- ربما يعنيك اذا خبر منتجع جديد لمدمني الشوكولا، كل خدماته قائمة على الشوكولا. المشروبات والوجبات الرئيسية. الحلويات. وحتى جسات التدليك ومغطس الحمام من الشوكولا السائله.
- لا .. حدثتني عنه صديقة أمضت فيه عدة ايام. انها مجنونة شوكولا أيضا.
شيء ما فاجأها .. أو أزعجها، فقالت:
- حتما يكون انتهى بها الامر لكراهية الشوكولا
- هذا المقصود. ان تشفى من شيء عبر الافراط منه.
- وانت الا تحب الشوكولا ؟
- طبها، لكن انا سيد شهواتي.
ما الذي جعله لحضتها الذ من قطعة الشوكولا التي تذوب في فمها ؟ هو "سيد الشهوات" و "اله الوائد" و "سلطان النشوة" و "الملك" على قاعة بأكملها لا مستمتع فيها سواه. أأسرها بقوة شخصيته؟ ام بكل ما فعله لبلوغ تلك اللحضة ؟ ام ايضا بسبب طيف المرأة "الصديقة" الذي تعمد ان يتركه يعبر كما دون قصد بينهما ؟ ما توقعت ان رجلا مهووسا بها الى ذلك الحد يمكن ان تكون في حياته امرأة سواها.
هي لا تدري انه ضمن أطباق العشاء ترك لها الغيرة .. للتحلية.
شعرت انها بدأت التزلج على الحب. كم من المشاعر الشاهقة والانحدارات المباغتة عاشتها معه خلال ساعتين. أذهلها بتلك الكاريزما التي تعطي كلماته وزنا خفيفا ورصينا في أن ، لانه يبدو قد قام بجهد للبحث عنها. انه لا يقول الا نفسه. هذا ما اوقعها في اسره أيام كان يحدثها على الهتف . حتى انه اقنعها بمنطق اختبار علاقتهما في مطار، وقبلت قانون اللعبة، فخسرت الرهان.
عندما اخرج بطاقته المصرفية ليدفع الحساب، أخرج معها بطاقة اخرى عيها اسمه الكامل فقط. كتب على ظهرها رقم هاتفه ومدها قائلا: " كلميني متى شئتي". كان رقما فرنسيا لا تعرفه.
"الآلهة " لا تحتاج الى إضافة اي تعريف اى اسمها. لا تذكر لك مهنتها ومناصبها اسابقة أو الحالية، ولا أسماء شركاتها وعناوينها. ذلك من عادة البسطاء وحديثي النعمة من البشر.
كمن فاز في اليانصيب، شعرت أنها تملك الرقم اسحري، والاسم الذي حيرها هدة أشهر.
امد الموظف بورقة نقدية. طلب منه ان يطلب سيارته، ويدفع للسائق أجرته مسبقا. انتظر معها وصول السيارة، وعندما انطلقت بها فقط ركب خلف سائقه وانطلق.
كان واضحا ان الرجل الذي شغل مقعدا واحدا في القاعة، قد قرر الا يبقي على مقعد واحد شاغر في قلبها.
ذلك الموعد القدري معه كان محتوما.
كان حبهما ابنا شرعيا لقدر ثمل بتهكم الاضداد. " لا تذهبي بقلبك كله" قال لها عقلها. لكنها ذهبت بقلبها كله .. وعادت بلا هقل.
سألتها نجلاء بلهفة الفضول وقد انتظرت عودتها لتنام:
لم تفهم نجلاء شيئا من هذه اللغة التي تكلمها بها هالة. عاودت طرح سؤالها:
- طيب، عدا هذا، هل هو جميل ؟
- كان كاريزماتيا جدا ويعلم جيدا بذلك. وهذا ما يمنحه جاذبية آسره.
- وما حاجة الاثرياء للوسامة .. انهم يبدون دائما أجمل مما هم . انهم جميلون بقدر ما يملكون.
في الواقع ماكانت معنية بثرائه، بل بافتقارها الى الصبر معه. مذ عادت من القاهرة وهي على لهفة لتراه. في حالة دوار عشقي، كأنما إعصار حب يأخذها ريشة في مهب هذا الرجل، من قبل حتى ان يترك لها وقتا لسبر حقيقته.
