الفصل السادس :




-١-


أدار كريس المفتاح في قفل الباب ،
فتحه و تقدم إلى الداخل بخطوات متباطئة ..
ترك حقيبته المدرسية تسقط بجانب المدخل ،
و ألقى المفاتيح على المنضدة بجوار المصباح الذي أشعله ،
ثم ارتمى جالسا على الأريكة .. بين أكوام الفوضى التي أزيحت بحركته هذه !

أغلق عينيه و تنهد بتعب ..
هو فعليا يشعر بالمرض بعد ساعات الاحتجاز الثلاث عقب اليوم الدراسي الحافل الذي حظي به.
لا يكاد يصدق بأنه تصرف على ذلك النحو و ضرب كونور ،
مع أنه استحق ذلك .. و رغم أن هذا منحه شعورا منعشا !!
لكن فعله هذا أكد فقط مدى صحة اعتقاد الجميع و ظنهم به ..
شجاع .. بطل !!
ما كانت أي من هذه الأوصاف تنطبق عليه.
فكر أنها يجب أن لا تنطبق عليه ،
إنه ليس كذلك .. و لن يكون يوما كذلك و هذا ما يسعى إليه !!

سمع ضجيجا مكتوما فجأة ،
فأدار رأسه ينظر إلى مصدره ..
من أعلى الدرج المؤدي إلى غرف النوم ، تقدمت إمرأة أربعينية تلبس زي عاملة تنظيف ، و تحمل بين يديها سلة غسيل كبيرة مليئة بالثياب ،
‏
راحت تتذمر و تشكو مخاطبة نفسها بصوت خافت .. و ما إن رأت كريس حتى تجهمت لتمنحه تكشيرة كبيرة !
لم تقل شيئا بل واصلت طريقها نحو المطبخ .. حيث تقبع غرفة صغيرة للغسيل.

تابع كريس ببصره تلك المرأة .. "هاربر" .. التي تأتي مرتين أسبوعيا لتنظيف البيت ،
مستغربا سلوكها العدائي هذا .. دون أن يظهر عليه إهتمام حقيقي بأسبابه !

رن هاتف المنزل فجأة بصوته المزعج المعتاد ..
فـتذمر كريس بعبوس من اضطراره إلى النهوض و السير نحوه !
تحرك بخطوات متكاسلة حتى الردهة .. وقف أمام الهاتف الأحمر الذي راح يضيء برقم مألوف ،
ثم رفع السماعة ليرد بنزق :
_ماذا تريد ؟!!

وصله صوت فرانك بذات النزق تقريبا :
_ليس السؤال عن أحوالك حتما !!

قال كريس مضيقا عينيه لهذه الوقاحة :
_لما تتصل ؟!
بعد أن تركتني اليوم أتلقى كل اللوم لتنفذ بجلدك ، و تدعي أنك صديق مثالي .. أيها التعيس !!

أجابه فرانك بلا مبالاة :
_و لكنك كنت الملوم على كل شيء بالفعل .. لو لم ينطلق لسانك الطويل ليشتم ذلك الأبله لسار كل شيء بسلاسة .. تماما كما أردته !!

قلب كريس عينيه إلى الأعلى بغير تصديق ، قبل أن يقول :
_بسلاسة كما أردته ؟!! مضحك كيف تقول هذا بعد أن بدأت بنفسك ذلك الشجار !!

اعترض فرانك :
_كان ذلك ردة فعل .. على ردة فعل ، إتجاه ردة فعل أخرى !!
كل شيء بدأ لحظة صرخت أنت في وجه كونور .. لكنت حللت المسألة بسلام لولا تدخلك !!

أصر كريس ، غاضبا من هذا الحوار عديم الفائدة :
_بل لكانوا حطموا رأسك الغبي .. ذاك الذي لا يجب على أحد الإهتمام لأمره !!

تحدث فرانك فجأة بتأثر مصطنع :
_أوه ... هل كنت قلقا علي ؟!! هل هذا هو الأمر ؟!!
لقد أدفأت قلبي الصغير حقا !

صاح كريس مغتاظا :
_سأقتلع قلبك الصغير من مكانه أيها المغفل !!

تجاهل فرانك تعليقه و سأل :
_ثم لماذا تتحدث كما لو أني لم أحصل على حصتي من العقاب ؟!!

_ربما فعلت .. لكن ليس ثلاث ساعات احتجاز لأسبوعين !!

_ذلك لأنك غبي بما يكفي لإحضار حيوان أليف إلى المدرسة ، بل و إطلاقه فوق مكتب المفترس روجر .. بصراحة كريس .. "كان ذلك إفراطا في شيء ما" !!
‏
لوح كريس بيده بغضب كما لو أن فرانك أمامه :
_لا تبدأ معي إهاناتك التي لا تندرج تحت أي معنى ، لو أنك أمامي الآن .. للقنتك درسا !!

