عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 07-05-2017, 07:48 PM
 


[ALIGN=CENTER][TABLETEXT="width:100%;background-image:url('https://www.gulf-up.com/imagef-1499186528636-png.html');"][CELL="filter:;"][ALIGN=center].




[/ALIGN]
[ALIGN=center]

جوناثان، أهزوجة الرّياح


الأديمُ أمامي ينبسطْ، آتي عليه فأُرديهِ صريعًا. ترى أفنانَ الشَّجَرِ تتلوى تستجدي رحمتي لكن هيهاتَ على من تُنادي أيّها المَخلوقُ الرَّاسخُ في التُرابْ، أينَ أنتَ من عُنفُواني! حينَ أُحني هاماتكِ وأقتلِعُكَ من رَحِم اليابسة، فقطْ أينَ أنتَ منّي! ألستُ أنا من بعثتُ فيكَ الحياةْ، حرّكتُ جسدك الجامدَ هذا بأطربِ نغمْ وحينَ سمعوه قالوا حَفيفْ. يكذبون! تلكَ أناي، تلكَ رياحي التي من دونها لكان كونُكم هذا أخرسًا لا يَصدُر له هَسِيسْ.

أتخطى الأرضَ وقدْ أحييتُ منها بعضًا وأمتُّ آخر فيلوحُ لي ذلكَ الامتدادُ الأزرق. أمرُّ فوقه فيتقلّب تحتَ أناملي، يلوجُ ويموجْ وهو الآخرُ يئّنُ ويتذمّر. أقذِفُ بمياهه المالحة بعيدًا فتتكسّرُ على طولِ ذلكَ الجِدارْ. أُعيدُها.. أسمعُ صوتِي في تلكَ الأمواجِ وهي تنسَحِق! أضربُ مُجدّدًا وبقوّة أشَّدْ فيتطايرُ الرّذاذُ ويتجاوزُ ارتفاع الجدار وعندها فقطْ أحسستُ به..

التفَفتُ حولَ نفسي وأنا أذرعُ لأعلى بسرعة، وعلى الحافة رأيته. إنه صبيّ بشريّ مِنْ صُلبِ مَنْ أعرضوا عني وأغلقوا على أنفسهم بجدارٍ أقاموه بينهم وبيني. لا يُريدونني منهم فأنا الجبروت والطُغيان، أنكروا فضلي وعلّوا البُنيانَ في وجه رياحي. استعدتُ الغضبَ في نفسي ورميتُ بالهواء في وجه الصبيّ بسُخط وفاجأني أنه لم يتحرّك. كان ساكنًا وأطرافي تعبثُ بثيابه وتُبعثر شعره القمحي المائلُ للدُكنة، أعليّ تتجرأ أيُّها المُستَكين! ركّزتُ المزيدَ من القُوّة وفي قرارَتي أتحيّنُ رُؤيته ينقذفُ بعيدًا ويتهشّمُ جسده في القاع، لكنّه ثَبتْ! رأيته يُؤَرجح رأسه للخلف وتعبيرٌ هادئ مُنتَشٍ يغزو وجهه. فتحَ ذراعيه لي.. وأبدًا لم أتردّد في احتضانه.

مَا شعرتُ بِهِ كانَ جُنونيًا، رُحتُ في الّلذةِ أمضِي فِي انغمَاس، احْتضنّي، شُدَّ الخِناقَ عليَّ رحتُ أهذِي، السّخط أينَ قذفتُ بِه؟ رغبتِي المُطلقَة فِي سحقِه تلاشَتْ فِي ثوانٍ. لا، أنَا لا أسمحُ للجِنسِ المَقيتِ باحتِوائِي، سأزجّهُ بينَ تيارَاتِي ليُسحَق، ليكونَ عبرةً لمنْ لا يعتبِر، وَيلهُ منّي! وفِي خضمِ الولعِ ارتسمَت علَى شفتيهِ ابتسَامة، لم أستطِع قراءَتَها، كنتُ.. مَا الذّي كُنتهُ بالضّبط؟!

