني ولن يخبرني عن أتفه أسراره و ما يجري معه , و لكن على أحدهم إيقافه , لن أستحمل الوقوف و مشاهدة أخي يغرق في فخ المراهقة دون فعل أي شيء تجاه ذلك , يا إلهي أعنّي "..

عاد عادل إلى غرفته و ظل ينتظر أخاه طوال الليل , و لم يكن يستطيع فعل أي شيء , فقد كان خجول و متردد للغاية , و ليست لديه القدرة على الحديث مع أحد و فتح قلبه سوى لفيصل , و هو الآن بحاجة لشخص آخر ليتحدث معه بشأن فيصل ! ..

و عندما عاد أخوه بعد ساعة و نصف , دخل إلى المنزل و هو يترنح و قد ارتخت أطرافه و هو بالكاد يستطيع أن يخطو خطوة واحدة .. نزل عادل عندما سمع صوت الباب و قد رأى أخاه في وضع مزري للغاية , نزل السلالم بسرعة على أطراف قدميه ..

توجه نحو فيصل و هو يسحبه معه للأعلى ,و قام بإدخاله إلى غرفته و أغلق الباب بهدوء , قال فيصل ببطء و هو يمسح أنفه بشدة :

" أرأيت ؟ .. أخبرتك بأنني لن أتأخر "..

" فيصل ما بك ؟ .. لم أنت متعب هكذا ؟! "

" متعب ؟! أنا لست متعبًا , بل في أعلى مراحل النشوة , هناك خيط رفيع للغاية بينهما "..

" عليك أن تنام الآن , بسرعة , لقد اقترب آذان الفجر و سيأتي والدي لإيقاظك , تظاهر على الأقل بأنك نائم ! "..

هز فيصل رأسه بشرود قائلًا :" حسنًا , اخرج "..

قام فيصل بنزع ملابسه و قد خجل عادل من ذلك و خرج على الفور هامسًا :" أحمق "..


**********

يجلسان على أحد الكراسي في الساحة الخلفية لمدرستهما , كان عادل يتناول إفطاره بشرود , أما فيصل فقد كان مستلقي و واضعٌ رأسه على فخذ أخيه , قال عادل بهدوء :

" ما فعلته في الليلة الماضية كان خطأ فادحًا يا فيصل , و عليك أن تتوقف عما تفعله في منتصف الليل كل يوم , عليك التوقف مبكرًا قبل أن يتفاقم الوضع , ويعلم والدنا عن ذلك و تفقد ثقته بالكامل "..

" و من قال أننا مَلكنَا ثقته حتى نفقدها ؟! " .. نهض فيصل و جلس بجانب عادل و أكمل قائلًا :

" أتظن أن أبي يثق بنا ؟! .. ألا ترى ما يفعله ؟! .. إنه بالكاد يسمح لنا بالخروج , أو السفر سويةً .. بربك يا عادل ! إننا في الثامنة عشر , و قريبًا سنصبح رجالًا مستقلين , و لا يزال أبي يعاملنا كالأطفال , إن كل الأمور التي أفعلها ليست سوى ردة فعل عكسية بسببه , هو الذي جعلني أمتلك كل هذا الفضول والتمرد للخروج من المنزل و رؤية الأمور التي لا يريد منا أن نراها .. إلى متى سيظل يمنعنا من الاختلاط بالناس و الخوض في التجارب , سواءً أكانت ناجحة أم فاشلة ؟! "..

" فيصل أرجوك , إننا الشيء الوحيد الذي بقي له في هذه الحياة , إن يفعل ذلك خوفًا علينا .. "

" لا , بل يفعله لأنه لا يثق بتربيته .."

" فيصل ! , عارٌ عليك ! .. كيف لك أن تتحدث عنه بهذه الطريقة ؟! "..

" و لم أنت واقف بصفه ؟! .. أتعجبك كل هذه الأغلال التي يضعها حولك ؟! .. عادل , إن أبي يقوم بتفتيش هاتفك كل يومان , أترى أن هذا تصرف صحيح و مليء بالثقة ؟! .. استيقظ من خضوعيتك قليلًا .. إن تصرفات أبي مزعجة للغاية , أنا أحبه ولكن ما يفعله بنا غير لائق أبدًا , بدأت أخجل منه أمام أصحابي ! "..

" يا للفخر .. تخجل من والدك !؟ .. فيصل إن والدي خائف علينا , يريد مصلحتنا فحسب , أظن بأنه يرى الحياة بمنظور مختلف قليلًا عنّا "..

" لا يا عادل , إنك تخاف حتى من القول بأنه يمنع حريتك .. أتعلم شيئًا ؟! .. أنت جبان "..

" لا لست جبانًا , ولكن لن أجعل والدي يغضب مني بسبب أمور تافهة "..

" بلى , أنت جبان , و أشعر بأنك تظن أن والدي يتنصت إلينا حتى عندما نكون هنا ! "..

" لا , لا أظن ذلك , و لكن والدي لديه الأحقية بمنع الأمور المؤذية عن الولوج إلينا "..

" أتعلم ؟! .. الحديث معك عقيم .. دعني أنام "..

أعاد فيصل رأسه إلى حضن عادل و أكمل نومه , فقال عادل :

" لو أنك لم تخرج في الأمس كاللص الهارب في منتصف الليل; لتمكنت من النوم جيدًا .. و لكن لا حياة لمن تنادي !! "..

رفع عادل رأسه لذلك الصوت الفريد , لقد كان عبدالرحمن يتقدم نحوهم قائلًا :

" صباح الخير "..

" صباح الخير , أتمنى لو أستطيع أن أقول تفضل و اجلس , و لكن كما ترى , البعض قد أخذ مساحة الكرسي بالكامل !! "..

توجه عبدالرحمن نحو فيصل وهو يعبث بأنفه حتى يوقظه .. و لكن لا جدوى !..

قال عادل :" عبدالرحمن , هل كنت معهم ليلة البارحة ؟! "..

" أتقصد فيصل و الشباب ؟ .. نعم كنت موجودًا و لكن رحلت مبكرًا , بعد وصول فيصل بدقائق "..

نظر عادل إلى أخيه ثم إلى عبدالرحمن قائلًا :" حسنًا , سنتحدث لاحقًا "..


**********


دخل والد التوأمان إلى المنزل بعد الظهر , و توجه إلى طاولة الطعام ليشاركهما الغداء ..

" السلام عليكم "..

رد الاثنان بهدوء :" وعليكم السلام "..

بدأوا في الأكل و كانت الأجواء هادئة كالعادة , و لم يكن هناك سوى أصوات الملاعق , و لكن الأب كان يرفع عيناه كل بضع دقائق إلى فيصل ثم يعود للأكل .. لاحظ عادل نظرات والده تجاه أخيه ولكنه التزم الصمت , و بعد بضعة أحاديث سطحية حول دراستهما .. أنتهى الجميع من الأكل و خرج والدهما إلى غرفته لينام , أما عادل فقد اقترب من فيصل هامسًا :

" أرأيت كيف كان ينظر إليك ؟! "..

" مَن ؟! "..

" يا إلهي , فيصل إن الوقت ليس مناسب لمزاحك , أقصد والدي "..

" و كيف كانت نظراته ؟! "..

" لا أعلم , و لكنه يبدو بانه عرف بشأن ليلة البارحة "..

" إن أبي ينظر إلي دائمًا بهذه الطريقة , أنا معتاد عليها , و بالنسبة لليلة البارحة , فأنا لم أترك أثرًا أو دليلًا عندما خرجت .. لقد كان نائمًا .. توقف عن هواجسك "..


**********

( في غرفة والدهما ) ..


رفع الأب ( حمد ) هاتفه متصلًا على أحد موظفيه المقربين .. و طلب منه أن يقوم بمراقبة المنزل ليلًا , و اللحاق بفيصل إذا رآه خارجًا و إخباره عن كل شيء يراه على ابنه , استغرب الموظف ( إياد ) طلب مديره , و لكنه وافق على ذلك ..

أما حمد فقد اتجه إلى أريكة غرفته و أخذ الشماغ الموضوع عليها و هو يشتم رائحته للمرة الألف ! ..
لقد كان رائحة عطر فيصل مختلطة برائحة التبغ القوية ..

و قد وجد حمد في سيارته هذا الشماغ الخاص بابنه و الذي يبدو بأنه نسيه في سيارة والده عندما عاد فجر الأمس..

تفاقمت شكوك حمد بابنه .. ولكنه ظل يهدئ نفسه و يلتزم الصمت حتى يأتيه إياد بالخبر اليقين ..


**********


مضت 3 أيام , و في كل مرة كان إياد يلاحظ خروج فيصل ليلًا , و يتبعه و يراقب كل ما يفعله , أما عادل فقد أدار حديثًا طويلًا مع عبدالرحمن , يسأله فيه عما يجري في استراحة أصدقاء فيصل و إن كان هنالك شيء سيتسبب لفيصل بالأذى :

" عبدالرحمن , أأنت متأكد من كلامك ؟! "

" عادل , لقد أخبرتك مئة مرة ! .. لا شيء مضر يحصل هناك , كل ما في الأمر أننا نجتمع سوية و نلعب الورق أو نشاهد فيلمًا , أو نقوم بعمل المقالب لبعضنا , لا أعلم لم كل هذا القلق ؟ , لقد بدأت تصبح نسخة مصغرة عن والدك ! "..

" عبدالرحمن , لا أسمح لك بالحديث بهذا الأسلوب عن والدي , أهذا مفهوم ؟! .. أما بخصوص فيصل , ففي كل مرة يعود إلى البيت تكون قواه معدومة بالكامل , و قد بدأ وجهه يتغير كثيرًا , لقد أصبح أكثر شحوبًا و أقل اهتمامًا بما يجري حوله , إنه أخي يا عبدالرحمن , و لن أسمح لشيء أن يمسه بضرر "..

" لا أعلم يا عادل , إن كنت تقصد أن فيصل يتعاطى شيئًا ما , فأنا لا أعلم , إنه يجلس بشكل طبيعي للغاية معنا , و يغادرنا بنفس الوضع كل يوم , إن أخطر شيء نفعله هناك هو التدخين من فترة إلى أخرى , أما تعاطي بعض المخدرات أو أيّ كان منها ; فنحن لا نفعل ذلك أبدًا "..

" إن كان فيصل يغادر الجلسة بوضعه الطبيعي , فلماذا يعود إلى المنزل بشكل مزري ؟! "..

صمت الاثنان لدقائق , ثم سأل عادل بسرعة :

" عبدالرحمن , في أي ساعة يغادركم فيصل عادةً ؟! .. بسرعة "..

" أهـ , ممم لا أعلم بالضبط , و لكن قرابة الساعة الثالثة إلا ربع تقريبًا , لا يجلس كثيرًا معنا , يغادر بعد 45 دقيقة من قدومه على الأرجح "..

" هذا غريب , إنه يعود إلى المنزل في الثالثة و النصف , أي أنه يعود بعد الخروج من الاستراحة بـ 45 دقيقة , و إن المنزل قريب من استراحتكم , و لا يستغرق الطريق سوى 5 دقائق ! "..

" أتقصد بأنه يذهب لمكان آخر بعد أن يغادرنا ؟! "..

" نعم , بالتأكيد "..

سكت عبدالرحمن لثواني , ثم قال:" أستطيع مراقبته إن أردت ذلك .."

" حقًا ؟! .. و لكن الوقت سيكون متأخر للغاية , و قد تقع في المشاكل أنت أيضًا "..

" لا عليك , سأراقبه ليومان فقط .. " سكت عبدالرحمن ثم أردف :" أكره أن أراقب أعز أصدقائي بهذا الشكل و لكن , لقد أثرت قلقي عليه , لقد لاحظت وجهه مؤخرًا , و لقد كان كما قلت , شاحبًا و متعبًا في الغالب , إنه ينام كثيرًا في الصف , علاماته الدراسية انخفضت بشكل مريب , لقد أصبح يشرد كثيرًا .. سأراقبه من أجله نفسه , و ليس ما أجلك يا عادل "..

" نعم , لا تراقبه من أجلي , أنا أعلم أن صديقك الأقرب و أنك لن تستطيع أن تشي به بسهولة , و لكن مصلحته تقتضي ذلك "..


**********


بعد عدة أيام ..

يجلس والدهما حمد على مكتبه و قد وضع رأسه بين يديه عندما هاجمه ذلك الألم القاتل , الناتج عن الأمور التي أخبره بشأنها إياد !! ..

" هذا ضرب من الجنون , كيف لأبني أن يفعل ذلك ؟! .. كيف لتربيتي أن تثمر بهذه الطريقة المشينة ؟! .. لقد ظللت أمنعه من الاختلاط المبالغ به مع الناس , لأن الناس ليسوا ملائكة ! .. و لكنه ظل يعاندني و يفعل المصائب من ورائي .. يا إلهي .. كيف سأتصرف الآن , و ماذا عن اسم عائلتنا و اسم شركتنا التي تلطخت بالعار بسببه ؟! .. ماذا عن كل تلك الأموال التي صرفها من أجل أن يفقد عقله و ينتشي لدقائق ؟! .. "

كان حمد قد فقد أمله في الإصلاح تمامًا , و بحسب طبيعة شخصيته العصبية و المتسرعة دومًا , لم يكن أمامه سوى حل واحد لهذه المصيبة ..

أخبره إياد أن ابنه كان يغادر المنزل بعد الساعة الواحدة تقريبًا , و عندما بدأ بتتبعه , كان يذهب لأصحابه في استراحة صغيرة قريبة من منزلهم , و لكنه يجلس فيها قرابة النصف ساعة أو أكثر بقليل , و لكن بعد ذلك يخرج من عند أصحابه و يتوجه إلى استراحة أخرى بعيدة .. و يجلس فيها طويلًا ثم يعود إلى المنزل و هو يترنح في مشيته نحو السيارة و عند نزوله منها ..

كان إياد يتملكه الفضول لمعرفة ماذا يجري في الاستراحة الأخرى , لذلك قرر أن يقترب و يرى الأمور عن كثب و لكن لم تكن لديه فكرة عن كيفية الدخول إليها ..

ففي أحد الأيام , و بينما كان يقف بسيارته بعيدًا , رأى سيارة أحد المطاعم السريعة متجهة إلى تلك الاستراحة , فقام بتغطية وجهه بشماغه و اللحاق بالسيارة , و ما أن توقفت أمام الباب , حتى قام إياد بإنزال السائق و وضعه في المقاعد الخلفية لسيارته و ضربه بشدة , و لكن ذاك السائق الآسيوي قام بالتوسل و بدأ بالبكاء طالبًا من إياد عدم ضربه و قائلًا له بأنه يستطيع أخذ ما يريد .. !

توقف إياد عن ضرب الرجل و طلب منه خلع ملابسه الخاصة بالمطعم و كذلك قبعته , ارتداها إياد و حمل أكياس الطعام و توجه نحو الباب ليطرقه , و لكن كان الباب مفتوحًا ! ..

فدخل بهدوء و هو ينظر في جميع الاتجاهات بتوتر و خوف , شاتمًا نفسه على موافقته لفعل هذا الأمر من أجله مديره ! ..

كانت أصوات الأغاني تصدح في جميع أرجاء المكان , و بعد دقائق , كان يرى عدة فتيات بملابس لا تخفي شيئًا , و هن يمشين باتجاه المبنى الداخلي للاستراحة ..

تراجع إياد عندما رآهن و اختبئ خلف أحد السيارات المركونة بالداخل , و بعدما دخلن , وضع الطعام على الأرض و أخرج هاتفه و قام بتصوير كل شيء ! .. صوت و صورة ! ..

و بينما كان يتراجع و هو ينوي الرحيل , شد انتباهه غرفة صغيرة تقع في الطرف الآخر من المكان , حيث يفصل بينهم مساحة كبيرة من العشب و الزرع .. قرر إياد التهور بعض الشيء , و اتجه نحوها ..
كانت الاستراحة مظلمة و يبدو بأن الجميع موجودون داخل المبنى الذي دخلن إليه الفتيات ..

وصل إياد إلى الغرفة و هو يدعو الله أن لا يراه أحد , و ما أن دخل حتى تجمدت أطرافه من المنظر أمامه ..!

لقد كان فيصل مستلقٍ على الأرض و هو يهذي بكلام غير مفهوم أبدًا .. و قد تناثرت حوله أكياس صغيرة فارغة إلا من بعض المساحيق البيضاء التي ملأ بعضها أنف فيصل .. و قد وجد بجانبه إبرتان صغيرتان .. توجه إياد نحوه بسرعة و هو يهمس بخوف :

" فيصل , فيصل استيقظ .. ماذا حصل لك ؟! .. أرجوك استيقظ , هل تسمعني ؟! "..

و لكن فيصل كان بالكاد يفتح عيناه و قد بدأ بمسح أنفه بشدة و بدأ بالعطاس , أما إياد فقد نظر إلى أكمام ثوبه التي ارتفعت و أظهرت ذراعه المملوءة بالبقع الزرقاء و السوداء الناتجة عن الإبر التي كان يتعاطاها ..

قام إياد بحمله بين ذراعيه و الذي بدا خفيفًا للغاية على عكس اعتقاده .. و مشى به نحو الخارج باتجاه سيارته دون أن يلحظه أحد .. وضعه في المقاعد الخلفية و مشى بسرعة نحو منزل حمد , و نزل طارقًا الباب بشدة ..

كان عادل مستيقظ في هذا الوقت مثل كل يوم بانتظار أخيه , فقفز خائفًا من هذا الطرق السريع على الباب , خرج من غرفته بسرعة و نزل السلالم على أطراف أصابعه , فتح الباب ليتفاجأ بإياد حاملًا فيصل بين ذراعيه و يبدو على كل منهما الإرهاق الشديد .. أدخل عادل إياد إلى المنزل و أخذه إلى الطابق العلوي حيث تقع غرفة فيصل ..

قاموا بوضعه على سريره و تغطيته جيدًا .. أما عادل فقد بدأ يسأل إياد عمّا حصل .. و لكن إياد قال بأنه لن يخبره قبل أن يخبر والده بالأمر ..

كان عادل شديد القلق على فيصل من والده , و قد توسل إلى إياد ليخبره عما حصل و يخفي الأمر عن والده ولكن إياد رفض بشدة , و أخبره بأن والدهم يعلم عن خروج فيصل المتأخر , و أن الوقت قد تأخر كثيرًا لإخفاء الأمر عنه .. و أن والدهم أوصاه بمراقبة فيصل منذ عدة أيام ..

