عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 10-09-2015, 10:06 PM
 
[ALIGN=CENTER][TABLETEXT="width:100%;background-image:url('http://www4.0zz0.com/2015/09/21/23/470405668.jpg');"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]


الفصل السابع


في البدء كانت نجاحاتها تسعده. يضعها في ميزان زهوه ووجاهته. فما كان يرضى بها لو كانت امرأة فاشلة او عادية. ثم بدأت التفاصيل المنقولة في الصحافة عن طاهرة هالة الوافي واجتياحها لقلوب الناس اينما حلت، تزعجه بعض الشي.
لعله بدأ يتنفس اوكسيد كربون الغيرة، لكنه يرفض ان يعترف لنفسه انه يغار. لا يدري ان كان يخاف عليها من شهرة ستفسد براءتها ام من ضوء سيجذب الرجال اليها. وهل يريد لها نجاحا يباهي به، ان يفضل لو ابطأت بلوغ نجاحها كي تبقى له.
هاتفها ليطمئن الى استحواذه عليها. قال :
- اشتريت تلك الشقة في باريس وانتهيت من تأثيثها، بإمكانك الحضور متى شئتي ان كنت مازلتي تحبين الغابات.
ردت مبتهجة لتستدرجه الى اعتراف ما :
- أفعلت هذا من أجلي ؟
قال مازحا :
- لا .. من أجل الاشجار طبعا .
وكان يعني : من أجل ثمار حان قطافها.
ردت ضاحكة :
- لن تنجح في جعلي أغار من الاشجار.
ليست الاشجار بل الاصفار هي اليت كانت ضرتها، وهذت يفسد فرحتها.
كحين راحت تبحث في حقيبة يدها ، عن بطاقة هاتفية قد يكون بقى فيها ما يكفي من الوحدات، لتزف له خبر حصولها على تأشيرة لفرنسا. فعلقت نجلاء مازحة وهي تراها تجرب ما في حوزتها من بطاقات، من تلك التي تمكنك من الحديث الى الخارج بسعر منخفض.
- ان في حقيبتة يدك من البطاقات الهاتفية، بقدر ما في جيبه من بطاقات مصرفية. هو يقيس الحب بالعملات وانت بالوحدات .. عليك ان تتقبلي منطق الاصفار التي تباعد بينكما والا فستشقين.
كانت أكثر فرحة من ان تفكر يومها في الشقاء. كل ما تريده من نجلاء ان ترافقها لشراء ثياب جديدة. هذه المرة هي تملك امكانات ابهاره.
لكنها أخفت عن نجلاء حقيقة أخرى. وهذا دليل عى انها مقدمة على فعل تستحي ان يعرف له أحد. كيف قبلت عرضه بان تقيم في بيته ؟
اي قدرة يمكلك هذا الرجل لجعلها تقبل بكل ما قضت عمرها في رفضه. احتارت في حل معضلتها : لو حجزت في فندق بسيط فسيعلم بالامر. لو حجزت في فندق على قياس جيبه، فسيفرغ جيبها، وتفسد تكاليف الفندق فرحتها. ولو اقامت عنده لخالها فتاة سهلة.
امام ترددها في قبول عرضه، اقنعها بان البيت تحت تصرفها وحدها، وان ثمة نسخة واحدة من المفاتيح ستكون معها ، و .. انه اشترى البيت لاسعادها، ويعز عليه الا تكون اول من يقيم فيه. هذه الجملة بالذات هزمتها. لعله يخطط معها لعلاقة شرعية.
قبل السفر هاتفته سائلة :
- ماذا احضر لك معي ؟
اجابها محتفضا لنفسه بابتسامة :
- فقط تعالي لدي هنا كل شيء
ردت مازحة :
اوهمني ان ثمة ما تحتاج ان احضره لك. لا اطمئن لمن لديه كل شيء.
لم تقل له انها تحتاج لمن يحتاج اليها. لانه ضل على رايه، اخذت له معها عرجون التمر التي احضرته عمتها من الجزائر، وكتابا فخما بالفرنسية عن اغرب الاشجار في العالم وما حيك حولها من اساطير. في جميع الحالات، ما كان يمكن ان تدخل بيته فاضية اليدين.
سافرت باحاسيس متناقضة لم تعرفها من قبل. لم يحدث ان وضبت حقيبة للهفة، ولا اخذت تذكرة للسعادة. لاول مرة أصبح للحب مطار وعنوان .. وبيت ينتظرها فيه رجلر.
بدل ان تسعد اصيبن بذعر السعادة.
في المطار، املت على سائق التاكسي عنوان قدرها. تذكرت امها، تراها عرفت احاسيس مجنونة كهذه، لتغادر حلب وتحلق برجل غريب الى بلدة جزائرية نائية.
عند باب البناية الفخمة ذات الطراز المعماري القديم، دقت شيفرة الباب التي امدها بها. اربعة ارقام وانفتح الباب الزجاجي.
ماكادت تدلف البهو الكبير، حتى جاء البواب لنجدتها. لعله رآها على شاشة تائهة في صالون البهو. سألها:
- انستي .. هل يمكنني مساعدتك ؟
اجابت مرتبكة كانه سيتعرف اليها :
- اريد شقة السيد طلال هاشم.
دبت فيه الحماس وحمل عنها الحقيبة حتى باب المصعد. طلب المصعد وقال :
- الطابق التاسع على اليمين.
كان باب الشقة مفتوحا. وجدته ينتظرها على العتبة. قبلها على وجنتيها مرحبا وسحب الحقيبة الى الداخل.
لم يعلق على حقيبتها الثقيلة اكثر من الازم، والمدحمة كقلبها باشياء ليست كلها ضرورية. كان يجد في علامات تخلفها هذه ما يطمئنه.