هو ايضا يحتاج الى رؤيتها مجددا. غير انه ليس على عجل من أمره. الان فقط بدأت متعته. اللهفة غدت شأنها. هو لم يقل لها شيئا بعد. وقد يعود ولن يقول لها سوى نصف الاشياء. عن دهاء، بل عن كبرياء سيحتفظ بنصف الحقيقة لنفسه.
الكبرياء ان تقول الاشياء في نصف كلمة، الا تكرر. الا تصر. ان لا يراك الاخر عاريا ابدا. ان تحمي غموضك كما تحمي سرك.
هو لن يقول لها مثلا، انه يوم رآها في المطار تحدق في وجوه كل الرجال عداه، قرر ان يثأر لذلك الخذلان العاطفي بموعد لن ترى فيه سواه. يومها، ولدت في ذهنه فكرة ان يحجز قاعة بأكملها، تغني له فيها وحده. الا يأتيها وسط الحشود، بل يكون هو الحشد.
وهي لن تدري أبدا انه من اقترح على المستشفى هذا الحفل الخيري، ثم اشترى المقاعد كلها باسم إحدى شركاته دون ان تعرض التذاكر للبيع. في الواقع، لا جمهور لها في مصر، ولا كانت جهة ستدعوها لحفل خيري.
حين هاتفته بعد ايام، كان هو أيضا قد غادر القاهرة، ولن يكون من السهل هذه المرة العثور على عنوان لموعدهما.
ليس من طبعه المجازفة بسمعته. لم تعرف له اية علاقة نسائية في بيروت، برغم ما عرف من نساء، لاعتقاده ان عليه ان يحمي صورته كرجل "كامل". المغامرات الصغيرة .. لصغار القوم لذا اعتاد ان يغير عناوين أسراره من مدينة الى أخرى. ان الاسرار هي ما يساعد على العيش. كم يخسر من لا سر له.
على عكسه، لم يكن في حياتها سر لتحميه، او مكسب لتخاف عليه. ما تخاف هو ان يخلط بعد الان بينها وبين اناث اخرين وصائدات الثروة. ان يكون أساء الظن بها مذ رآها على المسرح تحتضن تلك الباقة الحمراء وتتنازل عن باقته.
اتصلت به بعد هزمها الشوق:
- سآتي الى بيروت الاسبوع القادم بدعوة من شركة الانتاج لاطلاق ألبومي الجديد.
قالتها كما دون قصد. القت اليه بطعم ظنته سيلتقطه فورا.
لكنه ماكان سمكة. كان يمتلك صبر صياد .. وحنكته. قال على الطرف الاخر للهاتف:
- جميل يسعدني نجاحك .. وكيف والدتك ؟
ثم أضافت وقد فاجأها السؤال:
- سمعتك تتحدثين عنها في أحد البرامج. قلت انك غادرت الجزائر برفقتها، بعد الاحداث الاليمة التي عرفتها عائلتكم.
- بل ذاكرة انتقائية. أذكر حتى الثياب التي كنت ترتدينها في مطار شارل ديغول .. وماركة النظارات التي كنت تضعينها .. ولون الحقيبة التي كنت تجرينها.
ارتبكت، فكرت انه لن يغفر لها أبدا تلك الحاجثة. وفكر هو ان ما يذكره حقا هو ملامح الرجال الذين قصدتهم. اما ما لا يغفره لها فهو كونها لم تتذكر ملامحه برغم جلوسه اربع ساعات بماحاداثها في الطائرة، وبدت حين دعاها للعشاء وكأنها تراه لاول مرة . أمثة رجل عادي الى هذا الحد.
لكنه لن يقول لها هذا. من أخلاق الجنتلمان الا يحشر امرأة في زاوية تفقد فيها جمالية انوثتها. لانه حينها سيتشبع وهو يضعها في موقف غير لائق، ويكف حينها على ان يكون رجلا.
- هاتفيني من بيروت .. ربما استطعت ان ادبر لنا موعدا.
" ربما "؟ ابثلاثة احرف للشك يختصر شوقه لها ؟ وكيف لهذه الرصانة ان تلي كل ما اقدم عليه من جنون .. تارة ليراها في مطار، ومرة لينفرد بسماعها في حفل، واخرى ليحظى بعشاء معها.