خرج إياد من المنزل محمّلًا بقصة هذه الليلة المريعة , أما عادل فقد جلس بجانب أخيه و هو يندب حظه السيء , و تصرفات فيصل المجنونة ..

أخبر إياد مديره عن كل ما حصل في تلك الليلة , و أطلعه على الصور و مقاطع الفيديو التي أخذها .. و أخبره عن الوضع الذي رأى فيصل فيه , و كل تلك المخدرات و الإبر التي كانت بجواره ..

أما حمد فقد اتخذ قراره و اتجه نحو منزله مباشرة عند الساعة الثانية ظهرًا ..!

يتبع ...



رُوفِ 07-12-2016 05:23 AM



الافتراضي رد: روايتي الأولى : لماذا أرى ملاكًا وسَط جحيمي

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته ..

كيفكم يا حلوين ؟ إن شاءالله تمام ؟ .. أحب أقول لكم كل عام و انتم بخير , و عيدكم مبارك ..

أعتذر عن التأخير اللي صار , كانت عندي شوية ظروف و التزامات منعتني من الكتابة , لكن عندي لكم بشارة حلوة : بارت اليوم طويل طويل مرة , يعني دبل البارت اللي قبل .. تقريبًا 24 صفحة بالوورد يعني باختصار ( من طول الغيبات جاب الغنايم ) ..

البارت بيكون متعلق بأحداث الماضي لأبطالنا , و الحلوة الأمورة هي اللي رح تقدر تربط أحداث الحاضر بالماضي ..

قراءة ممتعة حبايبي ..



الفصل الثامن عشر 18 :




تابع ( قبل 30 سنة ) ..

خرج من المنزل محملًا بأحلامه و مأساته على عاتقيه , تاركًا خلفه جزئه الآخر و صندوق أسراره , الذي خذله عند أول مصيبة وقعت ..

مشى حافي القدمين وهو يفكر أين سيمضي هذه الليلة ؟! أو بالأصح , أين سيقضي المتبقي من عمره ؟! .. تذكّر أنه لا يحمل المال و لا حتى مبلغًا صغيرًا يشتري به غداءً لنفسه , أدخل يديه في جيوبه ابتسم سعادةً عندما وجد هاتفه , أمسك به وهو يفكر بمن سيتصل ! .. هل يستعين بالشرطة لإيجاد ملجأ ؟ و لكنه خاف أن يعرفوا بشأن المخدرات التي كان يتعاطاها , و ينتهي به المطاف بالسجن و يكون هذا هو ملجأه ! ..
فكّر كثيرًا وهو يمسك بهاتفه أسفل شمس الظهيرة الحارقة , مشى قليلًا ليستظل أسفل إحدى النخلات في الطريق .. وهو يلمح نظرات السائقين إليه , بعضهم كان ينظر بشفقة , و البعض باشمئزاز و كبرياء !..

أعاد نظره إلى هاتفه و قرر الاتصال بعبدالرحمن , و ما لبث ذاك كثيرًا حتى رفع السماعة قائلًا :

" أهلًا فيصل "..

" عبدالرحمن , أهلًا , لابد من أنني أيقظتك من قيلولتك ! "..

" لا , لا عليك , كنت مستلقيًا فحسب , ما الأمر ؟! "..

تردد فيصل بالحديث قليلًا , حيث قال عبدالرحمن و هو ينهض من سريره :

" فيصل أأنت بخير ؟! "..

قال فيصل بسرعة وكأنما سؤال عبدالرحمن حفزه على الكلام :" لا , لست بخير , أنا في ورطة يا عبدالرحمن , بل مصيبة ! "..

" يا إلهي .. ماذا حصل ؟! "..

" إنه موضوع ضخم للغاية , لا أستطيع الحديث عنه الآن , هل يمكنني أن آتي إليك في منزلك ؟!"

" بالتأكيد , أنا في انتظارك "..

توجه فيصل نحو منزل عبدالرحمن , الذي كان يسكنه لوحده , حيث كانت عائلته قد انتقلت للعيش في الخرج , أما هو فقد بقي في الرياض ليكمل دراسته الثانوية و الجامعية فيها ..

وصل فيصل بعد نصف ساعة وهو يتعرق بشدة و بالكاد كان يستطيع التنفس , فقد قطع الطريق مشيًا على الأقدام و قد كان على وشك تلقي ضربة شمس حادة !..

طرق الباب بسرعة و فتح له عبدالرحمن , و قد تفاجأ بوجه صديقه الأحمر و قد أحاطت بعيناه هالات سوداء , و امتلأ وجهه عرقًا . دخل إلى المنزل و لكن سرعان ما أصابه دوار و سقط على ركبتيه و هو يتنفس بصعوبة , هلع عبدالرحمن من منظر صديقه و انحنى إليه قائلًا :

" فيصل ! .. أكنت تمشي بالشمس طوال الطريق ؟! "..

هز فيصل رأسه بـ نعم , و هو يسعل و يعود للتنفس بعمق , ساعده عبدالرحمن على النهوض قائلًا :

" أنت حقًا متهور ! , لقد كان من الممكن أن تتعرض لضربة شمس أو أي شيء من هذا القبيل , لماذا لم تأخذ سيارة والدك للمجيء ؟! أو تستقل سيارة أجرة على الأقل ؟! "..

نظر فيصل إلى عبدالرحمن بحدة عندما ذكر والده , وهو يعود برأسه إلى الوراء مسترخيًا على الأريكة و قد وضع يديه على رأسه ..

طال صمت فيصل وهو جالس بهدوء , و قد دارت الشكوك في عقل عبدالرحمن , فنهض ليجلب بعض الماء البارد لصديقه و وضعه على الطاولة و عاود الجلوس و هو يضع يده على كتف فيصل بلطف قائلًا :

" فيصل , ألن تخبرني ما بك ؟! لقد قلت أنك في ورطة , ما الأمر , أنا كلّي آذان صاغية "..

تنهد فيصل بتعب و هو يأخذ كأس الماء و يشربه كاملًا , ثم نظر إلى صديقه قائلًا :

" هل أستطيع أن أمكث هنا معك ؟! أعني أن أمكث طوال عمري ؟! "..

تغيرت ملامح عبدالرحمن وهو يقول :" ماذا حدث يا فيصل ؟! .. لم قد تسكن في مكان غير منزلك ؟ .. عذرًا أنا لا أقصد أنك لا تستطيع البقاء هنا و لكن .. لماذا ؟! و ماذا عن والدك و أخوك ؟! ماذا حصل ؟! "..

تنهد فيصل و هو يثبت نظره على الأرض باستغراق ثم قال :" لقد عَلِم والدي ".. صمت قليلًا ثم أكمل :" لقد عرف أنني أخرج لوقت متأخر كل يوم , لقد عرف عن الأمر برمته ! "..

تساءل عبدالرحمن :" و قد خرجت من المنزل هربًا من عقوبته ؟! "..

نظر فيصل إلى عبدالرحمن ثم قال بهدوء :" لا , لم أهرب .. بل تبرأ هو مني و طردني "..

فتح عبدالرحمن عيناه بصدمة و هو يجهل السبب تمامًا , فقال :" تبرأ منك ؟! .. أنت لم تفعل شيئًا شنيعًا ليطردك هكذا !! "..

" إنه لم يعرف فقط عن أمر خروجي , بل عرف أيضًا بأمر المخدرات يا عبدالرحمن "..

" لقد كنت تتعاطى طيلة الفترة الماضية أليس كذلك ؟! "..

هز فيصل رأسه بالإيجاب و هو يمسح عينيه بيديه و بإرهاق تام ..

قال عبدالرحمن :" لقد كنا أنا و عادل نظن ذلك , و لكننا أحسنّا الظن بك ! "..

نظر فيصل إلى صديقه بحدة قائلًا :" إياك و أن تحدثي عن ذاك الجبان ! .. أهذا مفهوم ؟! .. ذاك الطفل لم يعد أخي .. لقد كسرني صمته أكثر من عتاب والدي و براءته مني !! .. "

" عادل ؟! "..

" نعم , عادل .. لم يحاول التحدث أو توضيح الأمر لوالدي أبدًا , لقد وقف ضدّي .. سأجعله يدفع ثمن ضعفه و صمته ذاك الجبان "..

لم يتمالك عبدالرحمن نفسه و قال :" ستجعله يدفع الثمن ؟! لماذا ؟! .. لم يفعل عادل شيئًا ! "..

وقف فيصل و هو يرمي بكلامه عبدالرحمن :" أنت في صفه أيضًا ؟! .. ستقف ضدي أليس كذلك ؟! .. لابد من أنك تراني الان بصورة الفتى الضائع .. أتعلم شيئًا ! لقد أخطأت عندما استنجدت بك ".. انهى فيصل حديثه و هو يتوجه نحو الباب و ما كاد أن يخرج حتى سحبه عبدالرحمن إلى الداخل مجددًا و هو يقول :

" لن تذهب , أنت لم تفهم قصدي بعد "..

" لا أحتاج لفهمه , إنه واضح ".. حاول فيصل إزاحة عبدالرحمن عن الباب و لكن صديقه أمسك به من كتفيه و هو يصرخ بوجهه :

" فيصل !.. ماذا أصابك ؟! .. هل تريدني أن أكون ذاك النوع من الأصدقاء الذين يقولون أنك على حق دائمًا ؟! ..هل تريدني أن أقول بأنك أحسنت صنعًا عندما أضعت مالك و شبابك في المخدرات ؟! .. أو أن أخرج الآن لأشتري لك المزيد منها ؟! هيّا أجبني ! "..

أشاح فيصل بنظره و قد أنهكه التفكير في نفسه و في وضعه الراهن .. و لم يستطع الإجابة على عبدالرحمن الذي قال :

" نعم يا فيصل , لقد كان عادل على حق , حتى و إن لم يقل شيء , ماذا كنت تتوقع منه أن يقول ؟.. هل أردته أن يدافع عنك و يصرخ في وجه والدك قائلًا بأن المخدرات ليس حرامًا أو عيبًا ؟! .. "

رد فيصل باندفاع قائلًا :" لا , لم أكن أريده أن يقول ذلك , و لكن كان عليه على الأقل أن يجعل والدي يتراجع عن قرار البراءة مني و طردي ! "..

" أنا لست ضدك , عليك أن تضع هذه العبارة في رأسك دائمًا , عندما أتيت إلي قبل ربع ساعة و استنجدت بي , كنت قد وعدت نفسي سرًا أن أقف معك و أساندك حتى النهاية .. و أول أمر سأفعله بصفتي صاحبك هو أن أخبرك أنك على خطأ , لن أكون صديق سوء , و بما أنك في منزلي الآن , فعلينا سوية أن نناقش هذا الخطأ جيدًا .. "

بدأ أعصاب فيصل ترتخي مع نبرة عبدالرحمن المساندة له , و الذي أكمل قائلًا بابتسامة :

" إن كنت تريد المكوث هنا طوال عمرك , فليس لدي مانع .. و لكن بشروطي "..

" شروط , مثل ماذا ؟! أن أعمل كخادمة و سائق لديك ؟! "..

ضحك عبدالرحمن على صاحبه قائلًا :" متى ستصبح أكثر جدية ! .. على العموم , لدي شرط واحد .. لا مزيد من المخدرات , اتفقنا ؟! .. و يمكنك فعلت ما شئت في هذا المنزل "..

" و لكن .. "

" لا تقل و لكن ! .. أنا أعلم بأنك قد دخلت مرحلة الإدمان الآن , و هذا واضح على وجهك .. أعلم بأنك ستختبر أيام عصيبة , و قد تفعل أي شيء مقابل جرعة صغيرة , و لكن لا تفعل .. فُز بمعركتك ضد نفسك أرجوك .. سأفعل كل ما تريده مني و لكن توقف عن هذه السموم "..

تنهد فيصل و قال بتهرّب :" سأحاول .. "..

" إذًا .. مرحبًا بك في منزلك ".. عانق عبدالرحمن رفيقه الذي بدا هزيلًا مقارنة بالأشهر التي مضت .. قائلًا له :

" هيّا تعال معي , هناك غرفة فارغة في الأعلى , ستمكث فيها "..

صعد الاثنان و بدآ بترتيب الغرفة و تنظيف الغبار .. بينما ذهب عبدالرحمن لجلب ملاءات و وسادات جديدة من غرفته و إعطائها لصاحبه ..

انتهى الاثنان من تجهيز الغرفة و اصطحب عبدالرحمن فيصل معه لتناول الغداء قبل صلاة العصر .. ثم توجها لأحد المراكز التجارية لشراء ملابس و أساسيات قد يحتاجها فيصل .. و عندما خرجا قال فيصل بخجل من صاحبه :

" عندما أحصل على بعض المال , سأعيد لك ما دفعته .. "

رمق عبدالرحمن صاحبه بغضب .. فقال فيصل :

" لا تنظر إلي هكذا , أنت لست ملزم بمصاريفي ! .. سأذهب لأبحث لي عن وظيفة ليلية .. "

" و لم هذه الرسميات أيها التافه ؟! .. نحن كالأخوة .. لا داعي لهذا الحديث , نستطيع أخذ المال من بعضنا دون هذه الأحاديث السقيمة ! "..

" أعلم , ولكني لا أزال مصرًّا على إيجاد وظيفة , نحن نتشارك المنزل و لابد أن نتشارك المصاريف أيضًا "..

" فيصل , إن والدي يبعث لي بمبلغ كبير كل شهر , 5000 ريال , إنها كافية لنا .. لم تريد إرهاق نفسك بوظيفة ؟! "..

" لا بأس يا عبدالرحمن , أنا أعرف بأنك لن تمانع من مساعدتي ماديًا , و لكني أريد قضاء وقتي في شيء نافع , لعله ينسيني رغبتي بالتعاطي ! "..

" صحيح , لم أنتبه لهذه النقطة , و لكن ماذا بشأن دراستك ؟! .. لقد بقي شهران فقط على التخرج ! .. عليك أن تكمل يا فيصل , لا تجعل سنوات الدراسة الماضية تذهب سدًى ! "..

" لا , لن أفعل .."

فتح عبدالرحمن عينيه بصدمة قائلًا :" فيصل , أأنت جاد في كلامك ؟! .. لقد بقي شهران فقط ! .. إن استطعت انهاؤها فستمتلك شهادة ثانوية و هذا سيكون رائع , و إن لم تفعل .. فذلك سيصعب عليك فرصة إيجاد وظيفة ! "..

" لا أهتم .. ليس هنالك أمر أطمح إليه "..

" فيصل , لا يمكنك العيش هكذا بدون أمل , ذلك سيودي بك إلى الهلاك , أنا لست دائمًا لك و لا أحد على هذه الحياة سيدوم لك , عليك أن تكمل تعليمك , تعليمك الثانوي على الأقل ! "..

صرخ فيصل منفعلًا :" لقد قلت لك لا ! .. لا أريد أن أتواجه مع عادل في المدرسة ؟! .. أفهمت الآن ؟! .. و لا أستطيع أن أنتقل إلى مدرسة أخرى , نحن في نهاية السنة الدراسية و ذلك سيكون مستحيلًا , و لن أؤجل دراستي إلى السنة القادمة , و أعاود دراسة كل شيء من جديد ! .. سأتوقف فحسب , لن أكمل دراستي , سأبحث لنفسي عن أي عمل لأقوم به "..

" ستتنازل عن الشهادة حتى لا تصطدم بأخيك في المدرسة ؟! .. أترى أن هذا عذر منطقي ؟! "..

" إن كنت في نفس وضعي يا عبدالرحمن , فستتفهم موقفي , ستعرف كيف أنه من المميت أن تصطدم صدفة أو تلتقي عيناك بعينا ذاك الشخص الذي حطّمك ! "..

" و ها أنت تقول أنه حطمك ! .. فهل ستترك دراستك من أجل شخص فعل ذلك بك ؟! "..

" أنا لن أترك الدراسة بسببه , و لكن ... لقد اكتفيت يا عبدالرحمن , لن أستطيع الإكمال , لا أستطيع التركيز بشيء , لقد تغيرت حياتي رأسًا على عقب , إن أكملت دراستي فسأرسب ! .. إن عقلي لم يعد مِلكي ! .. لا أستطيع .. "

هز عبدالرحمن رأسه بهدوء و هو يقود السيارة متجهًا إلى المنزل .. لقد كان هذا أول يوم لهم سوية , و قد اكتفى عبدالرحمن من الحديث عن عادل , و قد لاحظ أن فيصل مشتت طوال اليوم , و قد ملأت الكسور قلبه و روحه ..

لم يستحمل عبدالرحمن منظر فيصل الذي اختفت منه معالم القوة التي كان يتحلى بها سابقًا , و التي حل محلها الضعف و الخجل , و ذاك التمرد الذي يُخفي وراءه حطام روحه ..

بدأت بذرة صغيرة من الكره تنمو في عبدالرحمن تجاه عادل ! .. و ذاك الكره لم ينمو بسبب شخصه , بل بسبب الأثر الذي تركه عادل في توأمه .. !


**********


مضت الأيام و كان فيصل يتردد إلى جميع المحلات التجارية التي يعرفها و مراكز الخدمات بحثًا عن وظيفة , حيث كان يمضي فترة ما بعد العصر في البحث , و لا يعود إلى المنزل إلا عندما يتوّسط القمر السماء ..

و بعد عدة أشهر.. و بعد عدة محاولات في البحث , حصل أخيرًا على وظيفة بائع في إحدى محلّات الخضار و الفواكه ..

كان يشعر ببعض الذل و هو يقف بين الخضار و يملأ الأكياس للزبائن , و قد أحاط به عددًا من العمالة العربية و الآسيوية الذين يعملون معه , و قد كان هو السعودي الوحيد المتواجد .. كانت تجتاحه كثيرًا مشاعر العزة بالنفس و الشعور بتدنّس الكرامة , و قد نسي تمامًا أن العمل و كسب الرزق باليد هو خير و أشرف من طلب المال من الآخرين و التوسل , و لم يكن هو الوحيد الذي يشعر بذلك , بل أغلب العمالة السعودية الذين يعملون في وظائف صغيرة مثل فيصل و برواتب متدنية .. و قد تغلغلت لديهم قناعة سلبية قديمة بأنهم خُلِقوا ليَشغلوا وظائف و مناصب أعلى ! ..