ذهب بالحقيبة الى غرفة داخلية وعاد الى الصالون مبتهجا ، كان شعاعا دخل بيته في تلك الظهيرة الباريسية. سألها كيف كانت رحلتها من بيروت الى باريس. لم يسالها عن رحلتها الاصعب تلك التي قطعها قلبها من المطار الى بيته.
ها هو اذا. اخيرا هو. سعيد ودودا كما لم تره يوما. لكنه على احتفائه بها بدا هو نفسه غير مصدق لوجودها في بيته. نسي ان يضمها، راح يتاملها، بينما راحت تتأمل الشقة، في اناقة اثاثها القليل والمنتقى بذوق عصري راق. كل شيء شفاف من الزجاج السميك الفاخر، الطاولات كما الرفوف تقف على أعمدة زجاجية بقواعد ذهبية. حتى الكراسي بلون عاجي غير مثقلة بالزخرفات. انه فن المساحة. لا شيء يثقل فضاء الرؤية، والسجاد يبدو لوحة حريرية بألوان ناعمة مدت على الارض.
لا شيء يشبه البيت الذي تركته خلفها في الشام، ولا الاخر الذي عاشت فيه في الجزائر، بصالونه الذهبي واطار لوحاته اذهبية وطاولاته الذهبية . الثراء الحقيقي لا يحتاج الى اشهار الذهب. لا يعنيه ابهار احد. ذا وحدهم الاثرياء يغرفون بنظرة، قيمة اشياء لا بريق لها.
- تعالي اريك المنظر.
لحقت به الى االشرفة. كان المنذر يطل على جادة تعبرها بعض السيارات، وعلى طرفها الاخر تمتد غابة تتوسطها بحيرة.
- تدرين .. كنت محظوظا، قل ما تعرض شقة كهذه للبيع. من هذا العلو احظى بمنظر خلاب. الذين يقطنون هذه الاحياء الراقية قليلا ما يعرضون ممتلكاتهم للبيع. انهم يتوارثون. شطارتك في ان تغريهم بعرض يفوق القيمة العاطفية لارثهم.
لم تساله عن الثمن الذي دفعه لاقتنائها، ولا عن قصة أصحابها، وحدها قصتها تعنيها، في بيت تمنته جدران حياتها وسقف احلامها.
تمتمت بالفرنسية وهي ترى المنظر في الخارج :
- Mon dieu comme c’est beau
علق :
- يسعدني ان يعجبك. انت او من يزوره . حتى زوجتي لا علم لها بوجوده.
فاجأها اعترافه. شعرت بانها ثمة بنشوة تعيشها كحم كأنه يقول لها انها اهم عنده من زوجته.
واصل وهو يدلها على جهة اخرى:
- لشقة مدخل خاص بالخدم.
كل شيء كان يوهمها انها غدت ربة هذا البيت، الذي راح كمرشد سياحي يرافقها في زيارته.
واصل :
- في ابيت اربع غرف نوم مرفقة بحمامانها.
غير انه لم يرها منها الا الغرفة الاولى حيث وضع حقيبتها. ادركت انها غرفتها.
اكبرت فيه وقوفه عند عتبة ذلك الباب فلم تجتز بدورها العتبة.
عاد ادراجه مجتازا الممر. سالها وهو يدلها على المطبخ ويفتح البراد :
- لعلك جائعة. او تودين شرب شيء ؟ لدي اشياء خفيفة.
كان البراد ببابين كل شيء فيه مرتبا وشهيا كما في اعلان تلفزيوني.
لكنها لم تكن قد استوعبت بعد كل ما يحدث لها، ولا فكرة وجودها في بيته وفي مطبخه، واقفة على مقربة منه.
ما تريده حقا هو التهام تلك المسافة اللعينة التي تفصلها عنه منذ اشهر.
ردت :
- شكرا ليس الان .. لست جائعة الا اذا كنت تنتظرني لتتغذى.
اجاب وهو يغلق البراد :
- بل انتظرك لاحيا ..
حل بينهما صمت مباغت. شلتها الرغبة في انجرافها المحموم، تسمر كل منهما مكانه. كانا على بعد متر احدهما من الاخر.
قال لها وهي في الصالون :
- عندي مواعيد في المكتب. ارتاحي قليلا من السفر، ساعود مساءا لاصطحبك الى العشاء. واصل وهو يتجه نحو الباب : بالمناسبة انا طاه بارع. ذات مساء ساعد لك غشاءا في البيت.
اسعدتها الفكرة. لكنها احزنتها لاحقا. حين قال لها مساءا وهما في المطعم "عندما احب امرأة اطهو لها بنفسي".
فقدت شهيتها وربما صوتها ايضا. لم تساله " هل حدث هذا مرارا؟".
كما لم تجرؤ على سؤاله، وهو يرافقها بعد العشاء حتى الشفة ليطمئن الى كل شيء ويغادر الى بيته الاخر: من تراها تكون بالنسبة اليه بالتحديد ؟
كان يتقن لعبة الغموض. في الواقع توقف الامر عى ان يكون لعبة، مذ امتلك الحكمة والنزق في التعامل مع الحياة. الانضباط سر نجاحه. مذ قرر ان يعطي كل شيء وقته . وكل واحد حقه. لم يحدث ان جمع بين املاأتين في مدينة واحدة. يحتاج الى ان تغادر زوجته باريس ليكون لامرأة غيرها. ليس خوفا منها بل خوفا ان تخونه رجولته معها، او تخونه شهامته حين بين امرأتين يخلو بنفسه. ماعاد قادرا في كل لقاء على منح نفسه كليا، وعلى استعادتها كليا وهو يرتدي ثيابه ويصفق الباب. انتهى ذلك الزمن المجنون، الذي كان بامكانه العيش فيه حيوات عدة في ان واحد، وأكثر من نهار في يوم واحد، وداراة ومراعاة كل امرأة على حده.
سعادته الان في التوفيق بين حياتين متوازيتين، عليهما الا تلتقيا، ويحتاج اليهما معا ليحيا. وفي انتقاء المتع الراقية، كزجاجة نبيذ فاخر لسنة استثنائية. هكذا يراها، تلك الصبية التي تركها منذ أشهر تتعتق.
