عيون العرب - ملتقى العالم العربي

العودة   عيون العرب - ملتقى العالم العربي > عيـون القصص والروايات > روايات طويلة

روايات طويلة روايات عالمية طويلة, روايات محلية طويلة, روايات عربية طويلة, روايات رومانسية طويلة.

Like Tree10Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
  #11  
قديم 07-13-2016, 01:39 AM
 
مذهل هذا الرجل, بكلامه المربك كصمته, ومنطقه المعقد والبسيط في الوقت نفسه, وأجوبته التي ليست سوى رؤوس أقلام.. لأسئلة أخرى.
وبرغم أنه لم يترك لي مجالا لطرح أي سؤال "طبيعي" فقد اكتشفت في قوانين منطقة شرعية احراجه, واستدراجه لقول حقيقة.. لن تؤخذ منه إلا بالمقلوب!
ولذا بادرته قائلة بشيء من السخرية:
- أنت رجل يغري بطرح الأسئلة معكوسة.. فهل لديك شجاعة كافية للرد على أسئلتي؟
أجاب بتحد مازح:
- هذا عائد إلى ذكائك!
رفعت التحدي. وطرحت سؤالي الأول:
- أي اسم كنت تريد أن تحمل؟
وجاء جوابه مدهشا:
- الاسم الذي اخترته لي في كتابك.. إنه يناسبني
كان يضحك وهو يجيبني.
ولم أصدق ما سمعت. جوابه كان يعني أنه يدري من اكون. ولكن, من تراه يكون هو.. ليتحدث إلي وكأنه خارج توا من قصتي؟
أجبته كمن يمزح:
- ولكن.. أنا لم أختر لك اسما بعد..
رد بالسخرية نفسها:
- فليكن.. يناسبني تماما أن أبقى بلا اسم!
- ولكن هذا يزعجني.. ألا يمكنك أن تخلع قليلا من غموضك؟
- وحده الحب يعرينا يا سيدتي..
- هل أفهم أنك لست عاشقا..؟
بقي سؤالي معلقا إلى صمته, فتداركت خطأي, وأعدت طرح السؤال بصيغة أخرى.
- هل حدث للحب أن عرّاك؟
- حدث ذلك مرة واحدة. بعدها لبست خيبتي ولم أخلعها بعد.
قلت بنشوة أنثى:
- إذن ليس في حياتك امرأة؟
أجاب:
- كم يلزمني من الصمت يا سيدتي.. لأرد على أسئلتك؟
كان علي أن أفهم "كم يلزمني من الصبر يا سيدتي لأرد على فضولك" أو ربما "لأرد على أسئلتك الغبية"..
ولكن هذه الإهانة المهذبة ليست ما استوقفني. وإنما كلمة أخرى شديدة التهذيب.
سألته:
- لماذا تناديني "سيدتي".. من أخبرك أنني متزوجة؟
- ابتسم وقال:
- ثمة نساء خلقن هكذا بهذا اللقب.. جئن العالم بهذه الرتبة. وأية تسمية أخرى هي إهانة لأنوثتهن.
وقبل أن أسعد بجوابه, واصل بعد شيء من الصمت:
- ما عادا هذا فحالتك المدنية لم تعد تعنيني..
صيغة النفي في جملته الأخيرة, فاجأتني. شعرت أنها تخفي سابق ما. أو أمرا لا يريد الإفصاح عنه.
سألته:
- لماذا قلت "لم" تعد تعنيني.. وليس لا تعنيني؟
رد بسؤال كاذب:
- أقلت هذا حقا؟
وصمت.

كان واضحا أنه يعرف شيئا عني. والمزعج, أنني لم أكن قد عرفت بعد شيئا عنه. ولذا قررت أن أواصل التحدي مستعملة طرقه المقلوبة, في طرح الأسئلة.
قلت:
- لم يحدث أن التقيت بشخص يشبهك في هذه المدينة, بي فضول لمعرفة أي مدينة تسكنك؟
ولكنه رد ساخرا وكأنه اكتشف الهدف من سؤالي:
- لن يفيدك جوابي في شيء. أنا كالكتاب الذين يسكنون مدينة كي يكتبوا عن أخرى. أسكن مدينة, لأتمكن من حب أخرى. وعندما أغادرها, لا أدري أيهما كانت تسكنني.. أيهما سكنت. أنا حالياً شقة شاغرة. غادرت قسنطينة عن حب.. وغادرتني هي عن خيبة!
- أأنت من قسنطينة؟ عجيب.. توقعت أن تكون غريبا عنها.
- لنقل إنني كذلك.
- وماذا تعمل في الحياة؟ ..أقصد ما كنت تريد أن تكون؟
قال ضاحكا لاستدراكي, وللنبرة الساخرة التي صححت بها سؤالي:
- في الواقع كنت أريد أن أكون ممثلا.. أو روائيا, كي أعيش أكثر من حياة.. إن حياة واحدة لا تكفيني. أنا أنتمي إلى جيل يعاني أزمة عمر, وأنفق حياته قبل أن يعيشها.
وأضاف:
- ما عدا هذا.. أنا رسام, وراض تماما عن مهنتي, لأنني لا أفعل بيدي إلا ما أريد.
قاطعته مندهشة:
- أنت رسام؟!
- وماذا توقعت أن أكون؟
- لا أدري .. ولكن..
- ولكن ماذا؟
- كنت أعرف في السابق رساما من قسنطينة.. تذكرته اللحظة.
أذكر أنه كان مهووسا بها إلى درجة أنه لم يكن يرسم سوى..
قاطعني قائلا:
- سوى الجسور.!
صحت:
- هل عرفته أنت أيضا؟
ابتسم وقال:
- لا.. ولكن, أتوقع لرسام يحب هذه المدينة, أن يرتكب حماقة كهذه.
- ولماذا تسمي هذه حماقة؟
- لنقل أنني لا أحب الجسور..
- عجيب.. لقد قضى هو أشهرا في إقناعي بالعكس, توقعت أن يحب الرسامون المعالم نفسها.
أطفأ سيجارته وكأنه يريد أن ينتهي من موضوع مزعج وقال:
- ما أدراك.. ربما يكون قد غير رأيه منذ ذلك الحين.. وحدهم الأغبياء لا يغيرون رأيهم!