و لكن فيصل كان يفكر كثيرًا في حياته السابقة .. و كيف أنه كان يسكن قصرًا كبيرًا يملأه الخدم و كل ما لذ و طاب , و قد انتهى به المطاف شريكًا في السكن مع صاحبه , و موظفًا في محل صغير ..
و لكن الحرية التي وجدها في وضعه الحالي كانت تساوي عنده ملايين القصور , و قد وجد الراحة و الشعور بالنضج في كل مرة يخرج فيها من المنزل وقتما يريد , و عندما يصحو صباحًا دون أن يقوم أحدًا بالتحقيق معه فيما فعل و ما لم يفعل ..

مضت السنوات , و قد ارتقى فيصل في عمله حيث أصبح يدير المكان بأكمله , و قد زاد راتبه بمعدل خفيف , أما عبدالرحمن فقد كان يخوض تجربته الجامعية بجدارة ..

تخرّج عبدالرحمن , بعمر الـ 23 عامًا , و بدأ والده بالبحث عن وسطاء و معارف ليجدوا لابنه وظيفةً حكومية .. و بعد عدة أشهر , بشّر والد عبدالرحمن ابنه بأنه وجد له وظيفة رسمية في أحد القطاعات الحكومية في الخرج ..!

فرح عبدالرحمن و فيصل لهذا الخبر , و قد خرج فيصل من المنزل ليشتري عشاءً فاخرًا لهذه المناسبة المفرحة .. و ما أن انتهوا من تناول الطعام , حتى تحدّث فيصل قائلًا :

" و للمرة الألف أقول لك , مبروك الوظيفة , أنت تستحق كل خير فعلًا "..

ابتسم عبدالرحمن بهدوء و قال :

" بارك الله فيك , و لكن .. إن الوظيفة في الخرج ! "..

" و ما المشكلة في ذلك ؟! , أعني بأنه أمر رائع , ستكون قريبًا من والديك و إخوتك ! "..

" نعم أعلم , و لكن ماذا عنك أنت ؟! .. إن كنت سأذهب أنا للاستقرار هناك ؟! "..

" عبدالرحمن , أنا لست طفلًا , أستطيع تدبر أمري , قم ببيع هذا المنزل , و أشتري بقيمته منزلًا آخر هناك , أما أنا فسأبحث لنفسي عن منزلًا للإيجار أو شقة , لا تحمل همي "..

" لن أبيع المنزل , لقد حدّثني والدي عن هذا الأمر قبلك , قال بأنه سيزودني ببعض المال لترميمه و إعادة تأثيثه .. أما أنت , فستسكنه في غيابي "..

" لا يا عبدالرحمن , هذا كثير .. أقصد ماذا إذا أراد أهلك أن يأتوا إلى هنا في الإجازات مثلًا ؟! .. أو لزيارة أحدٍ ما ؟! .. سيكون هذا محرجًا "..

" فيصل , أظن بأننا قد تخطينا الرسميات بيننا منذ سنوات ! .. توقف عن الحديث بهذا الشكل , لماذا لا تزال تخجل مني ؟! .. أنا لا أريد منك شيئًا عندما أكرمك , أريدك فقط أن تعيش هنيئًا , أما بخصوص أهلي , فليس لهم حاجة في الرياض ليزوروها , إن كل معارفهم في الخرج .. سيكون من النادر أن يأتوا إلى هنا "..

" حسنًا ... ".. كان فيصل يفكر بطريقة ليشكر بها صاحبه , و لكن ضاعت الكلمات منه فجأة , فقرر أن يشكره دون مقدمات :

" شكرًا , أنا حقًا لا أعرف كيف أرد لك الجميل .. لا تقل أنني أتحدث برسمية الآن , أنا حقًا عاجز عن رد المعروف لك "..

" في الواقع أنا من يجب أن يشكرك , لقد كنت تؤنس وحدتي و غربتي طوال السنين الماضية , لقد اعتدت وجودك معي .. و إن المعروف الوحيد الذي أريد منك إسدائه إلي , كنت بالفعل قد أسديته فيما مضى ! "..

" ماذا تقصد ؟! "..

" إدمانك يا فيصل , لقد تخلصت من إدمانك , إن رؤية وجهك و قد دبت فيه الحياة مرة أخرى , و زوال ذاك الشحوب الذي اكتسى ملامحك و جسدك كفيلٌ بجعلي أحمد الله على ما أكرمك به "..

تمتم فيصل قائلًا :

" صدقت , الحمدلله "..

كان لا يزال مكسورًا من الداخل على ما حدث منذ 5 سنوات .. أن يعبر من خلال نقطة تحوّل قاسية , بعدما تخلى عنه أقرب الناس إليه , توأمه : عادل .. كان شديد التعجب لأمر أخيه , كيف أنه لم يحاول البحث عنه أو إصلاح من اقترفه .. أو حتى زيارة سريّة يصلح بها بعضًا من الماضي ..

" كيف له أن ينساني هكذا ؟! .. كيف انتهت هذه السنوات الخمس دون أن أصادفه ؟! .. لماذا لم يبحث عني ؟! .. أو حتى يحاول الاتصال بي ؟! .. كنت سأسامحه إذا التقيته و رأيت نظرات الندم تشوب عيناه ! .. و لكنه لم يأتِ .. يا ترى ماذا يفعل في هذه اللحظة ؟! .. أين هو و ماذا يدور في عقله ؟! .. هل انهى دراسته الجامعية , أم أنه دفن نفسه بذكراي مثلما فعلت أنا بنفسي ؟! و والدي , ماذا بشأنه ؟! .. ما الذي طرأ في حياته خلال هذه السنوات ؟! .. هل ما يزال غاضبًا مني ؟! .. أم أنه سيعانقني بذراعيه و دموعه إن حصل يومًا و جمعتنا طرقات هذه المدينة ؟! "...


**********


انتقل عبدالرحمن إلى الخرج فور صدور قرار تعيينه , تاركًا فيصل يعيش حياته في الرياض , و قد أعطاه المسؤولية و الحرية الكاملتان للتصرف في منزله ..

مضت الأشهر و فيصل يواجه أيامًا روتينية للغاية , و لكن كان الإحباط و اليأس يزدادان في داخله بشكل مأساوي .. و لكنه ظل يقول لنفسه أنه سيعتاد على هذه الحياة لوحده , خصوصًا بعد رحيل عبدالرحمن , و انعدام الحياة من هذا المنزل ..

كان يقضي ليالٍ طوال و هو يجهل ماذا سيفعل غدًا أو حتّى ماذا يريد من حياته ! .. كانت عيناه لا تعرفان النوم الهنيء , مجرد غفوات صغيرة يتخللها الكثير من الفزع و التعرق ..

بعد سنة من رحيل عبدالرحمن , لم يعتد فيصل شعور الوِحدة الذي بدأ يكتسي كل شيء من حوله , بل زاده ذلك انتكاسًا و رغبة في العودة إلى سمومه القديمة ! ..

فقد أصبح ينفق ثلاثة أرباع راتبه في شراء المخدرات بشكل دائم , و قد رأى بأن حياته لم تتحسن خلال الست سنوات التي مضت و التي ظن أن حياته ستزدهر فيها مع كل هذه الحرية و الاستقلالية اللتان دخلتا حياته و ملأتها ..

في إحدى الأيام خرج من المنزل و قد أمضى 4 ساعات و هو يتجوّل في الشوارع من غير وِجهة محددة , و قد قطع مسافة كبيرة بعيدًا عن المنزل .. و ما أن وقف أمام محل للعصائر لشراء بعض المشروبات .. حتى لفت نظره شاب يقف بعيدًا و يحدق إليه .. تجاهل فيصل أمر الشاب و عاد إلى المشي نحو المنزل مرة أخرى , و لكنه توقف عندما اقترب ذاك بشكل كبير و هو يقول :

" هذا مستحيل ! .. رُبّ صدفة خيرٌ من ألف ميعاد !! "..

التفت فيصل إلى الرجل متسائلًا :" عفوًا ! .. هل أعرفك ؟! "..

" أنت فيصل أليس كذلك ؟! فيصل سليمان ؟! "..

" نعم , هذا أنا , ما الأمر ؟! "..

ابتسم الرجل و عيناه تحملان بعضًا من الصدمة و قال :

" أنا محمد ! .. لقد كنّا زملاء في الثانوي , ألا تتذكرني ؟! "

كره فيصل الوضع كونه قد تصادف مع صديق قديم قد يعيد له ذكريات لا يريدها , ولكنه اضطر للوقوف و الابتسام للصديق القديم :

" أها نعم , نعم , تذكرتك ! "..

وقف الشابان يتبادلان التحية و السلام حين قال محمد :

" أين كنت يا فيصل طوال هذه السنين ؟! .. لقد قلب عادل الدنيا عليك ! "..

سرت رعشة في جسد فيصل من حديث محمد , و رد قائلًا :

" و لماذا كان يبحث عني ؟ "..

" لا أعلم , و لكنه لم يترك مكانًا لم يبحث فيه , و قد سأل الجميع عنك و حقق بشأنك "..

" متى كان ذلك ؟! "..

" لا أعلم ! .. قبل سنوات عديدة , ربما في أيام الثانوية ! .."

صمت فيصل غير مصدقًا ما قاله محمد للتو ! .. و قد بدأت يتساءل في نفسه :
" عادل كان يبحث عني ؟! .. هل كان حقًا يكترث لشأني ؟! .. "

قال فيصل بسرعة :

" نعم , تذكرت الآن ! .. لقد حصل خلاف بسيط بيننا في أحد الأيام و غادرت المنزل , و لكنني عدت من جديد , شكرًا على سؤالك يا محمد "..

صمت فيصل قليلًا ثم أخذ يفكر : إن كان عادل قد بحث و سأل الجميع عني , فلابد أنه سأل عبدالرحمن عني أيضًا ! ..

قال محمد :" لم يكن عادل يبحث لوحده , بل كنّا جميعًا معه ! "

" جميعكم ؟! من تقصد ؟! "

" أقصد أصدقائك القدامى , أنا , أسامة , عبدالرحمن و الآخرون ! "..

هز فيصل رأسه بشرود ثم قال : " لم يكن عليكم أن تحملوا همّي "..

" لا عليك , لقد قلقنا كثيرًا بشأنك , و لكن تسعدني رؤيتك الآن "..

" هذا لطف منك , أعذرني الآن , علي الذهاب لإنهاء بعض المشاغل , ربما ألتقيك لاحقًا "..

قرر فيصل قطع الحديث بسرعة , قبل أن يقوم محمد بسؤاله أكثر عن تفاصيل حياته .. و عاد متوجهًا إلى المنزل و رأسه مليء بالأسئلة :

" عبدالرحمن شارك عادل في البحث ؟! .. و لماذا لم يخبرني عن ذلك ؟! .. لم أخفى هذا الأمر عني ؟ لماذا لم يكن يريد جمع شملي مع أخي ؟ هل لأني كنت دائم الشتم لعادل بعدما تركت المنزل ؟ و قد كنت أرمي كل اللوم عليه طوال الوقت ؟ لم لَمْ يحاول عبدالرحمن أن يجعلنا نجتمع سوية لحل خلافنا ؟ ربما خشي أن أرفض ملاقاة أخي و التعرض للإهانة مرة أخرى ! .. هل اتصل عليه و أسأله ؟ أم التمس له الأعذار ؟ "..

ظل فيصل يلتمس لعبدالرحمن الأعذار على عدم إخباره بشأن بحث عادل عنه ! .. و قد حاول الاتصال كثيرًا بعبدالرحمن و لكنه خاف أن يحرجه , فظل فيصل ملتزمًا الصمت و مفضلًا العيش في عزلته لأيام عمره القادمة ..




يتبع ..



الرد باقتباس اقتباس متعدد لهذه المشاركة الرد السريع على هذه المشاركة

رُوفِ 07-12-2016 05:24 AM


الافتراضي رد: روايتي الأولى : لماذا أرى ملاكًا وسَط جحيمي

تابع ..


بعد مرور سنة على لقاء فيصل بمحمد , قرر عبدالرحمن المجيء إلى الرياض في أحد إجازاته و زيارة فيصل , و قد أجرى اتصالًا هاتفيًا معه في طريقه إلى الرياض :

" فيصل ؟ "

" مرحبًا عبدالرحمن , ما الأخبار ؟ "..

" الحمدلله بأفضل حال , اسمع , أنا قادم إلى الرياض الآن , و ربما أقضي 3 أيام عندك "..

" حقًا ؟ هذا سيكون رائع , سأقوم بتجهيز غرفتك حالًا "..

" لا , لا تفعل , سأجهزها أنا عندما أصل , قد يستغرق وصولي بضع ساعات , و ربما أصل مع آذان الفجر .. اذهب أنت للنوم , كنت أود إعلامك بالأمر فقط "..

" و لماذا لم تؤجل مجيئك إلى الصباح ؟ سيكون الطريق خطِرًا في هذا الوقت المتأخر ! "..

" لا بأس , يفصل بيني و بينك ساعتان فقط .. و في الواقع , لقد سئمت من أجواء الخرج , فلم أستطع انتظار الصباح ! "..

ضحك فيصل قائلًا :" إن الرياض لا تقل مللًا عن الخرج ! .. على العموم , انتبه لنفسك و قِد بحذر "..

" حسنًا سأفعل , عمت مساءً "..

أغلق عبدالرحمن الهاتف و أكمل قيادته , و قد وصل إلى الرياض في الساعة الخامسة فجرًا , و دخل إلى المنزل الذي كان مظلمًا خاليًا من الأضواء و الأصوات , كان يريد أن يدخل على فيصل في غرفته ; ولكنه توقع بأنه نائم , فقام بتأجيل لقائهما إلى أن يستيقظ , توجّه عبدالرحمن إلى غرفته و قد كانت مرتّبة و مجهزة من قِبَل فيصل , ابتسم عبدالرحمن لما فعله صديقه , و دخل ليستحم و يصلي الفجر ..

و بعدما انتهى , توجه نحو المطبخ ليعد لنفسه وجبة خفيفة , و لكنه توقف عندما سمع صوت ارتطام آتي من الدور العلوي , صعد إلى الأعلى و هو يمشي ببطء محاولًا تخمين مصدر الصوت , و ما أن وصل إلى غرفة فيصل , حتى نسي أمر الصوت , و قرر إيقاظ صديقه للصلاة .. و لكن ما أن دخل حتّى انصدم بمنظر فيصل المستلقي أرضًا وهو يرتعش بشدة !! ..

ركض عبدالرحمن نحوه بفزع وهو يهز كتفي فيصل صارخًا باسمه , بينما كان الآخر يواجه نوبة قلبية حادة ليس لها مثيل , فبعد أن تعاطى جرعة كبيرة من المخدرات , تضرر قلبه بشكل مأساوي , و من المعلوم أن عند التعاطي , فإن احتمالية الإصابة بنوبة قلبية قد تصل إلى 2400% !!

حمل عبدالرحمن صديقه بين يديه و نزل راكضًا نحو السيارة و هو يتنفس بعلو و خوف و قد اختفى لونه و شحب وجهه ..

ذهب به إلى المستشفى .. حيث التقى الطبيب المتدرب ( خالد ) !! .. الأخ الأكبر لسلطان !

كان عبدالرحمن ينظر إلى فيصل بعينين غارقتين بالدموع و الندم لتركه لوحده الفترة الماضية , كان يريد أن يستنجد بأحد في هذه اللحظات , و أن يكون هناك من يربت على كتفه و يطمئنه على صاحبه .. كان ينظر إلى فيصل بحسرة كبيرة على شبابه و صحته اللتان قاربتا على الفناء و الزوال , كان يعلم أن اللحظة قد حانت ليستدعي عادل إلى المستشفى , و يكون بجانب أخوه الذي قد يكون اليوم هو يومه الأخير !!

خرج عبدالرحمن من المستشفى بينما بقي فيصل في الداخل بين تلك الأجهزة و الأسلاك التي تحاول إعادة النبض إلى قلبه و جسده .. جلس عبدالرحمن على إحدى كراسي الحديقة و هو يبكي بخوف و بألم شديدين , و قد سحق الصداع كل الأفكار في رأسه , و لكن هناك فكرة واحدة ظلت على قيد الحياة , الاتصال بعادل !

اتصل عبدالرحمن على ذاك التوأم المنسي و بصوت واهن تحدث إليه قائلًا :

" عادل ؟ "

" من معي ؟ "

" إنه أنا , عبدالرحمن "

" آه عبدالرحمن ! , أهلًا .. كيف حالك يا رجل ؟ , لقد مضى وقت طويل لم أسمع فيه صوتك "..

" أنا آسف لاتصالي في هذا الوقت , و لكن ... ! ".. تحدث عبدالرحمن و قد تحشرج صوته من أثر البكاء ..

" عبدالرحمن , ما بال صوتك ؟! أأنت بخير ؟ "..

نزلت دموع عبدالرحمن قائلًا :" عادل , إن أخوك .. فيصل ! "..

وقف عادل و قد كان مستلقي على سريره و هو يصرخ بصدمة من ذكر أخيه , الذي انقطعت كامل أخباره منذ 7 سنوات :

" فيصل ؟! .. ماذا عنه ؟! أتعرف أين مكانه ؟! تكلم يا عبدالرحمن , ماذا أصاب فيصل ؟! "..

" لــقـ لقد أصيب بــ .. أصيب بنوبة قلبية حادة ! .. لا أعرف إن كان سيموت على أثرها أم لا ! .. و لكن عليك المجيء أرجوك ! .. قد يكون اليوم هو يومه الأخير ! "..

" عبدالرحمن أين هو الآن ؟! "..

" إنه في المستشفى المجاور لمنزلي .. أرجوك لا تتأخر , كن بجانبنا ! "..

" حسنًا حسنًا , لن يستغرق مجيئي ثواني ! "..

خرج عادل راكضًا من المنزل و راكبًا سيارته التي انطلقت بأقصى سرعتها نحو أخيه .. و هو يفكر بفيصل و المرة الأخير التي رآه فيها ! .. و كل تلك الجهود التي بذلها للبحث و التقصي عن أخيه دون علم والده ! .. و لكنه لم يستطع أن يعرف طرف خيط على مكانه ! .. و الآن و بعد 7 سنوات , يأتيه هذا الخبر الصاعق بسقوط أخيه بنوبة قلبية ! ..