كل اكل النساء حوله جاهزات للعطاء، او بالاحرى لاخذ ما يدعين عطاءه. وماكان يريد غير امرأة واحدة تكون من يعطيها. ثمة شقاء مخيف، يكبر كلما ازداد وعينا بان ما من احد يستحق سخاءنا العاطفي، ولا احد اهل لان نهدي له جنوننا.
كان دائم البحث عن امرأة تفقده صوابه. يقوم من أجلها بأعمال خارقة. يمارس أمامها خدعه السحرية، يضعها في صندوق زجاجي، يشرطها وصلا وهجرا الى نصفين، ثم يعيد جمع ما بعثر منها. ككبار السحرة، يخفي بحركة ساعة معصمها، ويخطفها لقضاء نهاية اسبوع في فيينا او البندقية. يلغي من أجلها مواعيده، ويخترع للقاء بها مصادفات. يخرج لها من قبعته السحرية سربا من حمام المفاجآت، وحبلا من تامناديل الملونة، تتمسك بطرفه وترتفع اليه، ففي كل ما يقدم عليه مع امرأة، ماكان يقبل بغير الحالات الشاهقة والصواعق العشقية.
استيقظ صباح الغد بنية اذهاش الحب. لعله شعوره بالذنب وهو يتخلى عنها البارحة في ذلك البيت لتقضي اول ليلة بمفردها. قرر ان يخرج من قبعته احدى المقالب السحرية. كما في استعراض سحري، الدقة الفائقة في ضبط الوقت، هي الشرط الاول لضمان الابهار.
حسب تعليماته من اساعة العاشرة تماما، دق جرس البيت. لم تدر ان كان عليها ان تفتح. نظرت من عين الباب. لمحت البواب برفقة شخص يحمل سلة ورد. سارعت الى ارتداء روب البيت، ثم فتحت الباب.
قال البواب وهو يحييها، ان واجبه مرافقة اي غريب يوصل شيئا الى ساكني البناية. شكرته وتسلمت منه باقة الورد. تنبهت بعد ذهابهما انها لم تعطي حامل الورد شيئا يليق بهيأته الانيقة، المشابهة للموظفين الواقفين عند أبواب الفنادق الفاخرة، ببذلاتهم ذات الازرار الذهبية وقبعاتهم المميزة.
منذ متى لم تصلها منه باقة التوليب تلك ؟ ربما منذ حفل القاهرة، قبل عدة أشهر.
توقعت منه مكالمة هذا الصباح. لكن، ربما ما كتبه على البطاقة أجمل.
وضعت الورد على الطاولة وراحت تبحث عن البطاقة. لم تقع الا على علبة ضغيرة بشرائط جميلة. لعلها ساعة. ما حاجتها الى ساعة. ايريد ان يعتذر لها عن الساعات التي ستقضيها في انتضاره ؟ ام ليمتلكها بها ؟ بدأت تتذمر حتى قبل ان تفتح العلبة. لا أسهل على الاثرياء من ارسال هذية ثمينة.
كانت منهمكة في فك الشرائط، حين انطلقت موسيقى من قلب العلبة. انتفضت. ثم وقد تجاوزت وقع المفاجأة، راحت تمزق ورقة الهدية بسرعة. أخرجت جهاز هاتف من العلبة، وضغطت اول زر صادفها.
وضعت الهاتف على اذنها جاء صوته:
- اشتقت اليك ..
ترك لها الوقت لاستيعاب المفاجأة.
ثم اضاف :
- احتاج ان اسمعك اينما تكونين. (كان عليها ان تفهم : اريد ان اعرف دائما اين تكونين) وضعت لك في هذا اهاتف خطا فرنسيا. بامكانك استهدامه اينما كنت في العالم. اذا احتجتي الى شيء يكفي دقة واحدة او رسالة. ساطلبك اول ما استطيع.
لانه لم يسمع لها جوابا، سألها :
- هل اشتقتي الي ؟
ردت بصوت افقدته المفاجأة نبرته :
- عليك اللعنة .. كنت ستقتلني .
رد ضاحكا :
- ليس اليوم .. هل احببت الدانوب الازرق ؟
لم تدر بما تجيبه. أيكون في العلبة شيء لم تره بعد ؟
واصل :
- انها المعزوفة التي أحبها اكثر .. أريد ان اراقص روحك كلما يدق الهاتف.
ودعها وعاد سعيدا الى مشاغله. سعيدا من أجله اولا. في كل ما يفعله، هو اول شخص يود ادهاشه. انه الساحر والمندهش الاول لادواره السحرية .
العاديون من الناس يرسلون مع الورد بطاقة. أما هو، فارسل لها مع الورد صوته.
هل حدث لامرأة قبلها ان خرج لها صوت من تحب من سلة ورد ؟
يشك في ان يكون غيره فكر في وضع هاتف مفتوح داخل علبة مغلقة. وحدهم العاديون يرون قيمة مضافة في تقديم هذايا مغلقة ومختومة، كما خرجت من المصنع.
لا أفقر ممن يفتقر الى الخيال.
ثم هو يريد هاتفا لم يعبره صوت رجل قبله. هاتف لا سوابق له يصر على عذرية الاشياء التي يقاربها.
ضلت ممسكة بالهاتف، غير مصدقة ما حدث لها. ليست هديته التي اسعدتها، بل تلك اللحضة التي انطلقت فيها الموسيقى من سلة الورد. وصوته القادم في الدقيقة التي كانت تفتح فيها العلبة. كيف استطاع برمجة كل شيء لادهاشها.
وكيف لا .. اوليس سيد ضبط الوقت، وضبط الاقاع. هو هو جوهرجي الدقائق وواهب الساعات الماس عقاربها.