كانت حياتها ساكنة حتى جاء والقى حجرا في بركة ايامها الراكذة، مخلفا كل دوائر الاسئلة. لا تستطيع ان تنكر انها، مذ ذلك العشاء لا تنتظر الا هاتفه.
هي لم تكن يوما من سلاسة نساء الانتضار، لكنها من دون ان تدري، في كل ما تفعله الان تنتظر. هي لا تحتاج الا مواعيد عم لتزور بيروت. كان يمكن ان تحضر قبل ذلك الموعد لو رأت منه حماسة ما، فالمسافة بين الشام وبيروت لا تستغرق سوى ثلاث ساعات. وبامكانها اقناع والدتها بما تشاء، الذرائع لا تنقصها .. ونجلاء "الملاك الحارس" ستدعم مشاريعها، وتمنحها شهادة البراءة. لكنها ستصمد وتسافر في الوقت المحدد، كما لو ان لقاءه ليس امنيتها.
حمدت الله ان امها الغت في اللحظة الاخيرة فكرة مرافقتها. برد كانون جعلها تفضل البقاء في الشام.
- طريق الشام بيروت خطرة بها الايام، ساعات تقطعها الثلوج تأكدي حبيبتي من النشرة الجوية قبل ما تسافري.
نجلاء أيضا لن تاتي. هي مشغولة بخطيبها العائد من دبي لقضاء الاعياد. لا أحد يرافقها اذا عدا أحلامها .. او اوهامها. فهي تذهب الى الحب دون بوصلة تأمين على قلبها.
انتظرت ان تحل ضيفة على البرنامج التلفزيوني، عساه يعرف لوجودها في بيروت. لا تريد ان تعطيه انطباعا أنها على عجل لملاقاته. لكن لا هاتفه جاء، ولا جاءت وروده. ربما ماعاد من وقت لباقة حب اضافية.
دهمها حزن من فقد شيء ما كان يدري بوجوده، او على الاصح بقيمته. ربما اراد ان يقاصصها على باقة ورده التي رآها تسلمها لقائد الفرقة وتحتضن غيرها. لا تظنه سيبعث لها ورودا بعد الان.
اجتاحها الاسى. كحزن بيانو مركون ومغلق على موسيقى لن يعزفها احد. انتهت ليلتها وحيدة في غرفة في ذلك الفندق الفاخر، تفكر في تلك الفواتير، التي يدفعها المرء عن غباء، غير مدرك قيمة الاشياء حين تقبل عليه الحياة في كل ابهتها.
عذاب الانتضار ؟ وماذا عن عذاب الا تنتظر شيئا ؟
كان يحتاج الى ان يكون له موعد مع الحب كي يحيا، كي يبقى قيد اشتهائه للحياة. قيد الشباب. الوقت بين موعين اهم من الموعد. والحب اهم من الحبيب نفسه. وهو لكل هذه الاسباب جاهز لحبها .. او على الاصح جاهز لها.
صباح اليوم الثالث لوجودها في بيروت، هاتفها . اخفت عنه ترقبها لصوته. كنها ما استطاعت ان تخفي فرحتها.
- كنت اخشى ان اغادر بيروت دون سماعك.
- ماكان يمكن الا اهاتفك .. انشغلت هذه الايام ليس اكثر.
اوصل لها اشعارا بأن ثمة ماهو اهم منها في حياته، وايا كان هذا الشيء ستحزن. ففي سلم الاولويات، الحب هو الاول في حياة المرأة .. ويلي أشياء اهم في حياة الرجل.
- هل كان البرنامج الذي استضافك ناجحا ؟
اشعار اخر انه لم يتابع البرنامج، هو الذي اعتاد ان يرسل اليها الورود اياها في كل ظهور تلفزيوني. الحقيقة انه برمج المسجل في مكتبه لتسجيل تلك الحلقة حتى لا يشاهدها مساءا في حضرة زوجته، فتعجب لاهتماماته الجديدة.
وفي الغد شاهدها في مكتبه وهو يدخن غليونه، فكر ان عليه ان يغير طريقة لبسها.