وصل إلى المستشفى و جلس لبضعة دقائق داخل سيارته و هو غارق في تفكيره , و قد بدأت الشمس ترمي بخيوط الصباح الأولى :

" ماذا إن لم يكن فيصل يود مقابلتي ؟ .. ماذا لو نجا من هذه المصيبة و رفض أن أكون بجانبه لأسنده في محنته ؟ هل سيسامحني على ما اقترفته بحقه ؟ و لكني تسببت بضياعه قبل عدة سنين مضت ! .. لقد سكت عندما كان يجدر بي الكلام و الوقوف معه ضد جبروت أبي و ظلمه ! .. هل سيسامحني فيصل ؟ .. ماذا إن كان سيموت الليلة ؟ ماذا إذا رحل عن الحياة و لم أره و أطلب السماح منه و أقبل جبينه ؟! .. ماذا إن ارتحل الحياة و قلبه مكسور إلى الآن ؟ هل سيسامحني ؟ .. لا عليّ منه ! .. سأظل بجانبه حتّى و إن اضطر لضربي و إخراجي بالقوة من المستشفى و من حياته بأكملها ! .. سأظل بجانبه ليرتاح ضميري .. لن أتركه وحده حتى و إن رفض أن يغفر لي صمتي ! "..

نزل عادل إلى المستشفى و قد لمح وجهًا يعرفه جالسًا على الكراسي الخارجية , فركض نحوه صارخًا :
" عبدالرحمن ! .. أهذا أنت ؟! "

نهض عبدالرحمن بسرعة متوجهًا إلى عادل و قال :

" نعم , لا وقت للسلام الآن , لنذهب إلى أخيك حالًا ! "..

دخل الاثنان إلى قسم الطوارئ , و مع كل خطوة يخطوها عادل , كان قلبه ينبض بشدة و خوف .. و ما أن وصل إلى غرفة أخيه , حتى انعقد حاجباه و احمرّ أنفه معلنًا بدأ نزول دموعه , استند بيده على الباب وهو ينظر إلى الأطباء الذي ينعشون ذاك القلب الكسير الشاب ! .. و مع كل مرة يصعقونه فيها , كان عادل يغمض عينه بانتظار صوت دقّات قلب فيصل لتظهر على الجهاز , و بعد عدة محاولات لإنعاشه , و مع استمرار عادل بإغماض عينيه , سمع الجميع أخيرًا ذاك الصوت الدال على الحياة و الخارج من الجهاز الموصول بقلب فيصل ! ..

صرخ عادل و عبدالرحمن بـ : الحمد لله يارب ! .. و خر عادل ساجدًا و هو يجهش بالبكاء و التحميد .. بينما نزل عبدالرحمن بجانبه وهو ساجد يحمد الله على الحياة التي أعيدت إلى صديقه ..

هنأ الأطباء الشابين اللذان وقفا عند الباب و قد مزقت الابتسامة شفتيهما .. و توجها نحو فيصل يحدقان فيه بسعادة , أمسك عادل يد أخيه و هو يقبلها و يبكي بهدوء و بابتسامة صادقة :

" الحمد لله على سلامتك , فيصل , استيقظ أرجوك , استيقظ و قل لي أنك ستفسح لي مجالًا في حياتك التي أعيدت لك للتو .. قل لي بأنك لا تحمل أي ضغينة نحوي ! .. استيقظ فيصل , لقد أمضيت 7 سنوات بدونك ! .. هذا ليس وقت للنوم , استيقظ و تحدّث إلي ّ ! "..

سحب عبدالرحمن عادل الذي بدا متأثرًا بشدة لما جرى لأخيه , و أخذه نحو الكرسي ليرتاح و قال له :

" اهدأ يا عادل ! .. سيستيقظ خلال بضع ساعات , ابقى هنا و انتظره , لا تضغط كثيرًا على نفسك "..

هز عادل رأسه قليلًا ثم قال :" شكرًا , لقد فعلت الكثير يا عبدالرحمن , لقد كنت أظن بأننا سنموت قبل أن نلتقي مرة أخرى , لقد جمعتنا , لن أستطيع أن أوفيك حقك ! "..

" لا عليك , لا داع لهذه الرسميات , نحن أصحاب منذ الصغر , كيف لي أن أتجاهل أمركم ؟ "

ابتسم عادل لصديقه و قد صمت قليلًا ثم قال :" أين كان ؟! "..

ارتبك عبدالرحمن لهذا السؤال ! .. و قال و هو يهدئ نفسه :" سـ سأخبرك بكل شيء , و لكن دعني أحضر بعض الماء لكلينا , لقد جف حلقي في الدقائق التي مضت " ..

خرج عبدالرحمن من الغرفة ليجلب بعض الماء و هو يفكر بأكاذيب ليقنع بها عادل أن فيصل لم يكن في منزله , فقد قام عبدالرحمن قبل 7 سنوات بمساعدة عادل في البحث عن أخيه و هو يتظاهر بذلك ! ..

حتّى لا يعلم أحد بمكانه و تتصاعد الشكوك نحو عبدالرحمن نفسه .. لم يكن يظن أن فيصل سينجو من هذه المصيبة , و لكنه قد شفي الآن و قد يخبر أخاه بكل شيء أو لا شيء ! ..

عاد عبدالرحمن إلى الغرفة وهو يسحب كرسي بالقرب من عادل وهو يقول :

" لقد كان الأمر مفاجئ لي ! .. فلقد كنت في طريق عودتي من الخرج إلى الرياض , و قبل الوصول للمنزل , تلقيت اتصالًا مجهولًا ! .. فقد كان من رجل يسكن شقة مجاورة لشقة فيصل في إحدى العمائر القريبة من هنا .. و قد قال بأنه وجد فيصل مصابًا بنوبة قلبية حادة , فقام بإحضاره إلى هنا و قد أحضر هاتف فيصل معه و وجد رقمي فيه , فاتصل بي للحضور , و أنا استدعيتك بعد ذلك "..

تنهد عادل قائلًا :" سبحان الله ! .. لقد أمضينا أيام و شهور للبحث عنه .. و الآن نلتقي به عن طريق رجل غريب لا نعرف اسمه حتى "..

" نعم , لم يكتب الله لنا أن نجده في ذاك الوقت "..

" الحمد لله على كل حال "..


**********


أمضى عادل ساعتين بجانب أخيه , و قد طلع الصباح و أشارت الساعة إلى السابعة و النصف , فنهض للوقوف بجانب رأسه فيصل و قد انحنى ليقبل جبينه بهدوء و هو يقرأ عليه أذكار الصباح , و ما لبث طويلًا حتى رأى فيصل قد بدأ يقطب جبينه بضيق و يأن بألم , و لكنه ارتخى مرة أخرى و عاد للنوم , اقترب عادل مرة أخرى منه وهو يهمس ممازحًا توأمه :

" فيصل , لم تكن تحب النوم هكذا عندما كنّا صغارًا , لم انقلب حالك أيها الكسول ؟! "..

و لكن عادل انصدم عندما رأى ابتسامة صغيرة ترتسم على شفتي أخيه , ضحك عادل لما رآه و هو يقول :

" فيصل ؟ هل تسمعني ؟! "..

فتح فيصل عينيه بهدوء وهو يحدّق في عيني أخيه , و عاد لإغماضها بهدوء قائلًا :

" لماذا جئت إلى هنا ؟! "..

" أتيت من أجلك .. لم أكن لأتركك مهما حصل ! "..

تنهد فيصل بألم و هو ينظر إلى أخيه قائلًا بهمس :" هل حقًا كنت تبحث عني ؟ بعدما خرجت من المنزل في ذاك اليوم ؟ "..

ابتسم عادل وهو يقترب من أخيه و يقول :

" نعم , لقد بحثت عنك حتّى تورّمت قدماي , لم أترك مكانًا و لا زاوية لم أبحث فيها , و كأني أبحث عن إبرة و ليس بشرًا ! .. لم أترك قسمًا في الشرطة لم أقدم بلاغًا فيه ! .. كنت أريد أن أعتذر لك .. و أقف بجانبك , حتى و إن لم تغفر لي , أريد أن أظل واقفًا بجانبك حتى النهاية ! "..

سكت عادل وهو ينتظر ردًا , و لكن لم يكن هناك سوى نظرات فارغة من عيني فيصل المرهقة و الذي سرعان ما عاد إلى النوم و كأنه لم يسمع شيئًا ! ..

عاد عادل للجلوس وهو يقول لنفسه بأنه سيظل ينتظر غفران أخيه حتى آخر يوم في عمره , فإن خسره في يوم من الأيام , فلن يستطيع أحدًا في العالم أن يعوضه خسارته ! ..

غفا عادل على الكرسي و قد أشارت الساعة إلى الثامنة صباحًا , فلم يلبث عادل طويلًا حتى باغته صوت هاتفه باتصال , رفع هاتفه و رد بسرعة :

" نعم ؟ "

" عادل أين أنت ؟ من المفترض أن تكون في الشركة قبل ربع ساعة من الآن ! "..

" أبي ؟ .. " ارتبك عادل من صوت والده , و لكنه كان مصرًّا على البقاء بجانب أخيه :" أنا , أنا لن أستطيع المجيء "..

" ماذا تقصد ؟ .. لقد أوكلت إليك اليوم اجتماعين مهمين ! .. كيف لك أن تتغيب هكذا ؟! .. لم يجدر بي أن أعطي ثقتي لشخص في عمرك ! "..

" أبي أن لا تفهم وضعي , لقد حصل أمر طارئ للغاية ! ".. كان عادل يود لو يستطيع أن يخبر والده مباشرة بكل شيء ..

" ماذا حصل ؟ و أين أنت الآن ؟! "..

" أنا .. أنا مع ... " سكت عادل قليلًا ثم قال :" أنا مع فيصل "..

" فيصل ! .. من هذا أيضًا ؟ "..

" أبي , إنه فيصل , أخي ! "..

كان عادل يستطيع الإحساس بصدمة أبيه من صوت أنفاسه التي توقفت فجأة .. ثم قال بغضب :

" أنت مع فيصل ؟ ماذا تفعل معه ؟ هل لا يزال ذاك العاق حيًا إلى الآن ؟ "..

صرخ عادل مدافعًا عن أخيه :" أبي , لقد تعرض فيصل لنوبة قلبية و كاد أن يموت على أثرها , أعلم بأنك لن تنسى ما فعله أبدًا , و لكن أنا سأنسى , و سأظل واقفًا معه في مصيبته مهما حصل ! "..

سكت والد عادل – حمد – لثواني , ثم قال بحزم :

" لن أطيل الحديث معك , و لكن سأعطيك 5 دقائق فقط لتأتي إلي , و إن لم تفعل , فسأعتبرك مثل أخيك تمامًا .. لا أكترث إن مرض فيصل أو مات ! .. لأنه لم تعد هنالك علاقة تربطنا به ! .. تذكر يا عادل , 5 دقائق فقط "..

" أبي , ما الذي تتحدث عنه ؟ ألم يحن الوقت لتنسى ما حصل , لقد مضت 7 سنوات ! .. و أجزم بأن فيصل قد أصبح شخصًا أفضل , تذكر أنك لم تعطه فرصة واحدة حتى ليتعدل سلوكه ! أنا لم أعد إليه برغبتي , بل لأنه كان على وشك الموت دون أن يكون هنالك أحد و لا ظلال بجانبه , أظن بأن الوقت حان لننسى يا أبي , علينا أن ننسى لنعيش ! "..

" عادل , أخوك تخطى كل الحدود التي وضعتها لكم , و جلب لي العار و لك أيضًا ! .. لقد فعل أشنع ما يمكننا تصوره .. لا أظن أنه يستحق فرصة أخرى "..

" أنت لم تعطه فرصة أولى حتى تعطيه أخرى ! "..

" عادل ! ".. صرخ حمد .. :" لقد مضت دقيقة حتى الآن , من الأفضل لك أن تأتي , و إلا ... "

تنهد عادل بحيرة من أمره , فلم يكن يريد خسارة والده أو أخوه , فقال بهدوء :" حسنًا , هدأ من روعك , سآتيك حالًا "..

أغلق عادل هاتفه وهو يتوجه إلى فيصل و ينحني ليقبل جبينه قائلًا :

" سأعود , سأشحذ الدقائق و الثواني لأزورك و أطمئن عليك , كن بخير أرجوك ! "..

و ما أن رفع رأسه حتى رأى عبدالرحمن يدخل الغرفة و بيده بعض الطعام للإفطار , قال عادل :

" عبدالرحمن , علي الذهاب الآن , سأعود متى ما استطعت "..

" لماذا ؟ هل حصل شيء ؟ "..

تنهد عادل وهو يقول :" لقد علم والدي بالأمر , و لا يريدني أن أزور فيصل أو حتى أراه ! "..

" لا يزال غاضبًا منه أليس كذلك ؟ "..

" نعم , و لكنني ظننت أن قلبه سيلين عندما يعلم بما حصل لابنه , و لكن ذلك لم يزده سوى قسوة ! .. أنا ذاهب الآن , سأتصل عليك عندما يتسنى لي الوقت , و ربما أزوركم من وقت لآخر دون علم والدي ".. سكت عادل لبرهة ثم قال :

" سيظل يعاملني كالطفل ! .. حتى و إن أصبحت في الأربعين من عمري ! "..

خرج عادل متوجهًا إلى أبيه .. محاولًا بشتى قدراته أن يرضي الطرفين ..

كان عادل قد أخبر عبدالرحمن بالقصة كاملة قبل 7 سنوات عندما قرر أن يستنجد به للبحث عن فيصل , أما باقي أصحابهم , فقد أعطاهم عادل رواية أخرى عن أخيه حتى لا تتشوه صورته في أعينهم و أثناء بحثهم عنه ! .. فقد اختصر القصة بالقول أن هنالك نقاش حاد دار بينه و بين توأمه , جاعلًا فيصل يخرج غاضبًا من المنزل , و نحو وجهة مجهولة ..!

يتبع ...



آخر من قام بالتعديل " عذاري "; بتاريخ 29-09-2015 الساعة 10:44 am.
الرد باقتباس اقتباس متعدد لهذه المشاركة الرد السريع على هذه المشاركة

رُوفِ 07-12-2016 05:26 AM

الافتراضي رد: روايتي الأولى : لماذا أرى ملاكًا وسَط جحيمي

تابع :

بدأ فيصل بفتح عينيه مرة أخرى مع آذان العصر , و هو يتذكر أنه سمع الكثير من الحوارات أثناء نومه , و لكنه لا يستطيع تذكر التفاصيل ! .. مجرد همسات يظن بأنه سمعها ..

التفت ليجد عبدالرحمن جالسًا يقرأ كتابًا في يده , ثم قال بصوت متعب :

" عبدالرحمن ؟ "..

نهض ذاك مغلقًا الكتاب بين يديه و متوجهًا لرفيقه قائلًا :" الحمد لله على سلامتك .. لقد كدت أموت من الخوف عليك ! "..

ابتسم فيصل بهدوء ثم قال :

" لقد كان عادل هنا هذا الصباح أليس كذلك ؟ "

" نعم , لقد أتى .. استدعيته عندما أصبت بالنوبة , لقد ظننت بأن الوقت قد حان لتلتقيا , لم أستطع الوقوف لوحدي , فاستدعيته ليسندني و يسندك أنت قبلي "..

" أين هو الآن ؟ "..

" لقد رحل الصباح , قال بأنه سيزورك عندما تتسنى له الفرصة "..

" نعم , لقد سمعت ذلك "..

فتح عبدالرحمن عينيه قائلًا :" حقًا ؟ "..

أغمض فيصل عينيه دلالة على الإيجاب , ثم قال :" لقد أمره والدي بتركي أليس كذلك ؟ "..

تردد عبدالرحمن بالإجابة خوفًا على مشاعر صديقه , فقال :" آه , أظن ذلك , لا أعلم "..

" لا بأس يا عبدالرحمن , لقد اعتدت على قسوة قلبه , لقد أنكر وجودي لـ 7 سنوات , فلا أتوقع منه أن يلين و يسامحني الآن , إنه والدي و أنا أعرفه "..

" لا عليك , أنت لست بحاجة إلى أحد , أنا سأكون هنا من أجلك "..

هز فيصل رأسه , ثم قال :" هناك خدمة أريدك أن تسديها إلي , و تستطيع اعتبارها آخر خدمة تقدمها لي "..

" ما هي ؟ "..

مد فيصل يده إلى عبدالرحمن ليساعده على الاعتدال في الجلوس , ثم قال بهدوء :

" أريد أن أكون ميتًا ".. قال فيصل ثم علق ناظريه على الحائط أمامه ..

فتح عبدالرحمن عينيه بصدمة و انعقد حاجبيه , ثم عاد فيصل للحديث قائلًا :

" أريد أن أكون ميتًا بأعين الجميع ! .. و لكن حي أرزق أمامك "..

" تعني بأنك تريدني أن أقنع الجميع بأنك ميت ؟ "..

" نعم , هل تستطيع فعلها ؟ "..

" لماذا قد تريد هذا يا فيصل ؟ من في هذه الحياة يود أن يعيش كـ نكرة ؟ "..

" لا تسأل عن الدوافع يا عبدالرحمن , سأكون مرتاحًا للغاية إن حققت لي ذلك , أريد أن أختفي من ذاكرة الجميع , أن أعيش في الخفاء , أن أدبّر خطط متقنة للانتقام لنفسي , أريد أن أعمل خلف الستار "..

" تستطيع الانتقام لنفسك دون فعل ذلك ! "..

تنهد فيصل ثم رفع عينيه إلى عبدالرحمن بصبر قائلًا :" إن كنت لا تستطيع فعل ما طلبته منك فأخبرني في الحال ! "..

تنهد عبدالرحمن قائلًا :" طالما ذلك سيشعرك بالارتياح , فسأفعل "..

صمت عبدالرحمن قليلًا ثم قال :" و لكن ماذا لو أراد أن يرى عادل و أقاربك الجثة ؟ ماذا سأقول لهم ؟ "..

ابتسم فيصل قائلًا بنبرة غامضة :" أنت بارع في الكذب يا عبدالرحمن , أنا واثق بأنك ستجد مخرجًا لذلك "..

هز عبدالرحمن رأسه و هو يدور في مكانه باحتيار وتفكير ..


**********


( بعد يومان ) ..


رن هاتف عبدالرحمن فرفعه قائلًا :" نعم ؟ "..

" عبدالرحمن , السلام عليكم .. أنا عادل "..

ارتبك عبدالرحمن ثم قال :" وعليكم السلام , عذرًا لم أنظر إلى الرقم عندما رددت على الهاتف "..

" لا بأس , أردت أن اسألك عن فيصل , كيف حاله الآن , هل لا يزال في المستشفى ؟ "..