لوّح بيدهِ، قَال في صوتٍ حُلوٍ يُسكرُ كالنّبيذ: إلى الّلقاء، واختفَى.
أنَا وقفتُ عاجِزة، منذُ سنينٍ طُوَال لمْ أرَ نفسِي بهذَا العَجز. تَطاولُوا فِي البُنيانِ، حَرمُوني مِن إشباعِ شهوَاتي فِي نشرِ الألّقحة، ومِن مداعبةِ أسرارِهم الدّفيئة. وإثر هذَه العَنجهيّة المُطلقة مِنهم، أقسمتُ لأنذرنّ حيَاتِي لسحقِهم. العَجزُ الذّي أورثونِي كَان بغيضًا، العجزُ الذّي شعرتُ بِه لتوّي كانَ أشدُّ بغضًا، وبدأتِ الأعاصيرُ، أعاصِيري، تهزجُ بالموتِ ليلتها.

"هِاي، ألن تهدَئي؟" أُقحمُ الصّوتُ الحُلوُ في أهازيجِي، فاستدرتُ في تهيّجٍ وحاجةٍ مُلحةٍ للفتكِ بالآتِي. كَان جالسًا أعلَى الجِدار يحرّكُ ساقَيهِ بعبثٍ طُفولِي، رياحِي تعصفُ بِه، وأقتربُ منهُ بإعصارٍ يرسمُ تفاصيلَ كُرهي، لكنّه لم يتزحزح قيدَ أُنمُلة، يا ابنَ شيكاغُو، ألِجذوتِي ارتأيتَ الذّبُول؟ سألعنّك فِي الأرَاضِين السّبع!

لكنّه ضحِك بل قهقهَ بعذُوبة وفجأةً سكتْ، نظرَ إليّ للحظاتٍ بدت بعددِ السّنين التّي سجنتُ فيهَا خارجَ شيكَاغو، ثمّ قال: عَزيزتِي، مَن لا يتقنُ حبّك، لم يعرِفِ الحُبّ يومًا!

تَراجعتُ في ذهُول، صرختُ في زئير: مَا هذا الهَذيان؟! - أتحسبينَ أنّي لكِ عدوّ؟ مَن عاداكِ ماتَ بسُمّ العُلو، لكنّي لكِ بحبيبْ، ولستُ أدري ما غرّكِ منّي لتظنّي بي العَداء.


زئرتُ فِي وجهِه، ذاكَ الـ... ينوِي خِداعِي بكلامِه المعسُول، فلأُذيقنّه العذاب و... قاطعَنِي صوتُه المُحبّب يقول: ألاحظتِ زوالَ الغضب، وذهابَ الأعاصير؟ أيّما مَا تفكّرين به أنت لا تفكّرين بقتلِي يا عزيزتِي.

أنا لم أعِ أنّه أثلجَ شيئًا في صَدري إلى حدّ أذهبَ فيهِ الغضب، ما يفعلُ بِي هَذا الفَتى؟! لمعت عينَاهُ الخضراوانِ في جَذل، همسَ في حِنو: تعالَي إلى جُوناثان. "جُوناثان، جُوناثان" أسكرَني الاسمُ كما النّدامى، وعانقتُ الحَبيب..

طُوِيَتْ الأيامُ ولم أبرحَ مضجعي، شيكاغو أيتها المدينةُ الباسقة كيفَ اجتذبتِني إليكِ فما بتُّ أهُبُّ إلا فوقَ أراضيكْ، أرمي نسماتي وأبتهلُ أن تبلُغَ العزيزَ النائمَ في أحدِ بيوتكِ المَسقوفة المُنشَأة من حَطَب، جوناثان الغائبُ عني مُنذُ يومين وثلاثِ ليالٍ.. وجلَدي ذاك الذي أذهلني سابقًا حانت لحظةُ انهياره..

أقمتُ البحرَ من رُكوده! قلّبتُ العوارضَ في السّماء! صرختْ! بلغَ عَويلي الأعنَان وأوقدتُ عاصفةً أسكنتْ كُل أهلِ شيكاغو أقبيتَهم البائسة لكنّها أتَتنِي بالمُنتَظَرْ..

" على رسلك! " صوتهُ المُحبّب أطربَني، اقتحمني ومرفقاه أمام وجهه، لكنّني لم أتوقّف ملأته بالماء وهو قاوَمني صائحًا من بينِ أنفاسٍ مخطوفة وددتُ لو استوطنُها " بحق خالِقك! إلا إذا كُنتِ ترغبين في قتلي فاستمريّ! " وإذ بي أسكنُ من فوري!