راحت تبحث في العلبة عى شيء اخر قد يكون خبأه لها. بدا لها ساحرا يمكن ان يخرج من قبعته أكثر من مفاجأة، لكنها لم تعثر سوى على عقد صيانة الجهاز، وأخر عليه رقم هاتف شريحتها الجديدة. أخذت الورقة وراحت تطلب رقمها من هاتف البيت.
انطلقت موسيقى الدانوب الازرق. تركت الهاتف يدق وراحت تدور مع الفالس. فتحت النافذة. شعرت ان الموسيقى تطير بها فراشة في غابة بولونيا، وكأن البط والطيور والغيوم والمسافرة، ترقص معها على المرح الشاسع للكون، وان الاشجار تحسدها، وتتهامس "أيكون قد استبدلنا بهذه المجنونة ؟".
حين حضر المساء سألته :
- اتكون هذه هي السعادة ؟
اجابها:
- انها مجرد تمرين عليها.
- وهل ثمة ماهو اكبر ؟
- سترين ..
برغم ذلك لم تنس ان تبدي له رفضها القاطع السماح له بدفع فواتير هاتفها قالت :
- يسعدني ان يكون ي اخيرا رقم يربطني بالعالم اينما كنت. ساحتفظ بالجهاز وبالخط ، لكن لن يدفع احد فواتيري. البعض ينفق ماله في المطاعم، البعض الاخر في الثياب، واخرون في شراء السيارات، اما انا، فقلبي اولى بالانفاق، انفق على عواطفي. نصف دخلي اشتري به كلمات. تدري انني احتفظ بكل البطاقات الهاتفية التي حدثتك عليها.
رد :
- احتفظي بها ان شئت، لكنني احتفظ بحقي في دفع فواتير قلبك مادام قلبك معي.
واصل منهيا النقاش :
- هذا المساء سنبقى بالبيت. ماذا تودين ان اعد لك ؟
ماكان من مجال لمناقشته في شيء. انتهى الامر. هو لن يعود الى موضوع الفواتير. لكن الامر يزعجها حقا. ان الهاتف "رجل حياتها" كما تقول نجلاء. ون تقبل ان ينفق احد على نصفها الاخر.
كانت لوازم اعداد العشاء موجودة في المطبخ حسب قائمة المشتريات التي احضرها السائق. منتقاة بمقياييس جودة معينة، حتى لتبدو وكأنها للزينة لا للاكل. فهي ايضا موقعة من ارقى محال الخضر في باريس . سالها ان كانت تحسن الطبخ، اجابته :
- الجوع امهر الطباخين .. يكفي ان تدخل المطبخ وانت جائع.
صححها :
- بل الحب هو الامهر .. يكفي ان ندخل المطبخ لاعداد عشاء نتقاسمه مع من نحب.
تأملته وهو يختار القدر المناسب لكل طبخة. سكاكين مختلفة حسب كل استعمال، ياخذ الوقت اللازم لتطرية البصل. يعرف الدقائقالكافية لشي شرائح السمك .. التوقيت الذي يقوي او يخفف فيه النار تحت الطبخة. متى يضع الغطاء على الرز وهو يغلي .. ويخفف النار تحته الى أقل درجة. كيف يقلب الخضر دون ان يلحق اذى بشكلها. علقت متعجبة :
- ما ضننتك ملما لهذا الحد باسرار الطبخ.
أجاب :
- انا ذواق وليس طباخ .. تمنيت لو استطعت ان ادعوك الى حد مطاعمي لتتذوقي المطبخ الراقي الرفيع. مع الاسف يصعب علينا التواجد هناك معا، لكن جميل ان يرتاد الاخرون مطاعمي اثناء انهماكي في اعداد العشاء لمن احب.
لاو مرة سمعت منه هذه االكلمة، في اعتراف غير مباشر. فهو لم يناديها يوما "خبيبتي" ولا قال لها يوما "احلك". خبأها بعيدا في قلبها، ستحتاج الى سماعها لاحقا في وحدتها.
دعاها الى الصالون في انتضار ان يجهز العشاء.
أطفأ جهاز التلفزيون حال سماعه لعناوين أخبار الثامنة. قال :
- اهانة للحب ان اتابع الاخبار معك.
ذهب يختار من مكتبته الموسيقية معزوفة تليق بتلك اللحظة.
قال وهو يضع مقطوعة ل "كليدرمان" :
- تحلي بالصبر سيكون العشاء شهيا .
كانت واثقة من ذلك. وقد هبرت معه على مدى أشهر، النضج الطويل على نار الصبر. الم يقل لها وهو يخفف النار تحت الطبخة "الطهي على عجل يفقد الطعام نكهته .. ككل متع الحياة".
هذا رجل ليس في مطبخه "طنجرة ضغط". معه تستوي الحياة على نار خافتة
توقعاته سيغادر بعد العشاء. لكن، عندما طالت بهما السهرة، بدأت تتاكد بان زوجته قد سافرت، وهو حر الليلة.
أسعدتها الفكرة واربكتها في آن.
بدت له كأنه لم يعرف عنها شيء. كتاب مغلق على سره، لم تفصل اوراقه عن بعضها البعض بسكين. كتاب من تلك الكتب القديمة، التي ما عاد المرء يتوقع مصادفتها.
اليوم تأتيك الكتب مفتوحة الاوراق، جاهزة للمطالعة الفورية. ولذا اختفت من المكتبات تلك اسكين الخاصة بفص اوراق الكتب .
عندما أبدت له في المطبخ عجبها من امتلاكه ذلك الكم من السكاكين المختلفة الاحجام، أجابها "يعرف اطباخ الجيد من حسن اختياره لسكاكينه".
يبدو جوابه الان دعابة، يبتسم لها وحدها. الطباخ الجيد لا يقطع اصبعه ابدا . لقد اكتسب خبرة الامساك بما يفرمه. لاشيء ينزلق من يده.
ما جدوى ان تكون طباخا جيدا اذا كنت عاجزا عن احكام قبضتك عى فناة .