مسكينة كم اجهدت نفسها لتبدو في شكل جميل، وهي حزينة الان لانه قال انه لم يراها.
تجيب كما لو انها تزف له بشرى:
- كان ناجحا جدا. لقد لقي صدى طيبا في الاعلام.
يقصد سعيد من اجله. فقد نجح في ارباكها وافساد فرحتها. وستحتاج اليه في انكسارها. هي الشهية كحروف النفي. التي اعتادت ان تقول له "لا" و"لن" عى مدى اشهر. كأنه يسمعها الان تسال " هل اراك ؟".
- اتحب ان ارسل اليك البومي الجديد ؟
- احب مالا تجراين عن قوله.
حاولت استعادة بعض اسلحتها الدفاعية:
- تماما ما تودين ان تقولي.
لم يحدث وان حشرها رجل في هذه الزاوية الضيقة للحقيقة.
- الجرأة ليست في ان تواجهي الارهابيين، بل في ان تحاربي نزعتك لقمع نفسك، واخراس جسدك، وتفخيخ كل الاشياء الجميلة بحروف النهي والرفض. الحياة أجمل من ان تعلني الحرب عليها .. حاربي اعداءها.
استدرجها حيث شاء. قالت ما تمنت ان تقول حقا:
- اليوم طبعا ما دمتي ستسافرين غدا
- لا لشئ سوى لانه المكان الاكثر تسترا في مدينة لا سر فيها. ما رقم غرفتك ؟
لفظت الرقم غير مصدقة تسارع الاحداث، كأن الامور افلتت من يدها، وان امراة غيرها تلفظ الارقام الثلاثة التي ستتحول، حال امنتهاء المكالمة،. اغلقت الهاتف وهي تتساءل كيف اقدمت على امر كهذا.
في الخارج شتاء ومطر جن جنونه. لكنها اكثر جنونا من الطبيعة. لاول مرة تجرؤ على استقبال رجل في غرفتها.
اي رجل هذا ؟ سيد مطلق ياتي عندما لا ننتظره، يقول مالا تتوقعه، يهجرها حين يشاء، يقتحم حياتها متى يناسبه ، يشتري صوتها حين يريد، يضرب لها موعدا حين يحلو له.
راح نصفها الشرس يحاكم نصفها الوديع، ورجولتها تحاسب انوثتها المطيعة. الم يقل لها احدهم متغزلا " أجمل ما في امرأة شديدة الانوثة .. هو نفحة من الذكورة "" ؟ مصيبتها كونها اكتسبت اخلاقا رجالية، واكثيرا ما قست على نفسها كما لو كانت أحدا غيرها. والان، ماعادت تعرف كيف تعود من جديد انثى، ولا كيف تستعد لهذه المداهمة العاطفية.
تأملت الغرفة، على جمالها هي اصغر من ان تليق برجل يحجز قاعة بأكملها، ليجلس على مقعد واحد.
لا تملك لاستقباله سوى اريكتين، وطاولة في زاوية من الغرفة، على شكل صالون. شعرت ان الطاولة فارغة وان سلة الفواكه تحتاج لاعادة ترتيب، وضعت مكانها على الطالوة مزهرية، كي تبدو الغرفة اجمل.
والان ؟ ماذا ترتدي ؟ يا الله ماذا ترتدي لاستقباله ؟ خلعت ولبست ثوبين او ثلاثة على عجل، كما لو كانت في سباق .. ومسابقة في ان.
ثم اسرعت الى الحمام تجدد هيأتها، حين تذكرت انه قد يدخل الحمام، ويقع نظره على لوازم زينتها. أصابع الحمرة ذات الماركة العادية، علبة البودرة التي اشرفت على نهايتها، ومازالت تحتفظ بها. كريمات واقلام كحل سيفضح بها تواضع جيبها، وعادات اكتسبتها ايام الحاجة. جمعت كل شيء واخفته داخل الخزانة الموجوده تحت المغسلة وتنفست الصعداء.