استنتجت أن حديثي عن قسنطينة يزعجه؛ فرحت أبحث عن موضوع أستدرجه به إلى الكلام. وقبل أن أنطق قال وهو يتأملني:
- أحبك في هذا الثوب .. الأسود يليق بك..
- حقاً؟
- حقاً. ولكن أكثر من هذا اللون. أحب المصادفة التي جعلتنا نرتد اللون نفسه اليوم أيضا. مازلت أذكر ذلك الثوب الذي كنت ترتدينه يوم رأيتك أول مرة. حتى إنني كما في قصة ذلك الأمير الذي لم يبق له من (سندريلا) سوى حذاء ليتعرف به إلى فتاة لا يعرف سوى مقاس قدمها, أتوقع أنني لو رأيت امرأة ترتدي ثوبا من الموسلين للحقت بها, متأكدا من كونها أنت.
نفض سيجارته ببطء وواصل:
- الذي أحزنني يومها. هو أنني لم أستطع أن أتبادل معك ولو كلمة واحدة. كل الأضواء كانت ضدنا. ربما لأننا كنا الأجمل في زفاف كان لغيرنا. أذكر.. كانت الفرقة الموسيقية تعزف أغاني للفرح, عندما توقفت فجأة, وراحت تعزف موسيقى الدخلة إيذاناً بقدوم العروسين. واصطف على الجانبين نساء في كل زينتهن التقليدية, يضربن على البندير والدفوف. في تلك اللحظة بالذات, كنا ندخل مصادفة معاً, مرتدين اللون نفسه, عندما انطلقت زغاريد النساء حولنا. لم نكن العروسين, وجدنا هناك خطأ في تلك اللحظة, وذلك المكان بالذات. فقد كنا سابقين للعروسين بخطوات فقط. ولكن كان مرورنا معا في تلك اللحظة هو الخطأ الأجمل. فبعدنا بدا الموكب الشرعي أقل تألقا في بياضه. لم يغادرني هذا المشهد أبدا بع ذلك لسنوات. لكأنهم زفوك إلي وهما في ذلك الثوب الأسود.
سحب نفسًا من سيجارته ثم واصل:
- أذكر يومها تبعثرنا ارتباكا في تلك القاعة. رحت تحادثين آخر, ورحت أحادث أخرى باهتمام مقصود. أخذ كل واحد منا مكانا في مجلس مختلف, تفاديا لمزيد من الأضواء والأخطاء. ولكننا لم نذهب أبعد من بعضنا بعضا. لقد كنا متقابلين حتى في تجاهلنا المتعمد أحدنا للآخر. لا أعتقد أن تكوني قد اشتهيتني في البدء, ولا أنا اشتهيتك. الحب هو الذي اشتهانا معاً, وحلم ببطلين يشبهاننا تمامًا ليمثلا دورا على هذا القدر من الغرابة.
كنت أستمع إليه. دون أن أجرؤ على مقاطعته بكلمة. وجدت في صمتي ملاذاً, وإيهاما له بأنني أعرف كل هذا, إضافة إلى تلك الحالة الجمالية التي يضفيها الصمت في مواقف كهذه.
شعرت أنه يتحدث عن امرأة غيري. فأنا لا أذكر أنني ذهبت إلى زفاف بمفردي ولبست ثوبا كهذا, لأنني لا أملك أصلا في خزانتي أي ثوب من الموسلين الأسود. ولو حدث هذا, ودخلت قاعة زفاف خطأ, صحبة رجل غريب على هذا القد من التميز, لما كنت نسيت ذلك. ولا كانت هذه المدينة التي تحترف الإشاعات, منحتني فرصة النسيان.
خفت أن أصارحه, فأكسر كثيرا من جمالية وهم كل منا بالآخر. فبقيت صامتة, كي استمتع بوضعي الملتبس بين امرأتين, واحده يطاردها لأنها ترتدي الأسود, والأخرى تطارده لأنه قال "قطعا".
في النهاية.. كان كلانا بالنسبة إلى الآخر سندريلا والأمير في الوقت نفسه. وكان هذا أغرب ما في قصتنا!
لم أجد شيئا أعلق به على كلامه. سوى جملة أردتها أن تحمل أي تفسير:
قلت:
- كم لنا من البدايات لقصة واحدة!
أجاب:
- ولهذا كنت واثقا تماما, أننا سنلتقي. بل إنني تصورت لنا لقاءً مشابها لهذا..
ثم توقف قليلا وواصل:
- أتدرين لماذا تركت لسائق التاكسي حرية اختيار مكان لنا, وجازفت بموعدنا الأول؟
وقبل أن أسأله "لماذا؟" واصل:
- لأنه في الحب أكثر من أي شيء آخر, لابد أن تكون لك علاقة ثقة بالقدر. أن تتركي له مقود سيارتك. دون أن تعطيه عنوانا بالتحديد. أو تعليمات صارمة, بما تعتقدينه أقصر الطرق. وإلا فستتسلى الحياة بمعاكستك, وتتعطل بك السيارة. وتقعين في زحمة سير.. وتصلين في أحسن الحالات متأخرة عن أحلامك!
قلت:
- إن أمرا كهذا يتطلب كثيرا من الصبر. وأنا امرأة لا تعرف الانتظار.
أجاب:
- أنت لم تعرفي الحب إذن!
قلت:
- بل عرفته.. ولكن معرفتي به لم تزدني إلا عجلة. ولهذا ربما.. كثيرا ما أخطأت. علمني الحب أن لا أصدقه فما استطعت. وعلمني أن أتعرف إليه قبل أن أحتفي به, فما استطعت. مازلت أمام قطار الحب, أرى في كل نازل قدومه, فأحمل عنه أمتعته, وأسأله عن رحلته, وعن مهنته, وعن أسماء المدن التي مر بها, والنساء اللاتي مررن به, ثم أكتشف وهو يحادثني, أنه أخطأ بين قطارين وجهته.. فأذهب نحو حب آخر, وأتركه مذهولا من أمري جالسا على حقيبته!
كان يستمع إلي بشيء من الاهتمام, الذي قد يكون سببه احتمال أن يكون هو أيضا, في تلك اللحظة جالسا على حقيبته.. دون علمه.
ألهذا قال وهو ينفض رماد سيجارته في المنفضة ببطء مدروس:
- أتمنى أن تغادري بعد الآن هذه المحطة..
ساد بيننا شيء من الصمت, الذي لم أعرف كيف أكسره سوى بسؤال بدا لي ساذجا بعد جملة كهذه.
كان الأصح أن أقول "كيف؟" ولكنني سألته:
- لماذا؟
وجاء الجواب مباغتا في صرامته:
- لأنني آخر راكب ينزل من هذا القطار. لقد كان الطريق إليك طويلا. بعدي توقفت كل الرحلات. فلا تنتظري شيئا يا سيدتي.. لقد أعلنتك مدينة مغلقة!
كيف يمكن لامرأة أن تقاوم رجلا ثملا بهذا القدر من الكبرياء؟
وهل ثمة أجمل من حب يولد بشراسة الغيرة, واقتناعنا بشرعية امتلاكنا لشخص ليس لنا.. نراه لأول مرة!
كان على قد من إغراء الرجولة في تلقائيتها. وهو يلفظ هذا البلاغ العشقي الأول بهدوء مربك في ثقته, بحيث لم يبق من مجال لسؤال منطقي مثل "بأي حق تقول هذا؟" فقد وقعت بجملة, تحت سطوة الحب وجنونه, ورحت أتبادل معه حوارا خارج المنطق:
- ولكنني لا أعرف عنك شيئا..
- هذا أجمل.
- ولا تعرف عني أكثر من وهم الموسلين..
- لا يهم..
- وتعتقد أنك قادر على إيقاف صفير القطارات وندائها السري داخلي..؟
- قطعا..
- وهل تظن أنه من السهل أن نكون عاشقين.. في هذا الزمن المضا للحب؟
- طبعا
- ولكننا نذهب نحو تورط عشقي..
- حتما يا سيدتي!
- وقبل أن أجمع دهشتي لأضيف شيئا. كان يرفع يده ويطلب من النادل الحساب.. وسيارة أجرة.
وما هي إلا دقائق حتى كنا متجهين معا صوب فراق, ونحن بعد مقبلان على حب.
عطره كصوتي. لم يكن هذه المرة مرتفع النبرة.
سألته:
- متى نلتقي؟
أجاب:
- سأتصل بك.
لم يترك لي من فسحة سوى لعلامة تعجب.
- تتصل بي؟ كيف؟
وجاء الجواب هادئا:
- لا تقلقي.. أعرف كل شيء.
- ولكن..
- أعرف.
كانت السيارة تنزل بنا نحو ضجيج قسنطينة الاعتيادي.
وكنا منعطفا بعد آخر نتسلق حبا شاهقا في صمته التصاعديّ.
فجأة, طلب من السائق أن يوقفه أمام ضوء أحمر, ومدّه أمام دهشتي بورقة نقدية.. وبعنواني كاملا, طالبا منه أن يوصلني حتى الباب. ثم انحنى نحوي وكأنه سيضع قبلة على خدّي.. ولكنه لم يفعل. همس في أذني: "من الأحسن أن لا نعود معاً؛ هذا أكثر أمانا لك" ثم أضاف كمن نسي شيئاً: "سأشتاقك".
وغادر السيارة.. ليتركني تحت وقع المفاجأة.

* * * *
رد مع اقتباس
  #12  
قديم 07-13-2016, 01:42 AM
 
هو الحب إذن..
دوماً.. يقدم لي أوراقه الثبوتية على هذا النحو.
في حالة من انسياب العواطف, يأتي رجل لا أحتاط من بساطته, أطمئن نفسي بكونه ليس هو الأجمل, ولا هو الأشهى, وفي تلك اللحظة التي أتوقعها الأقل, يقول كلاما مربكا, لم يقله قبله رجل. وإذ به يصبح الأهم.

غالبا.. وأنا ألهو باندهاشي به تبدأ الكارثة.
الحب ليس سوى الوقوع تحت صاعقة المباغتة!

مرةً أخرى.. ها هو ذا يذهب ويتركني معلقة إلى علامات الاستفهام. تنتابني حالة لم أعرفها من قبل: مزيج من أحاسيس عجيبة تفاجئني وأنا أغادر تلك السيارة, وأسرع نحو البيت ببراءة امرأة عائدة من السوق, أو من زيارة, لا من موعد في مكان لا تعرفه مع رجل لا تعرفه. ولكنه يعرفها!

