من شرفة بيتي [frame="7 70"] من شرفة بيتي اخترت مساء اليوم الاستعاضة عن جلسة مقهى الحي بين الأصدقاء ، بالانزواء في أحد أركان شرفة بيتي . قصد التفرغ لإتمام قراءة الكتاب الذي شرعت في تصفحه منذ مدة ، ولا زلت لم أتمكن من ختمه . ركنت إلى مقعد بجوار مزهرية ضخمة ، تتوسطها شجرة جميلة ناشئة . تحكي بخضرة أغصانها بهجة الحياة الناعمة السعيدة . تقاوم بصمود وتحد كل ألوان تقلبات الطبيعة وتحاكيها . تمثل أدق تفاصيل الحياة في أجل معانيها وأوضح صورها . عدت إلى كتابي ، قلبته يمنة ويسرة ، أعدت قراءة عنوانه : " رواية عائد إلى حيفا " رفعت الكتاب وجذبت دفته الأولى . رميته بسهامي فتجاوزته إلى ما تفضي إليه شرفة بيتي . شوارع ممتدة بعيدة النهاية . صفوف مصابيح الإنارة مصطفة على جنبات المسالك. بنايات شاهقة مترامية هنا وهناك . تتخللها حدائق وملاعب ومنتزهات . انشغلت عن هذا وذاك ، بتتبع حركة السير بملتقى الشارعين المتقاطعين عند ركن المجمع السكني الذي أنتمي إليه . وكأني أشاهدها لأول مرة في حياتي . حركة منضبطة بإشارات مصابيح كهربائية . ملتزمة بالاستجابة لوصول التيار ونوع اللون الذي يصدره . قوافل السيارات وأفواج الراجلين تتناوب الحق وتنصاع بتلقائية وطواعية . ناذرا ما يحدث خلل أو تجاوز . وكلما حل الخلل صاحبه الجزاء بوقوع كوارث لا تحتمل. عجيب أمر هذا الاضباط . مساطير اقتبسها الإنسان على منوال نواميس الكون وقوانينه . كل فيه يسير بقدر ... ومتى اختل توازن أو حدث تجاوز ، حل العطب والاضطراب . كما في : السقم بعد سلامة .. والراحة بعد تعب .. والكسب بعد عمل .. والخوف بعد أمان .. والفشل بعد استسلام وهوان .. وهي سنن قائمة على مقياس : لا إفراط ولا تفريط . وإلا كان الجزاء على قدر التجاوز. أخذت نفسا عميقا وتذكرت كتابي . وضعت عليه يدي هاما بتناوله . فدنت إحدى خمائل شجرة المزهرية ، مستجيبة لترانيم النسيم فلامست بلطف ظهر يدي . سرت شرارة ملمسها عبر عروقي ، فنبهتني وصبت سيلا من الاستفهامات عبر شرايين مخيلتي . فرددت مع نفسي : يالجمال وفتنة هذه الشجرة ! هل تدري بهاء رونقها وقوة جاذبيتها ؟ وهل تعي قدر ما تضفي على المكان من جمال وجلال ؟ أم أنها تعيش كغيرها - فقط - لتستهلك و تفنى ؟ ركزت اهتمامي عليها . أغصانها الفتية تطل من نوافذ بالجدع ، بترتيب فسيفسائي بديع ، خطته وقدرته يد أمهر الصناع وأحذقهم . لكل غصن حيزه وزاده ، ينطلق من مصدره شرارة قاصدة عنان الفضاء . الأغصان تجاري نسيم أيامها ورياحها صباح مساء . تنعم بسكون لياليها متزودة بما أغدق عليها الفضاء من بخار وغبار وماء . تستقي منها كل حين زادها ودواءها تصبح مشرقة متلألئة ، وتمسي منكسة الهامة مطأطأة الرأس . لعلها تعاني بدورها كما نعاني . ولا تبث شجونها كما نبث ، ولا تتبرم كما نتبرم . أراها واجمة مصغية متأملة . فهل هي الآن منشغلة بحل ألغاز أفكاري قبل النطق بها ؟ وهل بإمكانها صياغة ردود مقنعة ملائمة أفهمها ؟ أيتها الفاتنة الصغيرة .. إذا عجز لسانك .. فأفصحي بحال مقامك. وعبري عما تتقاذفه الأمواج في أعماقك . بعد هدوء مطبق ، ووجوم متبادل بيننا ، اهتزت كل أطرافها ، وكأنها أصغت لهمسي وبعثت إشارة تعجم عودي وتوجه قوسي . انطلقت أقص الشجون . أعد المراثي . أصنف الأحداث وفق ما خلفت من رزايا وآلام . اقتربت الخميلة التي صافحت يدي ، وأخذت تربت على كتفي . تواسيني وتردد : لو كنت حكيما لنظرت إلى السقيم المحروم مما أنت به تتمتع . وتذكرت الجائع وقت ازدحام مائدتك بما لذ وطاب . ولأشفقت على البائس حين اقتنائك وارتدائك أزهى وأثمن الأثواب . ولأحسست بلوعة أهل المفقود لما تستقبل عائدا من ذويك بعد طول غياب . إنك - في نظري - ترفل في حلل نعيم العافية الحقة . وتزهو بالأنس والرخاء والهناء المقيمة ، دون شعور منك ولا اكتراث .... الشمس تميل نحو الغروب ، تستعد لإرسال مراجلها فوق مدرج قمة الجبل هناك .تطرزمرمرا بمرثية الأشجان ، وترسل أهازيج مرتلة عبر أوراق الشجيرة المنتصبة هنا بجواري . أدرت وجهي نحو مخاطبتي وقلت : أفحمتني وختمت على لساني ... وأنت ... قبل البوح بما أطلب ، قال لسان حالها : حالي يكفيك عن التساؤل عني . ألا ترى أني مجرد أثاث آني ، وفرجة عابرة ؟ أحس بكوني صغيرة ضئيلة في موقعي وفي أعين الناس . أعيش فقدانا ماحقا وغربة قاتلة . أشعر بالضيق والحسرة تخنقني . تمنيت لو أني على ضفاف نهر متدفق . أو على عتبة سفوح جبل شاهق . أشكل مع غيري الأدغال الكثيفة ، والغابات الموحشة . أنطلق من منبتي شهابا صاعدا أخترق كتل المزن ، وأسهم بدوري في خدمات تنقية الفضاء ، وتوفير النقي الصالح من الهواء ، وتشكيل وجه الطبيعة الخلابة الفيحاء ، وأنهل وأرتوي ، وأنأى بنفسي عن بصمات الوهن ، ونظرات الاستخفاف ، وعبث الكبار والصغار ... الشمس تستعد للرحيل . تبعث خيوطا ذهبية مودعة قبل الانغماس في ظلمة الشفق . أقفل النسيم . هدأت الأغصان . غارت المناجاة . أسمع دبيب صوتها يبتعد ويأفل رويدا رويدا ، ممتطيا أشعة النور التي انسحبت مع ترجل قرص الشمس ، وحبوه نحو مستقره. بعدهنيهة ... مات النهار . أشاهد الجنازة ترتفع أمامي في افق البحر الغارب . غادرت بدوري ، تابطت - كعادتي - كتابي وانصرفت عبر مسالك الزمان في هدوء ... بقلمي [/frame] |
الساعة الآن 07:42 AM. |
Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.
شات الشلة
Powered by: vBulletin Copyright ©2000 - 2006, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لعيون العرب
2003 - 2011