سكت عبدالرحمن ثم قال بهدوء :" فيصل ؟ "..

خاف عادل من نبرة صديقه ثم قال :" نعم , فيصل .. هل هو بخير ؟ "..

تنهد عبدالرحمن ثم قال :" هناك أمر أريد إخبارك به بشأن فيصل , و لكن أظن أن علينا أن نلتقي , لن نستطيع الحديث عبر الهاتف ! "..

" عبدالرحمن , ماذا حصل ؟! .. لن أنتظر حتى نلتقي ! .. "

" عادل , اهدأ أرجوك , لقد قلت لك علينا أن نلتقي , لا يمكننا التحدث هكذا "..

تلفت أعصاب عادل وهو يقول بصراخ :" عبدالرحمن , إياك و أن تختبر صبري , أخبرني ماذا حصل حالًا ! "..

قال عبدالرحمن بصوت متردد و منخفض :" لقد تعرض فيصل إلى .. إلى نوبة قلبية أخرى "..

فتح عادل عيناه بصدمة قائلًا :" متى حصل ذلك ؟ "..

" قبل يومان "..

قال عادل بسرعة و قلق :" و هل هو بخير ؟ أم ماذا ؟ عبدالرحمن لا تعطيني الأخبار بالتقسيط ! "..

سكت عبدالرحمن ثم همس ببطء :" لـ ـقد مات يا عادل ! "..

كان عادل يقف في منتصف غرفته فجلس على السرير و هو بالكاد يستطيع حمل نفسه , استغرق الأمر ثواني لعادل حتى يستوعب الوضع , فقال ببطء و قد داهم رأسه ألم حاد :

" مات ؟ .. تقولها هكذا بكل بساطة ؟ , لماذا لم تخبرني عن الأمر يوم مماته ؟ .. لماذا انتظرتني لاتصل حتى تخبرني ؟! ".. بدأ عادل بالصراخ و قد تلفت أعصابه كليًا ! ..

" لقد أوصاني فيصل قبيل مماته أن لا اتصل بك أو أخبرك بشيء , لقد كانت تلك وصيته الوحيدة ! .. و لكن أظن أنه من الواجب علي إبلاغك "..

" لم تكن لتخبرني إن لم أتصل عليك الآن ! كنت ستتركني على جهل إلى أجل غير مسمى , إنه أخي , أتفهم ماذا يعني ذلك ؟ لقد مات أخي , و لم ترغب أنت بإخباري بسبب وصية حمقاء ! ".. صرخ عادل غاضبًا من عبدالرحمن و أعذاره الواهية ..

" عادل , إنها وصيته , لم يطلب مني شيء سوى تنفيذها "..

سكت عادل و قد عض على شفتيه بحسرة و ندم , و أغمض عينيه بشدة و هو يقول :" أين هو الآن ؟ في ثلاجة الموتى ؟ "..

تردد عبدالرحمن قائلًا :" لا , لقد دفناه "..

فتح عادل عينيه غير مستوعب للأمر قائلًا :" دفنته ؟ .. و كيف لك أن تتصرف من نفسك بهذا الشكل ؟ كيف استطعت إخراجه من المستشفى دون إذني ؟ كيف سمحوا لك بأخذه للمقبرة ؟! ".. صرخ عادل بشكل استدعى والده إلى الدخول لغرفته و التحقق من أمر ابنه ..

قال عبدالرحمن :" أنا آسف يا عادل , و لكني فعلت ذلك .. لقد طلبت من المستشفى أن يتصلوا على والدك ليستلم الجثة , و لكنه .. و لكنه رفض , فسمحوا لي بإخراجه بصفتي أحد معارفه .."

كان عادل يستمع إلى عبدالرحمن بصدمة , غير مصدقًا أن والده قد يصل به الظلم و القسوة أن يرفض استلام جثة ابنه ! .. نظر عادل إلى والده بنظرات ليس لها مثيل , كانت تحمل الكثير من الحقد و الخزي , الكراهية و النفور ..

تكلم عادل مع عبدالرحمن و لا تزال عيناه معلقة بابيه :" عبدالرحمن , تعال إلى منزلي , و خذني إلى المقبرة حالًا "..

" حسنًا , سأصل خلال دقائق "..

خرج عادل من الغرفة بعدما ضرب كتفه بوالده الذي كان على علم بالأمر , و الذي رفض فعلًا استلام الجثة عندما تلقى اتصالًا من المستشفى .. و لكنه لم يستطع أن يمنع عادل من الخروج و الذهاب إلى المقبرة و الصلاة على أخيه , لم يستطع أن يقسو على عادل أكثر مما فعل مسبقًا ! ..

خرج عادل مسرعًا بعدما تلقى اتصالًا من عبدالرحمن يخبره بأمر وصوله , ذهب الاثنان إلى المقبرة و قد كان الهدوء يسود الأجواء .. كان عبدالرحمن يشعر بالخجل الشديد من عادل , كان يريد أن يتحدث معه و يواسيه , و لكنه خاف أن يتلقى عبارات من التوبيخ و العتاب ! .. و لكن ما أن اقترب الاثنان من المقبرة حتى تحدث عادل قائلًا :

" من قام بالدفن ؟ "..

" أنا و مجموعة من فاعلي الخير , بعدما أخذت جثمان فيصل إلى المسجد , كان هنالك مجموعة من الرجال يصلون على جثمان آخر , فقرروا الصلاة على فيصل أيضًا , و حملنا الجثتان و قمنا بدفنهما سوية "..

" يا للخزي ! .. لقد دفن أخي وحيدًا دون أن يشيعه أحد منا ! .. و كأنه مقطوع من شجرة , و كأنه فعل ذنوب لا تغتفر في حياته "..

" لم أكن أريد لذلك أن يحصل , و لكنها كانت وصيته ! .."

" إنها وصية متهورة و غير عقلانية , و قد زدت أنت الطين بلةً بتنفيذها ! "..

سكت عبدالرحمن غير قادر على نقاش هذا الشاب الغاضب و المتحسر على توأمه ..

نزلا الاثنان إلى المقبرة و مشى عادل خلف عبدالرحمن الذي بدأ يبحث بعينيه عن قبر حديث الإغلاق , و الذي تعلوه تربة رطبة , و ما أن رأى واحدًا حتى أخذ عادل إليه .. !!

بدأ عادل بصلاة الميت , و بدأ بالدعاء الذي تخلله الكثير من الصمت و الإجهاش بالبكاء .. و تلك الرعشات التي جعلت يداه المضمومتان بالقرب من وجهه ترجفان و تتحولان إلى آنية يجمع بها دموعه و حسراته , و يلفظ بداخلها دعاءه و وعوده بعدم نسيانه و دفنه في الذاكرة كما دفن في الأرض ..

انهى صلاته و جلس بضعف على ركبتيه و قد سحب غترته إلى الأرض و بدأ بتجفيف وجهه .. و ما لبث طويلًا حتى أحس بيدي عبدالرحمن على كتفيه و هو يحثه على الصبر و عدم الجزع .. ظل الاثنان صامتان , و مع اقتراب مغيب الشمس , التفت عادل إلى عبدالرحمن قائلًا :

" يمكنك الذهاب يا عبدالرحمن , سأعود بنفسي إلى المنزل "..

" أأنت متأكد ؟ "..

هز عادل رأسه بالإيجاب و أعاد نظره إلى القبر .. و نهض عبدالرحمن متوجهًا إلى البوابة و هو يلتفت إلى عادل كثيرًا , لم يكن يريد أن يرى صاحبه مكسورًا هكذا و يصلي على قبر لمجهول ! .. و أن يملأ وجهه و كفيه بالدموع , و أن يدعو لشخص حي ! .. كان يود لو يستطيع إخبار عادل بكل شيء , و أن يجعله يتوقف عن الحسرة التي هشمت قلبه و كسرته , و لكنه ظل يقول لنفسه أنه لن يخذل فيصل في ما أمره به .. فما تعرض له فيصل كان أشد مما يتعرض إليه عادل الآن , و هذه كانت قناعة عبدالرحمن التي منعته من العودة و فضح أمر هذه الكذبة المتقنة بأكملها ! ..



**********


" أعلم بأن الوقت قد تأخر كثيرًا على الاعتذار , أعلم بأنني لن أستطيع معرفة جوابك , و لكن : هل لا تزال غاضبًا مني ؟ هل سامحتني ؟ هل خرجت منك روحك و أنت مطمئن أم كان الأمر قاسيًا صعبًا ؟ .. هل غسلت روحك بالتوبة قبيل مماتك , أم أنك لفظت بالتوبة عندما بلغت الحلقوم ؟ ..

سأظل أسألك الغفران و السماح حتى آخر يوم في حياتي , سأظل استغفر لك ربك ما دمت لم تشرك به , سيظل لساني يصدح بالدعاء لك و الذكر , سأبذل كل ما عندي من أجلك , سأقيم لك الصدقات الجارية ما دمت حيًا أرزق .. سأظل أحكي للجميع عنك و عن نقاء روحك الذي كنت تخفيه خلف قسوتك و تمردك الدائم , سأخبر الجميع عن ابتسامك التي تظل دائمًا تخفيها خلف حاجباك المعقودان و صوتك الغاضب اصطناعًا ..

سأجعل الجميع يدعون لك سرًا حتى و إن لم يعرفوك , سأجعلهم يتمنون لقاءك في الآخرة , سأرسم لهم أجمل صورة عنك , سأخبرهم بأنك التوأم الوسيم مني , و أنك النسخة الملائكية عني .. سأقنع الجميع و أولهم نفسي بأنك لم تكن عارًا بيوم من الأيام , بل كنت فخرًا و سندًا تمنيت أن يدوم لي طوال عمري .. فلتنعم في الفردوس يا أخي , و ليغفر لك الله ذنوبك , ما علمت منها و ما لم تعلم ..

سأعود .. سآتي لزيارتك كل يوم , سأجعل غرفتك قائمة و كأنك ستعود في يوم من الأيام لتملأها بوجودك , سأطلب من الخدم أن يغسلوا ملابسك كل يوم و يعطروا فراشك , لأنك لم تمت بالنسبة إلي .. ستظل حيًا ما دمت أنا حي .. ستظل موجودًا في حياتي لأني أراك في كل مرة أقف أمام المرآة .. و في كل مرة أمشي بمحاذاة غرفتك .. لعل أجمل ما حصل في حياتي انني توأمك , ففي كل مرة سأشتاق لك فيها , سأنظر إلى المرآة لأراك بدلًا عني , و لكن لا أعلم إن كانت هذه نعمة أم نقمة , لا أعلم إن كانت رؤية نفسي ستطفئ اشتياقي لك , أم أنها ستزيد من حنيني إليك ؟؟ .. نم بسلام أيها المتمرد , ولا تحمل هم العار الذي جلبته , لأنني سأتخلص أنا منه .. "

نهض عادل عن القبر بعدما بلل ترابه زيادة على بلله , و خرج من المقبرة و هو بالكاد يستطيع حمل قدامه اللتان فقدتا قوتهما , و كأنما سار به الدهر 20 عامًا إلى الأمام ..

لم يشعر يومًا بهذا الضعف و الانكسار , و تمنى لو عاد به الزمن يومان فقط ليجلس بجانب أخيه في ساعات حياته الأخيرة ! ..


(( نهاية الفصل 18 )) ..

يلّا يا حلوات , رأيكم و توقعاتكم .. و مين فيكم تقدر تربط لنا الأحداث مع بعض , و تقدر تتوقع الأحداث الجاية ؟؟

بانتظاركم يا حلوات , و دمتوا بحفظ الله و رعياته يارب ..





الرد باقتباس اقتباس متعدد لهذه المشاركة الرد السريع على هذه المشاركة

رُوفِ 07-12-2016 05:29 AM




الافتراضي رد: روايتي الأولى : لماذا أرى ملاكًا وسَط جحيمي





السلام عليكم ورحمة الله ..

كيفكم ان شاءالله تمام ؟! .. فصل اليوم يعتبر قصير شوي مقارنة مع اللي قبله ..

يلا نبدأ ؟!

قراءة ممتعة ..







الفصل التاسع عشر ( 19 )
- ما قبل الأخير -





مرت سنتان , و تزوج خلالها عادل من ابنة أحد أصدقاء أبيه .. كانت نية الزواج الأولى هي توطيد العلاقة بين آباء العروسين لتثمر من خلالها أعمالهما المشتركة .. و لكن بعد فترة , كان عادل متيم بزوجته التي تصغره بخمسة سنوات , بعدما كان يراها في البداية مجرد صفقة نجاح لأعمال والده ..
و لكن مع مرور الأيام تحولت ( فرح ) إلى معشوقته الأولى و الأخيرة , كانت هي الوحيدة التي تخفف عليه آلامه على فقدان أخيه مع كامل جهلها بوجوده أصلًا ! ..

أحبت عادل من أعماق قلبها , حتى أتى اليوم التي أصبحت تحمل في أعماقها قطعة منه .. كان حملها بابنها الأول بدر هو الفرحة التي أعادت الحياة للمنزل بعدما كانت تتلبسه الكآبة و الضجر .. كان الجميع يرى السعادة و الحياة متشكلة على هيئة انتفاخ في بطنها ..

مضت فترة حملها ببعض الصعوبة , و عندما حان وقت ولادتها , كان الحياة أنانية للغاية , فلم تكن لتعطي فرح هذا الاسم و الفرحة الحقيقة معًا , فأصبح الفرح هو مجرد اسم لها , و تركت الفرحة خلفها بعدما أخذها الموت عندما كانت تنجب حياة و روح جديدة ! ..

توفيت أثناء ولادتها بابنها , و هي تبلغ من العمر 21 عامًا فقط .. و لم يكن عادل مكسور الجناحين كما كان في يوم وفاتها .. لقد سلمته المستشفى جسدين : حي و ميت , ابنه الجميل , و تلك الجثة الهامدة لزوجته الحسناء ..

جلس على كراسي المستشفى وهو يضم ذاك الصغير إلى صدره , و ما كان يرى في بكاء بدر سوى مواساة له و حزنًا على والدته ..

كان عادل يرى زوجته عبر أغراضها الأنثوية التي تركتها خلفها , و كل تلك التجهيزات التي قامت بها في غرفتها لاستقبال مولودها , و كل تلك الأكياس المملوءة بفساتين ما بعد الولادة و عطوراتها و مساحيق التزيين , لم تكن تلك الأغراض و الألوان الزاهية تزيد عادل سوى حزنًا و سوداوية ! ..

أمضى عادل عدة أيام و هو يضع كل أغراض زوجته في صناديق كبيرة , و يقوم بتغليفها بعناية فائقة , ثم قام بوضعها في غرفة خاصة بالمنزل و أقفلها و منع الجميع من محاولة دخولها أو حتى المرور بمحاذاتها , لقد كانت تلك الغرفة بجوار غرفة فيصل التي قام بإغلاقها أيضًا .. فقد أصبح يرى أن للأموات أحقية الحصول على غرف تخصهم في هذا البيت أكثر من الأحياء ! ..

و لكنه لم يترك من أغراضها سوى عطر صغير كان الأحب إلى قلبها , تركه على طاولة الزينة الخاصة بهما , و قد كان يقوم برش بضع قطرات منه على وسادته قبيل نومه , لم يكن يتحمل انعدام حضورها حتى في الهواء ..

أعاد نظره بعد ذلك إلى طفله الرضيع و الفرحة الوحيدة في حياته : بدر ..

كان يمضي ساعات و هو يلاعب أصابع ذاك الصغير و يجعلها تتلمس وجهه و ملامحه , كان يجهل تمامًا كيفية الاهتمام بطفل .. فتركه في الأشهر الأولى مع أم زوجته و أخواتها , فأحسنّ رعايته و الاهتمام بشؤونه , و ما أن بلغ بدر السنتان , حتى أصبح عادل يتركه عندهم في أوقات عمله فقط , و يعود لأخذه منهم عندما يحل الليل و يعود لمنزله ..

و لكن الحياة لم تنتظر جِراح عادل لتلتئم , بل زاد عليها جرح آخر مزق روحه بالكامل .. كانت وفاة والده هي الشعرة التي قسمت ظهره , فقد حولته فجأة إلى رجل بقلب عجوز يائس .. فقد الأخ, الزوجة ثم الأب خلال 4 سنوات فقط .. !

لم يكن عادل ليحتمل كل هذا لوحده .. كان يريد سندًا قويًا غير ذاك الذي يزوّده به أصحابه و أقاربه , كان بحاجة إلى من يمسك يده حين يصبح و يحين يمسي و يخبره بأن هذه هي الحياة و إن جارت عليه و أهلكته !

حاول التفكير في الزواج مرة أخرى , ولكنه شتم نفسه لمجرد التفكير , لم يعد يثق بأحد أو بأي شيء , و لن يترك امرأة غريبة تعتني بحياته و حياة ابنه ..

لم يكن أمامه سوى أن يحمل كل الأعباء على ظهره , و أن يهرب مما يحصل حوله من خلال الغرق التام و الصامت في العمل ! ..

فقد قرر استلام أعمال و شركة والده بالكامل , و بذل عمره فيها لعلها تعطيه راحة البال ..
و أما من الناحية الأخرى , فقد كان لا يسمح لأي أحد أن يتولى رعاية و تعليم ابنه سواه .. فمنذ كان بدر ذو الثلاثة أعوام , كان والده في أوج شبابه .. فقد كان يأخذه معه أينما ذهب , حتى و إن تسبب له بالإزعاج ..

و كلما كبر هذا الطفل في العمر , كلما رأى فيه عادل الحياة بالكامل .. حتى صار رجلًا في 21 من عمره , يحمل وسامة عمه , لطف أبيه , عينا والدته و القليل من إصرار و عناد جده ! ..


********


في الطرف الآخر من العاصمة , الطرف المظلم شبه المجهول , حيث تقع أغلب الجرائم و يسكن أغلب الوافدين و العمالة الأجنبية , كان هناك من يشابه عادل و يناقضه بنفس الوقت ! ..

بعدما اعتبره الجميع ميتًا , قرر الانتقال من منزل عبدالرحمن بعد مسرحيته المتقنة تمامًا إلى شقة مجهولة العنوان و مظلمة الممرات في أعلى أحد العمائر في جنوب الرياض ..

كان عبدالرحمن لايزال شديد الولاء لفيصل , فبعد سنوات من العمل في وظيفته و الارتقاء الملحوظ في عمله , كان يجني الثمار و يقدمها لفيصل على طبق من ذهب .. !