لهثَ وسقطَ جالسًا بإنهاكْ وما كان لي سوى أن أُحيطَ به فيَضحكُ لي مِلئ قلبه، جوناثان أيها الغالي لا تدري كم من الشّوقِ أجبلتني! كم من الفقدِ أذقتني.. لا تذهبْ، ابقَ هُنا، مَعي، إلى الأبد..

أُريدُ أن أبلُغكَ حيثُ أنتْ، أريدُ أن أعيشَ بينَ أُناسِكْ، أخبرهُم يَفُكّوا أَسْرِي وسأدعُ جبروتي يخبو. طالعني بخضراويه، يراني كما لم يفعلْ أحدٌ من قبلْ، وبينَ أشجاني هَمَسْ " عاصفةً أم سَاكِنة، طاغِيةً أو مُسالِمة أحبُكِ في كلِّ حالاتِكِ! "

جوناثان، أعِنِّي! مُدَّني بالقُوّة، دَع كيَانَكَ يتغَلغَلُ في داخلي ولنُسقط هذا الجِدارْ! كان يتراجَعَ إلى الخَلفِ بخُطواتٍ قليلة وعلى ناصية السُّورِ ينتَصَبْ، توّسع مِنكباهُ لي وجسدُهُ يميلُ للوراء، انزَاحَ ثِقَلُه إلى الدَّرَكِ الأسْفَل وكانَ فيَّ يَسقُطْ! هوى إلى أغواري الدَّفينَة حتى خِلتُ أنّهُ مَلكَنِي ومَلَكتُه. اليَومَ سأهدِمُكَ يا سِجْنِي وأشُقُّ طَريقِي عَبرَكَ إلى شيكاغو!

تشقّق، الجَزعُ يغلِي فِي الخَوافِق، أقهقِه ملأَ السّماواتِ السّبع وأزعزعُ الأراضِين أسفَلي. الصّراخُ يعلُو ويهفِت، الوجلُ فِي النّفوس ينبتْ، القَارعةُ حلّت بكِ يا شِيكاغُو. شَظايَا تتهَادى مِن السّماواتِ عَلى القلوبِ البائسَة، أشتَمُّ عبقَ الدّماء، فُرجةُ الجَحيمِ قدْ أطلّت مِن اللّامكان، لأجلِي، لأجلِنا يَا "جوناثَان"، أزِفت الآزِفة! سَنرى أيّها الجاثمُون فِي المراقدِ إلى أينَ ستفرُّون، سنرَى أيّها العنجهيُّون لمنِ اليد العليَا اليومَ وكيف منّي ستُشفِقون، سيتمزجُّ هَذا الذّعرُ بصرخاتِ الموتِ وأصنعُ اليومَ ملحمَةَ التّاريخِ الأعظَمِ! ستلطمُ أعَاصيري سلامكَم المزعومُ، سأردّ جبروتكم فِي نحوركِم بعدَ الحسبِ أنّنّي منكم بمَهزوم!

الجدارُ ينهالُ عَلى سقوفِ الأمنِ العتِيق، سُحِق المئاتُ لتوّهم ومَا أنا بالشّفيق، الغبارُ يعبّقُ في الهَواءِ ويغشّي العيونَ التّائهة، مَا بالُ الأفئدةِ قد بلغتِ الحنَاجرَ بعدَما منّي مَا كنتُم تخَافون؟! الرّكامُ المتهاوِي منَ الجِدار هشّم الآمالَ السّحيقة فِي الحَياة، وشرذمةُ أهلُ شيكاغُو بينَ قبضتّي العِفريتِ المريدْ، أنا العفريتُ المريدْ!

سُحِقَ المتكبّرون في الدُّهورِ في دقائِق، الجثثُ كشهبِ نازِفة تتهاوَى، تزّفُّ الحُبّ الأوْحَد، جوناثَان يا معشوقَ اللحظِ والخَافِق، انظُر لما صَنعتُ لأجلِك، أشبعتُ الغضبَ الملجُوم من حفنةِ الحُثالة، أنَا الآنَ لك، وأنتَ لي!!