زفر فرانك بسخرية :
_جرب .. و سألكمك على وجهك !!

_و هو الشيء الوحيد الذي تجيد القيام به دون تفكير بالعواقب !!

_مهلا كريس !

ناداه فرانك بنبرة هادئة بدت دخيلة على حالة الشجار العجيبة تلك بينهما ، ثم تابع بشيء من التعقل :
_لنوقف هذا .. نبدو كحبيبين بائسين على وشك الانفصال !!

قال كريس ساخرا :
_و ستأخذ أنت دور الفتاة النائحة ؟!!

_كريس توقف عن هذا .. لقد كدت أنسى سبب اتصالي ، وافني خارجا بعد نصف ساعة .. سنفعل شيئا أفضل من الشجار عبر الهاتف !!

تمتم كريس رافضا :
_أنا لن أخرج !

_لماذا ؟! أنت لم تخرج منذ بدأت هذه المسألة ، هيا الآن لا تكن متزمتا .. يمكننا التسكع بعيدا حيث لن ترى أي أحد يعرفك !

أجابه كريس :
_لا أستطيع .. لدي ما أفعله ،
لماذا لا تخرج مع جودي ؟ و سيتسنى لكما تبادل نظرات الاعجاب إلى ما لا نهاية !!
‏
أجاب فرانك :
_في الواقع تبدو فكرة أفضل بكثير ، سأتصل بجودي حالا .. و أنت .. ابقى منشغلا بما تفعله أيا كان !
أراك غدا يا صديقي.

_لا أتطلع لهذا !

تمتم كريس قبل أن يقفل الخط.
تنهد بعمق محاولا عدم التفكير في أي شيء حاليا ... ثم تحرك يصعد الدرجات متوجها إلى غرفته ..

لم يفاجئه شكلها المرتب النظيف الذي وجدها عليه خلاف ما تركها هذا الصباح ،
فهذا الترتيب هو ما تفعله هاربر عادة في كل البيت يوم مجيئها !

تخلص كريس من حذائه و جوربيه بجوار الباب على نحو عشوائي ..
ثم رمى بمعطفه فوق السرير المرتب و اتبعه بقميصه دون أن يكترث لحظة بالحفاظ على تنظيم الغرفة ،
أخذ منشفته و توجه إلى الحمام الجانبي ... ليأخذ حماما سريعا !


،*،*،*،*،

‏
كان كريس قد انتهى من حمامه خلال أقل من خمسة عشر دقيقة ..
أخذ معطفه من الجينز الداكن ليلبسه فوق الكنزة البيضاء البسيطة التي ارتداها آنفا مع سروال جينز و حذاء رياضي.
كان يهم بمغادرة الغرفة غير آبه بالفوضى التي أحدثها فيها خلال ذلك الزمن القصير ،
حين لمح فجأة إطار صورة موضوع فوق مكتب المذاكرة خاصته !

توسعت عيناه لرؤية تلك الصورة في تلك البقعة الواضحة .. و وجد نفسه يقطع الغرفة بإتجاهها بخطى سريعة غاضبة ،
رفع الصورة من مكانها و قد احتقن وجهه .. و دون أن يلقي عليها نظرة حتى ، سحب درج المكتب و ألقاها بداخله .. ليعيد إغلاقه بعنف !

بقي واقفا مكانه للحظات .. يشعر بتشنج جسده بسبب التوتر و الغضب ،
أخذ نفسا عميقا و أغلق عينيه ، ثم زفر بقوة ..
ماذا دهاه ؟!! لما كل هذا الانفعال ؟!!
إنها مجرد صورة .. لا تشكل فرقا و لا تعني شيئا !!

حاول أن يهدأ ليستطيع التفكير بشكل عقلاني ..
ثم مد يده ببطء و فتح الدرج من جديد ..
التقط الصورة و رفعها أمامه ينظر إليها ،
يكذب إن قال أنه كف عن الشعور بأي شيء لتلك الذكرى التي تجسدها هذه الصورة لديه !!
ضاقت عيونه العسلية و ازداد لونها الصافي قتامة بسبب تلك المشاعر ..

‏
كان الرجل الثلاثيني العمر ، القوي البنية في الصورة يلبس ملابس تدريب رياضية ،
و كذلك كان الصبي ذي الأحد عشرة عاما الذي بدا شبيها به إلى حد كبير ..
الرجل كان يضحك بحماس ملء شدقيه .. وهو يرفع يد الصبي عاليا علامة النصر ،
في حين بدا الصبي بعينيه المطبقتين .. غير راضي و محرجا من تصرفه !!
بدت الصورة كما لو أنها التقطت في مكان عام .. صالة ما .. ربما مسابقة !!
شيء أعاد لكريس ذكرى لم تسره أبدا ..

أعاد كريس الصورة إلى الدرج .. و أغلقه من جديد ،
كما لو أنه يغلق على تلك الذكرى لتبقى بعيدة.
أطفأ الضوء و خرج من الغرفة على عجل .. هاربا من نفسه !


