عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 10-07-2015, 10:57 PM
 
[ALIGN=CENTER][TABLETEXT="width:100%;background-image:url('http://www4.0zz0.com/2015/09/21/23/470405668.jpg');"][CELL="filter:;"][ALIGN=center]


الفصل الخامس



كان له قوه ونضج رجل صنع ثراءه بذكاء .لكنه ما كان يبدو
رجل اعمال .في الواقع هو يحترف الحياة . لا عمل له سوى ممارستها
بإمكانه ان يدعو اسماك القرش الى طاولته من دون ان يشاركهم شهيه الدم.
هو نفسه لا يدري لماذا فعل ذلك بكل امراه احبها او توهم حبها
كان يعاني من عجز عاطفي يحول دون تسليم قلبه حقا لامراه
ربما لم يشف من خيانه المراه الاولى في حياته
تلك التي تخلت عنه وتزوجت غيره طوال عمره سيشك في صدق النساء
مايعنيه الان اكثر هو الارض التي اشترها قبل اشهر
سيسافر غدا بصحبه المهندس لدراسه مشروع تحويلها الى مطعم عائم فاخر
لايمكن ان يدخل الخليج الا بمشروع لم يسبقه اليه احد
المشاريع عنده تولد احلاما بألونها وتفاصيلها وكل ماتحتاج
اليه مهندس .
كل ماحققه في حياته السابقه ان عاشه كرؤيه يوم سافر الى البرازيل كان يدري انه سيعود لبنان اكثر ثراء
في ذلك المطعم ولد حلمه بمتلاك مطعم للوجبات اللبنانيه
السريعه يكون مشروع سلسه مطاعم عصريه على الطريقه الامريكيه
تتمركز حول الاحياء الجامعيه
كان يدري بعد اول موعد جمعهما انها رغم الاسم العائلي
الكبير الذي تحمله ستكون له وتحمل اسمه .
اجتاز بوابه الاحلام كما لو كان يمشي في نومه
ماعاد يحتاج الى ان يطلع حظه في الفنجان قهوه
لقد غدت القهوه حظه وباب ثروته مذ شاء حسن طالعه ان يهتم بتجاره البن
وتجاره البن والعقارات التي يستثمرفيها امواله حين قرر ان يدخل سوق الترفيه
طلبته مرتين على جواله واطال الهاتف الرنين ولم يرد
قررت الا تعاود الاتصال به.
لكنها ظلت في انقطاعها عنه تقيس حجم الاهانه كما لو كانت تحمل داخلها عدادا
منذ قررت ان تقاطع هواتفه استعادت عافيتها او على الاصح خف المها
منذ اللحظه التي طلبها ولم تتحرك يدها للرد عليه
بدا العداد يعمل لصالحها وما عاد عليها ان تعد الايام والساعات وتفكر
ماذا عساه يشغله عنها . تركت له وجع الاسئله
قرات يوما ان راحه القلب في العمل
وان السعاده هي ان تكون مشغولا الى حد لا تنتبه معه انك تعيس فهجمت على العمل طمعا في نسيانه
قررت ان تسجل نفسها في الكونسيرفاتةرا
كي تتعلم اصول الغناء وكانت لها امنيه سريه اخرى ان تتعلم العزف على العود
كانت ترى في ذلك العود اثمن ماترك والدها
الذي لم يمتلك يوما ثروه. ككل العشاق الحيته
كان قديرا وككل بائعي البهجه ,ماترك مالا قضي عمره يغني ونسى ان يغتني
قصه ابيها الذي مات ذات مساء وهو عائد من حفل زفاف كان قد غنى فيه
احدى فرق الموت وضعت نهايه لصوته اخر موسيقى سمعها موسيقى الرصاص
كان برفقه احد العازفين في طريقهما الى السياره سقط كلاهما متكا على الاله العوف
عندما عادو بجثمانه مع العود حمدت الله انهم لم ينسو عوده او يسطو عليه
وتدفق الناس الى بيتهم في حال سماعهم الخبر
كان العود قد اقتسم الرصاصه نع سيده كما يقتسم الحصان النيران مع صاحبه في المعركه
وكما يعود الحصان جريح حاملا جثه صاحبه
عاد العود للبيت معلنا موت من ظل رفيقه على مدى ثلاثين سنه
من الارجح ان يكون ابوها قد احتمى بالعود او ان العود حاول ان يفديه ويرد عنه الرصاص
فما استطاع بصدره الخشبي ان يتلقى عنه سوى رصاصه واحده وذهبت اثنتان نحو راس والدها
فسقط متكئا عليه
ماكان لبيها عداوات لم يهدد احد ولا يجادل احد
لكن الموت يثرثر حوله
ذهبت شكوك امها نحو جارهم شاب في اوخر الثلاثين عاطل عن العمل
او لعله يعمل لحسابه الخاص رجل حر بدوام كامل
هكذا كانت ذكريات العود الذي بقى ذكرى من والدها
***
كان اكثر انشغالا من ان ينتبه لقطيعتها الهاتفيه . حاول الاتصال بها مرتين ولم ترد ظن هاتفها على الصامت
توقع ان تعاود مهاتفته . لكنها لم تفعل وعندما امتد صمتها الى ان قارب الشهر بدا يساوره الشك ان تكون
تتعمد ان تطيل انتضاره ايعقل ان تجرؤ على امر كهذا ؟ هو الذي تتهاتف الاتصالات عليه
حاول ان يستعيد تفاصيل موعدهما الاخير لعله يعثر على سبب لعتبها
ان يكون ندما متاخرا ؟؟
راوده احتمالات كثيره
رفع السماعه وطلب رقمها . لم يصدق السرعه التي ردت بها لكن بعد كلمتين وجد نفسه امام صوت اخر
وغير مهيأ لمفاجأه كهذه ممكن احكي مع هاله من فضلك
هاله مسافره مين بقلها؟
السؤال انساه مفاجئه خبر غيابها لكنه دوما وجد الحيله المناسبه في مواقف كهذا
انا صحفي من cbs كنت اود الاتصال بها بخصوص لقاء تلفزيوني
اعطها اسم قتاه اجنبيه تفاديا الاسئله ماتوقع ان يخدمه هذا الخيار
هي في فرنسا ممذ ثلاثه ايام يمكنك المعاوده في اقرب وقت
اتعلمين متى تعود
ليس قبل عشره ايام لقد رافقت خالتها لاجراء العمليه في باريس
رد متعجبا
باريس ؟
اجابت :
لا احد كان يستطيع مرافقه خالتها وحدها تملك تاشيره سفر
الى فرنسا
هل ثمه طريقه للاتصال بها؟
لا املك الا رقك هاتف فندقها.