لكنّهُ انتَشَلَ نفسه منِّي.. من بينِ أكُفّي انزلق ورقدَ بينَ الحُطامْ، تحاملَ على نفسه واقفًا مُقيّدًا بالبُهتان تمشى بينَ أجثاثِ الخَلائِق يبكِيهِم، يتَحسّر على مدينة أحالها اللُّهجُ يَبَابا. سقطَ على رُكبَتيه وناحَ وصَرخْ، يَكفي يا جُوناثان بتَّ الآن كسيرَ الروحْ مالكَ سِوايْ فدَعْ بَني الأديمِ للرُّكامْ وهيّا نَنَلْ وأنتَ رِحابَ السّماءْ. احتويتهُ، عيناهُ غائمتان وخُصلاتُه القَمحيّة تتموّجُ من خِلالي.
قالَ لي: " لَنْ نُغادِرَ أبدًا، سنبقى هُنا أبدَ الدَّهرْ نذْرُ رمَادَ الموتى. فشيكاغو قَفَصُكِ وأنا السَّجَّانْ
! "

غارَ صوتُه وتَلاشى واستَوَينَا كيانًا واحدًا، حَلَّقنا عبرَ أرضٍ باتَتْ خرابًا، بينَ الرَّواسي عَصَفنا واقْتَحمنَا سَكِينة الجداولِ والوِديانْ. مَضتْ بِنا السّنواتْ ونحنُ وحِيدَا بعضْ فقطْ أنَا وهوَ.

جُوناثَانُ الذّي عشِقتُ لم يكَن حاضرًا بعدَ الخِيانةِ بأوَان، وَيلِي مِن بنِي آدمَ حتّى بعدمَا توارَوْا تحتَ الثّرى حَرمُوني جُوناثَان! مَا فتِئ بينَ الفينةِ والأخرَى يبكِي الأرضَ والأهلَ ويلعنَ شهوتِي للانتقَام، جُوناثان، جُوناثَان، ستُخلَّد فاجِعةُ شِيكاغُو مَا مرَّ الزّمَان، وسيقرصُنِي النّدمُ.

أعَانقُ الأطلالَ التّي امتزَجت بكارثةٍ من أزمانٍ سَحيقَة. أُورِثتُ شعورَ الكسر، فَارسِي قدْ جَبلنِي عَلى الحُبّ لبني الإنسَان، لكنّ شظفَ العِشقِ الذّي وُهبتُ مِنه كَان خَمري، ووَقودَ جَلدِي عَلى ارتِحَاِل رُوحِه إلى حيثُ شيكَاغُو العَتيقَة. أنا غضبُ الطّبيعةِ ومرقدُ العَذابِ، وَهُو سُكونُ المَوتِ وَقدَاسةُ الرّحمةِ، عَلى النّقيض وَالأنقاضِ نجتذبُ الحُبّ ونُوَاري الثّريّا، أيّما ارتَحلْنَا فملاذُنَا شيكَاغُو، وإذمَا حلّت سَاعةُ الدّمار أهزجُ بريَاحِي سُمفونيّةَ العَذاب..



أنيْن، أنيْن.. يفيضُ مَا تَوالتِ السّنين.


أنيْن، أنيْن..يَا فَارسِي أيقتُلكَ الحَنين؟

مَات الدَّمع في محجَريّ الأمّ، مَات الجَنين.

كنّا عَلى شَفا الحُب، الصّفير، يعلُو يعلُو إلى حدًّ مُستَكين.

الوُرودُ فِي الحَديقة، كَانت لهَا عشِيقة، الرّيحُ تهزجُ "جُوناثَان" فِي أنيْن.

مَتّى كَانَ الحُبّ قاتِلًا؟ مَتى تُحيى ذِكرى الضّحايا بحدّ سكِين؟

- أصوَات صُراخ، بكاءٌ حَاد لا يَنقطِع، والرّيح–.

أنيْن، أنيْن..قُتِل فِي الهَشيمِ الغَافلِين.

أنيْن، أنيْن..بالأمْسِ كنّا معًا، واليومَ تائهِين.
.
.
.




.
[/ALIGN][/CELL][/TABLETEXT][/ALIGN]