لا يحب خذش حياء اكلمات، ولا كان يريد اكثر من ضمها حد الانصهار في صباها، واحتواء انوثتها .
كان له، في آن الحضور الحاني .. والبطش العاطفي. يتقدم يوما بعد آخر في اجتياح مدروس لامتلاكها
هذه المهرة الجامحة، مجرد تطويقها بحبل سخائه فوز في حد ذاته. لكن المهرة ماكانت ترى بعد من الحبل سوى طوق الحمامة. مأخوذة بخقه وأمانته. دوما توقف حيث أرادت له ان يقف.
انى تمر يداه تزهر انوثتها، لكنها ترفض ان يقطفها. ما يعطى بسهولة يفقد بسهولة.
واظب على دراسة خريطة الطريق الى قلاعها. كما امام رقعة شطرنج. كان صبورا ومتأنيا. القلاع الانوثية لا تؤخذ عنوة ولا عند اول امكانية ولا في جنح الظلام. ذلك فعل قطاع الطرق لا الفرسان.
قال لها وهو يقبلها مغادرا البيت صباحا الى مكتبه :
- سأحضر في الساعة الثانية لاصطحبك الى الغذاء .. وبعدها نذهب للتسوق.
ردت:
- لكنني احضرت معي ثيابا كثيرة.
- انس ما احضرت معك . لا يجوز ان ترتدي ماهو في متناول العامة.
ماكان الصبح وقتا مناسبا للشجار، خاصة انه، في انتضار ان تستيقظ، كان قد اعد لها فطورا الصباح، ولم يحتس سوى قهوته في انتضارها.
ستستفيد من الوقت لتوضيب حقيبتها استعدادا للسفر غذا.
على الغداء قالت له بشيء من الاسى:
- يحزنني ان أسافر من دونك. لي أمنية .. ان نأخذ يوما الطائرة معا.
ابتسم بسخرية لا تخلو من المكر. قال:
- تحققت أمنيتك
سألته مبتهجة :
- حقا . . هل ستسافر معي ؟
- كنت اعني حدث ان سافرنا معا ..
ردت بنبرة واثقة :
- لم يحدث هذا أبدا.
أجابها :
- بدليل انك لم تعرفي يومها كيف تغيرين برنامج الشاشة او تشغلي أزرار المقعد.
أجابت مندهشة :
- متى حدث هذا ؟
رد بابتسامة :
- هذه أسراري الصغيرة.
أسراره الصغيرة وجرحه الكبير.
حتى في أقصى لحضات سعادته معها، لا يفارقه احساسه بالشك في عواطفها تجاهه. ليس هو من تحب، بل حبه لها . تحب السحر لا الساحر. لكنها تشتهي اولئك الرجال الذين قصدتهم أثناء بحثها عنه.
لم يحدث لامرأة قبلها ان أعطته ذلك الاحساس بالظآلة. ان الغت وجوده وهو ملء عينيها في المطار، وعلى بعد مقعد منها على مدى اربع ساعات في الطائرة.
قال معتذرا وهما على طاولة الغذاء :
- تمنيت و اصطحبتك الى أماكن كثيرة .. لكني معروف في باريس. سأسعى لنلتقي في مدن أخرى.
أجابت :
- لا تعنيني السياحة .. اتفهم تماما وضعك. شكرا عى ما خصصت لي من وقتك.
أجاب :
- بل شكرا عى ما اعطيتني.
أضاف بعد شيء من الصمت :
- وشكرا عى ما لم تعطني. ادري في بلاد أخرىتذبح الورود لتسقى بشرف دمها المراق أرضا ماصان رجال القبيلة شرفها كل ما اتمناه ان تكوني سعيدة.
كيف لامرأة ان تنسى رجلا آسرا ومدمرا الى هذا الحد، برقته وشراسته ، غموضه وشفافيته، لطفه وعنفه، حقيقته وتعدد أقنعته ؟
كل امرأة تملك منه نسخة فريدة من كتاب الحب. هي القارئة والبطلة قفيه، ولا أحد سيصدق يوما ما سترويه لا احد.
عادت الى الشام في نزول اضطراري، من تلك الغيمة القطنية البيضاء، التي أقامت فوقها لهمسة أيام.
غادرت احلامها دون مظلة تقيها الارتطام بالارض.
عليها الا تنفضح بسعادتها، ولا بجوعها الدائم اليه. الشبع بداية الجوع، وهي تحتاج اليه حاجة انثى اكتشفت جسدها لتوها.
ارتأت ان تتواجد أكثر في بيروت لتكون أقرب اليه. احساسخا يقول انه سيتسنى له زيارتها هناك، لانه سيتعذر عليها ايجاد ذرائع للتردد على باريس. ذا اختارت ان تقيم في شقة في افخم أحياء بيروت.
أبراج فاخرة في الرملة البيضاء تطل على البحر. سكانها غبراء واغنى من ان يتواجدوا دائما في بيوتهم، او يملكو وقتا للفضول.
صاحت نجلاء :
- جننت. ستدفعين في الايجار ما يعاد ثمن شقة في الشام.
- ربما زارني .. لا اريد ان ابدو امامه مقيمة في حي متواضع .. انت لم تري بيت هذا الرجل ولا عالمه.
- يكفي ان اراك لافهم انك فقدت صوابك .. ثم شقة كهذه يلزمها اثاث كثير.
- بل القليل من الاثاث .. الفخامة لا تحتاج الى زحمة الاشياء.
- عهدتك بخيلة على نفسك. هل اكتسبت منه عادة الهدر ؟
- انا لا انفق على نفسي. انفق على كرامتي. اريد ان يرى انني اضاهيه ذوقا. لا اتقبل منه اية نظرة فوقية.
- من اين لك المال ؟
- من الحفلات . أمامي عروض كثيرة . الصيف على الابواب .. انها مواسم المخرجانات.
- أخفت عنه موضوع الشقة تريد ان تفاجأ هبها.