لا باس امديني به من فضلك سأهاتفها كسبا للوقت
اغلق السماعه وضحك في سره لا اكثرمن سذاجه النساء غبيه قبل ان تجلسها على كرسي كهرباء للاعتراف"
تتطوع بعطائك المعلومات اكثر مما تتوقع تلك الصغيره الغريبه قادره على الهجران
ولا تنبه لقدرته على الوقوع في شرك المسافه التي تفصله عنها
المسافه ؟ سيحطمها غدا
راح يحشو غليونه ويبتسم ويحلو له منازله هذه الفتاه
فليكن سيواصل معها لعبه التحدي
مساء غد دق الهاتف في غرفتها بالفندق
كانت منهكه وجائعه غادرت الطاوله الصغيره
التي كانت تتناول عليها ما احضرته
في طريقها من طعام الى العشاء
ورفعت السماعه وهي تواصل قضم مافي يدها
لقد غادرت خالتها للتو المستشفى وهي في حال حسن
كما توقفت في الطريق تكلم امها كما تفعل كل يوم
حتما لم تتوقع ان تاتيها ذلك الصوت في تلك الساعه
على هاتف الفندق
كيف انتِ؟
كادت لهول المفاجأه ان تختنق بما تأكل فقدت صوتها للحضات وجلست من الصدمه على حافه السرير غير مصدقه
رنه صوته العائد بعد شهر من الانقطاع
هل تقضين اقامه طيبه دوني؟
لم يحضرها اي جواب ردت بما بقى فيها من نزوع وتحدي
حتما
اتمنى ذلك
اما انا ,فلا اصدق امنياتك . لقد سبق ان بعثت لي بهذه الامنيه
ذاتها مع باقه توليب يوم زيارتي الاولى لباريس قصد تعكير اقامتي
رد بتهكم:
تعنين يوم اخلفت موعدك الاول معي
ان شئت لكن اخبرني اولا كيف حصلت على هاتفي
دوما حصلت على ما اريد
فعلا لا ينقصك الغرور
بل يحدث ان تتواضع
تعني التواضع كأعلى درجات الغرور
ضحك:
ان تكونين قاطعتني بسبب تواضعي؟
ولأسباب اخرى ايضا
اتمنى ان اعرفها حين نلتقي
نلتقي؟ انت تمزح حتما .. نحن لا نبحث عن الشيء نفسه
ومن ادراك ؟
انت رجل باذخ المهام دائم الانشغال لا وقت لك للحب
تهاتفني في مساء الضجر
وتريدني ان انتضرك مابقى من عمر
هذه المره لن تنتظريني اكثر من يوم .. ساحضر غدا الى باريس
واصطحبك للعشاء في مطعم جميل.
اصابتها فكره مجيئه بالذعر فهي غير مهياه اطلاقا لذالك
ما احضرت من ملابس لا تليق بلقائه
ولا تريد ان يرى الفندق المتواضع الذي تقيم فيه
ثم يوما واحد لا يكفيها للاستعداد لحدث كهذا
التي لبستها لمده اسبوع وتذهب لشراء مايليق بها
قالت له
لا ارى قدومك مناسبا هذه الايام
رد مازحا:
امراه الليل لها كيف يكون لها نهارا
اذا فليكن لك الليل انت في باريس ياعزيزتي
انا في السرير ولست في باريس من تعبي لا رغبه لي الا في النوم
كانني جئت اغير الاسره المدن
كانت تواصل الحديث اليه عندما دق باب غرفتها . ماكنت تريد ان ينثطع عليها احد سعادتها
خافت ان ينهي المكالمه ويضيع.
منها كعادته الاسابيع الاخرى لم تجد بدا من العتذار منه لتسبيقته على الهاتف قالت ممازحه:
لم اطلب شيئا من خدمه الغرف اتكون بعثت لي وردا مثلا
رد ضاحكا:
لا ليس هذه المره
لا تقطع اعطني دقيقه لفتح الباب
رد لا تهتمي انتظر
لم يقطع الخط لكنه قطع انفاسها كاد ان يغمى عليها وهي تراه امامها اعلق الهاتف الجوال واعادع في جيبه
ثم القى نظره الى ساعه وقال هو يطالعها على الوقت
رجل تبا له من رجل الذي جاء به الى الفندق حتى غرفتها
يالله انه الان ينظر الى كل شيء بائس وبشع خلفها
وتأمل فوضاها وبقايا العشاء المتواضع على طاولتها
سالها الى متى ستبقين في باريس
تاشيرتي تنتهي بعد ثلاثه ايام من حسن حظي ان خالتي تعافت
ثم لتبرر ما ارها عليه اضافت
اني اقيم في ذلك الفندق حتى اكون قريبه من المستشفى الذي اجريت فيه العمليه
قال لها :
بالمناسبه لقد حجزت لك غرفه في هذا الفندق
انتفضت مدافعه عن كرامتها
من قال لك انني ساقبل ذلك؟
اقامتك هنا ستكون اجمل اخترت مايليق بمقامك
فكرت انه اختيار عنوانا يليق بمقامه الذي يسمح له بحب فتاه تقيم بذلك العنوان
قالت وقد استعادت شراستها :
لكنني ماطلبت منك شيئا
الحب يعطي قبل ان يطلب منه .