كان يحس بالشفقة تجاه رفيقه , فقد كان يعطيه من المال ما يشتهي و يتمنى , و على الرغم من الحالة النفسية لفيصل التي تجعله يشتم الجميع و يتعارك مع الكل و أولهم عبدالرحمن , إلا أن ذلك لم يجعل صديقه يتوانى لحظة في مساعدته في كل ما يريد .. فقد كان عبدالرحمن يدفع أجر الشقة , و يحضر له المؤونة بشكل أسبوعي, و يغرقه بكل ما يشتهي من المال و غيره ..

إلا أن فيصل كان يأخذ هذه الأموال من جهة , و يسكبها بالكامل على المخدرات و النساء من جهة أخرى , حتى غرِق فعليًا ! ..

و في نفس الوقت , كان عبدالرحمن على صحبة ممتازة مع عادل , فقد كان عادل يعتبره الوحيد الذي يحمل له ما يجهله الجميع , أخوه فيصل ..

كان يحس بوجود فيصل في كل مرة يتحدث أو يجالس عبدالرحمن , كان يشعر و كأن توأمه يتوسط المكان و يتحادث معهم تمامًا مثلما كانوا يفعلون قبل 12 سنة في دراستهم الثانوية , حين كانوا ثلاثتهم على أقوى صلة من الصداقة ..

ولكن أتى ذاك اليوم الذي سأل فيه فيصل عبدالرحمن سؤالًا غيرت إجابته حياة الجميع ! ..


" عبدالرحمن , ما حال عادل ؟! ".. سأل فيصل و هو مستلقي على الأريكة بجانب صاحبه ..

" في أفضل حال , إنه يعيش مجده بالكامل , ذاك المجد الذي كان من المفترض أن يكون لك نصيب منه ! "..

اعتدل فيصل في جلسته و هو يقول :" ماذا تعني بـ يعيش مجده ؟! "..

" بعد وفاة والدك , أخذ الورث بالكامل , و الشركات و كل الأملاك .. "

هز فيصل رأسه بشرود وهو يقول :" و أنت , ما رأيك في الوضع ؟ "..

" رأيي واضح ! .. أنا لست راضٍ أبدًا بحالك يا فيصل , انظر حولك , أهذه حياة يعيشها المرء في عز شبابه !؟ "

قال عبدالرحمن و هو يمسك بملابس نسائية كانت مرمية بجانبه , و قد تركتها إحداهن بعد خروجها من عند فيصل ..

أكمل كلامه قائلًا :" كيف ترضى لنفسك هذه الحياة و توأمك يمتلك حقك و حقه من هذه الدنيا و أكثر ؟! "..

قال فيصل وهو يعود للاستلقاء :" لم يكن ليأكل حقي إن علِم بأنني حي إلى الآن ! "..

" لا تبرر له الأعذار , لقد خذلك كثيرًا ! .. "

" و أنا تعبت كثيرًا , لم أعد أكترث لشيء "..

" لا تفقد شهيتك تجاه الحياة , على الأقل لا تفقد شهيتك تجاه حقك من الحياة ! "..

" لقد تنازلت عن حقي عندما اخترت الموت ! "..

" ولكن .. " قال عبدالرحمن وهو يسترجع شيء في عقله .. " ولكنك عندما اخترت أن تكون ميتًا , أخبرتني بأنك تريد ذلك حتى تتمكن من العيش خلف الستار و التخطيط للانتقام على مهل ! "..

أغمض فيصل عيناه وهو يقول :" بالضبط , هذا ما أفعله الآن , و هذا ما سيحصل , ولكن صبرًا جميلًا , صبرًا جميلًا يا عبدالرحمن "..

صمت عبدالرحمن و ساد السكون للحظات , ثم قال بخفوت :" بالحديث عن ذلك ... " ثم أكمل بشيء من التردد :" هل حضرت جنازة والدك "..

" لم يحضر هو إلى جنازتي , و بالإضافة : أنا ميت , كيف لي أن أفعل ذلك ؟ "..

هز عبدالرحمن رأسه مبتسمًا على قناعات صاحبه المريبة !


********


مرت السنوات , و قد أصبح التوأمان في منتصف الأربعين , وقد شارفا على الوصول إلى نقطة تحول شديدة في حياة كلاهما ! ..

ازدهرت تجارة عادل في شركات المعادن التي استلمها من بعد والده , و أتى ذاك اليوم الذي وظّف فيه سكرتير جديد يمتلك الكثير من الكفاءات , و القليل جدًا من الولاء .. !

استلم سلطان منصبه هذا بالكثير من الشغف و الأطماع , لقد رفع رأسه عاليًا , فكُسرت رقبته و طُعِن ظهره ! ..

بعد عمله لفترة قصيرة لصالح عادل , كان قد استيقن بأن عبدالرحمن يمتلك مكانة خاصة لدى رئيسه , فقد كان دائم القدوم للزيارة , بشكل أسبوعي أو شهري أحيانًا .. و عرف عنه الكثير بعدما كان يستمع سرًا إلى أغلب أحاديثه مع عادل من خلال باب المكتب الفاصل بينهم ..

و لكن بعد أشهر طوال , أتى ذاك اليوم الذي وضع سلطان في كل ما حصل له , و الذي جعله يدفع ثمن فضوله دماءً غزيرة ! ..

كان سلطان يرتب مكتبة عادل و يبحث عن بعض الأوراق بين الكتب , حين لمح طرف صورة قديمة و ممزقة الأطراف قد دسّت بين صفحات أحد الكتب ! ..

نظر سلطان إلى المكان حوله بهدوء ثم أعاد نظره للكتاب و هو يسحبه و يُخرج الورقة بهدوء و صدمة عظيمة ! ..

لقد كانت صورة قديمة باللون الأصفر و البني الباهت تجمع أخّين توأمين يلبسان نفس الثياب , و قد كانا في السابعة أو الثامنة من عمرهما .. ! عقد سلطان حاجبيه و هو يدقق النظر " إنه عادل ! ".. قال بهمس لا يُسمع :

" وهذا الذي بجانبه , أهو توأم ؟؟! "..

استغرب سلطان الوضع وهو يقلب الصورة بين يديه , فلمح كلامًا مكتوبًا بخط قد خفف من لونه الزمن , وقرأ :

" عادل و فيصل , الصف الأول الابتدائي .. "

ولكن سلطان اهتز في مكانه بعدما سمع صوت خطوات قادمة , أعاد الصورة بسرعة البرق و قام بترتيب كل شيء و كأن شيئًا لم يكن ! .. و لكنه تفاجأ بدخول عبدالرحمن إلى المكتب بدلًا من عادل ..

" سلطان , السلام عليكم ".. قال عبدالرحمن بنبرة سريعة

" و عليكم السلام , أهلًا أبا سعود "..

" أين عادل , هل حضر اليوم ؟ "..

" نعم , إنه في اجتماع في الدور الثالث , من المفترض أنه انتهى منذ خمس دقائق ".. قال سلطان وهو يتوجه إلى أحد الكراسي و يزيح الوسادات عنها قائلًا :" تعال و ارتاح هنا , سيأتي عادل في أي لحظة "..

جلس عبدالرحمن , و سأله سلطان :" هل تود أن تشرب شيئًا ؟ "..

" لا شكرًا .. سأنتظر عادل , عد أنت لعملك و لا تكترث لوجودي "..

هز سلطان رأسه بابتسامة و هو يعود إلى رف الكتب , و لكنه كان يلتفت كثيرًا إلى عبدالرحمن بين الفينة و الأخرى , و ما أن تلتقي أعينهما , حتى يبتسم سلطان بسرعة و إحراج , و يعود إلى ما كان يفعله ..

قال عبدالرحمن بصوت واثق :" أتريد سؤالي عن شيء يا سلطان ؟ "..

رفع ذاك رأسه ببلاهة و هو يقول :" عذرًا ؟! ".. و قد احمرّ وجهه

" هيّا تكلم , ماذا تريد ؟ "..

هز سلطان رأسه دون أن يضع عيناه على عبدالرحمن وهو يقول :" لا, لا شيء ! "..

" لا تجعلني أشك في فراستي ! .. أستطيع رؤية بعض الكلام على شفتيك , هيّا تحدث لا أحد هنا ! "..

أغلق سلطان ملفًا كان في يده وهو لا يزال يخفض عيناه بشرود , ثم رفع رأسه قائلًا :

" إن كنت لاتزال مصرًّا ! .. أريد سؤالك عن أمر ما ولكن ... دون أن يعلم عادل "..

" نعم بالتأكيد , لا عليك "..

" إنه أمر خاص به بعض الشيء و لكنه لم يفصح يومًا عنه ! "..

رفع عبدالرحمن حاجباه باستغراب , فقال سلطان :" هل لعادل أخ ؟ "..

سكن عبدالرحمن في مكانه و قد سرت رجفة في جسده , وقد حدث نفسه قائلا : " ماذا يعلم هذا الفتى عن فيصل ؟ و لماذا يسأل عنه ؟ و كيف عرف بوجوده أصلًا !! "..

قال عبدالرحمن بشيء من التردد :" لــ لماذا تسأل ؟ "..

قال سلطان بنبرة أشبه بالهمس :" لقد .. لقد وجدت للتو صورة !.. صورة قديمة تجمع عادل مع فتى آخر شبيه به للغاية ! "..

هز عبدالرحمن رأسه و هو يقول :" نعم , لقد كان له أخ , توأم "..

" كان ؟؟ "..

" نعم , كان ذلك من وقت بعيد مضى .. لقد توفي قبل 22 عامًا "..

قال سلطان بصدمة :" أوه , هذا .. هذا مؤسف حقًا ! .. رحمه الله و غفر له "..

ردد عبدالرحمن :" رحمه الله "..

قال سلطان :" عذرًا , لم أعني التطفل , ولكن خرجت تلك الصورة أثناء بحثي بين الكتب و .. " سكت سلطان فجأة ثم قال :" و لكن غريب , لم يذكر عادل قط أن كان له أخ ! "..

قال عبدالرحمن و هو ينهض بانزعاج :" و لم قد يذكر ذلك ؟ لقد توفي أخاه و انتهى الأمر ! "..

توجه عبدالرحمن نحو الباب , فتبعه سلطان مسرعًا و هو يقول :" أسترحل ؟ .. لم أقصد ازعاجك بهذا الموضوع , أنا أعتذر .. "

التفت عبدالرحمن و هو يبتسم بمجاملة واضحة ويقول :" لا , لم أنهض بسبب ذلك .. ولكن تذكرت بعض الأمور التي يجب علي فعلها .. "

لم يصدق سلطان ذلك , و لكنه تركه ليرحل على أي حال .. و ما أن غادر ذاك المكتب , حتى عاد سلطان إلى عمله و ذهنه مملوء بالأسئلة ..


********


كان فيصل يجلس بانتظار عبدالرحمن ليأتي , بعدما هاتفه قائلًا بأن هناك أمر مهم يدور في باله , و قد حان وقت تنفيذه .. و ما أن وصل ذاك حتى بدأ فيصل بالحديث :

" لقد حان الوقت "..

" وقت ماذا ؟! "..

" أن نتعادل أنا و أخي في نصيبنا من الحياة "..

ملأت علامات الاستفهام وجه عبدالرحمن , فأكمل فيصل قائلًا :" أريد الأخذ بثأري "..

تراجع عبدالرحمن في كرسيه وهو يقول :" لماذا الآن ؟ .. لقد مضى وقت طويل أليس كذلك ؟ "..

" لا , هذا هو الوقت المناسب , أريد أن أجعل عادل يصل إلى القاع .. أن يتحطم كليًا , هو و من معه !! "..

" ولكنك لم تجبني , لماذا قررت فعل هذا الآن ؟ "

" بسبب بدر .. ! "..

استغرب عبدالرحمن قائلًا :" و ما شأن بدر ؟ أنت تريد أن تطيح بعادل ! "..

" لا .. أريد أن يصل الضرر إلى ذاك الشاب أيضًا , أريده أن يستشعر هو و والده معنى العار الذي شعرت به منذ سنين .. لن أكتفي بعادل , أريد أن أقحم الجميع في ذلك , الجميع ! "..

سكتا الاثنان لبرهة , ثم تكلم عبدالرحمن قائلًا :" حسنًا , أنت تعلم بأني كنت أنتظر قرارك هذا منذ زمن بعيد , لعله يخفف قليلًا مما تعانيه .. قل لي ماذا ستفعل بالضبط .. ؟"

استراح فيصل في جلسته و هو يخرج من جيب ملابسه 4 صور ! ..

رماها في حضن عبدالرحمن وهو ينتظر علامات الصدمة على وجهه ... أمسك عبدالرحمن بالصور و هو يحدق فيها بمفاجأة و بحاجبين معقودين , ثم رفع رأسه باتجاه صاحبه الذي كان يبتسم بمكر ..

سأل عبدالرحمن بهمس :" أهذا أنت الذي في الصور ؟ "..

" و من سيكون إذًا ؟! عادل ؟! .. ذاك الجبان يخاف حتى من ظله , أتعتقد بأنه سيغامر و يضع نفسه في هذه الأماكن و بين هؤلاء الحسناوات ؟! "..

" لا تقل بأنك ... " سكت عبدالرحمن و هو ينتظر إجابة من فيصل ..

" نعم , هذا ما سيحصل .. أنت الوحيد الذي يعلم هوية صاحب الصورة , أما الآخرون ... فـ لا "

سكت فيصل لثواني و هو يرفع كتفيه بعفوية ثم قال :" الآخرون لا يعرفون سوى شخص واحد يمتلك هذا الوجه "..

" يبدو ذلك ... عادِلًا للغاية ".. سكت عبدالرحمن ثم أكمل :" و لكن كيف ستنشرها ؟ "..

" هنا يأتي دورك , أنت على معرفة أقوى بعادل , ستعرف جيدًا كيف تنشرها , أنا متأكد بأنك ستجد الطريقة المثلى للنشر "..

" لا تقلق , سأفعل كل ما في وسعي .. "

" انتظر لحظة ".. قال فيصل وهو ينهض و يتجه إلى الغرفة ويعود حاملًا ظرف صغير مربع الشكل .. أعطاه لعبدالرحمن و عاد للجلوس ..

رفع عبدالرحمن حاجباه بابتسامة و هو يقول :" وما هذا أيضًا ؟! "..

ابتسم فيصل قائلًا :" إنها هدية مع الصور , ستعجب الجميع أنا متأكد "..

" و ما محتواها ؟! "..

" عليك أن تراها بنفسك , سيفسدها شرحي "..

طرق عبدالرحمن الصور و الظرف على فخذه ببعض التوتر و هو يقول :

" طالما أنت مرتاح لهذا الأمر , سنفعله .. و لكن هل فكرت جيدًا فيه ؟ .. أعني العواقب ؟ .. "

أخذ فيصل نفسًا عميق ثم قال و هو يزفر :" بالتأكيد , ستكون هناك عواقب وخيمة , وخيمة للغاية .. و لكن لن يمسني شيء منها .. "

هز عبدالرحمن رأسه بشرود و هو متوتر بعض الشيء من قرار فيصل هذا ! ..


(( و بعد عدة أسابيع ))


أتى عبدالرحمن إلى فيصل و أخبره بشأن الفتية الذين وضعوا مبالغ مادية في أماكن متفرقة من مدينتهم , ثم أعلنوا عن مواقعها في أحد شبكات التواصل الاجتماعي .. !!
اقتنع فيصل بهذه الفكرة سريعًا , قائلًا بأنها ستكون رائعة خصوصًا إن انتشرت أسماء المواقع من حساب عادل نفسه !! ..



يتبع ...


الرد باقتباس اقتباس متعدد لهذه المشاركة الرد السريع على هذه المشاركة

رُوفِ 07-12-2016 11:28 PM



الافتراضي رد: روايتي الأولى : لماذا أرى ملاكًا وسَط جحيمي





السلام عليكم ورحمة الله ..

كيفكم ان شاءالله تمام ؟! .. فصل اليوم يعتبر قصير شوي مقارنة مع اللي قبله ..

يلا نبدأ ؟!

قراءة ممتعة ..







الفصل التاسع عشر ( 19 )
- ما قبل الأخير -





مرت سنتان , و تزوج خلالها عادل من ابنة أحد أصدقاء أبيه .. كانت نية الزواج الأولى هي توطيد العلاقة بين آباء العروسين لتثمر من خلالها أعمالهما المشتركة .. و لكن بعد فترة , كان عادل متيم بزوجته التي تصغره بخمسة سنوات , بعدما كان يراها في البداية مجرد صفقة نجاح لأعمال والده ..
و لكن مع مرور الأيام تحولت ( فرح ) إلى معشوقته الأولى و الأخيرة , كانت هي الوحيدة التي تخفف عليه آلامه على فقدان أخيه مع كامل جهلها بوجوده أصلًا ! ..

أحبت عادل من أعماق قلبها , حتى أتى اليوم التي أصبحت تحمل في أعماقها قطعة منه .. كان حملها بابنها الأول بدر هو الفرحة التي أعادت الحياة للمنزل بعدما كانت تتلبسه الكآبة و الضجر .. كان الجميع يرى السعادة و الحياة متشكلة على هيئة انتفاخ في بطنها ..

مضت فترة حملها ببعض الصعوبة , و عندما حان وقت ولادتها , كان الحياة أنانية للغاية , فلم تكن لتعطي فرح هذا الاسم و الفرحة الحقيقة معًا , فأصبح الفرح هو مجرد اسم لها , و تركت الفرحة خلفها بعدما أخذها الموت عندما كانت تنجب حياة و روح جديدة ! ..

توفيت أثناء ولادتها بابنها , و هي تبلغ من العمر 21 عامًا فقط .. و لم يكن عادل مكسور الجناحين كما كان في يوم وفاتها .. لقد سلمته المستشفى جسدين : حي و ميت , ابنه الجميل , و تلك الجثة الهامدة لزوجته الحسناء ..

جلس على كراسي المستشفى وهو يضم ذاك الصغير إلى صدره , و ما كان يرى في بكاء بدر سوى مواساة له و حزنًا على والدته ..

كان عادل يرى زوجته عبر أغراضها الأنثوية التي تركتها خلفها , و كل تلك التجهيزات التي قامت بها في غرفتها لاستقبال مولودها , و كل تلك الأكياس المملوءة بفساتين ما بعد الولادة و عطوراتها و مساحيق التزيين , لم تكن تلك الأغراض و الألوان الزاهية تزيد عادل سوى حزنًا و سوداوية ! ..