‏
خاطبته هاربر التي كانت تنظف غرفة المعيشة ما إن رأته ينزل الدرج :
_هل أقمت حفلة هنا أم ماذا أيها الفتى ؟!
تركت كل شيء نظيفا قبل يومين فقط .. كيف لشخص واحد أن يصنع كل هذه الفوضى ؟!!

أجابها كريس بجمود وهو يسير نحو الباب الخارجي :
_لا ندفع لك لتنظفي بيتا نظيفا مسبقا !

أجفلت هاربر لرده الفظ الذي كان تصرفا لم تعتده منه !
و فوجئت حين توقف بغتة و إلتفت إليها مردفا بوجه غاضب :
_و من فضلك .. لا تغيري أماكن الأغراض في غرفتي مجددا سيدة هاربر !!

قالها ثم خطى خارجا من المنزل يصفق الباب وراءه ..
تاركا المرأة المذهولة تحدق في إثره بعينين متسعتين ...


،*،*،*،*،

‏
_إلى ما تنظر أنت ؟!!

هتف فرانك و هو يضرب دمية دب محشو كانت موضوعة فوق رف مرتفع في غرفته ،
بجوار أسطوانات موسيقية قديمة و بعض الكتب المنسية !
سقط الدب البني القديم على الأرض .. و ظل فرانك يرمقه بلؤم بينما ينتظر من شقيق جودي الصغير أن يناديها لتكلمه ،
يرمقه .. كما لو كان الحيوان المحشو هو سبب عبارة شقيق جودي التي استهل الحديث بها قائلا : أن فرانك شخص سيئ .. و غير مسموح لجودي بمخاطبته !!


_مساء الخير جودي !

حياها فرانك بلطف و قد تلاشت التقطيبة التي كانت بين حاجبيه ، ثم قال :
_شقيقك أخبرني بأمر عجيب للتو !

صمت لحظة يصغي إليها ثم ردد مستغربا :
_علم والداك بأمر الشجار ؟!! المدرسة اتصلت بهما ؟!!

تحرك في الغرفة يتبعه سلك الهاتف.

_ماذا تقصدين بأنني و كريس نشكل تأثيرا سيئا عليك ؟!!
ماذا ... ننهي صداقتنا ؟!!!

هتف مفزوعا .. ليطلق تنهيدة ارتياح بعد لحظة :
_اوه أجل .. بالطبع أعلم أن هذا رأي والديك و ليس رأيك ،
آه .. حسنا في الحقيقة .. كنت أريد أن نلتقي .. لا تستطيعين الخروج ؟!!

همهم بخيبة أمل لم يستطع إخفاءها :
_هذا مؤسف .. لا .. لا مشكلة إطلاقا .. أراكي غدا جودي !
‏
أعاد السماعة إلى مكانها بعد نضال دام دقيقة ليفك سلك الهاتف الذي التف حوله ،
ثم زفر بملل :
_حظ سيئ !

عاد ينظر إلى دمية الدب على الأرض ، و قد التمعت عيناها الشبيهتان بزرين كبيرين تحت ضوء الغرفة ، هتف :
_توقف عن التحديق بي !!

التقط الدب عن الأرض و تمتم وهو يعيده إلى مكانه فوق الرف :
_إذا سأل أحد .. أنت لست دمية محشوة .. أنت هدف ملاكمة ، اتفقنا ؟!

نظر إلى الدمية ثم ابتسم بحزن ..
كانت تلك الدمية هي الشيء الوحيد الذي بقي ذكرى تثبت وجودها ،
تلك التي لم يسنح له الوقت لأن يعرفها حتى ..
رحلت سريعا جدا .. رحلت رغم أنها كانت قد استعدت و خططت للبقاء قربه .. حتى أنها ابتاعت له هذه الدمية التي يحتفظ بها الآن كذكرى عنها !


نفض فرانك رأسه يخرج نفسه من جو التأثر هذا ، قال بصوت مرح :
_سأنسى أمر هذه الرفقة التي لا يعتمد عليها و استمتع وحدي !

أعاد شعره الأشقر الناعم إلى الخلف بيده وهو يسير متجها إلى المطبخ .. متمتما :
_فور أن أجد شيئا لآكله أولا !
‏
بدا فرانك مختلفا عن الهيئة التي يتخذها عند خروجه من المنزل عادة ،
دون جل الشعر الذي يثبت شعره وقوفا .. كانت خصلاته الناعمة الآن تكاد تغطي عينيه البنيتين ،
و بدا بقميصه الأسود عديم الأكمام و سروال الجينز الكاكي اللون .. طريفا و ذا مظهر لطيف للغاية !
مظهر كان لا يفضل أن يراه الآخرون عليه ..





*يتبع ،،،

~هذا الجزء الأول من الفصل السادس أعزائي .. و الجزء الثاني في المساء بإذنه ..








‏