قالت بعناد :
لن اقيم في غير فندقي ..انه اقرب الى المستشفى
اجاب بما يعرف انه سيهزمها
لكنك هنا اقرب الي
وضع في جملته مايكفي من البوح المواراب للاطاحه صمودها
بمكانك ان تاخذي تاكسي لزياره خالتك
بدا منطقه يجردها من شراستها هل تعاتبه لانه يريدها
قريبه منه ؟
قال :
سأرافقك الى فندقك لتجمعي حاجاتك . ثم اطلبي سياره اجره للعوده الى هنا
أطمانت الى نواياه وعجبت لها
واين تقيم انت؟
لي بيت في باريس
قالت ممازحه :
نسيت انك تعمل صحافي هنا في قناه cbs.
ضحك ادرك انها اكتشفت حيلته
اضافت :
بالمناسبه ماذا كنت تسالني في مقابلتك تلك؟
اجاب وهو يمشي بجوارها نحو السياره:
اولا هل انت وفيه؟
ثم ؟
لكنك لم تجيبي على السؤال الاول
افضل الاطلاع على الاسئله قبل الاجابه هكذا علموني
فليكن ثانيا هل ستكونين لي؟
ثم ؟
كانا قد وصلا الى السياره وقال
اكتفي بهذين الؤالين البقيه ساطرحها عليك في وقت لا تتوقعينه
اطلاقَ
هل يحبها حقا؟؟
هو نفسه لا يدري هي شجره ,ولا يريد ان ينبهها الى ثمارها فيقطفها سواه.
استسلمت وشعرت انها ثملة، بكل الوعود اتي منحها . معه كل شيء كان عادي، على مرأر من السماء، من نهر السين، ومن برج ايفل، اصبحت امرأة عمرها سبع وعشرين سنة من الانتضار.
كانت باريس سخية. تتلالا باضواء نهاية السنة، ورذاذ مطر يحمي عاشقين من محضر ضبط عاطفي. غادرته باحاسيس ملتبسة كما لو انها فقدت براءتها.
كان يود ان يرافقها بعد العشاء الى فندقها ذاك، لو باح لها بانه يرثي لرجال جاؤؤ العالم وسيغادرونه، من دون ان يكونو قد خبرو باحساس كذلذ. لكنه ما اعتاد ان يفضح احاسيسه لاحد، او يبوح بضعفه لامرأة. هو دائم الاحتراز من الحب، لعلمه ان الذي يحب الاقل هو الاقوى. لا يذكر انه قال "احبك" سوى لزوجته قبل خمس وعشرين سنة، لكن النساء تعلقن به رغم ذلك، لانه يقول تلك الكلمة في كل ما يفعله، بينما لا يفعل الاخرون غير قولها.
هل يحبها حقا ؟
هو نفسه لا يدري. هي شجرة سيظل بها، ولا يريد ان ينبهها الى ثمارها فيقطفها سواه.
يريد له وحده مرحها وصباها. ذكاء انوثتها، برائتها، اندهاشها البكر بكل ما تراه معه لاول مرة.
يحب جرئتها في الدفاع عن قناعتها، وهزيمتها حين يجردها من قراراتها. يحب نقاءها، ويشتهي مند الان افسادها. هو فقط ياجل الامور. في امور النساء ماكان يوما على عجل . هو ليس من حديثي النعمة، مائدته عمرت دائما بما يشتهي. لذا لم يكن يفترس الحياة، كان يتذوقها ويترك منها شيئا على طاولة الموعد القادم.
في الصباح، هاتفها الى فندقها الجديد، كانت قد غادرت الغرفة. لم يترك لها رسالة صوتيه على جهاز التسجيل. حتما ماكان ليفعل. كان يعنيه فقط ان يتاكد انها نقلت إقامتها الى الفندق.
حين طلبته ظهرا من مقصورة هاتفية، وعدها ان يمر عليها مساءا ليصطحبها الى العشاء.
- هل اعجبتك الغرفة ؟
ردت ممازحة:
- تعني الجناح .. وماذا افعل بجناح واحد ؟
ضحك لدعوتها المواربة لرؤيته.
قال:
- اذا انا من يطير اليك. كوني جاهزة عند اساعة الثامنة في البهو سأمر لاصطحابك الى العشاء.
وقبل ان يضيف شيئا، دق هاتف اخر في مكتبه فودعها على عجل
- اراك مساءا.
كلمتان كانتا كافيتين لاحداث تلك الارتجاجات بجدران قلبها. معه هي دائما وسط حزان الزلزال.
اعتذرت لعمتها بذريعة انشغالها بالتسوق قبل عودتها. النصف الاخر للحقيقة، كان انها تحتاج الى ان تتسوق لموعدها معه هذا المساء. لها رغبة في ابهاره.
قررت ان تكون سخية مع نفسها، اي ضنينة مع الاخرين. ما ستنفقه على كمالياتها هو ما ستنقصه من المبلغ الذي كانت ستشتري به هذايا لللاهل في سوريا. وهذا يؤلمها. لكن لا مفر، لابد ان تذهب الى الحلاق، وتشتري ثوبا جديدا، وبالاخص معطفا أنيقا.
كم شعرت بالخجل البارحة، وذلك الناذل الشبيه بجيسكار ديستان ياخذ منها معطفها قبل الجلوس، ويضعه بجوار المعاطف الفاخرة المعلقة. كانت تفضل لو احتفظت به على الكرسي المجاور. ولكن كان الامر فضيحة اكبر .. فضيحة الجهل بالاتيكيت..
ما يعنيها حقا هو ان تنسيه الحالة التي رآها عليها البارحة.
قبل الثامنة بدقائق، نزلت الى بهو الفندق. لم تكن الساعة في معصمها بل في قلبها. مذ هاتفها والدقائق تركض بها . تفقدت زينتها أكثر من مرة. صففت شعرها ثم غيرت تسريحته مرارا. في اخر لحضة، قررت ان تجمعه وتسدله على جانب واحد.