أمضى عادل عدة أيام و هو يضع كل أغراض زوجته في صناديق كبيرة , و يقوم بتغليفها بعناية فائقة , ثم قام بوضعها في غرفة خاصة بالمنزل و أقفلها و منع الجميع من محاولة دخولها أو حتى المرور بمحاذاتها , لقد كانت تلك الغرفة بجوار غرفة فيصل التي قام بإغلاقها أيضًا .. فقد أصبح يرى أن للأموات أحقية الحصول على غرف تخصهم في هذا البيت أكثر من الأحياء ! ..

و لكنه لم يترك من أغراضها سوى عطر صغير كان الأحب إلى قلبها , تركه على طاولة الزينة الخاصة بهما , و قد كان يقوم برش بضع قطرات منه على وسادته قبيل نومه , لم يكن يتحمل انعدام حضورها حتى في الهواء ..

أعاد نظره بعد ذلك إلى طفله الرضيع و الفرحة الوحيدة في حياته : بدر ..

كان يمضي ساعات و هو يلاعب أصابع ذاك الصغير و يجعلها تتلمس وجهه و ملامحه , كان يجهل تمامًا كيفية الاهتمام بطفل .. فتركه في الأشهر الأولى مع أم زوجته و أخواتها , فأحسنّ رعايته و الاهتمام بشؤونه , و ما أن بلغ بدر السنتان , حتى أصبح عادل يتركه عندهم في أوقات عمله فقط , و يعود لأخذه منهم عندما يحل الليل و يعود لمنزله ..

و لكن الحياة لم تنتظر جِراح عادل لتلتئم , بل زاد عليها جرح آخر مزق روحه بالكامل .. كانت وفاة والده هي الشعرة التي قسمت ظهره , فقد حولته فجأة إلى رجل بقلب عجوز يائس .. فقد الأخ, الزوجة ثم الأب خلال 4 سنوات فقط .. !

لم يكن عادل ليحتمل كل هذا لوحده .. كان يريد سندًا قويًا غير ذاك الذي يزوّده به أصحابه و أقاربه , كان بحاجة إلى من يمسك يده حين يصبح و يحين يمسي و يخبره بأن هذه هي الحياة و إن جارت عليه و أهلكته !

حاول التفكير في الزواج مرة أخرى , ولكنه شتم نفسه لمجرد التفكير , لم يعد يثق بأحد أو بأي شيء , و لن يترك امرأة غريبة تعتني بحياته و حياة ابنه ..

لم يكن أمامه سوى أن يحمل كل الأعباء على ظهره , و أن يهرب مما يحصل حوله من خلال الغرق التام و الصامت في العمل ! ..

فقد قرر استلام أعمال و شركة والده بالكامل , و بذل عمره فيها لعلها تعطيه راحة البال ..
و أما من الناحية الأخرى , فقد كان لا يسمح لأي أحد أن يتولى رعاية و تعليم ابنه سواه .. فمنذ كان بدر ذو الثلاثة أعوام , كان والده في أوج شبابه .. فقد كان يأخذه معه أينما ذهب , حتى و إن تسبب له بالإزعاج ..

و كلما كبر هذا الطفل في العمر , كلما رأى فيه عادل الحياة بالكامل .. حتى صار رجلًا في 21 من عمره , يحمل وسامة عمه , لطف أبيه , عينا والدته و القليل من إصرار و عناد جده ! ..


********


في الطرف الآخر من العاصمة , الطرف المظلم شبه المجهول , حيث تقع أغلب الجرائم و يسكن أغلب الوافدين و العمالة الأجنبية , كان هناك من يشابه عادل و يناقضه بنفس الوقت ! ..

بعدما اعتبره الجميع ميتًا , قرر الانتقال من منزل عبدالرحمن بعد مسرحيته المتقنة تمامًا إلى شقة مجهولة العنوان و مظلمة الممرات في أعلى أحد العمائر في جنوب الرياض ..

كان عبدالرحمن لايزال شديد الولاء لفيصل , فبعد سنوات من العمل في وظيفته و الارتقاء الملحوظ في عمله , كان يجني الثمار و يقدمها لفيصل على طبق من ذهب .. !

كان يحس بالشفقة تجاه رفيقه , فقد كان يعطيه من المال ما يشتهي و يتمنى , و على الرغم من الحالة النفسية لفيصل التي تجعله يشتم الجميع و يتعارك مع الكل و أولهم عبدالرحمن , إلا أن ذلك لم يجعل صديقه يتوانى لحظة في مساعدته في كل ما يريد .. فقد كان عبدالرحمن يدفع أجر الشقة , و يحضر له المؤونة بشكل أسبوعي, و يغرقه بكل ما يشتهي من المال و غيره ..

إلا أن فيصل كان يأخذ هذه الأموال من جهة , و يسكبها بالكامل على المخدرات و النساء من جهة أخرى , حتى غرِق فعليًا ! ..

و في نفس الوقت , كان عبدالرحمن على صحبة ممتازة مع عادل , فقد كان عادل يعتبره الوحيد الذي يحمل له ما يجهله الجميع , أخوه فيصل ..

كان يحس بوجود فيصل في كل مرة يتحدث أو يجالس عبدالرحمن , كان يشعر و كأن توأمه يتوسط المكان و يتحادث معهم تمامًا مثلما كانوا يفعلون قبل 12 سنة في دراستهم الثانوية , حين كانوا ثلاثتهم على أقوى صلة من الصداقة ..

ولكن أتى ذاك اليوم الذي سأل فيه فيصل عبدالرحمن سؤالًا غيرت إجابته حياة الجميع ! ..


" عبدالرحمن , ما حال عادل ؟! ".. سأل فيصل و هو مستلقي على الأريكة بجانب صاحبه ..

" في أفضل حال , إنه يعيش مجده بالكامل , ذاك المجد الذي كان من المفترض أن يكون لك نصيب منه ! "..

اعتدل فيصل في جلسته و هو يقول :" ماذا تعني بـ يعيش مجده ؟! "..

" بعد وفاة والدك , أخذ الورث بالكامل , و الشركات و كل الأملاك .. "

هز فيصل رأسه بشرود وهو يقول :" و أنت , ما رأيك في الوضع ؟ "..

" رأيي واضح ! .. أنا لست راضٍ أبدًا بحالك يا فيصل , انظر حولك , أهذه حياة يعيشها المرء في عز شبابه !؟ "

قال عبدالرحمن و هو يمسك بملابس نسائية كانت مرمية بجانبه , و قد تركتها إحداهن بعد خروجها من عند فيصل ..

أكمل كلامه قائلًا :" كيف ترضى لنفسك هذه الحياة و توأمك يمتلك حقك و حقه من هذه الدنيا و أكثر ؟! "..

قال فيصل وهو يعود للاستلقاء :" لم يكن ليأكل حقي إن علِم بأنني حي إلى الآن ! "..

" لا تبرر له الأعذار , لقد خذلك كثيرًا ! .. "

" و أنا تعبت كثيرًا , لم أعد أكترث لشيء "..

" لا تفقد شهيتك تجاه الحياة , على الأقل لا تفقد شهيتك تجاه حقك من الحياة ! "..

" لقد تنازلت عن حقي عندما اخترت الموت ! "..

" ولكن .. " قال عبدالرحمن وهو يسترجع شيء في عقله .. " ولكنك عندما اخترت أن تكون ميتًا , أخبرتني بأنك تريد ذلك حتى تتمكن من العيش خلف الستار و التخطيط للانتقام على مهل ! "..

أغمض فيصل عيناه وهو يقول :" بالضبط , هذا ما أفعله الآن , و هذا ما سيحصل , ولكن صبرًا جميلًا , صبرًا جميلًا يا عبدالرحمن "..

صمت عبدالرحمن و ساد السكون للحظات , ثم قال بخفوت :" بالحديث عن ذلك ... " ثم أكمل بشيء من التردد :" هل حضرت جنازة والدك "..

" لم يحضر هو إلى جنازتي , و بالإضافة : أنا ميت , كيف لي أن أفعل ذلك ؟ "..

هز عبدالرحمن رأسه مبتسمًا على قناعات صاحبه المريبة !


********


مرت السنوات , و قد أصبح التوأمان في منتصف الأربعين , وقد شارفا على الوصول إلى نقطة تحول شديدة في حياة كلاهما ! ..

ازدهرت تجارة عادل في شركات المعادن التي استلمها من بعد والده , و أتى ذاك اليوم الذي وظّف فيه سكرتير جديد يمتلك الكثير من الكفاءات , و القليل جدًا من الولاء .. !

استلم سلطان منصبه هذا بالكثير من الشغف و الأطماع , لقد رفع رأسه عاليًا , فكُسرت رقبته و طُعِن ظهره ! ..

بعد عمله لفترة قصيرة لصالح عادل , كان قد استيقن بأن عبدالرحمن يمتلك مكانة خاصة لدى رئيسه , فقد كان دائم القدوم للزيارة , بشكل أسبوعي أو شهري أحيانًا .. و عرف عنه الكثير بعدما كان يستمع سرًا إلى أغلب أحاديثه مع عادل من خلال باب المكتب الفاصل بينهم ..

و لكن بعد أشهر طوال , أتى ذاك اليوم الذي وضع سلطان في كل ما حصل له , و الذي جعله يدفع ثمن فضوله دماءً غزيرة ! ..

كان سلطان يرتب مكتبة عادل و يبحث عن بعض الأوراق بين الكتب , حين لمح طرف صورة قديمة و ممزقة الأطراف قد دسّت بين صفحات أحد الكتب ! ..

نظر سلطان إلى المكان حوله بهدوء ثم أعاد نظره للكتاب و هو يسحبه و يُخرج الورقة بهدوء و صدمة عظيمة ! ..

لقد كانت صورة قديمة باللون الأصفر و البني الباهت تجمع أخّين توأمين يلبسان نفس الثياب , و قد كانا في السابعة أو الثامنة من عمرهما .. ! عقد سلطان حاجبيه و هو يدقق النظر " إنه عادل ! ".. قال بهمس لا يُسمع :

" وهذا الذي بجانبه , أهو توأم ؟؟! "..

استغرب سلطان الوضع وهو يقلب الصورة بين يديه , فلمح كلامًا مكتوبًا بخط قد خفف من لونه الزمن , وقرأ :

" عادل و فيصل , الصف الأول الابتدائي .. "

ولكن سلطان اهتز في مكانه بعدما سمع صوت خطوات قادمة , أعاد الصورة بسرعة البرق و قام بترتيب كل شيء و كأن شيئًا لم يكن ! .. و لكنه تفاجأ بدخول عبدالرحمن إلى المكتب بدلًا من عادل ..

" سلطان , السلام عليكم ".. قال عبدالرحمن بنبرة سريعة

" و عليكم السلام , أهلًا أبا سعود "..

" أين عادل , هل حضر اليوم ؟ "..

" نعم , إنه في اجتماع في الدور الثالث , من المفترض أنه انتهى منذ خمس دقائق ".. قال سلطان وهو يتوجه إلى أحد الكراسي و يزيح الوسادات عنها قائلًا :" تعال و ارتاح هنا , سيأتي عادل في أي لحظة "..

جلس عبدالرحمن , و سأله سلطان :" هل تود أن تشرب شيئًا ؟ "..

" لا شكرًا .. سأنتظر عادل , عد أنت لعملك و لا تكترث لوجودي "..

هز سلطان رأسه بابتسامة و هو يعود إلى رف الكتب , و لكنه كان يلتفت كثيرًا إلى عبدالرحمن بين الفينة و الأخرى , و ما أن تلتقي أعينهما , حتى يبتسم سلطان بسرعة و إحراج , و يعود إلى ما كان يفعله ..

قال عبدالرحمن بصوت واثق :" أتريد سؤالي عن شيء يا سلطان ؟ "..

رفع ذاك رأسه ببلاهة و هو يقول :" عذرًا ؟! ".. و قد احمرّ وجهه

" هيّا تكلم , ماذا تريد ؟ "..

هز سلطان رأسه دون أن يضع عيناه على عبدالرحمن وهو يقول :" لا, لا شيء ! "..

" لا تجعلني أشك في فراستي ! .. أستطيع رؤية بعض الكلام على شفتيك , هيّا تحدث لا أحد هنا ! "..

أغلق سلطان ملفًا كان في يده وهو لا يزال يخفض عيناه بشرود , ثم رفع رأسه قائلًا :

" إن كنت لاتزال مصرًّا ! .. أريد سؤالك عن أمر ما ولكن ... دون أن يعلم عادل "..

" نعم بالتأكيد , لا عليك "..

" إنه أمر خاص به بعض الشيء و لكنه لم يفصح يومًا عنه ! "..

رفع عبدالرحمن حاجباه باستغراب , فقال سلطان :" هل لعادل أخ ؟ "..

سكن عبدالرحمن في مكانه و قد سرت رجفة في جسده , وقد حدث نفسه قائلا : " ماذا يعلم هذا الفتى عن فيصل ؟ و لماذا يسأل عنه ؟ و كيف عرف بوجوده أصلًا !! "..

قال عبدالرحمن بشيء من التردد :" لــ لماذا تسأل ؟ "..

قال سلطان بنبرة أشبه بالهمس :" لقد .. لقد وجدت للتو صورة !.. صورة قديمة تجمع عادل مع فتى آخر شبيه به للغاية ! "..

هز عبدالرحمن رأسه و هو يقول :" نعم , لقد كان له أخ , توأم "..

" كان ؟؟ "..

" نعم , كان ذلك من وقت بعيد مضى .. لقد توفي قبل 22 عامًا "..

قال سلطان بصدمة :" أوه , هذا .. هذا مؤسف حقًا ! .. رحمه الله و غفر له "..

ردد عبدالرحمن :" رحمه الله "..

قال سلطان :" عذرًا , لم أعني التطفل , ولكن خرجت تلك الصورة أثناء بحثي بين الكتب و .. " سكت سلطان فجأة ثم قال :" و لكن غريب , لم يذكر عادل قط أن كان له أخ ! "..

قال عبدالرحمن و هو ينهض بانزعاج :" و لم قد يذكر ذلك ؟ لقد توفي أخاه و انتهى الأمر ! "..

توجه عبدالرحمن نحو الباب , فتبعه سلطان مسرعًا و هو يقول :" أسترحل ؟ .. لم أقصد ازعاجك بهذا الموضوع , أنا أعتذر .. "

التفت عبدالرحمن و هو يبتسم بمجاملة واضحة ويقول :" لا , لم أنهض بسبب ذلك .. ولكن تذكرت بعض الأمور التي يجب علي فعلها .. "

لم يصدق سلطان ذلك , و لكنه تركه ليرحل على أي حال .. و ما أن غادر ذاك المكتب , حتى عاد سلطان إلى عمله و ذهنه مملوء بالأسئلة ..


********


كان فيصل يجلس بانتظار عبدالرحمن ليأتي , بعدما هاتفه قائلًا بأن هناك أمر مهم يدور في باله , و قد حان وقت تنفيذه .. و ما أن وصل ذاك حتى بدأ فيصل بالحديث :

" لقد حان الوقت "..

" وقت ماذا ؟! "..

" أن نتعادل أنا و أخي في نصيبنا من الحياة "..

ملأت علامات الاستفهام وجه عبدالرحمن , فأكمل فيصل قائلًا :" أريد الأخذ بثأري "..

تراجع عبدالرحمن في كرسيه وهو يقول :" لماذا الآن ؟ .. لقد مضى وقت طويل أليس كذلك ؟ "..

" لا , هذا هو الوقت المناسب , أريد أن أجعل عادل يصل إلى القاع .. أن يتحطم كليًا , هو و من معه !! "..

" ولكنك لم تجبني , لماذا قررت فعل هذا الآن ؟ "

" بسبب بدر .. ! "..

استغرب عبدالرحمن قائلًا :" و ما شأن بدر ؟ أنت تريد أن تطيح بعادل ! "..

" لا .. أريد أن يصل الضرر إلى ذاك الشاب أيضًا , أريده أن يستشعر هو و والده معنى العار الذي شعرت به منذ سنين .. لن أكتفي بعادل , أريد أن أقحم الجميع في ذلك , الجميع ! "..

سكتا الاثنان لبرهة , ثم تكلم عبدالرحمن قائلًا :" حسنًا , أنت تعلم بأني كنت أنتظر قرارك هذا منذ زمن بعيد , لعله يخفف قليلًا مما تعانيه .. قل لي ماذا ستفعل بالضبط .. ؟"

استراح فيصل في جلسته و هو يخرج من جيب ملابسه 4 صور ! ..

رماها في حضن عبدالرحمن وهو ينتظر علامات الصدمة على وجهه ... أمسك عبدالرحمن بالصور و هو يحدق فيها بمفاجأة و بحاجبين معقودين , ثم رفع رأسه باتجاه صاحبه الذي كان يبتسم بمكر ..

سأل عبدالرحمن بهمس :" أهذا أنت الذي في الصور ؟ "..

" و من سيكون إذًا ؟! عادل ؟! .. ذاك الجبان يخاف حتى من ظله , أتعتقد بأنه سيغامر و يضع نفسه في هذه الأماكن و بين هؤلاء الحسناوات ؟! "..

" لا تقل بأنك ... " سكت عبدالرحمن و هو ينتظر إجابة من فيصل ..

" نعم , هذا ما سيحصل .. أنت الوحيد الذي يعلم هوية صاحب الصورة , أما الآخرون ... فـ لا "

سكت فيصل لثواني و هو يرفع كتفيه بعفوية ثم قال :" الآخرون لا يعرفون سوى شخص واحد يمتلك هذا الوجه "..

" يبدو ذلك ... عادِلًا للغاية ".. سكت عبدالرحمن ثم أكمل :" و لكن كيف ستنشرها ؟ "..

" هنا يأتي دورك , أنت على معرفة أقوى بعادل , ستعرف جيدًا كيف تنشرها , أنا متأكد بأنك ستجد الطريقة المثلى للنشر "..

" لا تقلق , سأفعل كل ما في وسعي .. "

" انتظر لحظة ".. قال فيصل وهو ينهض و يتجه إلى الغرفة ويعود حاملًا ظرف صغير مربع الشكل .. أعطاه لعبدالرحمن و عاد للجلوس ..

رفع عبدالرحمن حاجباه بابتسامة و هو يقول :" وما هذا أيضًا ؟! "..