- أخفت الامر عن أمها ايضا، حتى لا يكون عليها تقديم تبريرات غير مقنعة.
- زفت له اخبار حفلاتها القادمة. فاجابها رد فعله في تلقي الخبر.
سألها بلغة رجل الصفقات :
- كم ستجنين من كل هذا ؟
وعندما سمع الجواب قال :
- لا تغني في هذه المهرجانات. انت أكير من هذا الحدث ومن هذا الجمهور.
لم تجرأ ان تقول له انها تحتاج الى هذا المبلغ وهذه الشهرة.
قالت :
- لكن مطربات شهيرات ستغنين فيه.
- الشهرة يست دليلا على عظمة اصحابها .. هل ستغني فيه فيروز مثلا ؟
ردت بارتباك :
- ولكني لست فيروز.
- نحن نساوي من نقيس انفسنا بهم. لا تقيسي نفسك الا بالكبار ان شئت ان تكوني كبيرة.
شعرت بانه يريدها نسخة انثوية عنه، وانها ستخسره ان هي صغرت او فشلت. عليها ان تختار : اتريد ابرام صفقة هبز مع الفن ام ابرام صفقة مجد مع الحب ؟ لكنها وقعت التزاما باقامة حفلين، والغاء العقدين يوجب عليها جزاءا ليس في متناولها. اضافة الى عجز في دفع ايجار الشقة. في الواقع، ما كانت تملك الخيار.
قبل أيام من حفلتها هاتفته طمعا في تفهمه، تخبره بالتزاماتها تجاه متعفد الحفل. استمع اليها ولم ينبس بكلمة. وعندما انتهت المكالمة ما كانت تدري ان صمته سيدوم شهرين.
كانقطاع مفاجئ للكهرباء، اختفى صوته فجأة بعد تلك الاضاءت المعمية للبصر. انقطعت لهفة هواتفه. اتصلت به مرتين، لكنه كلما ظهر رقمها عى شاشته كان يتعمد عدم الرد ليتركها تائهة في خضم الاسئلة، يساورها الندم على خطأ اقترفته ولا تدري ماهو.
هو لا يشرح ولا يعاتب. مثله يعاقب، وعيها الاستعانة بفقهاء الشأن العاطفي ليفسرو لها لماذا نز عليها غضب الالهة.
تقول نجلاء انها مناورات عاطفية. كلما شعر انه مهدد بفقدانها تخلى عنها، فانشغلت عن عملها بالعمل على استعادته. حيلة سضمن بها استعادتها من خلال منعها من العمل .. اذ يتملكه احساس بان شهرتها تسرقها منه. هي محاولة للاستيلاء على روح تتمرد عليه لانها حرة.
لا تفهم من كل ما تقوله نجلاء الا كونه يحبها .. ويريدها له وحده.
تهزمها فكرة غيرته عليها وحرصه على الاستحواذ بها. تشعر انها ظلمته، تود لو اعتذرت له برغم ما الحق بها من اذى، وبرغم الحفل الذي ذهبت اليه باكية، والذي كان يمكن ان يكون انجح لو قال لها فقط كلمة.
ينهار صمودها. تهاتفه. لا يرد. تبكي ويضحك الحب.
سيظل يخطئ في حقها ثم يمن عليها بالغفران، عن ذنب لن تعرف ابدا ما هو، لكنها تطلب ان يسامحها عليه.
هكذا هن النساء ان عشقن.
امها التي وجدت في هم العراق ما ينسيها همها، صارت تقضي جل وقتها امام الفضائيات الاخبارية لمتابعة مسلس الغزو الامريكي وسقوط بغداد.
ذات يوم نادتها على عجل، لتشاهد شيئا على التلفزيون. توقعت ان يكون خبرا ما. لكن الخبر كان .. ان هدى من تقدم نشرة الاخبار على قناة الجزيرة.
كانت تتحدث عن سجن ابو غريب، وفضيحة تعذيب الجيش الامريكي للاسرى العراقيين. لم تلتقط الا جملها الاولى. اخذتها المفاجأة بعيدا. فلا يمكن لوجدانها ان يفصل بين هدى وعلاء. لقد جاء الى العالم ليحب هذه الفتاة ويمضي.
في كل ما طارد من امنيات، في كل ما اقترف من حماقات، في كل ما تبنى من عقائد، كانت عي عقيدته الوحيدة. ولذا مات موت المجاهدين، في حادث حب، ممسكا بيده سماعة الهاتف، سلاح العشاق .. الذي قد تكون فيه حياتهم او حتفهم.
يوم حضرت هدى تقدم لهم اعزاء، كانت منهارى، شاحبة، ذابلة، باكية، كانت كائنا من دموع. هشة الى حد ماكان الارهابيون يحتاجون معه الا قتلها. كان من الواضح انها ستموت قهرا.
لعل الرجل كان صادقا، حين اخبر علاء ذلك المساء انها غادرت الاستديو، ولا يستطيع اللحاق بها، لذا لا يمكنه الحديث اليها.
لكن ثمة احتمال ان تكون رفضت الحديث الى علاء لانه في رأيها قد اختار صف القتلة، وماعاد من امكانية لحب بينهما. وحدها تدري حقيقة ما حدث. كان بكاؤها يومها، يشي باحساس كبير بالذنب.
ها هي ذي اليوم، متفتحة كزهرة مائية، نضرة، مشعة، انيقة، متبرجة بحياء، لكنها لا تستحي من الرجل الذي احبها حد الموت، فهو ما عاد هنا ليشاهدها.
حتما، ثمة حكمة في الاسراع باغماض اعين الموتى، حال توقف قلبهم عن النبض، فلا بد الا يرو ماذا يحدث بعد موتهم، فيموتون أكثر من مرة.
لكن امها كانت ترى بعيون علاء. فكيف لقلبها المفجوع الا يعاود البكاء.