كانت تبدو جميلة، كما يليق بسندريلا ان تكون. نكذا قالت عيون الرجل الذي اخذ معها المصعد، وعيون من صادفت في بهو الفندق. جلست تنتظر قدومه، في ذلك الصالون الارستقراطي السقف والثريات، حيت لا أحد يعرفها، ولا تتعرف هي نفسها الى نفسها.
تامت السيدات وهن يعبرن في كامل اناقتلهن، والرجال الوحيدين، والاخرين المصحوبين بنساء. شغلت نفسها بالاستماع للموسيقى التي كانت تعزفها فتاة على البيانو. قصدت االحمام، هربا من نظرات رجالية، بدأت تطيل النظر االيها. صعدت الى الغرفة قليل عساه يطلبها هناك، تم عادت ونزلت عساه يكون جاء.
انقضت نصف ساعة على وجودها في مهب الانظار والنتظار حين مر احد الموظفين بلوحة مكتوب عليها اسمها. كانت مطلوبة على الهاتف.
- عذرا .. نسيت اننا نستقبل ضيوفا على العشاء في البيت. تعشي حيت تعشينا البارحة .. او اطلبي عشاء في الغرفة . ساتصل بك غذا. تصبحين على خير.
كان واضحا انها مكالمة مسروقة . ماترك لها حتى ومضة، لوضع سؤال او علامة تعجب.
كلمات وانطفأت الفرحة في عينيها وذبل توهجها.
عادت سندريلا الى الغرفة تخلع بهجتها، وتغسل مساحيق اوهامها.
دوما يعاكس الحب توقعات العشاق، هو يحب مباغتتهم، مفاجأتهم حينا، وحينا مفاجعتهم. لا شيئ يحلو له كالعبث بمفكراتهم، ولخبطة كل ما يخطونه عليها من مواعيد. ما الجدوى من حمل مفكرة اذا .. ان كان هو من يملك الممحاة .. والقلم.
البارحة كما اليوم، ضحك عليها الحب. بالامس جاءها حينما كانت في هيأة لا تليق باستقباله، فأربكها، واليوم جاء بها وتخلى عنها وهي في كل زينتها، بعدما قضت يوما كاملا في الاستعداد له.
الحب؟ لا، هي تعني ذلك الرجل. اما الحب فهو يحاول الان ان يعتذر لاستعماله الممحاة، بان يدللها كي تنسى اذى الحبيب، الذي يتحدث لاول مرة بصيغة الجمع بمنطق الزوج الذي له حياة اخرى، وبيت اخر، يستقبل فيه مع امرأة اخرى ضيوفا اخرين.
اما هي، فهي ليست ضيفة الحبيب هذا المساء، بل عاشقة مهجورة في ضيافة الحب، الذي يقدم لها العشاء في صحون البورسلين المغطاة باغطية فضية فاخرة، كما ليخفي عنها وجبة الحزن.
الحب يسقيها الصبر في كؤوس الكريستال، يواسيها بوضع وردة على مائدة الغياب . وينسى المناديل الورقية للبكاء.
انه حب باذخ، لا يضع البكاء في حسابه. كل مناذيله من القماش الفاخر.
الحب يضع تلك الرغوة المعطرة في مغطس حمامها، يغير شراشف نومها، يضع قطعة شوكولاه على وسادتها، مصحوبة بامنيات الفندق بليلة جميلة.
يسالها وهي جالسة على اريكة الاسى:
- ماذا استطيع من اجلك يا سيدتي ؟
- لا شيئ طاب مساءك ايها الحب.
تطفئ الاضواء لكنها لا تنام. تخلد الى اللوم طويلا. لا تغفر لنفسها ان تكون منحته فرصة الاستخفاف بها. كيف استدرجها ذلك الرجل الى هذه الاهانة الباذخة ؟
صباحا .. استيقظت على صوته. قال انه في طريقه الى المكتب، وأنه أحب ان يبدأ نهاره بسماعها.
سألته ان كان له مكتب في كل بلد. وعندما رد بضحكة، سألته ان كان له في كل مرفأ امرأة تنتظر دعوته الى العشاء. قال انه لا يشترك مع البحار سوى في حب البحر، وانه لا يتقن السباحة. فقالت،
- أما انا فلا اتقن الانتضار، ولا انوي الارتباط ببحار .. لذا سأغادر الفندق هذا الصباح.
رد مازحا:
- لا تكوني جزائرية .. أكلكم عصبيون هكذا ؟
أجابت:
- ستعثر على نساء جاهزات لانتضارك في بهو فندق. انا ما انتظرت قبلك الا التقلة. في محطة الحافلة، وفي بهو المدرسة، وفي مدخل البيت، وحتى في الصف. كنت انتظر الموت لكن بكبرياء. البارحة فقدت تلك الانفة وانا انتظرك ساعة كاملة امام اناس فائقي الترف، لا يدرون اي طريق قطعت، للوصول الى هذا المكان. كنت في انتضارك مجرد انثى .. وقد كنت في انتظار الموت رجلا.
ضل صامتا. ما اعتاد نبرة كهذه ولا توقع كلاما كهذا. كان مؤخوذا بغضبها، بهذه الانثى التي نامت قطة واستيقظت لبؤة. انها فصيلة من النساء لم يعهدها.
أجابها بأول ما خطر بذهنه. لاول مرة تكلم دون اختيار كماته. لاول مرة ناداها باسمها:
- هالة .. ما اجملك غاضبة. أحب كبريائك، ولانك كبيرة ستغفرين لي. لا تغادري الفندق ارجوك، سأحضر باكرا اليوم، واصطحبك في فسحة جميلة في غابة بولونيا. انا أمارس رياضة المشي هناك. ارتدي ثيابا مريحة وحذاءا رياضيا سنمشي كثيرا، وسأجلعل كل الاشجار تعتذر لك. هل تقبلين اعتذار الاشجار ؟
مادامت الاشجار أنثى .. لكنني لا أغفر لرجل ان يخطئ في حقي.