ابتسم فيصل قائلًا :" إنها هدية مع الصور , ستعجب الجميع أنا متأكد "..

" و ما محتواها ؟! "..

" عليك أن تراها بنفسك , سيفسدها شرحي "..

طرق عبدالرحمن الصور و الظرف على فخذه ببعض التوتر و هو يقول :

" طالما أنت مرتاح لهذا الأمر , سنفعله .. و لكن هل فكرت جيدًا فيه ؟ .. أعني العواقب ؟ .. "

أخذ فيصل نفسًا عميق ثم قال و هو يزفر :" بالتأكيد , ستكون هناك عواقب وخيمة , وخيمة للغاية .. و لكن لن يمسني شيء منها .. "

هز عبدالرحمن رأسه بشرود و هو متوتر بعض الشيء من قرار فيصل هذا ! ..


(( و بعد عدة أسابيع ))


أتى عبدالرحمن إلى فيصل و أخبره بشأن الفتية الذين وضعوا مبالغ مادية في أماكن متفرقة من مدينتهم , ثم أعلنوا عن مواقعها في أحد شبكات التواصل الاجتماعي .. !!
اقتنع فيصل بهذه الفكرة سريعًا , قائلًا بأنها ستكون رائعة خصوصًا إن انتشرت أسماء المواقع من حساب عادل نفسه !! ..




رُوفِ 07-12-2016 11:30 PM




تابع ..



**********


بعد عدة أيام .. و بينما كان السكرتير سلطان كثير التوجه لأصدقائه في استراحتهم .. لاحظ قدوم عبدالرحمن المتكرر لعمارة قديمة في جنوب الرياض حيث يجتمع أصحاب سلطان ..

و عندما بلغ الفضول أقصاه لديه .. قرر ملاحقة عبدالرحمن إلى آخر الطريق , و رؤية ما الذي يخفيه حقًا .. و هنا حيث ذهب ورائه إلى تلك العمارة و تبعه إلى أعلاها , و وقف أمام ذاك الباب الحديدي المملوء بالصدأ و الذي يعلن انتهاء السلالم .. !

و ما أن وضع سلطان اذنه على الباب ليستمع إلى الحديث الغامض الذي يدور بالداخل ; حتى انفتح الباب بنفسه بعدما استند سلطان إليه بقوة .. لم يعي سلطان ما الذي حدث إلا عندما وجد نفسه قد دخل إلى الشقة سريعًا بفعل الباب الذي انزلق إلى الداخل ساحبًا سلطان معه .. و هناك بالضبط , رأى عبدالرحمن يجلس بجانب رجل لم يتوقعه سلطان أبدًا .. رأى فيصل , التوأم القاسي من مديره عادل .. و قد عبرت رأسه تلك الصورة التي وجدها في المكتب ! ..

قال في نفسه :" ولكن عبدالرحمن قال أن هذا الأخ ميت , منذ 22 عامًا !! "..

ارتبك سلطان و قد ملأه الخوف من رأسه إلى أخمص قدميه .. " ما الذي سأفعله الآن ؟! .. يا للورطة ! .. كنت أريد أن أسمع ماذا يدور هنا في الداخل , وليس الدخول ! .. يا لحماقتي و فضولي اللعينين ! .. ".. أخذ سلطان قراره و عرف أن هذه المواقف ليس لها حل سوى الهرب ..

و ما أن وثب سلطان خارجًا نحو السلالم , حتى أحس بيد حديدية تمسك بياقة ثوبه من الخلف و تسحبه إلى الشقة مجددًا , كان سلطان يستطيع الحلف بأنها أقوى يد عرفها منذ أن ولد ! .. لقد تم سحبه خلال أجزاء من الثانية , و لم يعي ما الذي حصل , و لا كيف استطاع ذاك الضخم سحبه .. استغرب سلطان نفسه و كيف أنه لم يقو على المقاومة .. عرف سلطان أن هذا الرجل الشبيه بمديره هو رجل ذو بأس شديد , و قد قرر سلطان أن ينطق بالشهادتين عندما رأى نفسه مسحوبًا كأضحية العيد على بلاط بارد و من قِبل شخص لا يعرف ما الذي تعنيه " الرحمة" ..

قام فيصل برمي سلطان في وسط غرفة الجلوس بشدة , فأحس ذاك بوخز قاتل يعبر عموده الفقري .. تأوه سلطان بألم , و لكنه عض على شفته حابسًا آهاته عندما رأى ذاك الضخم يقترب منه بقبضة مشدودة , تراجع سلطان إلى الخلف بضعف ولكن فيصل كان أسرع منه , فقام بالدوس على قدم سلطان مانعًا إياه من التحرك , ثم نزل على ركبتيه بهدوء قائلًا :

" أستطيع أن أحكم قبضتي حول رقبتك و أن أدقها خلال ثواني , و لكن أفترض أنك قطعت كل هذه السلالم بحثًا شيء مهم , أليس كذلك ؟ "..

رفع فيصل حاجبه الأيمن بانتظار .. فقال سلطان وهو يتلعثم :" أ أأ أنـ ــ ـا , ممــ "..

قام فيصل بسرعة بسحب الشماغ عن وجه سلطان أمام نظرات عبدالرحمن المصدومة , و الذي كان واقفًا خلف فيصل بصدمة من كل هذا الذي حدث في أقل من 10 ثواني ! ..

قال عبدالرحمن بهمس :" سلطان ! "..

نظر سلطان إليه بارتباك ثم اخفض عيناه .. التفت فيصل إلى عبدالرحمن قائلًا :" أتعرفه ؟! "..

" هذا , أقصد نعم .. إنه , إنه سكرتير عادل ! "..

التفت فيصل إلى سلطان بسرعة و عيناه تحملان الكثير من الغضب , فامسك بياقة ثوبه وهو يقول :
" ما الذي أتى بك إلى هنا , هـــاه ؟ من الذي أرسلك ؟ عادل ؟ .. هل يعلم عادل بأمري ؟ .. أجبني أيها الحقير ! "

قال فيصل و هو يضغط بشدة على أسنانه , ثم وجه لكمة قوية باتجاه فم سلطان , و الذي صرخ بألم شديد , ثم قال بعد ثواني و هو يتنفس بصعوبة و قد أصابه دوار :

" لا , لــ لا يعلم , لــ لم يرسلنــ ـي إلى هــ هنا .. أنا .. أنا جئت بنفسي "..

أفلت فيصل سلطان فسقط ذاك على ظهره بإنهاك شديد و هو يبصق دماءً .. قام فيصل بركل ساقه بخفة و هو يقول :

" انهض , هيّا .. أمامنا الكثير لنتحدث عنه .. انهض أيها الفتاة , لم تكن تلك اللكمة مؤلمة على ما أظن ! "..

اتجه عبدالرحمن نحو سلطان و هو يساعده على النهوض و وضعه على أحد الكراسي في الغرفة و هو يهمس له :

" ما الذي أحضرك إلى هنا .. هل كنت تتتبعني ؟! .. أظن بأنك كذلك ! "..

ظل الثلاثة صامتين يحدقون إلى بعض , فتكلم سلطان ببطء بعدما هدأ الألم في فمه , فقال :

" لقد , لقد سمعت ما كنتما تتحدثان عنه .. ! "

" أنعتبر هذا تهديدًا من نوع ما !؟ ".. قال فيصل و هو يتجه إلى سلطان بهدوء ..

" اعتبراه ما شئتما .. و لكن , أنا معكما "..

نظر فيصل إلى عبدالرحمن ثم أعاد نظره إلى سلطان قائلًا :" ماذا تقصد ؟ "..

بلع سلطان ريقه وقال بابتسامة :" لقد كنتما تتحدثان عن انتقام ما .. انتقام من عادل أهذا صحيح ؟ "..

صمت فيصل بانتظار سلطان أن يكمل كلامه , فقال ذاك :" على أية حال .. يبدو الأمر شيق , و أريد الدخول معكما فيه "..

تحدث عبدالرحمن قائلًا :" حسنًا , أصبت .. هناك تخطيط لانتقام من عادل , و لكن ما الذي يجعلنا نقبل بك كواحد منا ؟! "..

مسح سلطان بعض الدماء التي كانت على طرف شفتيه وقال بثقة :

" لأنني و ببساطة : سلاح ذو حدين ! ".. و نظر إلى فيصل قائلًا :" أنا سكرتير عادل , أتعلمون ما الذي يعنيه ذلك ؟ أستطيع خدمة خطتكما و إعطائكم كل ما تريدونه من معلومات أو ممتلكات لعادل , إنه يثق بي جدًا .. و في الوقت نفسه , أستطيع الخروج من هنا و إخبار عادل أنني وجدت أخاه العزيز في مكان قذر و هو حي يرزق ! "..

قال فيصل بابتسامة :" تستطيع فعل الأمر الأول , ولكن الثاني .. ستكون ميتًا قبل أن تفكر فيه حتّى ! "..

قال سلطان :" إذًا , نحن على اتفاق ؟! "..

كان فيصل يفكر بالأمر , سيكون هذا السكرتير الأحمق مفيدًا لهما , مفيدًا جدًا , و لكنه خطير بنفس الوقت .. ولكن فيصل رأى بأن يجعله معهم , و يتخلص منه في أقرب فرصة ..

" لم تقل لي ماذا تريد بالمقابل ؟! ".. قال فيصل و هو يجلس على أحد الكراسي مقابلًا لسلطان ..

" في الواقع , الراتب الذي استلمه من عادل , لا يكفي احتياجاتي الخاصة .. أريد منكما مبلغًا و قدره مقابل كل خدمة سأسديها "..

هز فيصل رأسه وهو يفكر ثم قال :" حسنًا , إن المال لا يشكل أية مشكلة بالنسبة لي , ولكن السؤال هو : كيف لي أن أثق بك ؟ .. لابد من وجود شيء ما ليؤكد لي رغبتك الخالصة في الخوض معنا " ..

صمت سلطان لدقيقة و هو يفكر , ثم قام بإدخال يده في جيبه و أخرج مفاتيح سيارته و قد علق معها مفتاح آخر , سحبه من الحلقة ببطء ثم رماه باتجاه فيصل الذي التقطه بسرعه ..

" ما هذا ؟ ".. سأل عبدالرحمن

" إنه نسخة وحيده من مفاتيح منزلي "..

رفع فيصل نظره إلى سلطان و قال :" أتريدني أن أعتبر مفاتيح بيتك كعربون ثقة بيننا ؟ "..

" إن زوجتي و ابنتي الصغيرة هناك "..

عقد فيصل حاجباه بغضب , و قال :" أتعرض حياة أسرتك على غريب تعرفت عليه للتو فقط من أجل المال ؟! "

نهض سلطان ببطء و هو يقول :" أنا أثق بأنك لن تؤذيهن أبدًا , و كذلك أنت , عليك أن تثق بأنني لن أخذلكما في في شيء أبدا "..

نظر فيصل إلى عبدالرحمن , فأعطاه ذاك إيماءة برأسه .. ثم قال فيصل :" إذُا , نحن متفقون الآن "..

نهض سلطان للخروج و لكنه التفت إلى عبدالرحمن قائلًا :

" بالمناسبة , نعم كنت أتتبعك , لقد أثار فضولي رؤية سيارتك هنا كل يومان ! "..

ثم استدار و خرج من العمارة و عاد إلى منزله وهو يفكر , هل إعطاءه مفاتيح منزله لهذا الغريب هو أمر صحيح ؟ أم أنه كان متهورًا للغاية ؟! .. نفض هذه الأفكار عن رأسه و هو يقول أن فيصل يحتاجه بشدة , ولن ينقض الوعد بينهما و يؤذي أسرته ..

ولكن عندما وصل , طرأت في ذهنه تلك القصة التي حكاها له أخوه الطبيب خالد , اتصل عليه بسرعة و هو يسأله :

" خالد , السلام عليكم "

" أهلًا سلطان , وعليكم السلام , ما الأمر , إن الوقت متأخر ! "..

" لا لا , لا تقلق .. لقد كنت أفكر في تلك الحادثة القديمة التي حصلت لك , عندما كنت طبيب امتياز ! "..

" أي حادثة ؟ .. أوه نعم نعم , تقصد الشاب الذي أصابته جلطة ؟ "

" بالضبط , لقد ذكرت لي أن أخاه و صاحبه كانا معه أليس كذلك ؟ .. أتتذكر أسمائهم ؟ "..

" في الواقع لا أعلم , لقد كان ذلك منذ زمن بعيد ! .. 20 أو 22 سنة , لا أظن أنني أتذكر "..

" خالد أرجوك , حاول "..

" لم أنت مهتم إلى هذا الحد ؟ "

" سأخبرك لاحقًا , أريدك أن تتذكر الأسماء , هل يمكنك ؟ "..

" انتظر لحظة , لقد كان واحد منهم اسمه عبد ... عبدالله ؟ لا لا ليس عبدالله .. أظن بأن اسمه عبدالرحمن ! , ولكن لا أتذكر أهو الأخ أم الصديق ! "..

ابتسم سلطان لذلك وقال :" حسنًا هذا جيد , و الآخر ؟ "..

" لا أعلم , لقد نسيت حقًا , و قد أيقظني اتصالك للتو , فمن البديهي أن تكون ذاكرتي في الحضيض ! "..

" أكان اسمه عادل ؟ "..

صمت خالد لثواني و هو يتذكر ثم قال وقد تفاجأ من أخيه :" نعم .. نعم , صحيح , أظن أنه كان الأخ , كيف عرفت ؟ "..

" قلت لك سأخبرك لاحقًا عندما نلتقي , آسف على هذا الاتصال المتأخر "..

" أنت تثير ريبتي فعلًا ! ".. قال خالد و هو يتثاءب " على كل حال , تصبح على خير "..

كانت لدى سلطان ذّرة صغيرة من الشك في أن يكون فيصل و عادل أخوة , و لكن هذا الشكل قد اختفى كليًا بعد هذه المكالمة , و الصوة التي رآها ! ..


**********


ظل فيصل , عبدالرحمن و سلطان يجتمعون كثيرًا حتى استطاعوا إحكام خطة جيدة و وضع النقاط على الحروف .. و كان أول أمر فعلوه هو القيام باختطاف عادل بطريقة هادئة و غامضة جدًا ..

كان ذلك عندما قام فيصل بسرقة سيارة قديمة من الحي الذي يسكنه قبيل صلاة العشاء , في يوم عرس سعود , ابن عبدالرحمن الكبير .. و قام فيصل بإزالة لوحات السيارة سريعًا و اتجه إلى طريق الخرج , بعدما اخبره سلطان أن عادل قد غادر منزله للتو و أنه متجه إلى الخرج من أجل العرس .. قاما الاثنان باللحاق بعادل بهدوء دون أن يثيرا أي انتباه ..

و عندما أصبحت الساعة التاسعة و الربع , كان عادل قد أغلق هاتفه بعدما اتصل عليه عبدالرحمن ليسأله عن مكانه , و قد تبقى له 10 كيلومترات للوصول .. بعد ذلك بعدة دقائق , شعر عادل باصطدام شديد على خلفية سيارته , مما أدى إلى ضرب رأسه بالمقود بقوة , ضغط بشدة على المكابح و توقفت السيارة , و كذلك السيارتين اللتان كانتا خلفه ..

نزل سلطان و فيصل و هم مغطين أوجههم بأشمغتهم و أخرجوا عادل من سيارته و أغلقوا فمه ببعض القماش , حاول تحرير نفسه و لكنه تلقى لكمة قوية على وجهه أفقدته وعيه , وضع الاثنان عادل في صندوق سيارة سلطان , و تركا السيارة المسروقة خلف سيارة عادل , و صعدا إلى سيارة سلطان و تولى فيصل القيادة بينما جلس سلطان بجانبه .. عادا بسرعة إلى الرياض في أقل من ساعة و هم يقودون بسرعة جنونية , ثم وصلا إلى شقة فيصل و حملا عادل إلى الأعلى دون أن يراهما أحد , و قد كانت العمارة منزوية في أحد الأحياء المظلمة ..

أحكما القيود حول معصمه و ربطاه على كرسي في غرفة صغيرة في الشقة .. ثم غادر سلطان المكان على الفور متجهًا إلى منزله .. تاركًا عادل بين يدي فيصل وهو ينتظر خبر وفاته ! ..



**********


و الآن , وبعد هذه الأحداث بيوم واحد فقط , أقحموا الابن الشاب "بدر" في متاهة و آلام لن ينساهما أبدًا .. وهو ينام الآن كالميت في شقة ما , يرافقه العقيد السيف الذين وعد نفسه بمساعدة هذا الفتى الذي يذكره بابنه كثيرًا ..


الساعة 12:00 بعد منتصف الليل :


توقفت سيارة الأجرة أمام منزل عاش فيصل الكثير فيه ! .. نزل و اتجه إلى الباب .. باب منزل عبدالرحمن !

هذا المنزل الذي استقبله عندما بدأ كل شيء , و الذي آواه عندما كان في أشد حالاته اكتئابًا و حزنًا .. و ها هو الأن يحوي في داخله توأمه ..

دخل فيصل إلى المنزل الذي نسخ مفتاحه سرًا بعدما أخذه من عبدالرحمن , و اتجه إلى الغرفة التي أمر سلطان أن يضع عادل فيها ..

دخل إليها و رأى أخاه مستلقيًا على الأرض كالميت , كان العرق ينزل من كل مكان في جسده , و هو يرجف بشدة و قد ازرقت شفتاه , علم فيصل أن معدل السكر قد انخفض جدًا , ولكنه اشترى له الأدوية اللازمة قبل أن يجيء , و احضر له بعض الطعام و السكريات التي ستعيده لوضعه الطبيعي ..

كان فيصل قد فكر في كل ما سيقوله لينهي الأمر مع أخيه , لينهي كل شيء حصل من قبل .. ليخبره عن كل ما يجول في رأسه , و السبب الحقيقي وراء كل ما يفعله تحت مسمى " انتقام " .. !!!


....


نهاية البارت ..

أتمنى أنه أعجبكم .. تراني شديت على نفسي قد ما أقدر عشان أخلصه لكم اليوم , أول مرة أخلص فصل و أراجعه و أنشره بنفس اليوم , لكن حسيت أني تأخرت عليكم , لذلك سويت كل اللي أقدر عليه ..

يلا عاد لا تحرموني من توقعاتكم و تحليلاتكم




الساعة الآن 02:50 AM.

Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.

شات الشلة
Powered by: vBulletin Copyright ©2000 - 2006, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لعيون العرب
2003 - 2011