أغلق باب غرفتي. أخلع بسرعة ثوبي الأسود, وكأنني أخلع تهمة على عجل.
أجلس على طرف سريري منهكة, مبعثرة تائهة النظرات. أحاول أن أفهم ما حدث لي تماما, أن أستعيد كل الذي قاله ذلك الرجل في ساعة ونصف, كل تفاصيل حوارنا الذي لم يسألني فيه سوى سؤال أو سؤالين, بينما طاردته أنا بالأسئلة دون جدوى, ما دمت قد عدت في النهاية بأسئلة أكثر , لم أكن أتوقع معظمها. ليس أقلها: من يكون هذا الرجل؟ ومن أين له كل تلك المعلومات؟ وكيف يعرف حتى عنوان بيتي؟

طبعًا, في منطق الأشياء كان يجب أن أعرف عنه أكثر مما يعرف عني, مادام ليس إلا بطلا في قصتي.
ولكن, أصبح إبداعي الآن يقتصر على التحايل عليه, لاكتشاف قصتي الأخرى وهي تُروى على لسانه. كتلك اللحظة التي حدّثني فيها عن موعدنا الأول, وعن ثوب الموسلين الأسود الذي كنت أرتديه يومها. وكان يمكن أن أصدق احتمال لقاء كهذا.. لو أنه كان يوجد في خزنتي ثوب من الموسلين الأسود.
ولم أقاطعه عمدا, ولا علقت على كلامه؛ اكتفيت بالاستماع إليه باندهاش مستتر, وربما بغيرة سرية من تلك المرأة التي فجّرت فيه يوما كل هذه الأحاسيس الجميلة.

قادتني هذه الفكرة إلى اكتشاف فاجأني.

لقد ولدت قصتي معه, أيضا في لحظة غيرة. فقد كان هو الرجل الذي كنت أبحث عنه لأقيس نفسي به. ولذا منذ البدء لم يفارقني إحساس بالغيرة منه والغيرة عليه, ورغبة في قتل تلك المرأة والحلول محلها, دون أن أترك بصماتي على عنق الكلمات.


منذ البدء, لا هاجس لي سواها. حتى إنني سألته مرتين إن كان في حياته امرأة, وأجابني في المرتين بالنفي. وربما كان هذا أجمل ما قال لي.
طبعًا لم يكن هناك من مبرر لسعادتي؛ فأنا ما زلت أذكر ذلك الذي سألته في أول موعد لنا: "هل في حياتك امرأة؟" وأمام فرحتي بجوابه, أضاف "لا تفرحي.. من الأفضل أن تحبي رجلاً في حياته امرأة.. على أن تحبي رجلاً في حياته قضية. فقد تنجحين في امتلاك الأول, ولكن الثاني لن يكون لك.. لأنه لا يمتلك نفسه!".

ولم أمتلكه. أخذته مني تلك القضية إلى الأبد. ولا استفدت برغم ذلك من نصيحته: ما زلت في الحياة أحب الرجال الذين في حياتهم قضية, وفي الروايات, أحب الأبطال الذين في حياتهم امرأة.
وكان أجدر بي.. لو فعلت العكس!


ذات لحظة, راودني احتمال أن يكون في حياة هذا الرجل أيضاً قضية ما, تبرر حزنه الباذخ, ونوبات صمته, ونزعته إلى التهرب من الأسئلة. وهي صفات كثيراً ما خبرتها في هذا النوع من الرجال.
ولكنني استبعدت احتمالاً كهذا. فقد انتهى زمن القضايا الكبيرة, والقضايا الجميلة, التي كانت تجعل جيلا كاملا من الرجال يبدو أكثر عنفوانا وتألقا مما هو.

في الدكاكين السياسية, التي يديرها حكام زايدوا علينا بدهاء في كل قضية.. باعونا "أم القضايا" وقضايا أخرى جديدة, معلبة حسب النظام العالمي الجديد, جاهزة للالتهام المحلي والقوميّ. فانقضضنا عليها جميعا بغباء مثاليّ. ثم متنا متسممين بأوهامنا, لنكتشف, بعد فوات الأوان, أنهم مازالوا هم وأولادهم على قيد الحياة يحتفلون بأعياد ميلادهم فوق أنقاضنا .. ويخططون لحكمنا للأجيال القادمة.

ولذا.. منذ "تلك القضية" انقرض الحالمون, وسقط فرسان الرومانسية من على خيولهم!

توصلني هذه الخواطر إلى زوجي الذي لم أمتلكه أيضاً. لا لكوني أقتسمه مع امرأة أخرى "شرعية".ولكن لأنه ملك للمسؤولية. ولأن الكرسي هو قضيته الوحيدة.

في النهاية, أكاد أصل إلى نتيجة مخيفة: الحب قضية محض نسائية. لا تعني الرجال سوى بدرجات متفاوتة من الأهمية, بين عمرين أو خيبتين, وعند إفلاس بقية القضايا "الكبرى".

أمن هنا يأتي حزن النساء.. أمام كل حب؟

فجأة ينتابني إحساس بالخوف من هذه القصة التي ستؤلمني حتماً. وبرغم ذلك أتوقع أن أنجرف نحوها دون رادع, ودون الاستفادة من كل ما تعلمته في الحياة.
في مواجهة الحب, كما في مواجهة الموت, نحن متساوون. لا يفيدنا شيء: لا ثقافتنا.. لا خبرتنا.. ولا ذكاؤنا.. ولا تذاكينا.
نذهب نحو الاثنين. مجردين من كل الأسلحة.. ومن كل الأسئلة.
وأنا التي واجهت الحب عزلاء دائما, أتوقع أن يأخذ بعين الاعتبار, شغفي بهزائمه. ويعوضني عن ل خسارة معه بخسارة جميلة أخرى.
ولذا لم يعنني يوما, أين هو ذاهب بي حصان الحب الجامح. مادامت حريتي معه تقتصر على الموت بسببه.. أو الموت دونه!

ما يشغلني حقا هو كيف أواصل كتابة هذه القصة بالنزاهة نفسها.
كيف لي بعد الآن, أن أكون الراوية والروائية لقصة هي قصتي. والروائي لا يروي فقط. لا يستطيع أن يروي فقط. إنه يزور أيضا. بل إنه يزور فقط. ويلبس الحقيقة ثوبا لائقا من الكلام.
ولذا فإن كل روائي يشبه أكاذيبه, تماما كما يشبه كلّ امرئ بيته.

وصلت إلي هذه الفكرة وأنا أتذكر ما قرأته عن الكاتب الأرجنتيني بورخيس الذي أصبح أعمى تدريجيا, والذي كان عندما يصل إلى مكان, يطلب من مرافقه, أن يصف له لون الأريكة, وشكل الطاولة فقط. أما الباقي, فكان بالنسبة إليه "مجرد أدب". أي بإمكانه أن يؤثثه في عتمته.. كيفما شاء.
عندما تعمقت في منطقه, اكتشفت أن كل رواية ليست سوى شقة مفروشة بأكاذيب الديكور الصغيرة, وتفاصيله الخادعة, قصد إخفاء الحقيقة, تلك التي لا تتجاوز, في كتاب, مساحة أريكة وطاولة. نفرش حولها بيتا من الكلمات, منتقاة بنوايا تضليلية, حد اختيار لون السجاد.. ورسوم الستائر.. وشكل المزهرية.

ولذا.. تعلمت أن أحذّر الروائيين الذين يكثرون من التفاصيل: إنهم يخفون دائما أمراً ما!
تماماً, كما يحلوا لي أن أتسلى بقراء يقعون في خدعتها, بحيث لا ينتبهون لتلك الأريكة التي يجلسون فوقها طوال قراءتهم لذلك الكتاب متربعين على الحقيقة.
منذ الأزل.. وأنا أبحث عن قارئ يتحداني, ويدلني أين توجد "الطاولة" و"الأريكة" في كل كتاب!
زوجي مثلاً, لم يوفق يوما في تمييز الأثاث الحقيقي عن الأثاث المزيف في أي نص كتبته. ولذا أصبح يبدي انزعاجه من جلوسي لساعات أمام طاولة الكتابة, بدل تخصيص هذا الوقت لطفل لا يأتي, دون أن يعترف تماما بأن ما يزعجه هو الكتابة في حد ذاتها. كعمل مواجهة, ومراوغة صامتة. لم يستطع _ برغم إمكانياته البوليسية_ التجسس على مصداقيتها.
وبدل أن يواجهني بحقيقة أفكاره, راح يوجّهني من طبيب إلى آخر. ويبعث بي من مدينة إلى أخرى, ليحوّل الأمومة مشكلتي وقضيتي الأولى.
لم أعد أذكر كم زرت من الأطباء بتوصيات خاصة, وكم من أضرحة للأولياء أجبرتنني أمي على التبرك بها.