- يا حبيبي يا ابني .. يا ضيعان شبابك ما اجت الا فيك.
عكس امها ، هي ليست عاتبة عيها. لقد دفعت هدى ثمنا باهضا قبل بلوغها هذا المكان، وحين وصلته، وجدت من بعثو بأبناء الجزائريين الى الموت تحت الوية "الجهاد" ماعادو لاوين على شيء. لقد انقذو اولادهم، يعيشون ضيوفا مكرمين في البلد نفسه، مع كل من توافدو من البلدان العربية الاخرى ويحملون العقيدة ذاتها.
من حقها اذا ان تنجو بنفسها، ان تقفز خارج المركب، ان تجذف حتى اضفة الاخرى، فيقذفها البحر كما أفواج الصحافيين الى الخليج او اوربا. لا أحد يرمي بنفسه الى البحر، دون وجهة واضحة، ان لم يكن القهر قد القى به اليه.
ليس هناك خطر في ان تكون الباخرة في الماء، المهم الا تترك الماء يخرقها فتغرق. لكن الماء تسرب الى الباخرة، زاد الماء وانصب الهواء والذي لن يموت مختنقا سيموت غراق.
ليس كل من ابحر نجا، هول مصابهم نسي الناس النزاعات الاجرامية للبحر، وصدقو انه رفيق درب، سياخذ بايديهم الى اضفة الاخرى، فالقو بانفسهم اليه. لكن، ليس لبحر يد ليمدها لمن جاؤوو على قوارب الموت، وم يعرف عنه يوما مصادقة المفلسين.
تلك المواكب الورقية المثقلة بحمولتها البشرية، يتسلى بها البحر ، يبتلعها وهو يقهقه، ثم يتقيأ ركابها. يعيد جثثهم الى اشواطئ التي جاؤو منها. او يرمي بهم اشباه احياء الى الضفة الاخرى.
آخر مرة التقت بهدى قبل سنتين. لم يكن قد مر على اغتيال علاء الا خمسة اشهر، عندما نزل خبر موت الندير نزول اساعقة، فقد كان كثيرا ما يتردد على بيتهم ايام علاء. ذاع الخبر بين الناس بسبب شهرة اخته "مسكينة .. هاذيك الزينة اللي تقدم الاخبار .. خوها مات مع الحراقة هاج عليهم البحر مساكن .. ما نجاو منهم غير زوج .."
لترف الموت، غذا له صراعاته، وموضته، وتشكيلته الجديدة كل موسم. وهكذا، قبل "الموت حرقا"، وصلت موضة "الموت غرقا" الى الجزائر، بعد ان تفشت في كل بلاد المغرب العربي. راح اليأس يفصل لاتباعه اكفانا عصرية، من قماش الاوهام الجميلة. ماذا انتضار العالم الاخر لدخول الجنة التي يعدها بهم الارهابيون، ان كان بامكانهم بلوغها في بضع ساعات على ظهر مركب ؟
تشكلت طوائف انتحارية من احفاذ طارق بن زياد، الذي احرق خفه المراكب ، حتى لا يترك لجنوده الا احتمال الوصول منتصرين او الموت. مثلهم، ما اخذو معهم صداري للنجاة، ولا علقو زوارق مطاطية على جانبي مركبهم. نسو ان الغدر غريزة اولى لدى البحر.
ليكونو اخلا بتسميتهم حراقة الغو اي احتمال للرجوع، باحراقهم جوازات سفرهم واوراقهم الثبوتية. حتى لا يتركو لحراس الشواطئ على الضفة الاخرى امكانية طردهم من الجنة، ان هم وصلوها احياء. فسيكون صعبا عى بوليس الخجرة فك فوازير اصولهم، ومعرفة من اين جاؤو، والى اين يجب ترحيل هؤلاء القادمين من بوابة البحر الواسعة.
اما اذا غرقو فلن يدقق البحر في هويتهم، ستختار الامواج عنوانا لقبورهم.
اولئك الذين ماكانو يملكون شيئا يعز عليهم فراقه، عدا اهلهم، كيف لا تحمل الامواج احد رسائلهم، وهم يصارعون عزلا اخر موجة ستسحبهم حيث لا عودة. الرسائل غدت اغاني "راني في الموج نتقلب يا يما لحنينة .. ما بقالي رجوع .. اداني لبحر .. محال انولي".
الندير ايضا "اداه البحر". اخذخ حيث "محال يولي". حتى جثمانه محال يرجع، يحتاج الى تدقيق واجراءات واستجواب من ما زال حيا من رفاق رحلته للتعرف اليه، وهذا اذا عثرو على جثة تطفو من عشرات الجثث ، ولم تنته وليمة للحيتان، عندها تبدأ الاجراءات والمصاريف الباهظة لاستعادة الجثمان. اما الذين يعودون احياء فسيواصلون كابوسهم في السجن. فالدوة التي تدلل الارهابي لانه عاد بعد ضلالة، تجرم من هو جاهز للانتحار، لانها وحدها تملك حق قتله بالتقسيط.
زاد من مأساة اهله انه مات في شهر رمضان. فالحراقة يفضلون الابحار في رمضان، حتى ينطلقو عندما يكون حراس الشواطئ منشغلين بالافطار، فلا ينتبهون لمراكبهم حين تبحر ساعة رفع اذان المغرب.
اخر مرة اجتمع باهله كانت حول طاولة السحور، خافت الاضاءة كان صوته، كفنار بحري في ليل ماطر. ما انتبهو انه كان يودعهم. في الغد ادعى انه مدعو الى الافطار. قبلهم وطلب الا ينتظروه. لحق بوالدته الى غرفتها، كانت تستعد لصلاة العصر، احتضنها وقال "اما ادعيلي دعوة الخير ". قالت "دايما ندعيلك يا وليدي .. كاين حاجة مقلقتك ؟" اجاب مبعدا شكوك تمومتها "رايح انشوف ناس اليوم ان شاء الله نلقى شغل". قالت " روح يا وليدي الله يفتح لك كل باب وينصرك على عديانك".