أغلق الهاتف وتركها أمام مشروع جديد ومصاريف جديدة. عليها الان ان تخرج للبحث عن ثياب رياضية وحذاء للمشي من ماركة كبيرة طبعا.
يا الله .. كم هو مكلف ان تكوني عاشقة.
على الساعة السادسة بالضبط حضر سيد الحضور العاصف، وانطلقت بهما السيارة نحو غابة بولونيا.
برغم البرد، كان كل شيء يبدو جميلا، كقصيدة شتوية. كما لو كانت كل الكائنات تتودد للعشاق. ان تتودد له هو بالذات. ايكون اشترى ودها ؟ الاشجار التي يعرف اسماءها ونسبها، ومواسم اخضرارها، ومن أي من بلاد الله الواسعة جيء بها.
هو الذي ما كان يجود عليها سوى بدقائق على الهاتف، يبدو انه منح الاشجار متسعا من الوقت، كي يتسنى له قراءة كل لوحة (حديدية) سمرت على شجرة.
كان، وهو يمشي معها على ضفاف البحيرة التي تتزلج عليها بعض البطات، يسمي لها الاشجار واحدة واحدة، كما لو كان يعرفها بأناث سبقنها الى قلبه.
قالت ممازحة:
- لن تكون المنافسة صعبة ان كانت هذه الاشجار نساءك.
رد عليها بالدعابة نفسها:
- برغم ذلك لا تطمئني تماما رج يهرب من البشر الى الشجر.
- كنت اعني ان الرجال يستعرضون عادة عى امرأة تدخل حياتهم، أسماء النساء اللاتي سبقنها، وأجد طريفا ان يكون في ماضيك حريم من الشجر.
- ليس من الرجولة الخوض في حضرة امرأة في موضوعين: الما و"الفتوحات الرجالية". وحدهم الاثرياء الجدد يتبجحون بثرائهم .. والمحرومون من صحبة النساء يباهون بعلاقاتهم.
- لعلك اذا شبعت نساءا ؟
رد ضاحكا :
- وربما شبعت أشجارا.
- حقا ؟
- طبعا .. على الاقل بحكم عملي في صناعة الورق.
- وما الذي أوصلك الى هذه التجارة ؟
- يكفي اني أقمت في البرازيل حيث رئتا العالم. اشسع الغابات توجد هناك، وأيضا مصانع الخشب والورق.
- أي انك تدلل الاشجار هنا، وتغتالها في مكان آخر.
- لست من يغتالها. انا اقدم الورق لكي يقرأ الناس الاوديسة، وملحمة غلغامش، وفولتير، والمتنبي، وجبران. المجرمون هم الذين يحتاجون الى مسح غابة من على وجه الارض لنشر كتب لن يقرأها احد .. ولطبع جرائد بأوراق فاخرة نصفها محجوز للتهاني والتعازي ولبزنس الافراح والموت .. ومجلات فخمة لا يمكنك حملها مختصة بنشر أخبار "أمراء الصور" .. الذين يدعون، برغم ذلك، دفاعهم عن البيئة.
قالت ممازحة:
- انت تأتي هنا اذا لتعتذر للغابات.
جاء جوابه قاطعا:
- لم يحدث ان اعتذرت.
كانت نبرته جازمة. لولا وقعها الحاد لخالته يمزح.
لاحقا فقط، ستختبر كم كان صادقا في قوله هذا. الان هي لا تتعمق كثيرا في ما يقول. سعادتها به تشل تفكيرها. لم يحدث ان كان أكثر تلقائية وصدقا مما هو اليوم، ولا كانت أقرب اليه مما هي هنا.
لكأن الطبيعة ساوت بينهما، خارج الفنادق والمطاعم الفاخرة. هو الان مثلها في ثيابه الرياضية، يتقاسم معها بالتساوي الهواء النقي، في غابة ساحرة، هي حسب القانون الفرنسي ملك كل من يتنزه فيها.
قالت متحسرة:
- تدري مذ اختار الارهابيون في الجزائر الغابات مخبأ لهم، غدت كلمة غابة بالنسبة لي مرادفها للرعب. لو لم اكن سأسافر لترددت على هذه الغابة كل يوم. يا لجمالها الاخاذ. هذه أول مرة منذ عدة سنوات، أمشي بين الاشجار بطمأنينة وسعادة. كم كنت احتاج الى هذا.
رد :
- إني في مفاوضات لشراء شقة غير بعيدة من هنا. بامكانك في المستقبل ان شئت، الاقامة فيها عندما تزورين باريس.
ردت بسعادة:
- انه حي جميل حقا .. فكرة جيدة ان تنتقل للاقامة فيه.
- الحي الذي أسكنه هو جميل كذلك. هذه ستكون شقة لضيوف الشركة حين يزورون باريس.
- أتوقع ان يكون بيتك فائق الجمال، ما دمت تفضله على بيت في هذه المنطقة.
أجاب وقد التقط نبرة حزنها:
- البيت يصنع جماله من يقاسموننا الاقامة فيه.
استنتجت انه غير سعيد مع المرأة التي تقاسمه اياه، وراحت تصنع من تعاسته المفترضة خبث سعادتها. فقالت :
- كم اتمنى التردد على باريس .. لولا المشاغل التي تنتظرني في الشام.
- مثل ماذا ؟
- لي حفلان في الشهر القادم، لا بد ان استعد لهما حال عودتي. بعض الاغاني جديدة وتستدعي عدة بروفات. خاصة انني سأغني لاول مرة في الخليج ..
- وهل زرت فيينا ؟
- فيينا ؟ لا.
- سأصطحبك اليها ذات مرة. خذي الموسيقى من منبعها. لا من هذا الزعيق الذي يسمونه اليوم غناء. كيف لاناس لا يعرفون سولفاج الكون ان يغنو. وكيف لمن لم يتدرب على الصمت ان يصدح.