سنتان وأنا أرافقها دون اقتناع. وحتى دون رغبة حقيقية في "الشفاء" من عقمي.
يمكنني أن أقول بأنني كنت أذهب فضولاً.. وربما استسلاماً لا أكثر.
أحيانا, أحب استسلامي. يمنحني فرصة تأمل العالم دون جهد. وكأنني لست معنية به.
في الواقع, أثناء ذلك أكون في حالة كتابة.. صامتة.

كهذا المساء, أتوقع أن أمارس عادتي في الكتابة, صمتًا, وأنا أتفرج على زوجي, وهو يخلع بذلته العسكرية, ليرتدي جسدي للحظات, ثم.. يغرق في النوم.

دوماً, كان ضابطاً يحب الانتصارات السريعة حتى في سرير.
وكنت أنثى تحب الهزائم الجميلة, والغارات العشقية التي لا تسبقها صفارات إنذار.. ولا تليها سيارات إسعاف, وتبقى إثرها جثث العشاق أرضاً.
بي افتتان بقصف عشوائيّ, يموت فيه الأبرياء عشقاً.. على مرمى اشتهاء, دون أن يكون لهم الوقت ليسألوا: لماذا؟
تمنيت أحيانا, لو أنه مارس الحب معي دون أن يخلع بذلته. ربما كان ببذلته تلك, فتح له طريقا إلى جسدي بالقوّة.
فقد كنت دائما مأخوذة بقوته.
ولكنّه هذه الليلة أيضاً لن يفعل. لأنه يخاف عليها أن "تتجعلك".
وربما –فقط- لأنه رجل بلا خيال. بل بالأحرى هو ينفق خياله وذكاءه خارج هذا السرير.
في النهاية, الرجال الذين خلقوا لكرسيّ, لم يخلقوا بالضرورة لسرير. والذين يبهروننا بثيابهم ليسوا الذين يبهروننا بدونها.
والمشكلة أننا نكتشف هذا فيما بعد!
الليلة أيضاً, سأسترق النظر إليه وهو يخلع قوته ويرتدي منامته.
وأستعيد دون قصد ذلك الحوار الجميل في مسرحية ألبير كامو "حالة حصار".
- اخلع ثيابك!.. عندما يغادر رجال القوة بذلتهم لا يكونون جميلين للرؤية.
ويأتي الجواب:
- ربما.. ولكن قوتهم تكمن في اختراعهم لتلك البذلة!

طبعا.. فاللباس ليس سوى "الإشعار" الذي نريد إيصاله إلى الآخرين. ولذا ككل إشاعة, هو يحمل دائما نية التضليل, حسب منطق ذلك الرجل الباذخ الحزن, والذي يرتدي الفرح إشاعة.
وهكذا, تكمن عبقرية العسكر, في اختراعهم البذلة العسكرية التي سيخيفوننا بها.
ويكمن دهاء رجال الدين, في اختراعهم لثياب التقوى التي سيبدون فيها وكأنهم أكثر نقاءً وأقرب إلى الله منّا.
وذكاء الأثرياء, في اختراعهم توقيعات لكبار المصممين. كي يرتدوا من الثياب ما يميزهم عنّا, ويضع بيننا وبينهم مسافة واضحة!
وهو.. لماذا تراه اختار الأسود؟
أم ليأتي مطابقا للون جئته فيه مصادفة. واختارته لي الحياة بنية التضليل, كي أعطيه إشعارا كاذبا.. بأنني "هي"!



* * * *




عشرة أيام من الترقب الصامت.
حاولت خلالها أن أتجاهل أنني أنتظر شيئا. ولكنني لم أستطع أن أفعل غير ذلك.
كنت لسبب غامض, واثقة من أنه سيتصل بي, بطريقة أو بأخرى. ولكن الحياة كانت تكذب حدسي يوما بعد آخر.
هو نفسه لم يقل شيئا وهو يودعني عدا "سأشتاقك".
كان رجلا يعيش خارج الزمن. فكيف وجدت في هذه الكلمة وعداً بشيء ما؟
كان اليأس يتسلل إلي تدريجيا, ليكتسح مساحات شاسعة, ملأتها أملا. حتى إنني أصبحت لا أغادر البيت خوفا من أن يأتي هاتفه أثناء غيابي.
ولكن الهاتف لم يكن يحمل سوى ثرثرة أمي ومشاريعها العادية.
منذ قليل طلبتني لتخبرني بأنها ستحضر لقضاء اليوم معي, مستفيدة من تغيب زوجي ليومين.
ما إن فتحت لها الباب.. حتى أطلقت علي وابل أسئلتها وهي تتأملني مذعورة كعادتها:
- واش بيك يا بنتي.. زيّك ما عجبنيش..
"ماذا بي؟" أكاد أضحك لسؤال كان لابد أن تطرحه عليّ بالمقلوب, على طريقة ذلك الرجل, كي أجيبها عما ليس بي. فذلك أسهل عليّ.
أصمت لأنها في جميع الحالات لن تفهم.
تواصل:
- راني جبت لك معاي شوية "بسيسة" حمصتها لك البارح.. درُك ندير لك بيها صحن "طمّينة".. غير تاكليها تولّي زي الحصان..
من قال لأمي أنني أريد أن أصبح مثل الحصان؟
رد مع اقتباس
  #13  
قديم 07-13-2016, 01:42 AM
 
كان يبدو على سلوكهما توتر واضح. كانا في مقتبل العمر, ويمسكان بمسدسيهما بعصبية, وكأنهما منذ اللحظة التي اكتشفا فيها أنه ليس هنا من أمل في إنقاذه, أصبح همهما أن ينجوا بنفسيهما من تلك الحلقة البشرية التي التفت حولهما, والتي قد يكون بينها قاتل آخر, يحلم باقتناص رأس أي شرطي كان.
تأمل أحدهما السيارة, ثم رقمها بإمعان. استنتج بسرعة رتبة صاحبها ووظيفته. فذهب نحو ذلك الجسد الممد أرضاً, وأخذ المفاتيح من تلك اليد التي انغلقت عليها, وكأن عمي أحمد كان يريد أن يفتح السيارة على عجل ويهرب بي من خطر توقعه بحدسه العسكري, أو كأنه أراد أن يموت كأي جندي أثناء تأدية واجبه ممسكاً سلاحه.
فجأةً, أصبحت تلك السيارة الرسمية أهم من ذلك الرجل الذي قادها سنوات. والهروب بها أهم من إنقاذ هذا الرجل الممد في بركة دم.
لا أدري كم مر من الوقت, قبل أن تحضر سيارة الإسعاف المنتظرة. وقت بدا لي طويلا وغير منطقي.
أثناء ذلك كان أحد الشرطيين يقف على مقربة من الجريح شاهراً سلاحه, مطالبا الناس بأن يتفرقوا.
بينما كان الثاني يتفقد السيارة ومحتوياتها. ثم ما كادت تصل سيارة إسعاف عسكرية حتى حسم الأمر. فنقل عمي أحمد على عجل في سيارة الإسعاف. بينما تكفل أحد العسكريين بقيادة السيارة والعودة بها إلى البيت.. دوني.