وفتح اله له ابواب البحر .. كن لم ينصره على امواجه.
لعه ابحر صائما واخر وجبة طيبة كانت سحوره، فليس على المركب من مكان لحمل زاد الاكل. سماسرة الموت لا يريدون اثقال مركبهم بالمؤونة، يفضلون بدل حمولة الطعام .. كسب 2000 يورو من راكب اضافي.
ككل الذين ابحرو متعلقين باقدام الموت، طمعا في الحياة، ترك الندير رسالة اعتذار ومحبة لاهله، في حال لم يصل. باع قبل سفره جهاز الكمبيوتر مدعيا انه باعه ليشتري اخر جديد.
في جميع الحالات، ماكان بامكانه ان ياخذ حاسوبخ معخ .. لا حقائب للحراقة الا اجسادهم. حتى جيوبهم لا يحملون شيئا، فليس للكفن جيوب.
النذير الذي عاش لسنوات يتلصص، من خلف شاشته، على الذين يعيشون على الضفة الاخرى، ابحر نحو مدن لا توجد الا في رؤوس الحالمين. كان الموت فيها هو الواقع الحقيقي الوحيد.
كان عليه ان يتناولها بجرعات محددة، لكنه اكثر منها، فنحن من نصنع عبوديتنا ونضفي السحر على من نشاء.
كيف وقع تحت فتنة هذه الانثى ؟ هل لانها اهدته لاجولته ؟ ام لانه يطمع ان تهديه انسانيته ؟ برغم ان براءتها تلك تزعجه، وعنادها يتعبه. ثمة اغراء في ان تكون امرأة ماكرة ومتطلبة. يطمئنه ان تستغله، كيف يرتاح لامرأة لا تحتاج اليه ؟
اخر خلاف بينهما كان قبل شهر بباريس. كانا يسيران قرب محلات فاخرة للمجوهرات، حين خرج مدير احد المحلات يسلم عليه بحرارة بعد ان لمحه يعبر الرصيف. ارتأى ان يستغل المناسبة ليقدم لها هدية.
قال:
- كنت انوي ان اهديك ساعة .. انها فرصة. تعالي واختاريها بنفسك.
سبقها مدير المحل الى الداخل، ووقف الحارس بقبعته وبدلته المميزة ممسكا بالباب، لكنها اجابته بعصبية فاجأته :
- لن اغير الساعة التي بمعصمي.
- لكنني لا احبها.
- اشتري اذا معصما اخر لساعتك.
كاد ان يخرج عن طوره والرج يقف منتظرا دخولهما .. بينما مضت وتركته واقفا عند الباب لا يدري كيف يتصرف.
قال لها بعد ذلك غاضبا :
- كيف تهينينني هكذا امام ارجل ؟
- بل انت من اهنتني .. هذا محل مررت به مع نساء قبلي. ماكان ليحتفي بك هكذا لو لم تكن من زبائنه.
وجد حاه يدافع عن نفسه :
- اعتدت شراء ساعاتي وهدايا لزوجتي من هذا المحل.
- ما كنت لتصطحبني اليه لو ان زوجتك من زبائنه.
اسقط بيده. قال متذمرا :
- اخطأت حين فكرت في اهدائك شيئا.
ما كان كلامه ليعينها. كانت مشغولة بالتساؤل : أحدث ان اشتوى ساعة مرصعة بالكثير من الماس الوقت من اج لحضات قليلة ؟ هل اقتنى وقتا باهضا ظنه ثمن العواطف الابدية .. فاذا به وقتا عابرا لامرأة اهدى لها ساعة عندما تعذر عليه اهدائها وقته ؟
لا تدري .. ادفاعا عن كرامتها ام بسبب غيرتها كانت عنيفة وصارمة الى حد فاجأة. لكنها عادت وسامحته. شفع له في قلبها سلة الورد التي أرسلها لها قبل يومين وبداخلها جهاز هاتف، كيف له ان يفهم منطقها في الكسب والخسارة.
في المساء، على طاولة العشاء، قالت له :
- اعذرني .. لا اريد ان اكون تكرارا لما عرفت قبلي من نساء. اتمنى الا تفعل معي ما سبق ان فعلته مع غيري.
اشعل غليونه وقال بعد شيء من الصمت :
- ثمة شيء ما فعلته معك، لا تساليني ماهو . لن تعرفيه مني ابدا.
اكان تصريحا في منتهى الصدق ام في منتهى الخبث ؟
كمن يطلب منك ان تعثري على اللؤلؤة الطبيعية الوحيدة وسط عقد من الالي الاصطناعية. اية لعبة هذه مع جوهرجي بارع. لا يغشك تماما، لكن مع كل ما يفعله يعطيك وهم احتمال امتلاك اللؤلؤة النادرة الوحيدة.
بامكانك طبعا عن كبرياء ان ترفضي عقد الؤلؤ، الذي سبق ان اهدي حباته لغيرها، كما رفضت عرض اساعة التي كان سيشتريها لك، من محل ارتاده قبلك مع سواك، وستمتلئين زهوا لانك قلبت اللعبة .. وحجمت ثراءه حد شعوره انك انت الؤلؤة النادرة.
وعندها تقو نجلاء، وقد اهنت ماه، "وقرفتيه حيتو"، ستاتي امرأة اكثر شطارة واقل صدقا، لن تسال .. لن تدقق .. لن تفكر .. لن تحزن .. ستتلقف كل ما زهدت فيه، غير معنية بالفرق بين اللالء الاصطناعية تلك اللؤلؤة الطبيعية. وحده الحب مصدر للاسئلة الموجعة. احبيه اقل .. احبيه بعقل يا ختي.
- تاخر الوقت .. لن اقبل منه سوى الجنون هدية.

[/ALIGN]
[/CELL][/TABLETEXT][/ALIGN]
__________________
رد مع اقتباس