- اتغني ؟
- لا . انا اصغي. لذا أعتبر نفسي أفضل من كثير من المطربين. ان مستمعا جيدا أفضل من مطرب سيئ.
- صدقت.
- تعلمي الغناء من الاصغاء الى حفيف الكائنات، كما الان .. أصغي الى صمتك وانت تمشين في هذه لاغابة .. بالصمت نعرف متى يكون الوقت صحيحا او خطأ في الموسيقى .. كما في الحياة.
- كيف تعرف هذا ؟
ضحك.
- أعرف ماذا ؟ متى يكون الوقت صحيحا ؟
- اعني كيف تعلمت هذا ؟
- بعضه من الكتب، وبعضه من التأمل، لا يمكن ان تمضي بعيدا في الحياة، ان لم تضبطي ايقاعك. الايقاع يمنعك من ان تنشزي او تلهثي، او تمضي في كل صوب. الناس الذين ترينهم تائهين في الحياة، لم يأخذو الوقت الكافي لضبط ايقاعهم قبل ان ينطلقو. اي انهم لم يخلدو قليلا الى صمتهم العميق، ليدوزنو خطاهم قبل الانطلاق الكبير.
- أقرأت هذا ؟
- بل خبرته .. ما قرأته هو أنهم كانو يعتقدون ان الموسيقى في الصوت. حتى جاء بيتهوفن واستلهم موسيقى الصمت. تدرين ان الموسيقى الغربية لا وجود للصمت فيها.
قالت كمن عثر على اكتشاف:
- ربما يكون في ترتيل القرآن الفضل في تعليم العرب ضرورة الصمت في الانشاد. ان وقع الصمت بين الايات له على نفس وقع الاية نفسها. وهو يطول ويقصر حسب ما يريد ان يحمله المقرئ من معاني. لذا لا يمكن اعتباره صمتا ب ترتيلا أيضا.
واصلت:
- لا ادري، انا اقول خذا اجتهاد، أفكر في ذلك الصمت الطويل الذي تتركه ام كلثوم مثلا بين جملة غنائية وأخرى. ان مطربي جيلها مثل مطربي جيل أبي، كانو منشدين ومقرئين أيضا، لذا جعلو من الصمت بين وصلتين أعلى درجات التجلي الروحي.
توقف فجأة عن المشي وقال:
- لم يحدث ان سامتعت بحديث كما معك الان، تدرين أحتاج الى ذكائك لاشتهيك.
رحظت انه لم يقل لاحبك.
ردت بخجل:
- لا اضنني ذكية الى درجة الاشتهاء، أنا أجاريك بالتفكير ليس أكثر. قلما وجدت احدا أتحذث معه بعمق. الذكاء في النهاية تمرين، وانا قضيت عمري في التمرين على قمع دذكائي، حتى لا يزيدني شقاءا
توقف عن المشي وقال وهو يمرر يده على شعرها :
- لن تشقي بعد اليوم .. سنتلقي كلما استطعت، انا ايضا أحتاج ان اتحذث اليك.
تمنت لو قال "احتاجك". حاولت استدراجه الى تلك الكلمة . فقالت:
- احب ان تحتاجني .. احب احتياج.
صححها :
- بل الحب اجتياح.
لم تقل شيئا فهو دائما يسرق صوتها بمفاجأته. ولا هو كسر بينهما نشوة لا نبلغها الا حين توغلنا في الاخر صمتا.
أوصلها الى الفندق وإحساس واحد يسكنه. كم كان يلزمه ليلثم في امرأة واحدة كل انوثة الكون.
أجمل لحضة في الحب هي ما قبل الاعتراف به. كيف تجعل ذلك الارتباك الاول يطول. تلك الحالة من الدوران التي يتغير فيها نبضك وعمرك أكثر من مرة في لحضة واحدة .. وأنت على مشارف كلمة واحدة.
مرات كثيرة كادت تلفضها، لكنها مثله لم تقلها. هو قال "بصمت نعرف متى يكون الوقت طأ او صحيحا في الموسيقى" وخارج الموسيقى كيف نستدل على الوقت المناسب تماما، لقول كلمة واحدة، لا تعود بعدها الكلمات ما كانته من قبل. يقول فيكتور هيقو "بعد الاعتراف الاول، لا تهود كلمة احبك تعني شيئا". لذا دافع كبار العشاق، عن شرف الكلمات " البكر" التي خلقت لتلفظ مرة واحدة. فبالنسبة لهؤلاء كلمة "احبك" حدث لغوي جلل.
يا للمسؤولية. لهولها سعدت انها لم تقلها له، ولا هو قالها. لكن قلبها سمع ما سكت عنه. كتذمره المستتر من الحياة الزوجية.
دهمها شعور بالاثم، لا تريد ان تأخذ رجلا من امرأة اخرى، ولا ان تتقاسمه معها. لا تدري في هذا الحب في أي درجة من سلم القيم تقف. تؤرقها الاسئلة، وتفسد عليها نومها. على سعادتها، هي ليست راضية عن تصرفاتها، تشعر ان شيئا فيها بدأ يتشوه.
برغم ذلك، حين عودتها الى الشام صاحت نجلاء مبتهجة وهي تراها مجددا:
- ماذا فعلت لتشعيب هاءا هكذا ؟
تضحك .. تقسم .. تأكد.
- والله لا شيء
- عدا عملك ممرضة ماذا فعلت خلال عشرة أيام ؟
- تعنين خلال ثلاثة أيام .. الحب يأتي متأخرا دائما.
انها بحاجة الى ان تروي لاحد ماح لبها.