جاءني أحدهم بعد ذلك طالباً مني مرافقته إلى المخفر, لأقدم شهادتي عن الحادث بكل ملابساته وتفاصيله.
وعبثًا حاولت إقناعهم بالسماح لي بمرافقة السائق في سيارة الإسعاف ولكنهم رفضوا, موضحين أنه ليس ثمة ضرورة لوجودي.
سألت "إلى أين تذهبون به؟". فأجابني أحدهم بشيء من العصبية "إلى المستشفى العسكري". فهمت أنه ليس هناك من مجال لأي نقاش أو جدل.
كنت أراهم ينقلونه نحو سيارة الإسعاف, يضعونه على ناقلة جرحى ويوشكون أن يمضوا به. انتابني شعور بأنني لن أراه ثانية بعد الآن, وأن ذلك الباب ربما سينغلق عليه إلى الأبد.
ركضت نحو السيارة. ارتميت على يده ألثمها, اغرق وجهي ودموعي فيها, وكأنني أنقل إليه شيئا من الحياة. كأنني أتقاسم معه حياتي مادمت لم أتقاسم معه موته, أنا التي جئت به حتى هنا.
شعرت بأنني أقبل يد الموت, الموت الذي سيأخذه, والذي ينتظر الآن فقط بأدب, أن أرفع شفتيّ عنه ليسحبه ويمضي به.
سمعته يتمتم بكلمات لم أفهمها. وصلني منها شيء شبيه ب"ما عليهش يا بنتي" أو ربما "ما تبكيش يا بنتي.." ولكنني كنت أبكي,فبإمكاني الآن أن أبكي في هذه السيارة القبر.. بعيدا عن الأنظار.
استعجلني العسكري الذي كان ينتظر نزولي ليغلق الباب. ولم يعد بإمكاني إلا أن أغادر السيارة, ونظراته الفارغة تلاحقني, ويده التي تركتها تواً, بقيت متدلية تشير سبابتها بالشهادة.
تقذفني السيارة أمام باب المخفر.
تنتابني حالة لم أعرفها من قبل: مزيج من الحزن والذهول والذعر والغثيان, وأنا أواجه رهطاً من الناس, لم أصادف مثلهم في حياتي؛ أناس بمظهر مخيف, ووجوه مغلقة, ونظرات عدوانية, بعضهم في ثياب عادية, وآخرون ملتحون, يرتدون شعاراتهم داخل زي أفغاني. أحدهم حليق الرأس في بذلة رياضية, ويداه مشدودتان خلف ظهره بسلاسل حديدية. وآخر جالس دون وجه ولا ملامح, وآثار ضرب واضحة عليه.
بينما يتنقل العسكريون بلثام أسود, شبيه بجوارب صوفية تخفي رأسهم. فلا يبدو من وجوههم سوى ثلاثة ثقوب يتحدثون ويرون بها, دون أن يعرفوا.

أي كابوس هو هذا؟
أستنتج أن هذه القاعة العارية الجدران, المتسخة البلاط, البائسة المظهر, تجمع دون تمييز بين المجرم, والطالب المشبوه, والمواطن الذي جاء لسبب ما, والسارق الذي قبض عليه تواً.. وأنا!
أنا التي هنا, لأنني أحب رجلاً وهميًا, وأكره الجسور الحديدية, وأردت التأكد من كراهيتي لها, وإذا بي في قاعة كلّ أثاثها من حديد. يجلس خلف مكاتبها رجال من حديد, يستجوبون رجالاً آخرين, مكبلين بسلاسل حديدية.
هذا زمن الحديد إذن. وكان لابد أن أغادر دفتري لأكتشف هذا.
بعد لحظات من الوقوف, انتبه شرطي إلى وجودي الشاذ في ذلك المكان. فرافقني إلى مكتب جانبي صغير كي انتظر فيه.
سعدت بوحدتي, وباختلائي بنفسي للحظات, والهروب من تلك النظرات الفضولية التي كانت تتفحصني بشيء من العدوانية, التي لم أجد لها من مبرر, سوى أنوثتي أو اختلافي.
هذه مدينة ترصد دائما حركاتك, تتربص بفرحك, تؤول حزنك, تحاسبك على اختلافك.
ولذا عليك أن تراجع خزانة ثيابك, وتسريحة شعرك, وقاموس كلماتك, وتبدو عادياً, وبائس المظهر قدر الإمكان, كي تضمن حياتك. فهي قد تغفر لك كل شيء, كل شيء عدا اختلافك.
وهل الحرية في النهاية سوى حقك في أن تكون مختلفا!

ما لم أجد له مبرراً أيضاً, هو طول انتظاري في ذلك المكتب الصغير. وكان أمري لا يعني أحداً, أو كأن الجميع مشغولون عني بأمر أهم.
بين حين وآخر, كانت تصلني صرخات شاب, أتوقع انهم يقومون باستجوابه على طريقتهم, وهو ما زاد حزني وشعوري بالعجز والألم.
في لحظة ما.. توقعت أنهم ألقوا القبض على القاتل. ولكن كنت أشك في أمر كهذا. فلم يحدث أن ألقوا القبض على قاتل بهذه السرعة.
ثم حضر فجأة شرطي, وطلب مني مرافقته.
هذه المرة كان ينتظرني في مكتب مؤثث بلياقة أكثر, تتناسب مع رتبة الضابط الجالس خلفه, تعلوه صورة الرئيس الشاذلي بن جديد.
نهض الضابط لمصافحتي وطلب مني الجلوس.
بادرته بالسؤال:
- هل عثرتم على القاتل؟
أجاب وهو يرتب بعض أوراقه:
- لا.. نحن نعتمد على شهادتك لمساعدتنا في ذلك.
أبتلع ريقي. يواصل:
- كلّ التفاصيل تعنينا. حاولي أن تتذكري كلّ شيء.
أجيب:
- لا.. أنا كنت أنظر نحو الجسر.. عندما سمعت طلقات نارية. وعندما التفت.. رأيت شاباً يركض ويختفي في الزقاق المتفرع عن الجسر.
- أتعتقدين أنه كان وحيداً.. أم أن أحداً كان بصحبته؟
أجيب:
- أنا لم أر إلا رجلا واحداً يركض. ولا أدري إن كان آخرون في انتظاره, أو في صحبته.
- كم تتوقعين أن يكون عمره تقريبا؟
- ربما بين العشرين والخامسة والعشرين..
- أيمكن أن تصفيه لي؟
- لا أعرف كيف أصفه.. أنا لمحته من الخلف.
- هل لاحظت أثناء مشواركم أن سيارة أو دراجة نارية تتبعكم؟
- لا أدري, فقد كنت مشغولة بالنظر أمامي. أدري فقط أنه أثناء وقوفنا عند الجسر كان هناك زحمة سيارات, وزحمة مارة, وأن البعض كالعادة, كان يتلفت بفضول وينظر إلينا.
- هل أطلتما الوقوف على الجسر؟
- لا أعتقد.. ربما بقينا هناك ما يقارب العشر دقائق لا أكثر. أذكر أن السائق قال لي فجأة "هيا نروحوا" وكأنه تنبه لشيء. ثم اتجه نحو السيارة.. وما كدت ألحق به حتى أطلقوا الرصاص عليه.
- هل من عادتك أن تترددي على هذا المكان؟
- لا.. إطلاقاً.
- هل أخبرت أحدا بمشوارك هذا؟
- لا
- الشغالة مثلا.. أما قلت لها أين أنت ذاهبة؟
- لا.. أخبرتها كالعادة أنني سأغادر البيت لا أكثر.
يتوقف قليلاً وهو يقلب ورقة صغيرة أمامه. ثم يسألني:
- وأخوك.. هل هو على علم بتنقلاتك؟
أجيبه دهشة:
- أخي؟.. ولكنه لا يقطن معي.
يجيب:
- أعرف ذلك.
ثم يواصل:
- هل لاحظت في الآونة الأخيرة تغيراً في سلوك السائق, شيئاً من العصبية أو شيئا من القلق الواضح في تصرفاته؟
- لا.. إنه رجل هادئ ومسالم. وكان أثناء مشوارنا الأخير يتحدث إلي بروحه المرحة ذاتها.
يواصل تسجيل بعض ملاحظاته على ورقة. ثم ينهض ويصافحني قائلاً:
- قد نتصل بك مرة ثانية إذا كان من ضرورة للتدقيق في بعض التفاصيل.
ثم يواصل:
- لقد علمت أن زوجك موجود في مهمة بالعاصمة. سأرسل له خبراً عن طريق الوزارة.. وأقدم له تقريراً حال عودته.
يرافقني نحو الباب, وطلب من عسكري مرافقتي إلى البيت, فأصافحه. وبصوت لم يعد صوتي أقول "شكرا" وأغادر عالم الحديد.. إلى عالم الذهول والفجيعة.


* * * *
رد مع اقتباس
  #14  
قديم 07-13-2016, 01:42 AM
 
مخيفة هي الكتابة دائماً. لأنها تأخذ لنا موعداً مع كل الأشياء التي نخاف أن نواجهها أو نتعمق في فهمها.
يوم بدأت هذا الدفتر ما كانت نيتي أن أفلسف الأمور حولي. ولذا أكتشف اليوم, أن موت هذا الرجل أكبر مني, يتجاوز حدود فهمي, يتجاوز منطقي, لأنه حدث خارج دفتري. أو بالأحرى على هامش صفحتي. في ذلك الخط الأحمر الدقيق الذي يفصل بين الحياة والكلمات.
العجيب والمؤلم في موته, أنه مات بسبب بطل وهميّ وكائن حبري, ولم يحدث للموت أن كان في متناول الكلمات, في متناول الوهم إلى هذا الحد!
ذلك الرجل الذي يكره الجسور, ويكره الأسئلة. أوصلني حبه إلى أسئلة لا جواب لها.
لماذا مات ذلك الرجل؟ لماذا اليوم؟ لماذا الآن؟ لماذا هناك بالتحديد؟ لماذا هو بالذات؟
كنت أستدرجه ليختار عنوانا لقدري, فأختار أنا عنوانا لقدره.
قلت له خذني إلى المكان الذي تحبه الأكثر في هذه المدينة, فسرق الموت سؤالي, وأوصله إلى جوابه الأخير.