لعنته وهي تراقب الساعة. ثم لامت نفسها لفرط توترها ، ولانها قبلت ان تستقبله في غرفتها. وما توقعت ان تقدم يوما على شيء كهذا. لعلها جنت. من يكون ليفعل بها كل هذا ؟ وكيف سمحت له بارباك حياتها الى هذا الحد ؟
دق هاتفها فجأة وقال صوته:
راحت دقات قلبها تتسارع وهي تتجه نحو الباب. القت في طريقها نظرة سريعة على المرآة. وذهبت تفتح الباب للحب. اي حدث مشهدي ان يجيء ذلك الرجل. ان يدخل غرفتها
لكنه لا يقبلها ولا يصافحها. لا ينحني كأول مرة ليقبل يدها ولا ينظر حتى لعينيها. اجتاز باب الغرفة وهو يدقق في هاتفه، ليمحو الرقم الذي طلبه للتو .. رقم هاتفها.
كم من الاحلام كانت ستتهشم داخلها لو هي انتبهت انه كان يتبرأ منها، وهو يقصدها، خوفا من ان يقع احد على رقمها مسجلا على هاتفه.
اعاد الى جيبه الهاتف ممحوا من رقمها. حينها فقط قال: " اهلا" ، مسترقا نظرة اليها. اتجه صوب الاريكة، كما لو كان جاء ليرتاح قليل. مد رجليه دون ان يفقد لياقته .. ونظر اخيرا اليها.
كان يحتاج الى ان يجن من الحين والاخر، ولو كذبا، ليمارس على الحياة سطوة ذكائه الرجالي كسارق لم يمسك يوما بالجرم المشهود. شيء يشبه باللعبة يمارسها مع انثاه الحقيقية : الحياة.
يحتاج الى ان يجازف اكراما لتلك اللحضات الباهرة في بذخها. الباهرة لا ابلاهظة. فلا علاقة تستحق ان يخسر من أجللها مكاسبه الاجتماعية. وهذه احدى المرات النادرة التي سيتلتقي فيها بامرأة ببيروت. للجنون عادة عناوين مدن اخرى. وهو احتاط لكل الاحتمالات، مستفيدا من وجود ضيف له، حضر من باريس، فدعاه الى العشاء في الفندق نفسه رفقة مدير اعماله.
كان يحتاج الى غطاء لدخول الفندق، والجلوس في صالة رجال الاعمال الموجودة في اخر طابق. بعدها سيسهل عليه الاعتذار والتغيب بعض الوقت متذرعا باتصال طارئ.
سألها بذلك الاشتهاء الملتبس:
كانت شفافة المزاج كبيت مسيج بالزجاج، ماكان لباطنها من سر. لذلك كان يسهل عليه مطالعتها، او مطالعة الاجوبة التي تحتفظ بها لنفسها.
تأملته كان جالسا وهي واقفة. اكتشفته من زاوية جديدة للرؤية.
لم يكن يشبه رجلا كانت تتصور انها ستحبه. لكنها تحبه. بأناقته الفائقة. بتفاصيله المنتقاة بعناية ككلماته. بابتسامته الغامضة. بتعليقاته الماكرة. كما حين يرد على ذعرها من استقباله:
- الحب سطو مشروع .. لا علاقة شرعية .. عليك ان تعيشيه هكذا – مواصلا بعد شيء من الصمت- اجلسي .. لماذا انتي واقفة ؟ نحن في فندق راق لن يفتح الباب احد .. او ضعي على الباب "الرجاء عد الازعاج " ان كان هذا يريحك.
ذهبت تطبق نصيحته من دون ان ترتاح تماما. ماذا لو كان الخطر الان في الداخل، لا من خارج الغرفة.
ما ادراها ما يجول في رأس هذا الرجل ؟
عادت لتجلس مقابلة له على الاريكة الثانية. قال وهو يزيح قليلا المزهرية التي تحجب الرؤية بينهما:
- ساقي الورد ليس من سيقطفها، ولا قاطفها من ستنتهي في مزهريته في بيته.
لم تحاول ان تفهم ما اراد قوله. استفادت من تداعيات الكلام .. قالت:
- لقد وصلتني هذه الباقة هدية.
تعمدت الا تقول ممن عساها تثير غيرته او فضوله. لكنه علق :
- ان من يهدي وردا يقدم انطباعا عن نفسه.
أدركت انه يستخف بذوق من اختار تلك الورود .. قالت:
- لكل ذوقه ...شخصيا، لم افهم لماذا تحب زهرة التوليب بالذات، وذلك اللون البنفسجي الغريب.