لكننا لا نعرف كيف نروي الحلم عندما نستيقظ منه. لا شيء فيه يشبه ما نعيشه عادة. مذ عادت من باريس، وهي تعيش في منطقة حدودية متحركة، ذهابا وايابا بين الاحلام الواقع. بين ما عاشته معه وما تعيشه بعده. تكاد تشك ان ذلك حدث. لولا أنها أحضرت معها من ذلك الفندق الفاخر، تلك التفاصيل الصغيرة التي توضع في حمامات الفنادق، من صابون معطر لماركات كبيرة ولوازم الاستحمام وخف ابيض انيق. ليست قيمتها المادية التي تعنيها، لكن القبض على الحلم. كما في قصة سندريلا بقي لها من الفندق ذلك الخف لا تريد ان تنتعله، تخاف عليه ان يهتري. مادام في كيسه الورقي اللامع بامكانها النتعاله في احلامها متى شاءت.
كانت تتورط في هواية موجعة. هي لا تدري بعد كم ستجمع بعد ذلك من خف لفنادق فاخرة ستزورها معه، وانها ذات يوم ستغادر أحلامها ب"خفي حنين".
صاحت نجلاء :
- لا. أكان هو اذا ذلك الرجل الذي هاتفني ؟ كم جميل ان ينتحل عاشق صفة ليفاجئ حبيبته.
- لم تكن مفاجأة بل مفاجعة. غشي علي وانا اراه عند باب غرفتي، في ذلك الفندق البائس، ليتك اخبرتني بهاتفه.
- وما أدراني به .. ثم هو يعلم انك لست ثرية.
- وأصبح يدري الان كم هو قوي، انها سطوة المال. عندما يخرجك احدخم من فندق بنجمتين ويسكنك غصبا عنك فندقا فوق النجوم.
- اهذا ما اخذك عليه ؟ اتريدين عاشقا بائسا كأولئك الذين تركتهم في الجزائر. بؤسهم كان ينعكس على ملامح وجهك .. انظري الان كم انت جميلة. ليس السخاء المادي بل السخاء العاطفي، حب هذا الرجل يجملك.
- لم التق به في باريس سوى ثلاث مرات، كيف له ان يجملني.
- طبعا .. هناك حب يجعلنا أجمل وأخر يجعلنا نذبل. ثمة رجال يبثون ذبذبات سلبية غصبا عنهم، ياتونك بكآبتهم وهمومهم وعقدهم وعليك ان تنتشليهم بالحب من وحل أنفسهم. هؤلاء لا أمل منهم، تمدين لهم يد النجدة على امل ان تكسبي رجلا، فاذا بالرجل يتشبت بتلابيبك حد اغراقك معه في بركة مياهه الاسنة.
لكأن نجلاء تعرف عن هذا الرجل، الذي لم تحدثه سوى جملتين على الهاتف، أكثر مما تعرف هي. انه لا يشبه أحدا ممن التقت بهم من الرجال. هذا الرجل شلال حياة، نهر يجرفك يدفعك الى مجاراته في مسابقة نفسك لبلوغ مالم تتقعي بلوغه. انت معه في تحد دائم لتلحقي به .. او لتطاليه.
قالت وهي تتأمل نجلاء :
- ربما كنت على حق.
- انا حتما على حق. الفشل معد تماما كالنجاح، والسعادة معدية تماما كالكآبة، وحتى الجمال معد. ان رجلا جميلا وأنيقا ينقل لك عدواه ويجبرك على ان تضاهيه أناقة حتى لا تخسرينه، والا تهملي مظهرك حتى لا تبدين غير أهل له. لذا عليك قبل ان تقبلي على حب رجب، ان تدركي العيوب التي ستنتقل اليك بعد الان بحكم العدوى.
صاحت:
- يا الله لا تذكريني بالاناقة. اية فضيحة كانت عندما دعاني الى العشاء ومان في حوزتي ما يليق بالمناسبة.
- كيف تسافرين من دون ان تحسبي حسابا لمناسبة كهذه ؟
- تدرين في اية ظروف سافرت. ما أدراني انه سيأتي .. كأنني بخرت له، لا ادري من اين يطلع لي هذا الرجل كالجن اينما كنت.
- عليك اذا ان تكوني في قمة اناقتك بعد الان وكأنك ستلتقين به اينما حللت، وان تكون لك ثياب تليق بمرافقة رجل من مقامه.
- تدرين .. قرأت يوما امرا يعلني احسم امري في موضوع الثياب.
- ها .. هات لنسمع.
- "لا تحاول ان تجعل ملابسك اغلى شيء فيك حتى لا تجد نفسك يوما ارخص مما ترتديه ".
- جميل .. حتما قرأته يوم كنت مدرسة. لكلك الان يا عزيزتي نجمة، وان لم تتبرجي وتنفقي كما تنفق النجمات على ازيائهن، فستجدين نفسك، على غلاك، ارخص منهم، وارخص من صونك. هكذا يقول منطق السوق، ثم بربك، اما ان لك ان تخلعي هذا الاسود ؟
- اتدرين كم من المشاهير ارتدو الاسود طول حياتهم وما زارهم الا تميزا ؟ "باكورابان"، "اديث بياف"، "جولييت غريكو" ..
قاطعتها :
- ولكنك لست هؤلاء، ولا انت في فرنسا .. انت في الزمان والمكان الخطأ. العصر الان للبهجة.
قالت كما لتنهي الحوار :
- لا تحاولي معي عزيزتي فأنا لن اخلعه.
حتما لا تنوي خلعه. هو نفسه حين رأها في زي رياضي سماوي اللون اشترته لتلك النزهة في الغابة قال لها كما ليبدي عدم إعجابه بلونها الجديد.
- كلما اشتقت الي ارتدي الاسود.
ردت كمن يتعذر لرجل يعشق الاشجار:
- انا شجرة توت لا رداء لي اصلا الا الاسود.
منذ ذلك الحين، وفي انتضار ان تراه مجددا، ما عادت شجرة واحدة، بل غابة من النساء. هي شجرة الكرز المزهرة، هي شجرة الصبار والصفصاف الباكي، وشجرة اللوز، وشجرة الارز، والسنوبر والسنونو.
بعده لم تعد تصادق الا الغابات لتكون لها قرابة بشجرة عائلته. ولكي تتجسس على نسائه.