من منّا المتهم الأول الآن في جريمة كهذه؟
القدر الذي سلمته مقود السيارة وأبرمت معه معاهدة ثقة.. فخانني؟
أم أنا التي رحت أطارد رجلاً وهميّاً, خارج حدود الورق, وإذا بي أحول لعبة الكتابة إلى لعبة موت؟
أم ذلك الرجل الوهمي, الذي أقنعني بأن أثق بالقدر, ثم تخلى عنّي, كي يلقنني درساً في كتابة القصص؟
كل الأسئلة أصبحت تختصر عندي في سؤال واحد:
موت هذا الرجل جريمة قدر..؟ أم جريمة أدب؟ وبالتالي إلى أية درجة أنا مسؤولة عن موته؟

ولكن الأمور بالنسبة إلى زوجي, الذي عاد على عجل في صباح اليوم التالي, لا يمكن أن تكون مبسطة إلى هذا الحد. ليس فقط لأنه يجهل القصة التي أكتبها وأعيشها, والتي أوصلتني إلى ذلك الجسر. ولكن لأنه قبل كلّ شيء رجل عسكري. والأسئلة التي تعنيه أسئلة محض بوليسية, لا مكان فيها للقدر, ولا للأدب. وها هي تنهال عليّ مشابهة لتلك التي سبق أن أجبت عنها البارحة. ولكن بنبرة عصبية مختلفة, وبإضافات جديدة هذه المرة.
- لماذا ذهبت إلى هناك؟ أجننت لتوقفي سيارة رسمية وسط الطريق وتنزلي لتتفرجي على جسر.. وتتبادلي الحديث مع السائق على مرأى من الناس؟
- أردت أن أرى الجسر عن قرب لا أكثر.. لأنني أراه دائما على تلك اللوحة المعلقة في الصالون.. تلك التي أهداها إلينا الرسام خالد بن طوبال يوم زواجنا. وصادف أن مررت من هناك, فقلت لا بأس أن أنزل وأتفرج على الجسر, ما دمت أتجول وما دام أمامي بعض الوقت.
- تتجولين؟ أهذه مدينة للفسحة؟ أو هذا زمن للتجوال؟ البلد يعيش حالة حصار معلنة على كل التراب الوطني, وأنت تتجولين؟ ألا تقرأين الجرائد؟ ألا تتحدثين إلى الناس؟ كل يوم يقودون رجال الشرطة, يذبحونهم كالنعاج ويلقون بهم من الجسور..
- ولكن لا أفهم ما ذنب عمي أحمد في كل هذا؟
- إنه يقود سيارة عسكرية.. أي أنه عسكري!
- ولكنه لم يكن يرتدي زياً عسكرياً..
- لا يهم.. كان في خدمة الدولة.. وهذه تهمة كافية. إلا إذا توقعوا أنه أنا. وفي هذه الحالة كان لهم أكثر من سبب لقتله.
يصمت قليلاً ثم يطرح سؤاله الأهمّ:
-أين كنت تجلسين؟
أُتََمَتِمُ:
-جواره كما أفعل أحياناً.. [في الواقع كما أفعل دائماً].
نغرق معا في صمت فاضح. تذهب أفكارنا معا إلى الشيء نفسه.
في البدء, كان زوجي يحتجّ على جلوسي جوار السائق. ولكنني كنت, مع عمّي أحمد بالذات, عاجزة عن الجلوس خلفه. فقد كان يعيش معنا معظم الوقت كفرد من العائلة. وكان في حضوره شيء من الوفاء والطيبة التي تجعلني أخجل من إعادته خارج البيت, إلى مرتبة سائق وخادم يحمل أشيائي لا أكثر, هو الذي كان يوماً يحمل سلاحاً.
كنت أحترم ذاكرته الوطنية. أحترم يديه, وشعيرات رأسه الرمادية. ولم يكن يعنيني أن تكون قامته الفارعة توحي بأنه أصغر من عمره, حتى يبدو أحياناً قريباً في مظهره من زوجي. كما لم تعنني يوماً نظرات التعجب التي كانت تقابلني بها زوجات الضبّاط, عندما يفاجئنني جالسة إلى جواره.
في النهاية, خلافي مع زوجي قد يتلخص في هذا المقعد. فقد كان طموحه الجلوس خلف سائق في سيارة رسمية, وطموحي كان الجلوس جوار رجل في سيارة.
كان بين أحلامنا مسافة مقعد, لا أكثر. ولكن كانت المسافة أكثر شساعة مّما توقّعت. فأنا لم أكن أعرف قبل اليوم أن اختيارنا الجلوس في مقعد بالذات دون غيره قد يفضح اقتناعاتنا وطموحاتنا إلى هذا الحد, ولا أنه قد يتسبب في قتل رجل بريء, لأنه دون أن يغيّر مكانه, غيّر صفته ورتبته.

وها أنا إذن, أمام شرح آخر لموته, شرح لا يبرئني أيضاً من دمه, ما دمت بجلوسي جواره, حولته في نظر الآخرين من سائق إلى ضابط, وجعلته بالتالي هدفاً مفضلاً لرصاصهم.
أفكّر فجأة في غرابة القدر الذي أبدع هذه المرة في كتابة نهاية لحياة هذا الرجل, الذي عاش جندياً بسيطاً.. خمسين سنة. ثم مات برتبة ضابط كبير.
لقد بلغ أحلامه في اللحظة الأخيرة من عمره. ومات بتهمة أحلامه. وربما سعيداً بها. ألم يمت ضابطاً في المكان الذي يحبه الأكثر في قسنطينة؟ الجسور!
المكان نفسه الذي من الأرجح, أن يكون قد حارب فيه منذ ثلاثين سنة, وجازف فيه بحياته أكثر من مرة. ولكن الموت لم يأخذه يومها, لأنه لم يرده جندياً متنكراً في برنس المجاهدين, أو شهيداً في عملية فدائية. تلك ميتة عادية.
أرداه بعد ثلاثين سنة, جندياً يجلس في مقعد ضابط جزائريّ.. ليموت برصاص جزائريّ.
إن ميتة كهذه, وحدها ميتة استثنائية!

تذهب بي الأفكار بعيداً. بين السخرية والألم, أتوقف في محطات للنّدم.
لقد قتلت ذلك الرجل, لا بجنوني فقط, وإنما بطبيعتي أيضاً. وتواضعي المبالغ فيه الذي يجعلني أصر على الجلوس جواره, لأهدي إليه وهم التساوي بي.
في الواقع, التواضع كلمة لا تناسبني تماماً. أن تتواضع يعني أن تعتقد أنك مهم لسبب أو لآخر, ثم تقوم بجهد التنازل والتساوي لبعض الوقت بالآخرين, دون أن تنسى تماما أنك أهم منهم.
هذا الشعور لم أعرفه يوماً. لقد كنت دائما امرأة لفرط بساطتها, يعتقد كل البسطاء, وكل الفاشلين حولها أنها منهم.
ولم يكن من أمل في تغيري: لقد ولدت اقتناعاتي معي. أنا أحب هؤلاء الناس, أتعلم منهم أكثر مما أتعلم من غيرهم, أرتاح لهم أكثر مما أرتاح لغيرهم, لأن العلاقات معهم بسيطة, وأكاد أقول جميلة. بينما العلاقات مع الناس المهمين – أو الذين يبدون كذلك – هي علاقات متعبة ومعقدة.. أي علاقات فاشلة!
ولذا كانت لي مع ذلك الرجل علاقة, أكتشف الآن جمالية تلقائيتها.