- لانها زهرة لم يمتلك سرها أحد. لونها مستعص على التفسير، يقارب الاسود في معاكسته للالوان الضوئية. انها مثلك وردة لم تخلع عنها البراءة الحياء، ثمة ورود سيئة السمعة تتحرش بقاطفها .. تشهر لونها وعطرها، هذه ستجد دائما عابر سبيل يشتريها .. كتلك التي قدمت لك في الحفل.
قالت كأنها تتبرأ من الباقة:
- بالمناسبة، علمت انها كانت التفاتة من ادارة المسرح، لوضع لمسة بهجة في ختام الحفل، لا يمكن للجميع مقاسمتك ذوقك .. لكل وردته، لعلك اعتدت ان تهدي هذه الوردات بالذات، اعني ربما كانت وردتك ..
- بل هي وردتك. لم اهدها قبل اليوم لاحد. لمحتها مرة في محل للورود وعجبت لغرابة لونها. عادة اهدي نوعا اخر.
أكان عليها ان تسعد لانه لم يهدي وردتها من قبل لاحد ؟ أم تحزن لانه اهدى وردا لغيرها ؟ الكل امرأة في حياته وردتها الخاصة ؟
هذا البستاني الذي يقسم النساء الى فصائل وأجناس من النباتان، تحتاج هي المعلمة الى ان تتعلم ابجدية الزهزر، لتفهم ماذا اراد ان يقول لها طول هذه الاشهر.
- ربما علي ان اتعلم لغة الورود قبل ان اتحاور معك.
- ليست قضية لغة، بل قضية اناقة، لا أكثر اناقة من وردة لا تثرثر كثيرا . نحن لا نهدي ورودا لتتكلم عنا .. بل لتحمي التباس ما نود قوله.
- وماذا اردت ان تقول في النهاية ؟
- في النهاية ؟ لكننا لم نبدأ بعد .. عندما نبلغ النهاية، لن يبقى ثمة ما نقول.
هو يعني لن يبقى ثمة ما نهديه. هذا ما فهمته.
اي رجل هذا ؟ لم يكن جميلا، بل أكثر. كان يملك ثقافة الجمال. أو ربما كان جميلا كما هم العشاق، كما هم الاساتذة بالنسبة لتلاميذهم. وهي الان تكتشف ممكن ضوئه. كأنها تجلس مكان تلاميذها لتستمع اليه يلقي درسا في مادة لم يعلمها اياها احد:
نهضت تخفي ارتباكها بسؤال:
لكنه نهض بدوره وقال متعذرا:
- ثمة من ينتظرني على العشاء. لقد سرقت بعض الوقت لاسلم عليك ليس أكثر.
وقفت مدهوشة وهي تراه يتجه صوب الباب. مشت خلفه بتأن كما لتستبقيه وقتا أطول غير مصدقة ان أجل فرحتها انتهى. فقدت صوتها. لا تدري أيهما كان اكثر زلزلة لقلبها: مجيئه او مغادرته. وقفت خلف الباب المغلق تودعه صمتا. كزهرة توليب خذلتها الريح، انحتى رأسها قيللا. كان يراقب انكسارات روحها. تذكر ان في اليثودولوجيا، لم تكن الزهزر سوى صبايا قتلتهن العاطفة، فتحولن الى زهور. هذه امرأة من سلاسة الزئبق، تحتاج ان يسندها بشيء مميز.
كان محمولا باحسيس وحشية بعد أشهر من الاشتهاء. راح يشعل حطب الانتضار كله. انقضت سنة كاملة، بعدا وصدا، مدا وجزرا، لبلوغ حريق كهذا. ان قطاف هذه الزهرة النارية.
لم يضف كلمة. فتح الباب ودلف الى الخارج، بعد ان اودع جناحيها لنار.
في مرآت المصعد تفقد هيأته، وحين اطمان لمظهره، ابتسم. هو يدري ان تلك المحروقة ستولد فراشة تحتاج اليه بعد الان كي تطير.
سيد القدوم الاسر والانصراف الباكر .. مضى، وضلت هي واقفة، مستندة الى جدار النشوة، لا تدري ما االذي ح بها.
[/ALIGN]