تعلمت منه ان تتحاور مع الكون عبر السلم الموسيقي للصمت. هي التي نبتت كزهرة برية بين شقوق الصخور. الان فقط تعلمت ان تصغي الى ما ظنته بلا صوت: حفيف الكائنات، في ذلك العالم السري الذي نعيش بمحاذاته.
وعندما تنتهي من نزهتها تلك، تعود لتمشي في ادغال الحياة. فراشة بين وحوشه الكاسرة. سنتان مرتا على وجودها في الشرق ولم تصادق أحدا من الوسط الفني، عذا فراس.
ازرع شجرة ترد لك الجميل، تطعمك من ثمارها، وتمدك بسبعة لترات أكسجين يوميا، او على الاقل تضللك وتجمل حياتك بخضرها، وتدعو أغصانها الوارقة العصافير، ايزقزقو في حديقتك. تأتي بانسان وتزرعه في تربتك .. فيقتلعك اول ما يقوى عوده، يتمدد ويفربش يسرق ماءك كي ينمو اسرع منك، تستيقظ ذات صباح واذ به اخذ مكانك، واولم لاعداءك من سلاس فاكهتك، ودعى الذئاب لتنهشك وتغتابك. كيف لا ينخرط المرء في حزب الشجر ؟
عندما شكت الى نجلاء تلك المغنية التي كانت تخالها صديقة، وراحت بسعادة تسمعها الاغنية التي قدمها لها احد المحنين لتكون "ضربة الموسم" واذ بالمغنية تتصل بالملحن وتعرض عليه أضعاف ما قدمته هي، فما كان من الملحن الا ان باعها اياها من دون حتى ان يعتذر او يخبرها بذك.
قالت نجلاء:
- هذا زمن اصداقات العابرة. لا يمكن ان تقيمي علاقة طويلة الامد او تراهني على احد.
صرخت :
- لكن هذا عيب .. كيف لم تستح مني ..
- وهل استحى الملحن ؟ انه وسط بلا حياء ولا انتماء سوى لجيبه. انت كنت جاهزة لتقتلي لتؤدي في مأتم ابيك اغنية، وهم قد يمشون على جثة احد للفوز باغنية. عليك ان تتقبلي الامر او تغيري مهنتك.
تغير مهنتها ظ في الماضي كانت تخبئ صوتها في محفضتها المدرسية، لا تخرجه الا في الصف. ثم حين يدق الجرس تعيده مجددا الى محفظتها. اما الان فما عاد بامكانها ان تفعل ذلك. كيف لبركان استيقظ، ان يبتلع حممه.
تذكرت انها لم تتصل بفراس مند مدة. عندما تكون محبطة فقط تتذكره، وتعاودها الرغبة في تعلم العزف. غير ان قلبها يعزف هذه الايام لحنا آخر. وكل ما تريده، هو استعادة العود.
قال لها وهو يعيده اليها:
- صادف ان زارني البارحة صديق عازف، فتعلق به حين رويت لخ قصته. عزف عليه بعض الوقت، ثم نبهني انك ان اكتفيت بالاحتفاظ به فوق خزانة، فلن يكون هذا العود سوى قطعة خشبية في بيتك. فالعود بتأثر بالحرارة والرطوبة ويفقد صوته كما البشر. عليك ان تواظبي على صيانته، وان تسلمينه لاحد بين الحين والاخر كي يعيد دوزنته، وشد حباله، ويعزف عليه ليمد في حياته، والا خسرته. في الواقع لديه أمنية، ان يستعيره ذات مرة ليعزف عليه في احدى الحفلات. انه واحد من خيرة موسيقيينا بإمكانك ان تثقيب ه.
أقنعها بصواب رأيه، برغم احساسها انه في كل هذا يريد ان يضمن ترددها عليه.
انتهى بها الامر ان تركت العود لديه. لاسواه أهل لامانة كهذه. بإمكانها استعادته لاحقا متى شاءت. لا وقت لها لتصون صوتها وقلبها وأمها، فكيف تزيد على ذلك صيانة العود والاطمئنان الى صحته.
قالت لتبرر قرارها :
- يعنيني العود لقيمته العاطفية، في الواقع انا ابنة الناي. انه الاقرب لوجداني. لكن احساسي بالموسيقى تغير، بدأت أميل الى الكمنجة والبيانو.
أجاب :
- ان تربيت على الناي، يضل يناديك اينما كنت، فتلحقين به، كما لحقت في تلك الاسطورة الطيور والحيوانات جميعها باورفيوس، وهو يعزف على نايه.
سألته متعجبة:
- هل تفهم في الناي أيضا؟
رد مباهيا :
- انا حلبي .. لقد جاءنا الناي مكرما قبل قرون، يوم اقام جلال الدين الرومي في حلب، فهو الالة الموسيقية الاولى لدى الصوفية. انه يرافق الدراويش في دورانهم حول انفسهم. أما في "المولوية" الطريقة التي تنتهي لها عائلتي، فوجدها الدفوف ترافق الراقصين.
علقت باعجاب :
- يا الله .. كيف تعرف كل هذا ؟
رد مزهوا :
- ما من حلبي الا وله قرابة باحدى الطرق الصوفية.
غمرتها سعادة من وقع على سر جميل. لعل ما جاء بأبيها الى حلب. شعرت بانجذاب روحي الى هذا الشاب، الذي لا يوحي مظهره العصري، بأن وجدانه يحلق عاليا في سماء المتصوفة.
سألته كيف بامكانها ان تصطحب امها لحضور احدى هذه الحلقات، فهذا يسعدها حتما.
قال :
- بامكانك حضور الحفلات التي تقدمها الفرق الصوفية في شهر رمضان في القاعات، وأحيانا في القصور والبيوت العتيقة. امنحيني سعادة ان ادعوكما في اول مناسبة. سترين ان لا شيء يضاهي سهرة في ضيافة الدراويش.

[/ALIGN]
[/CELL][/TABLETEXT][/ALIGN]
__________________
رد مع اقتباس