* * *
موت عمي أحمد قلب حياتنا رأساً على عقب.
فأمام اقتناع زوجي بأنه هو الذي كان معنياً بذلك الاغتيال, قرر أن يأخذ تدابير أمنية جديدة. أولها الاستغناء عن سيارته الرسمية. والتنقل من الآن فصاعدا في سيارة عادية يغيّرها بين الحين والآخر.
ثانياً إحضار سائق جديد.. لن يرافقني إلا للمشاوير الضرورية, على أن أجلس خلفه هذه المرة, ولا أفتح معه أي حديث.
أما تنقلاتي فستقتصر هذا الأسبوع على زيارة بيت عمي أحمد, لتقديم التعازي لأهله. بينما تكفّل زوجي بإرسال خروف. وأتوقع أن يكون زراهم هذا الصباح.
أما مشواري الثاني, فسيكون لزيارة أمي وتوديعها, قبل ذهابها إلى الحج, للمرة الثالثة.. أو الرابعة.. لا أدري بالتحديد. فلا أحد يدري هنا عدد حجات الآخر. مذ شاعت ظاهرة المزايدة في كلّ ما له علاقة بمظاهر التقوى.
فهل من عجب أن أصاب هذا الأسبوع بإحباط, شبيه بالانهيار العصبيّ, وأنا أتنقل من بيت بائس يعلو منه صوت القران, وعويل نسوة مرتديات السواد, مات فيه المعيل الوحيد لسبعة أشخاص, إلى بيتٍ تتنقل فيه أمي بثوبها وشالها الأبيض, وحولها نسوة من كل الأعمار, لبسن كلّ ما في خزانتهن من صيغة وأثواب أنيقة, وجئن يودّعنها للمرة العاشرة. أو بالأحرى جئن ليقنعنها للمرة العاشرة بأنهن لا يقللن عنها ثراء, وبإمكانهن الذهاب إلى الحج أكثر من مرة لو شئن.
وطبعاً سيكون بينهن بعض نساء الضباط اللائي جئن مجاملة لي. واللائي سيطاردنني بالأسئلة عن "الحادث" تحسباً لما قد ينتظر أزواجهن من مفاجآت.
ولكنني كنت منذ عدّة أيام, قد فقدت رغبتي في الكلام, وكان حضورهن الباذخ استفزازاً لحزني
كن نساء الضجر, والبيوت الفائقة الترتيب, والأطباق الفائقة التعقيد, والكلمات الكاذبة التهذيب, وغرف النوم الفاخرة البرودة, والأجساد التي تخفي تحت أثواب باهضة الثمن.. كل ما لم يشعله رجل.
رد مع اقتباس
  #15  
قديم 07-13-2016, 01:43 AM
 
وكنت أنثى القلق, أنثى الورق الأبيض, والأسرة غير المرتبة, والأحلام التي تنضج على نار خافتة, وفوضى الحواس لحظة الخلق.
أنثى عباءتها كلمات ضيقة, تلتصق بالجسد, وجمل قصيرة, لا تغطي سوى ركبتي الأسئلة.
منذ الصغر كنت فتاة نحيلة بأسئلة كبيرة. وكانت النساء حولي ممتلئات بأجوبة فضفاضة.
ومازلن دجاجات, ينمن باكراً. يقُقْنَ كثيرًا, ويقتتن بفتات الرجولة, وبقايا وجبات الحب التي تقدم إليهن كيفما اتفق. ومازلت أنثى الصمت, وأنثى الأرق.
فمن أين آتي بالكلمات, كي أتحدث إليهن عن حزني؟
يومها, لم ينقذني سوى مرور ناصر مصادفة بالبيت. فتحججت به. لأترك مجلس النساء وأخلو به.
هوذا ناصر أخيراً..
لا أذكر كم مر من الزمن على آخر لقاء لنا. فلم يحدث خلال سنوات زواجي الخمس أن زارني أكثر من مرة في العام.
أما بقية لقاءاتنا, فكانت تتم هنا في بيتنا, خلال الأعياد أو المناسبات العائلية.. أو مصادفة مثل اليوم. وكأننا لا نسكن المدينة نفسها.
لقاؤنا الأخير, كان في عيد الفطر الماضي. بدا لي يومها على غير عادته قلقاً وصامتاً. عادة, يقبلني بشوق. نتبادل بعض أخبارنا. ونضحك أحيانا ونحن نستعيد بعض ذكرياتنا المشتركة. ولكنني احترمت وقتها صمته, ومضيت.
ناصر يصغرني بثلاث سنوات. ولكنه كان دائما توأم حزني وفرحي, وتوأم رفضي أيضاً.
ثم انكسر شيء بيننا فجأة, منذ زواجي. حل محله شيء من العتاب الصامت, الذي فسرته في البدء بالغيرة. فقد كان ناصر متعلقاً بي. كنت كل عائلته, كل اقتناعاته, كل مفخرته. هو الذي فشل في الدراسة وتحول تاجراً في عمر ما زال فيه الآخرون يواصلون دراستهم. وكان يرفض أن يأتي رجل غريب ويسرق منه كل شيء كان ينفرد بامتلاكه. حتى إنه قلما لفظ اسم زوجي أمامي. وكأنه لا يعترف بوجوده.

أذكر منذ سنتين, حاولت أن أناقشه في هذا الموضوع. قلت له "لقد مرّ على زواجي ثلاث سنوات.. وحان لك أن تتقبل هذا الأمر.. إنه مكتوب".
ولكنه فاجأني متذمراً:
-مكتوب؟ أن ينهبوا البلاد.. أن يفرغوا أرصدتنا.. ويسطوا على أحلامنا.. ويستعرضوا ثرواتهم على مرأى من بؤسنا. ربما كان هذا مكتوباً.. أما أن يتزوج هؤلاء السفلة بناتنا.. ويمرغوا أسماء شهدائنا في المزابل.. فليس هذا مكتوباً.. أنت التي كتبته وحدك!

ناصر عمره سبع وعشرون سنة. يصغرني بثلاث سنوات, ويكبرني بقضية.
لقد جاء العالم هكذا حاملا قضية معه, كما نحمل أسماءً لا نختارها, إذا بنا نشبهها في النهاية. ربما لأن أبي الذي كان مأخوذا بشخصية عبد الناصر, أثناء حرب التحرير, أراد أن يعطيه اسما مطابقا لأحلامه القومية. إذا به دون أن يدري يعطيه اسمين: اسمه كواحد من كبار شهداء الجزائر, ولقباً لأكبر زعيم عربيّ.

ناصر تقاسم كل شيء مع الوطن, يتمه.. واسمه الذي لم يعد اسمه. ناصر عبد المولى, كان الطفل المدلل لذاكرة الوطن. ولكن ليس بالضرورة طفل الوطن المدلل. ولد باسم أكبر منه, وضع على كتفيه برنساً للوجاهة.
وكانت تلك مصيبته.
ليس سهلاً أن تكون ابن رمز وطني. دون أن تشعر بالبرد تحت ذلك المعطف الفاخر السميك.
فماذا تراه كان يلبس, تحت ذلك المعطف. ليتدفأ في زمن الخيبات؟
ماذا تراه كان يخبئ تحت برنس الصمت؟
أقبله بشوق. أبادره كعادتي بلهجة قسنطينية, مسروقة كلماتها من قاموس الأمومة:
-واش راك.. يا اميمة توحشتك..؟
يجيب:
- مليح.. يعيّشك.
ويجلس في جبته البيضاء مقابلا لي. استنتج أنه عائد من الصلاة, أو ذاهب إليها. فلم يحدث أن التقيت به, إلا وكان بين صلاتين.. أو بين قضيّتين.
كما الآن, عندما أقول له, وكأنني أبحث عن موضوع أبادره به:
- لقد جئت لأودع "ما".. يبدو أنه لن تشبع من الحج..
فيجيبني:
-لقد قلت لها إن أجرها سيكون أعظم لو تصدقت بثمن حجتها إلى فقراء العراق ولكنها لم تصدقني...
فأصمت ولا أدري كيف أواصل معه الحديث.

ناصر لم يشف بعد من حرب الخليج. عند بدء الاجتياح العراقيّ كان يعيش مشتتاً.. مضطرباً. ينام وهو من أنصار صدام حسين, ويستيقظ وهو يدافع عن الكويت.
ثم ما كادت الأحداث تأخذ منحى المواجهة العسكرية والتحالف العالمي ضد العراق, حتى انحاز نهائيا إلى العراق مأخوذا ب"أم المعارك".
كان مثل الجميع يراهن على المستحيل, ويحلم بمعركة كبرى.. نحررّ بها فلسطين!
ولكنه عند سقوط أول صواريخ عراقية على إسرائيل ووقوعها على أراض قاحلة, طلبني ليلاً ليقول لي "أهذا هو السكود الذي كان يهدد به صدام العالم.. إنه ليس أكثر من "تحميلة" وضعتها إسرائيل في مؤخرتها..!".
ضحكت.. ولم أتوقع أن يكون لهذه الحرب كلّ ذلك التأثير في ناصر.
كانت تلك الفترة هي الوحيدة التي كان خلالها ناصر يتردد عليّ, ربما ليجد أحداً ينقل إليه تذمره وسخطه لا أكثر. فقد كان يدري, أن بإمكانه أن ينقل إلي أية عدوى من هذا القبيل.
كذلك اليوم الذي زارني فيه وفاجأني جالسة أمام أوراقي. وكنّا في عزّ تلك الفجائع, وما تلاها من إهانات. فراح يؤنبني وكأنني ارتكبت ذنباً في حق أحد. مردداً:
- لا أفهم من أين لك القدرة على مواصلة الكتابة وكأن شيئاً لم يحدث. لا هذه الأرض التي تتحرك تحت قدميك.. ولا هذا لدمار الذي ينتظر أمة بكاملها منعاك من الكتابة.. توقفي.. تأملي الخراب حولك. لا جدوى ممّا تكتبين..
قلت كمن يعتذر:
- ولكنني كاتبة..
صاح بي:
- ولأنك كاتبة عليك أن تصمتي.. أو تنتحري. لقد تحولنا في بضعة أسابيع إلى من أمة كانت تملك ترسانة نووية.. إلى أمة لم يتركوا لها سوى السكاكين.. وأنت تكتبين. وتحولنا من أمة تملك أكبر احتياطي مالي في العاغلم, إلى قبائل متسولة في المحافل الدولية.. وأنت تكتبين. هؤلاء الذين تكتبين من أجلهم.. إنهم ينتظرون أن يتصدق عليهم الناس بالرغيف وبالأدوية.. ولا يملكون ثمن كتاب. أما الآخرون فماتوا. حتى الأحياء منهم ماتوا.. فاصمتي حزناً عليهم..!
لا أظن أن ناصر كان يتوقع, أنه بهذه الكلمات التي ربما غيّر رأيه فيها بعد ذلك, قد غير مساري في الكتابة, وأرغمني على الصمت سنتين.
... سنتين كاملتين, تعلمت فيهما أن أحتقر كلّ أولئك الكتاب, الذين في الجرائد والمجلات واصلوا الحياة دون خجل, أمام جثمان العروبة.
كنت أرى القنوات الأمريكية, تتسابق لنقل مشاهد "حية" عن موت جيش عربي يمشي رجاله جياعا في الصحارى. يسقطون على مدى عشرات الكيلومترات كالذباب في خنادق الذل, مرشوشين بقنابل الموت العبثيّ, دون أن يدروا لماذا يحدث لهم هذا.
وأرى قوافل البائسين. هاربة بالشاحنات من بلد عربي إلى آخر. تاركة كلّ شيء خلفها, بعد عمر من الشقاء.. دون أن تفهم لماذا.
وأرى الكويتييّن يرقصون في الشوارع حاملين الأعلام الأمريكية. مقبّلين صور بوش, مهدين الجنرال شوارزكوف حفنة من تراب الكويت. ولا أفهم كيف وصلنا إلى كلّ هذا.
وحده رجل غير مكترث بنا, لم يفقد قريباً في أي حرب من الحروب التي ارتجلها, ولا فقد في زمن المجاعة, ولو شيئاً من وزنه, كان يظهر على الشاشات, يمارس السباحة على مرأى من غرقنا.
واعداً إيانا بمزيد من الانتصارات.

خلال تلك الفترة.. لم تفارقني فكرة الانتحار. ولم يمنعني من تحقيقها سوى فجيعة أمّي بموتي.
في الواقع كنت أبحث لي عن موت "استعراضيّ" كبير لا يشبه في شيء بندقية الصيد المتواضعة التي أطلق بها خليل حاوي, رصاصة على جبينه في 7 حزيران 1982 احتجاجا على اجتياح إسرائيل للبنان, على مرأى من كل الأخوان والجيران العرب, بعد أن قال لأصدقائه "أين هذه الأمة؟ من العار أن أقول أنا عربي أمام هذا التفرج المخزي".
كنت أريد لي انتحارا على قدر فجيعتي, شبيها بانتحار الكاتب الياباني مشيما, الذي بعد أن سلم الجزء الرابع والأخير من روايته الرباعية, إلى المطبعة. توجه ذات صباح أحد, لتنفيذ الفصل الأخير من حياته كما خطط له إعلاميا, بعد أن قرر الانتحار, احتجاجا على خروج اليابان مذلولة من الحرب العالمية أمام أمريكا, وضياع شخصيتها القومية أمام الغزو الغربي.
الجميل أنه استعد لموته, بأخذ دروس خاصة بالمصارعة والفروسية, والكمال الجسماني. ما مكنه من أخذ قائد القوات اليابانية كرهينة, والتوجه بخطاب حماسي إلى ألف جندي ياباني, كانوا مجتمعين لمناسبة وطنية.
وعندما لم يترك خطابه أثرا في ذلك الجيش المهزوم, عاد ميشيما إلى غرفة قائد القوات. وارتدى اللباس التقليدي الياباني. عاقدا أربطته وأزراره برباطة جأش ملحوظة. ثم دعا المصورين ليأخذوا له صورا, رفقة جيشه الصغير, المكون من مائة شاب, أعدهم للموت دفاعا عن عظمة اليابان. ووقف ممسكا بسيفه السامورائي المحظور, لينتحر مباشرة أما عدسات المصورين, هو ومساعده, وفقا لطريقة الهاراكيري الرهيبة في الانتحار, الواحد تلو الاخر.
سلاما ميشيما.
أينما كنت أيها الصديق, أقبل جبين رأسك المفصول عن جسدك. والملقى منذ نوفمبر 1970 عند أقدام الوطن, رفضا أبديا لذل الانحناء لأمريكا.
ما زلت اتساءل: أكنا وقتها متفائلين أم سذجا كي ننحاز إلى أمة متمادية في هزيمتها وعنادها, كي تنجز بتفوق كل ذلك الاخفاق!
في تلك الفترة أصبح ناصر ضرورة يومية, لبقائي على قيد العروبة, مزايدا علي في كل شيء, رافضا أن أشتم أمامه نظاما عربيا بالتحديد. فإما أن أشتمها واحدا.. واحدا.. [لأسباب يسردها علي مطولة مفصلة.. ومقنعة] أو أصمت. ففي شتم نظام عربي دون آخر بالنسبة إليه, ما يفوق جريمة السكوت عنه.
أذكر كان يمر بي أحيانا؛ يقضي برفقتي بعض الوقت, ثم يمضي قائلا "كان الله في عون هذه الأمة, نصف حكامها عملاء, والنصف الآخر مجانين!".
ثم فجأة تغير ناصر.
لم يعد يحدثني عن الستة والعشرين مليارا التي تبخرت من خزينة الدولة الجزائرية, ولا عن أصدقائه, الذين انضموا إلى لوائح آلاف الطلبة والشباب القسنطينيين, الجاهزين للدفاع عن العراق, والاستشهاد تحت علمها, الذي اضيف إليه للمناسبة "الله أكبر", وهو ما جعل بعض الساخرين يقترح أن يضاف إلى العلم الجزائري شعار "الله غالب" أي لا نستطيع شيئا من أجلكم... ولا عن تلك الإشاعات التي كان يصدقها الجميع, والتي كانت تقول إن إسرائيل حصلت على صاروخ يطول الجزائر, وهي تستعد لضرب قسنطينة.
وهو ما جعل الناس يعيشون لمدة شهر, على أهبة حرب, كأنهم يتمنون حدوثها لمتعة الجهاد.. أو لولعٍ بالاستشهاد.
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
فوضى...ابتسامه قارب الغروب نثر و خواطر .. عذب الكلام ... 31 05-20-2017 07:56 PM
فوضى.......بقلمي jehan1970 أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه 13 09-29-2011 09:03 AM
فوضى في المحاكم الأمريكية دارين! نكت و ضحك و خنبقة 3 11-29-2010 10:49 PM
###فوضى## ليالي الأنس أرشيف المواضيع الغير مكتمله او المكرره او المنقوله و المخالفه 9 08-14-2009 12:13 AM


الساعة الآن 02:26 AM.


Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.

شات الشلة
Powered by: vBulletin Copyright ©2000 - 2006, Jelsoft Enterprises Ltd.
جميع الحقوق محفوظة لعيون العرب
2003 - 2011